عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
موضوع: بلاط الشهداء.. وتوقف المد الإسلامي بأوروبا الإثنين 12 أكتوبر 2015, 10:15 am
بلاط الشهداء.. وتوقف المد الإسلامي بأوروبا
في الثاني من شهر رمضان 702 للهجرة
فتح المسلمون الأندلس سنة (92 هـ = 711م) في عهد الخليفة الأموي "الوليد بن عبد الملك"، وغنموا ملك القوط على يد الفاتحين العظيمين طارق بن زياد وموسى بن نصير، وأصبحت الأندلس منذ ذلك الوقت ولاية إسلامية تابعة لدولة الخلافة الأموية، وتعاقب عليها الولاة والحكام ينظمون شئونها ويدبرون أحوالها، ويواصلون الفتح الإسلامي إلى ما وراء جبال ألبرت في فرنسا.
ولم يكد يمضي على فتح الأندلس سنوات قليلة حتى نجح المسلمون في فتح جنوبي فرنسا واجتياح ولاياتها، وكانت تعرف في ذلك الحين بالأرض الكبيرة أو بلاد الغال، وكان بطل هذه الفتوحات هو "السمح بن مالك" والي الأندلس، وكان حاكما وافر الخبرة، راجح العقل، نجح في ولايته للأندلس؛ فقبض على زمام الأمور، وقمع الفتن والثورات، وأصلح الإدارة والجيش.
وفي إحدى غزواته التقى السمح بن مالك بقوات الفرنجة في تولوشة (تولوز)، ونشبت معركة هائلة ثبت فيها المسلمون ثباتا عظيما على قلة عددهم وأبدوا شجاعة نادرة، وفي الوقت الذي تأرجح فيه النصر بين الفريقين سقط السمح بن مالك شهيدًا من فوق جواده في (9 من ذي الحجة 102 هـ = 9 من يونيو 721م)، فاضطربت صفوف الجيش واختل نظامه وارتد المسلمون إلى "سبتمانيا" بعد أن فقدوا زهرة جندهم.
مواصلة الفتح
وعلى إثر استشهاد السمح بن مالك تولّى عبد الرحمن الغافقي القيادة العامة للجيش وولاية الأندلس، حتى تنظر الخلافة الأموية وترى رأيها، فقضى الغافقي بضعة أشهر في تنظيم أحوال البلاد وإصلاح الأمور حتى تولّى "عنبسة بن سحيم الكلبي" ولاية الأندلس في (صفر سنة 103 هـ = أغسطس من 721م)، فاستكمل ما بدأه الغافقي من خطط الإصلاح وتنظيم شئون ولايته والاستعداد لمواصلة الفتح، حتى إذا تهيأ له ذلك سار بجيشه في أواخر سنة (105 هـ = 724م) فأتم فتح إقليم سبتمانيا، وواصل سيره حتى بلغ مدينة "أوتون" في أعالي نهر الرون، وبسط سلطانه في شرق جنوبي فرنسا، وفي أثناء عودته إلى الجنوب داهمته جموع كبيرة من الفرنج، وكان في جمع من جيشه؛ فأصيب في هذه المعركة قبل أن ينجده باقي جيشه، ثم لم يلبث أن تُوفِّي على إثرها في (شعبان 107 هـ = ديسمبر 725م).
وبعد وفاته توقف الفتح وانشغلت الأندلس بالفتن والثورات، ولم ينجح الولاة الستة الذين تعاقبوا على الأندلس في إعادة الهدوء والنظام إليها والسيطرة على مقاليد الأمور، حتى تولى عبد الرحمن الغافقي أمور الأندلس في سنة (112 هـ = 730م).
عبد الرحمن الغافقي
لم تكن أحوال البلاد جديدة عليه فقد سبق أن تولى أمورها عقب استشهاد السمح بن مالك، وعرف أحوالها وخبر شئونها، ولا تمدنا المصادر التاريخية بشيء كثير عن سيرته الأولى، وجل ما يعرف عنه أنه من التابعين الذين دخلوا الأندلس ومكنته شجاعته وقدراته العسكرية من أن يكون من كبار قادة الأندلس، وجمع إلى قيادته حسن السياسة وتصريف الأمور؛ ولذا اختاره المسلمون لقيادة الجيش وإمارة الأندلس عقب موقعه "تولوشة".
كان الغافقي حاكما عادلا قديرا على إدارة شئون دولته، وتجمع الروايات التاريخية على كريم صفاته، وتشيد بعدله، فرحبت الأندلس بتعيينه لسابق معرفتها به وبسياسته، ولم يكن غريبا أن يحبه الجند لرفقه ولينه، وتتراضى القبائل العربية فتكف عن ثوراتها، ويسود الوئام إدارة الدولة والجيش.
غير أن هذا الاستقرار والنظام الذي حل بالأندلس نغصه تحركات من الفرنج والقوط واستعداد لمهاجمة المواقع الإسلامية في الشمال، ولم يكن لمثل الغافقي أن يسكت وهو رجل مجاهد عظيم الإيمان، لا تزال ذكريات هزيمة تولوشة تؤرق نفسه، وينتظر الفرصة السانحة لمحو آثارها، أما وقد جاءت فلا بد أن ينتهزها ويستعد لها أحسن استعداد، فأعلن عزمه على الفتح، وتدفق إليه المجاهدون من كل جهة حتى بلغوا ما بين سبعين ومائة ألف رجل.
خط سير الحملة
جمع عبد الرحمن جنده في "بنبلونة" شمال الأندلس، وعبر بهم في أوائل سنة (114 هـ = 732م) جبال ألبرت ودخل فرنسا (بلاد الغال)، واتجه إلى الجنوب إلى مدينة "آرال" الواقعة على نهر الرون؛ لامتناعها عن دفع الجزية وخروجها عن طاعته، ففتحها بعد معركة هائلة، ثم توجه غربا إلى دوقية أقطاينا "أكويتين"، وحقق عليها نصرا حاسما على ضفاف نمهر الدوردوني ومزّق جيشها شر ممزق، واضطر الدوق "أودو" أن يتقهقر بقواته نحو الشمال تاركا عاصمته "بردال" (بوردو) ليدخلها المسلمون فاتحين، وأصبحت ولاية أكويتين في قبضة المسلمين تماما، ومضى الغافقي نحو نهر اللوار وتوجه إلى مدينة "تور" ثانية مدائن الدوقية، وفيها كنيسة "سان مارتان"، وكانت ذات شهرة فائقة آنذاك؛ فاقتحم المسلمون المدينة واستولوا عليها.
ولم يجد الدوق "أودو" بدا من الاستنجاد بالدولة الميروفنجية، وكانت أمورها في يد شارتل مارتل، فلبى النداء وأسرع بنجدته، وكان من قبل لا يُعنى بتحركات المسلمين في جنوب فرنسا؛ نظرا للخلاف الذي كان بينه وبين أودو دوق أقطانيا.
استعداد الفرنجة
وجد شارل مارتل في طلب نجدته فرصة لبسط نفوذه على أقطانيا التي كانت بيد غريمه، ووقف الفتح الإسلامي بعد أن بات يهدده، فتحرك على الفور ولم يدخر جهدا في الاستعداد، فبعث يستقدم الجند من كل مكان فوافته جنود أجلاف أقوياء يحاربون شبه عراة، بالإضافة إلى جنده وكانوا أقوياء لهم خبرة بالحروب والنوازل، وبعد أن أتم شارل مارتل استعداده تحرك بجيشه الجرار الذي يزيد في عدده على جيش المسلمين يهز الأرض هزا، وتردد سهول فرنسا صدى أصوات الجنود وجلباتهم حتى وصل إلى مروج نهر اللوار الجنوبية.
اللقاء المرتقب
كان الجيش الإسلامي قد انتهى بعد زحفه إلى السهل الممتد بين مدينتي بواتييه وتور بعد أن استولى على المدينتين، وفي ذلك الوقت كان جيش شارل مارتل قد انتهى إلى اللوار دون أن ينتبه المسلمون بقدوم طلائعه، وحين أراد الغافقي أن يقتحم نهر اللوار لملاقاة خصمه على ضفته اليمنى قبل أن يكمل استعداده فاجأه مارتل بقواته الجرارة التي تفوق جيش المسلمين في الكثرة، فاضطر عبد الرحمن إلى الرجوع والارتداد إلى السهل الواقع بين بواتييه وتور، وعبر شارل بقواته نهر اللوار وعسكر بجيشه على أميال قليلة من جيش الغافقي.
وفي ذلك السهل دارت المعركة بين الفريقين، ولا يُعرف على وجه الدقة موقع الميدان الذي دارت فيه أحداث المعركة، وإن رجحت بعض الروايات أنها وقعت على مقربة من طريق روماني يصل بين بواتييه وشاتلرو في مكان يبعد نحو عشرين كيلومترا من شمالي شرق بواتييه يسمّى بالبلاط، وهي كلمة تعني في الأندلس القصر أو الحصن الذي حوله حدائق؛ ولذا سميت المعركة في المصادر العربية ببلاط الشهداء لكثرة ما استشهد فيها من المسلمين، وتسمّى في المصادر الأوربية معركة "تور- بواتييه".
ونشب القتال بين الفريقين في (أواخر شعبان 114 هـ = أكتوبر 732م)، واستمر تسعة أيام حتى أوائل شهر رمضان، دون أن يحقق أحدهما نصرا حاسما لصالحه.
وفي اليوم العاشر نشبت معركة هائلة، وأبدى كلا الفريقين منتهى الشجاعة والجلد والثبات، حتى بدأ الإعياء على الفرنجة ولاحت تباشير النصر للمسلمين، ولكن حدث أن اخترقت فرقة من فرسان العدو إلى خلف صفوف المسلمين، حيث معسكر الغنائم، فارتدت فرقة كبيرة من الفرسان من قلب المعركة لرد الهجوم المباغت وحماية الغنائم، غير أن هذا أدى إلى خلل في النظام، واضطراب صفوف المسلمين، واتساع في الثغرة التي نفذ منها الفرنجة.
وحاول الغافقي أن يعيد النظام ويمسك بزمام الأمور ويرد الحماس إلى نفوس جنده، لكن الموت لم يسعفه بعد أن أصابه سهم غادر أودى بحياته فسقط شهيدا في الميدان، فازدادت صفوف المسلمين اضطرابا وعم الذعر في الجيش، ولولا بقية من ثبات راسخ وإيمان جياش، ورغبة في النصر لحدثت كارثة كبرى للمسلمين أمام جيش يفوقهم عددا. وصبر المسلمون حتى أقبل الليل فانتهزوا فرصة ظلام الليل وانسحبوا إلى سبتمانيا، تاركين أثقالهم ومعظم أسلابهم غنيمة للعدو.
ولما لاح الصباح نهض الفرنجة لمواصلة القتال فلم يجدوا أحدا من المسلمين، ولم يجدوا سوى السكون الذي يطبق على المكان، فتقدموا على حذر نحو الخيام لعل في الأمر خديعة فوجدوها خاوية إلا من الجرحى العاجزين عن الحركة؛ فذبحوهم على الفور، واكتفى شارل مارتل بانسحاب المسلمين، ولم يجرؤ على مطاردتهم، وعاد بجيشه إلى الشمال من حيث أتى.
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
موضوع: رد: بلاط الشهداء.. وتوقف المد الإسلامي بأوروبا الجمعة 02 سبتمبر 2016, 5:17 am
معركة بلاط الشهداء
فتح المسلمون الأندلس سنة (92 هـ = 711م) في عهد الخليفة الأموي "الوليد بن عبد الملك "، وغنموا ملك القوط على يد الفاتحين العظيمين طارق بن زياد وموسى بن نصير، وأصبحت الأندلس منذ ذلك الوقت ولاية إسلامية تابعة لدولة الخلافة الأموية، وتعاقب عليها الولاة والحكام ينظمون شئونها ويدبرون أحوالها، ويواصلون الفتح الإسلامي إلى ما وراء جبال ألبرت في فرنسا. ولم يكد يمضي على فتح الأندلس سنوات قليلة حتى نجح المسلمون في فتح جنوبي فرنسا واجتياح ولاياتها، وكانت تعرف في ذلك الحين بالأرض الكبيرة أو بلاد الغال، وكان بطل هذه الفتوحات هو "السمح بن مالك" والي الأندلس، وكان حاكما وافر الخبرة، راجح العقل، نجح في ولايته للأندلس؛ فقبض على زمام الأمور، وقمع الفتن والثورات، وأصلح الإدارة والجيش. وفي إحدى غزواته التقى السمح بن مالك بقوات الفرنجة في تولوشة (تولوز )، ونشبت معركة هائلة ثبت فيها المسلمون ثباتا عظيما على قلة عددهم وأبدوا شجاعة نادرة، وفي الوقت الذي تأرجح فيه النصر بين الفريقين سقط السمح بن مالك شهيدًا من فوق جواده في (9 من ذي الحجة 102 هـ = 9 من يونيو 721م)، فاضطربت صفوف الجيش واختل نظامه وارتد المسلمون إلى "سبتمانيا" بعد أن فقدوا زهرة جندهم. مواصلة الفتح وعلى إثر استشهاد السمح بن مالك تولّى عبد الرحمن الغافقي القيادة العامة للجيش وولاية الأندلس، حتى تنظر الخلافة الأموية وترى رأيها، فقضى الغافقي بضعة أشهر في تنظيم أحوال البلاد وإصلاح الأمور حتى تولّى "عنبسة بن سحيم الكلبي" ولاية الأندلس في (صفر سنة 103 هـ = أغسطس من 721م)، فاستكمل ما بدأه الغافقي من خطط الإصلاح وتنظيم شئون ولايته والاستعداد لمواصلة الفتح، حتى إذا تهيأ له ذلك سار بجيشه في أواخر سنة (105 هـ = 724م) فأتم فتح إقليم سبتمانيا، وواصل سيره حتى بلغ مدينة "أوتون" في أعالي نهر الرون، وبسط سلطانه في شرق جنوبي فرنسا، وفي أثناء عودته إلى الجنوب داهمته جموع كبيرة من الفرنج، وكان في جمع من جيشه؛ فأصيب في هذه المعركة قبل أن ينجده باقي جيشه، ثم لم يلبث أن تُوفِّي على إثرها في (شعبان 107 هـ = ديسمبر 725م). وبعد وفاته توقف الفتح وانشغلت الأندلس بالفتن والثورات، ولم ينجح الولاة الستة الذين تعاقبوا على الأندلس في إعادة الهدوء والنظام إليها والسيطرة على مقاليد الأمور، حتى تولى عبد الرحمن الغافقي أمور الأندلس في سنة (112 هـ = 730م). عبد الرحمن الغافقي لم تكن أحوال البلاد جديدة عليه فقد سبق أن تولى أمورها عقب استشهاد السمح بن مالك، وعرف أحوالها وخبر شئونها، ولا تمدنا المصادر التاريخية بشيء كثير عن سيرته الأولى، وجل ما يعرف عنه أنه من التابعين الذين دخلوا الأندلس ومكنته شجاعته وقدراته العسكرية من أن يكون من كبار قادة الأندلس، وجمع إلى قيادته حسن السياسة وتصريف الأمور؛ ولذا اختاره المسلمون لقيادة الجيش وإمارة الأندلس عقب موقعه "تولوشة". كان الغافقي حاكما عادلا قديرا على إدارة شئون دولته، وتجمع الروايات التاريخية على كريم صفاته، وتشيد بعدله، فرحبت الأندلس بتعيينه لسابق معرفتها به وبسياسته، ولم يكن غريبا أن يحبه الجند لرفقه ولينه، وتتراضى القبائل العربية فتكف عن ثوراتها، ويسود الوئام إدارة الدولة والجيش. غير أن هذا الاستقرار والنظام الذي حل بالأندلس نغصه تحركات من الفرنج والقوط واستعداد لمهاجمة المواقع الإسلامية في الشمال، ولم يكن لمثل الغافقي أن يسكت وهو رجل مجاهد عظيم الإيمان، لا تزال ذكريات هزيمة تولوشة تؤرق نفسه، وينتظر الفرصة السانحة لمحو آثارها، أما وقد جاءت فلا بد أن ينتهزها ويستعد لها أحسن استعداد، فأعلن عزمه على الفتح، وتدفق إليه المجاهدون من كل جهة حتى بلغوا ما بين سبعين ومائة ألف رجل. خط سير الحملة جمع عبد الرحمن جنده في "بنبلونة" شمال الأندلس، وعبر بهم في أوائل سنة (114 هـ = 732م) جبال ألبرت ودخل فرنسا (بلاد الغال)، واتجه إلى الجنوب إلى مدينة "آرال" الواقعة على نهر الرون؛ لامتناعها عن دفع الجزية وخروجها عن طاعته، ففتحها بعد معركة هائلة، ثم توجه غربا إلى دوقية أقطاينا "أكويتين"، وحقق عليها نصرا حاسما على ضفاف نمهر الدوردوني ومزّق جيشها شر ممزق، واضطر الدوق "أودو" أن يتقهقر بقواته نحو الشمال تاركا عاصمته "بردال" (بوردو) ليدخلها المسلمون فاتحين، وأصبحت ولاية أكويتين في قبضة المسلمين تماما، ومضى الغافقي نحو نهر اللوار وتوجه إلى مدينة "تور" ثانية مدائن الدوقية، وفيها كنيسة "سان مارتان"، وكانت ذات شهرة فائقة آنذاك؛ فاقتحم المسلمون المدينة واستولوا عليها. ولم يجد الدوق "أودو" بدا من الاستنجاد بالدولة الميروفنجية، وكانت أمورها في يد شارتل مارتل، فلبى النداء وأسرع بنجدته، وكان من قبل لا يُعنى بتحركات المسلمين في جنوب فرنسا؛ نظرا للخلاف الذي كان بينه وبين أودو دوق أقطانيا استعداد الفرنجة وجد شارل مارتل في طلب نجدته فرصة لبسط نفوذه على أقطانيا التي كانت بيد غريمه، ووقف الفتح الإسلامي بعد أن بات يهدده، فتحرك على الفور ولم يدخر جهدا في الاستعداد، فبعث يستقدم الجند من كل مكان فوافته جنود أجلاف أقوياء يحاربون شبه عراة، بالإضافة إلى جنده وكانوا أقوياء لهم خبرة بالحروب والنوازل، وبعد أن أتم شارل مارتل استعداده تحرك بجيشه الجرار الذي يزيد في عدده على جيش المسلمين يهز الأرض هزا، وتردد سهول فرنسا صدى أصوات الجنود وجلباتهم حتى وصل إلى مروج نهر اللوار الجنوبية. اللقاء المرتقب
الغرب مجد "شارل مارتل" لدوره في "بواتيه" كان الجيش الإسلامي قد انتهى بعد زحفه إلى السهل الممتد بين مدينتي بواتييه وتور بعد أن استولى على المدينتين، وفي ذلك الوقت كان جيش شارل مارتل قد انتهى إلى اللوار دون أن ينتبه المسلمون بقدوم طلائعه، وحين أراد الغافقي أن يقتحم نهر اللوار لملاقاة خصمه على ضفته اليمنى قبل أن يكمل استعداده فاجأه مارتل بقواته الجرارة التي تفوق جيش المسلمين في الكثرة، فاضطر عبد الرحمن إلى الرجوع والارتداد إلى السهل الواقع بين بواتييه وتور، وعبر شارل بقواته نهر اللوار وعسكر بجيشه على أميال قليلة من جيش الغافقي. وفي ذلك السهل دارت المعركة بين الفريقين، ولا يُعرف على وجه الدقة موقع الميدان الذي دارت فيه أحداث المعركة، وإن رجحت بعض الروايات أنها وقعت على مقربة من طريق روماني يصل بين بواتييه وشاتلرو في مكان يبعد نحو عشرين كيلومترا من شمالي شرق بواتييه يسمّى بالبلاط، وهي كلمة تعني في الأندلس القصر أو الحصن الذي حوله حدائق؛ ولذا سميت المعركة في المصادر العربية ببلاط الشهداء لكثرة ما استشهد فيها من المسلمين، وتسمّى في المصادر الأوربية معركة "تور- بواتييه". ونشب القتال بين الفريقين في (أواخر شعبان 114 هـ = أكتوبر 732م)، واستمر تسعة أيام حتى أوائل شهر رمضان، دون أن يحقق أحدهما نصرا حاسما لصالحه. وفي اليوم العاشر نشبت معركة هائلة، وأبدى كلا الفريقين منتهى الشجاعة والجلد والثبات، حتى بدأ الإعياء على الفرنجة ولاحت تباشير النصر للمسلمين، ولكن حدث أن اخترقت فرقة من فرسان العدو إلى خلف صفوف المسلمين، حيث معسكر الغنائم، فارتدت فرقة كبيرة من الفرسان من قلب المعركة لرد الهجوم المباغت وحماية الغنائم، غير أن هذا أدى إلى خلل في النظام، واضطراب صفوف المسلمين، واتساع في الثغرة التي نفذ منها الفرنجة. وحاول الغافقي أن يعيد النظام ويمسك بزمام الأمور ويرد الحماس إلى نفوس جنده، لكن الموت لم يسعفه بعد أن أصابه سهم غادر أودى بحياته فسقط شهيدا في الميدان، فازدادت صفوف المسلمين اضطرابا وعم الذعر في الجيش، ولولا بقية من ثبات راسخ وإيمان جياش، ورغبة في النصر لحدثت كارثة كبرى للمسلمين أمام جيش يفوقهم عددا. وصبر المسلمون حتى أقبل الليل فانتهزوا فرصة ظلام الليل وانسحبوا إلى سبتمانيا، تاركين أثقالهم ومعظم أسلابهم غنيمة للعدو. ولما لاح الصباح نهض الفرنجة لمواصلة القتال فلم يجدوا أحدا من المسلمين، ولم يجدوا سوى السكون الذي يطبق على المكان، فتقدموا على حذر نحو الخيام لعل في الأمر خديعة فوجدوها خاوية إلا من الجرحى العاجزين عن الحركة؛ فذبحوهم على الفور، واكتفى شارل مارتل بانسحاب المسلمين، ولم يجرؤ على مطاردتهم، وعاد بجيشه إلى الشمال من حيث أتى. تحليل المعركة تضافرت عوامل كثيرة في هذه النتيجة المخزية، منها أن المسلمين قطعوا آلاف الأميال منذ خروجهم من الأندلس، وأنهكتهم الحروب المتصلة في فرنسا، وأرهقهم السير والحركة، وطوال هذا المسير لم يصلهم مدد يجدد حيوية الجيش ويعينه على مهمته، فالشقة بعيدة بينهم وبين مركز الخلافة في دمشق، فكانوا في سيرهم في نواحي فرنسا أقرب إلى قصص الأساطير منها إلى حوادث التاريخ، ولم تكن قرطبة عاصمة الأندلس يمكنها معاونة الجيش؛ لأن كثيرًا من العرب الفاتحين تفرقوا في نواحيها. وتبالغ الروايات في قصة الغنائم وحرص المسلمين على حمايتها، فلم تكن الغنائم تشغلهم وهم الذين قطعوا هذه الفيافي لنشر الإسلام وإعلاء كلمته، ولم نألف في حروب المسلمين الحرص عليها وحملها معهم أينما ذهبوا، ولو كانوا حريصين عليها لحملوها معهم في أثناء انسحابهم في ظلمة الليل، في الوقت التي تذكر فيه الروايات أن الجيش الإسلامي ترك خيامه منصوبة والغنائم مطروحة في أماكنها. نتائج المعركة كثر الكلام حول هذه المعركة، وأحاطها المؤرخون الأوربيون باهتمام مبالغ، وجعلوها معركة فاصلة، ولا يخفى سر اهتمامهم بها؛ فمعظمهم يعدها إنقاذًا لأوروبا، فيقول "إدوارد جيبون" في كتاب "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية" عن هذه المعركة: "إنها أنقذت آباءنا البريطانيين وجيراننا الفرنسيين من نير القرآن المدني والديني، وحفظت جلال روما، وشدت بأزر النصرانية". ويقول السير "إدوارد كريزي": "إن النصر العظيم الذي ناله شارل مارتل على العرب سنة 732م وضع حدا حاسما لفتوح العرب في غرب أوروبا، وأنقذ النصرانية من الإسلام". ويرى فريق آخر من المؤرخين المعتدلين في هذا الانتصار نكبة كبيرة حلت بأوروبا، وحرمتها من المدنية والحضارة، فيقول "جوستاف لوبون" في كتابه المعروف "حضارة العرب"، الذي ترجمه "عادل زعيتر" إلى العربية في دقة وبلاغة: "لو أن العرب استولوا على فرنسا، إذن لصارت باريس مثل قرطبة في إسبانيا، مركزا للحضارة والعلم؛ حيث كان رجل الشارع فيها يكتب ويقرأ بل ويقرض الشعر أحيانا، في الوقت الذي كان فيه ملوك أوروبا لا يعرفون كتابة أسمائهم". وبعد معركة بلاط الشهداء لم تسنح للمسلمين فرصة أخرى لينفذوا إلى قلب أوربا، فقد أصيبوا بتفرقة الكلمة، واشتعال المنازعات، في الوقت الذي توحدت قوة النصارى، وبدأت ما يُسمّى بحركة الاسترداد والاستيلاء على ما في يد المسلمين في الأندلس من مدن وقواعد.
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
موضوع: رد: بلاط الشهداء.. وتوقف المد الإسلامي بأوروبا الجمعة 21 مايو 2021, 11:11 am
بلاط الشهداء.. انكسار الشوكة الإسلامية على عتبات باريس
في رمضان من العام 114 هـ حدثت معركة بلاط الشهداء بين جيش الأندلس الإسلامي وجيش أوروبي، بعد أن أصبح جيش المسلمين على مقربة من العاصمة الحالية لفرنسا باريس، وبلغ أحد أكثر المواقع توغلا في عمق الأراضي الأوروبية.
إنها معركة حاسمة غيرت وجه التاريخ الإسلامي، قادها عبد الرحمن الغافقي وهو من أشجع التابعين، فقد اتجه إلى فرنسا مع أضخم جيش يخرج تحت لواء الإسلام نحو قلب القارة الأوروبية، فاهتزت القارة للنصر الذي حققه المسلمون وإخضاعهم لنصف فرنسا الجنوبي خلال بضعة أشهر، فنادى القائد العسكري شارل مارتل إلى التأهب للوقوف في وجه الهول القادم من الشرق، واستجابت أوروبا لدعوة الداعي فخرج الأوروبيون في جيش عظيم، وبعد بضعة أيام من الحرب كانت الغلبة من نصيبهم، مما وضع حدا للمد الإسلامي في أوروبا.[1]
يعتبر كثير من المؤرخين الأوروبيين أن هذه المعركة أنقذت الوجود المسيحي في القارة الأوروبية، ولولاها لكانت علوم القرآن والحديث تدرّس في جامعات العواصم الأوروبية حاليا، ذلك أن انتصار المسلمين فيها كان سيفتح أمامهم الطريق نحو القسم الشمالي من القارة، بينما أطلقت المصادر الإسلامية على هذه المعركة اسم "بلاط الشهداء" لكثرة من سقطوا فيها من قتلى الجيش الإسلامي، يتقدّمهم القائد عبد الرحمن الغافقي.
ويربط البعض بين هذه المعركة وبين وصية منسوبة إلى الخليفة عثمان بن عفان وجهها إلى من كلفهم بالتوجه بفتوحاتهم نحو الغرب، تقول إن القسطنطينية تفتح من قبل الأندلس، وإنكم إن فتحتم ما أنتم بسبيله، فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر.[2]
ألاعيب السياسة بالدين.. أهواء اليمين الفرنسي
دارت المعركة الحاسمة بين نهاية شعبان وبداية رمضان 114 هـ، وبين شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 732 م. ويقر المؤرخون الغربيون بشح المعطيات الموثوقة لديهم حول هذه المعركة، ويعودون في بحوثهم حولها إلى المصادر العربية.[1]
ولا تزال الساحة التي دارت فيها معركة بلاط الشهداء معلما تاريخيا يزوره الفرنسيون والسياح للاطلاع على فصول مما جرى فيها عام 732 للميلاد، وتجمع هذه الساحة بين معالم وآثار تدل على بعض الحقائق، ومنطلقات أخرى للتساؤل والاستفهام حول الجوانب الغامضة.
الطابع الديني لمعركة بلاط الشهداء باعتبارها دارت بين جيش المسلمين وجيش المسيحيين ليس محط إجماع، بل هناك دراسات متواترة تؤكد الطابع السياسي للمعركة أكثر مما تضفي عليها صبغة دينية، فالموروث التاريخي الذي تراكم على مدى قرون لم يعتبر المعركة نصرا دينيا للمسيحية على الإسلام، حيث لم تبدأ هذه الفكرة في البروز إلا في القرن الـ19 من الميلاد، وجرى تبنيها فعليا مع أطروحة الأمريكي "صامويل هانتنغتون" التي صدرت في تسعينيات القرن العشرين حول صدام الحضارات، ولاقت هوى في نفوس التيارات اليمينية الأوروبية.
مدينة بواتييه موقع معركة بلاط الشهداء مزار للسياح الأوروبيين
ويعزز المشككون في الطابع الديني للمعركة موقفهم بطبيعة شخصية شارل مارتل الذي لم تكن تربطه صلة طيبة بالكنيسة وباباواتها، بل كان بالنسبة للبعض أحد ناهبي الكنيسة وسراق ممتلكاتها.[4]
وبينما يبالغ الفرنسيون في تعظيم شأن المعركة مقدمين أنفسهم بمثابة منقذي المسيحية في أوروبا وسبب توقف الزحف الإسلامي عليها، ينبّه باحثون أمثال المؤرخ السوري شاكر مصطفى، إلى أن الذي أوقف الفتح الإسلامي لم يكن الفرنجة، بل الحشد المسيحي الذي وحّد روما وباريس وغيرها من العواصم الأوروبية.[5]
ويتساءل البعض عن سر البزوغ المفاجئ لمعركة بلاط الشهداء في المصادر الغربية، حيث كانت إلى غاية القرن الـ19 حدثا شبه مجهول لدى المؤرخين والباحثين، ويزداد التساؤل دلالة حين يربطه البعض باحتمال استعانة الفرنسيين بهذه المعركة التي "انتصروا" فيها، لإخفاء آثار معركة أخرى جرت غير بعيد عن "بواتيي" وهزموا فيها بشكل مذل أمام الإنجليز عام 1356 للميلاد، وذلك في إطار الحرب المعروفة باسم "حرب المائة سنة".[6]
عبد الرحمن الغافقي قائد معركة بلاط الشهداء وشهيدها
عبد الرحمن الغافقي.. رحلة الجهاد من دمشق إلى الأندلس
تتحدث المصادر التاريخية عن أصول قائد هذه المعركة عبد الرحمن الغافقي، باعتباره يمنيّا من قبيلة عك، وأنه دخل المدينة المنورة وأخذ الحديث عن عبد الله بن عمر، والتقى بجيل التابعين الذين يعتبر واحدا منهم، لكن شخصيته انطبعت بقدر كبير من الحكمة والزهد والورع، إلى جانب حزمة من خصال الشجاعة والبطولة والجرأة والقتال في الصفوف الأمامية وطلب الشهادة، كما اكتسب خبرة ومعرفة عسكرية استراتيجية، من خلال تتبعه لأخبار الحملات العسكرية لعهد الرسول ﷺ والصحابة الأولين.[7]
ويقال إن اسم الغافقي جاء نسبة إلى غافق، وهي قبيلة من الأزد، وموطنها الأصلي مدينة اللُّحية الساحلية الواقعة شمالي مدينة الحُديدة من أرض اليمن. وهي أيضا -أي غافق- بطن من عك، القبيلة الباسلة المشهورة، ولذلك نسب إليها.[8]
انتقل الغافقي إلى دمشق في عهد الخليفة سليمان بن عبد الملك، وسرعان ما تقلد المراتب العليا بها، لكن تعطشه للجهاد حمله إلى الأندلس، حيث لفت الأنظار لحنكته العسكرية، فأسندت إليه مراكز قيادية.
بعد فتح أكثر من نصف فرنسا، توجه الغافقي نحو بواتييه حيث معركة بلاط الشهداء
هزيمة تولوز.. قائد جديد بإجماع الجند
قام الخليفة عمر بن عبد العزيز بتعيين السمح بن مالك الخولاني واليا على الأندلس، وفصل هذا الإقليم الحيوي عن ولاية إفريقية ليجعله تحت إمرته المباشرة في دمشق، ونقل الخولاني العاصمة من إشبيلية إلى قرطبة، ولما بحث عن قائد عسكري وجد هناك إجماعا على عبد الرحمن الغافقي، كما يشرح الأكاديمي المغربي المتخصص، المقرئ الإدريسي أبو زيد.[9]
اصطحب والي الأندلس عبد الرحمن الغافقي في حملته العسكرية على فرنسا، وهناك سطع نجمه بقوة عندما انهزم المسلمون في تولوز وتمكن من جمع شتاتهم وإعادة تنظيم صفوفهم، وتميّز الغافقي باعتماده تكتيك التراجع بدل المواجهة حين يبدو له الخصم متفوقا بشكل كبير من الناحية العسكرية، وهو ما يندرج ضمن التخطيط العسكري الاستراتيجي، وعندما استشهد الوالي السمح بن مالك الخولاني قرب تولوز اختاره الجند قائدا لهم وأقره الخليفة، ليحكم الأندلس مدة شهرين أعاد فيها الاستقرار والتماسك إلى جيشها، ولم يمنعه ذلك من قبول عزله وعمل بإخلاص تحت إمرة سبعة ولاة تعاقبوا على الأندلس بعد ذلك، قبل أن يعيّن من جديد وبشكل دائم هذه المرة، واليا على الاندلس.[10]
فقد اتجه جيش المسلمين نحو قلب أوروبا للمرة الأولى في الفترة ما بين 719-721 م، بقيادة والي الأندلس السمح بن مالك الخولاني، ويشير ابن الفرضي في كتابه "تاريخ العلماء والرواة بالأندلس" إلى أنَّ الخولاني استولى على أربونة ثم مضى متقدما حتى وصل إلى مدينة طولوشة (تولوز)، وهي المعركة التي استشهد فيها، وتوقفت الحملة على إثر استشهاده.[11]
الحملة التي قادها عنبسة بن سحيم الكلبي في 724م و725م أدت إلى فتح بلاد الغالة (فرنسا)
حصن لودون.. إصابة قائد الحملة على عتبات باريس
بحسب كتاب "من معارك المسلمين في رمضان" لعبد العزيز العبيدي فإنه وبعد وفاة الخولاني عاد أمل المسلمين في مواصلة فتح بلاد الغالة (فرنسا) من جديد، وذلك عبر حملة جديدة قادها عنبسة بن سحيم الكلبي في سنتي 724-725 م (107 هـ)، حين عبر بجيوشه جبال البرانس، وواصل سيره مستغلا عدم اعتراض أي مقاومة لطريقه، حتى أدرك نهر السين الفرنسي الشهير.
واصل المسلمون تقدمهم حتى وصلوا إلى مدينة ليون التي يسميها العرب حصن لودون، لتقف الجيوش على بُعد ثلاثين كيلومترا فقط من باريس جنوبا، وعلى بعد نحو 300 كيلومتر شمال جبال البرانس، وهناك أصيب عنبسة بن سحيم بجروح كانت سبب وفاته أثناء الحملة، لتكون النقطة التي وطأتها خيول جيشه هي آخر ما وصل إليه المسلمون في فرنسا.[12]
بعد توالي تعيين الولاة في الأندلس، لم يجد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك خيارا أفضل من عبد الرحمن الغافقي لإعادة الأندلس إلى استقرارها الذي افتقدته لبضعة أعوام، وذلك لما اجتمع فيه من خصال الصرامة واللين في الوقت نفسه، مما جعله محط إجماع، فكان رجل جهاد وقتال، ورجل حضارة وإعمار في الوقت نفسه، حيث بنى المساجد والطرق والجسور، كما أفلح في تخفيف التوتر بين القبائل القيسية وتلك اليمنية، وأدخل الأندلس عهدا جديدا من تاريخها توحدت فيه كلمة العرب بقيسيهم ويمنيهم والأمازيغ المغاربيين.[13]
سقوط الجنوب.. فزع زعماء أوروبا من الزحف الإسلامي
بعد توحيده للصفوف داخليا، راح عبد الرحمن الغافقي يحضّر لغزو فرنسا لما يربو عن العامين، حيث دعا جموع المقاتلين من مختلف أنحاء الخلافة الإسلامية فقدموا عليه في قرطبة، فجمع أعظم جيش إسلامي على الإطلاق يوجه نحو بلاد الغال، فرنسا حاليا.
انطلق الزحف أوائل العام 113 هـ، حيث اتجه الجيش الإسلامي شمالا وعبر جبال البرانس الواقعة في الحدود الحالية بين فرنسا وإسبانيا، وسرعان ما افتتح الحصاد الإسلامي بالاستيلاء على مدن آرل في الساحل الجنوبي لفرنسا ثم ليون ثم بيزنسون، ليكتمل فتح الشطر الجنوبي من فرنسا بدخول مدينة سانس، ومنها انعطف غربا نحو مدينة بواتيي التي ستدور فيها معركة بلاط الشهداء.[14]
كان النصف الجنوبي من فرنسا عبارة عن مجموعة من المقاطعات أو "الدوقيات"، وكانت مدينة بواتيي تقع في مقاطعة أكيتين، كما يشرح أستاذ التاريخ المغربي محمد المغراوي، فقام حاكمها أود بالاستنجاد بالفرنجة لصد الهجوم الإسلامي، وتحديدا رئيس بلاطها والمتحكم في أمورها لكونه كان الأقرب الى الملك شارل الذي صار يلقب باسم مارتل (المطرقة)، بعد تمكنه من وقف الزحف الإسلامي.[15]
اجتمعت لشارل مارتل جموع غفيرة من المقاتلين، لسمعته العسكرية وثقة الفرنسيين الكبيرة به، كما كانت أوروبا وزعماؤها المسيحيون قد فزعوا من الزحف الإسلامي المتواصل، وأرسلوا صيحات صليبية تدعو للحشد والقتال، ليصل تعداد القوات المسيحية إلى حوالي 400 ألف مقاتل بتمويل ودعم من بابا الفاتيكان والكنائس الأوروبية، وهوما دفع الغافقي إلى القيام بتراجع تكتيكي بنحو 200 كيلومتر إلى الجنوب من باريس، في منطقة بلاط الشهداء.[16]
أوروبا تخلد ذكر شارل مارتل قائد جيش الفرنجة الذي انتصر على المسلمين في معركة بلاط الشهداء
ضعف الاستخبارات وطول المعركة.. مفاجأة الشمال الأوروبي
يسجّل الأكاديمي المغربي المقرئ الإدريسي أبو زيد نقطة ضعف في استراتيجية عبد الرحمن الغافقي، تتمثل برأيه في الضعف الاستخباراتي الذي أدى إلى سوء تقدير عدد وعدة جيش شارل مارتل. بينما يؤكد أكاديمي آخر -هو زين العابدين الحسيني- أن مارتل كان يتمتع في المقابل بقوة استخباراتية تجعله على اطلاع دائم بتفاصيل الجيش الإسلامي.[17]
كان اختلال ميزان القوى باديا منذ البداية، فقد كان الجيش الإسلامي منهكا بالمعارك التي خاضها طيلة رحلته التي بدأت من أقصى الجنوب الفرنسي، كما كان مثقلا بالغنائم التي تشغل بال الجند وتلزمهم بحمايتها، بينما كان جيش شارل مارتل على أهبة القتال، معززا صفوفه بمقاتلي قبائل الفايكينغ الشرسين القادمين من الشمال الأوروبي، كما كانت أرض المعركة المنبسطة والمفتوحة، في غير مصلحة جيش المسلمين الصغير عدديا مقارنة بجيش الفرنسيين.
دامت المعركة ما بين 7 إلى 10 أيام، حيث تختلف تقديرات المصادر، وهو ما يفوق طاقة ونمط القتال لدى الجيش الإسلامي بقيادات يمنية في الغالب، حيث كانت العادة أن تحسم المعارك بشكل سريع إما نصرا أو هزيمة، وكان الجيش المسلم متقدما في الأيام الثلاثة الأولى من المعركة، لكن عدده وعدته لم يسمحا له بمواصلة الصمود.
وسرعان ما اكتشف الفرنسيون ثغرة في صفوف الجيش الإسلامي، تتمثل في كون جزء من مقاتليه -خاصة منهم الأمازيغ- كانوا يصطحبون معهم زوجاتهم وأبناءهم، بناء على خطة الغافقي الذي كان يعتزم توطينهم في البلاد الفرنسية، فقاموا باستهداف مخيم المدنيين ومخازن الغنائم في خلفية الجيش الإسلامي، وهو ما باغت المسلمين وأدى إلى انسحاب بعضهم من مواقعهم لحماية أسرهم وغنائمهم، وأثناء انشغال الغافقي بمحاولة جمع الشتات وتوحيد الصفوف، أتاه سهم من جانب الأعداء أنهى حياته ومسيرته.[18]
بعد مباغتتهم من طرف العدو من الجهة الخلفية واستشهاد قائدهم، بات الهم الأول لجيش المسلمين هو الانسحاب، وهو ما جرى تنفيذه ليلا، من خلال ترك خيامهم مضاءة والمغادرة بما استطاعوا حمله، تجنبا لحدوث مذبحة في حقهم، ليفاجأ جيش الفرنسيين في صباح اليوم الموالي بخلوّ معسكر المسلمين، واكتفوا بنهب مخلفاتهم دون ملاحقتهم، خشية أن يكون هناك كمين ينتظرهم من جانب المسلمين.[19]
كان ارتباط عثمان بن أبي نسعة أمير منطقة نفار بصهره الدوق الفرنجي أودو سببا في هزيمة المسلمين
بعد الدار وخيانة الأمراء.. عوامل الهزيمة
يفسّر المختصون هذه الهزيمة بمجموعة من العناصر، أهمها بعد القواعد الخلفية للجيش الإسلامي التي كانت لحظة المواجهة في بلاط الشهداء تبعد بأكثر من ألف كيلومتر، وبالتالي انقطعت خطوط الدعم والإمداد، إلى جانب الطبيعة المنبسطة لساحة المواجهة، والحشد الكبير الذي كان في انتظارهم فيها من جانب الأعداء، حيث كان حجم الجيش الفرنسي يعادل قرابة عشرة أضعاف نظيره الإسلامي، وزاد من صعوبة الأمر الفترة الماطرة والباردة التي جرت فيها المعركة وما نتج عنها من وحل، وهو ما لم يكن في صالح جيش الغافقي.[20]
ويضيف المختصون عوامل أخرى مثل عدم تجانس الجيش الإسلامي، حيث كان فيه عنصران مختلفان وإن لم يكن بينهما أي خلاف أو شقاق، وهما العنصر العربي والعنصر الأمازيغي، وداخل المعسكر العربي كانت هناك حساسيات وخلافات، خاصة بين المكونين القيسي واليمنيـ وفي الوقت الذي يصر فيه بعض الكتاب الغربيون على أن الحرص على الغنائم هو سبب انهزام المسلمين، تأتي طريقة الانسحاب التي شهدت تخلي المقاتلين المسلمين عن غنائمهم لتدحض ذلك.
هناك عنصر إضافي للهزيمة يقدمه المختص المغربي المقرئ الإدريسي أبو زيد، وهو حدوث بعض الخيانات في صفوف الجيش الإسلامي، ويذكر كمثال لذلك شخصا اسمه عثمان بن أبي نسعة الذي صاهر الأمير أودو الذي كان حاكما للجنوب الفرنسي، وهو ما جعله يعمل لغير مصلحة الجيش الإسلامي. فقد كان عبد الرحمن الغافقي قد كتب إلى أبي نسعة بوصفه أميرا لمنطقة نفار، كي يشاغل العدو بمناوشات عسكرية، فردّ عليه يراجعه في أمره ويقول إنه يرتبط بعهد مع صهره الدوق أودو ولا يستطيع نقضه، وهو ما دفع الغافقي إلى إرسال كتيبة تعاقبه، ولم تتأخر في قتله.[21]
لكثرة الفتوحات، أصبحت الغنائم عائقا في حركة الجيش الإسلامي مما جعل ذلك سببا في خسارته المعركة
استراحة محارب.. حملات تثبيت موازين القوى
كانت آثار الهزيمة في بلاط الشهداء مهولة على المسلمين، وبقيت آثارها النفسية بالخصوص جاثمة على قلوبهم، كما كان لها انعكاس إيجابي كبير على المسيحية في أوروبا، وهو ما يفسّر الاحتفاء الغربي الكبير بهذا الحدث التاريخي.
ويؤكد المؤرخ الفرنسي "فيليب سيناك"، أن البعد العسكري للمعركة شكل سبب شهرتها ورسوخها في الأذهان الغربية، حيث كانت المعركة بداية لاهتمام الكنيسة بشخصية شارل مارتل، وأصبح البابا يراسله ويخاطبه عبارة "ابني العزيز".[22]
رغم مقتل القائد الإسلامي الذي نظم أكبر حملة عسكرية في بلاد الفرنجة، وبالرغم من سقوط نحو 25 ألف قتيل آخر، فإن معركة بلاط الشهداء لم تكن المواجهة الأخيرة ولا منعطفا فوريا، حيث واجهت البلاد الفرنسية -حاليا- حملات جديدة بداية من العام 735 م، وبقي ميزان القوى مستقرا لسنوات أخرى، حيث لم تبدأ محاولات استرجاع الأراضي الأوروبية الخاضعة لحكم المسلمين إلا في عهد حفيد شارل مارتل، المعروف باسم شارلمان.[23]