استعادة الأرض إلى التفاوض… قرار 242 والقفز من السلام المأزوم
نظرت الدول الراعية مؤتمر مدريد إلى الوفدين الأردني والفلسطيني، بوصفهما وفداً مشتركاً، وكان الوفد السوري يفرض سطوته على اللبنانيين، من خلال واقع السيطرة السورية على لبنان، واستمرت المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية المتقطعة والمتوترة حتى سنة 2008، وكانت العقدة الأساسية هي ترتيبات الانسحاب الإسرائيلي من هضبة الجولان، والمدة الزمنية المتعلقة بإخلاء المستوطنات، الأمر نفسه الذي كان يفترض أن يحدث مع الأردن، ففي واقع الأمر كانت أرضية القرار الأممي 242 تتحدث عن الأرض المحتلة بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967، وهي الأرض التي كانت تابعة للدولة الأردنية، وفقاً للقانون الدولي، وكان متوقعاً أن تمضي المفاوضات الأردنية ـ الإسرائيلية على الشاكلة والإيقاع نفسيهما الذي شهدته المفاوضات مع سوريا.
أصر الجانب الإسرائيلي على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بحضور وفد من الفلسطينيين المقيمين في الأرض المحتلة، وكان ذلك يعني استبعاداً لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي حصلت على اعتراف عربي بالتمثيل الحصري للشعب الفلسطيني سنة 1974، فالمنظمة لم تكن كياناً يعترف به القانون الدولي من الأساس، وفي الربع الأخير من سنة 1993 أعلن إلى العالم، قبيل منتصف الليل بتوقيت المنطقة العربية، عن اتفاق للحكم الذاتي وقعته إسرائيل مع منظمة التحرير، وبموجبه بدأت عملية تأسيس السلطة الوطنية، وانتقلت الأوراق كاملة، وبصورة مفاجئة إلى القاهرة، فالاتفاقية التي بدأت بغزة ـ أريحا شهدت بعضاً من الطقوس الانتشائية وصلت باصطحاب الرئيس المصري لرئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات إلى غزة.
لم يعد الأردنيون يمتلكون شيئاً في الحقيقة، فالأرض التي تمثل العقدة التفاوضية منحت بين ليلة وضحاها إلى منظمة التحرير، وكانت الرسالة الصريحة للأردن أن دوركم ينتهي، ولم تكن الأوضاع في الفضاء العيني للعلاقات العربية ـ الأردنية مواتية بعد حرب الخليج الثانية واحتلال الكويت، فكانت وادي عربة بكل عيوبها وتعجلها، الورقة الأردنية التي تمكن عمان من التعامل مع قضايا أخرى بقيت تشكل اهتماماً أردنياً، وفي مقدمتها قضية اللاجئين، والوصاية على المسجد الأقصى، والقضية الأخيرة مرتبطة برؤية المؤسسات الدينية الكبرى، المعنوية والمادية، على المواقع المقدسة، وتاريخية تعاملها مع الدولة الأردنية. أسهمت اتفاقية وادي عربة في ارتفاع التوقعات بخصوص وتيرة السلام في المنطقة، وبدأ رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين، يتحدث عن انسحاب كامل من الجولان مع تحفظات في قضية المياه، تدخلت تركيا من أجل تقديم ضمانات بخصوص تزويد المياه لسوريا، إلا أن اغتيال رابين والوتيرة التي شهدتها المراحل الانتقالية بين السلطة الوطنية والاحتلال الإسرائيلي، لم تكن مشجعة لسوريا من أجل سلام الشجعان الذي كان يدعو الرئيس حافظ الأسد في مراحل سابقة إلى التحليق عالياً وبسرعة.
ما يحتاجه الفلسطينيون اليوم هو ترتيب أوراقهم من أجل تحريك قضية الأرض والفضاء الجغرافي الذي استطاعت إسرائيل تجميده بعد اتفاقية أوسلو
السلطة التي عايشت الأزمة بعد الأخرى وصلت إلى مرحلة من الاستغلاق الكامل، لدرجة إطلاق الرئيس محمود عباس مجموعة من التهديدات، سواء بتقويض السلطة من أساسها، وإلقاء عبء الإدارة على سلطات الاحتلال، أو اللجوء إلى معركة قانونية كانت من بوادرها الأولى، الخطوة التي اتخذها رجل الأعمال الفلسطيني منيب المصري، بإقامة دعوى قضائية ضد وعد بلفور، بعد أكثر من مئة عام على إصداره، وجميع هذه المؤشرات تلمح إلى دخول السلطة الوطنية في منعطف استثنائي من الصعب التكهن بالمدى الذي سيصله.
صدرت قبل فترة مقالة لرجل أعمال فلسطيني يتحدث فيها عن إغداق المزايا على إسرائيل، والوعود على الأردنيين والفلسطينيين في مشروع يحمل النبرة التوطينية، إلا أن الحديث عن إعادة اندماج المسارين الأردني والفلسطيني يعود إلى فترة سابقة، من خلال مجموعة من المفكرين والكتاب الأردنيين والفلسطينيين، يعتبر الكاتب الأردني المقيم في بلجيكا، مالك عثامنة الصوت الأكثر صراحةً وتحرراً في الدعوة إلى ذلك، وتتلخص وجهة نظره في أن القرار 242 هو ما تبقى على طاولة الشرعية الدولية، وأن أوسلو وتوابعها أضرت بالشعب الفلسطيني وقضيته، وألحقت الضرر بالأردن بصورة مماثلة، وتتخلص دعوة العثامنة في وحدة الجغرافيا والديموغرافيا بوصفها المدخل الوحيد لتجنب التوطين الذي يعتبر حلاً على حساب الدولة الأردنية. يمكن الأخذ والرد في الدعوة الصريحة التي يتبناها عثامنة، ويؤيده أو على الأقل لا يعارضه مجموعة من المتابعين، الذين يمتلكون إطلالة على تفاعلات السبعينيات والثمانينيات، مع وجود معارضة شرسة من أجيال لم تعايش تلك المرحلة، ولم تقرأها أيضاً، أو ارتبطت مع فئات أقامت مصالحها على الأوضاع التالية لفك الارتباط 1988 واتفاقية أوسلو 1993، ويمكن أن توضع هذه الرؤية بجانب رؤية الدولة الواحدة التي تدعمها قوى ضبابية وغير واضحة، كانت تعلق اليافطات في رام الله قبل أعوام من غير توقيع، ورؤية أخرى ترى في النموذج الجنوب افريقي طريقاً لنضال الشعب الفلسطيني مستقبلاً، إلا أن النقطة الأساسية في جميع هذه الطروحات عليها أن تستند إلى حق الشعب الفلسطيني الكامل في أرضه المحتلة سنة 1967 لأنها القاسم المشترك في الأدبيات المتعلقة بالسلام، ولم يمتلك أحد الجرأة على التلاعب بها سوى ترامب وصهره جاريد كوشنر.
على الأرض أن تعود للطاولة، لأن أي تفاوض في موضوع خارج الأرض يعتبر إمعاناً في التفاصيل، فمن غير المعقول أن يبقى الفلسطينيون تحت رحمة ترتيبات تحويلات السلطات الإسرائيلية وتصاريحها، بينما تمتد أمامهم المستوطنات التي تتغذى على الماء الشحيح في الضفة الغربية، وأراضي المنطقة (ج) المعطلة من أي استثمار إنتاجي، ولا يبدو أن ثمة طريقا لاستعادة الأرض بوصفها عقدة تفاوضية، سوى القفز من تفاصيل السلطة، وهو ما لا تعارضه السلطة في السنوات الأخيرة، بعد التورط اليومي في إشكاليات الإدارة المحلية البسيطة، والوضع الذي يمضي من سيئ إلى أسوأ، مع عدم قدرة الفلسطينيين على الاستحواذ على مكتسبات جديدة. جربت السلطة أوراق الضغط الشعبية في الشيخ جراح، وفي الانتفاضة ضد المستوطنين التي دفعت وزير الدفاع الإسرائيلي للقاء الرئيس محمود عباس، وما يحتاجه الفلسطينيون اليوم هو ترتيب أوراقهم من أجل تحريك قضية الأرض والفضاء الجغرافي إلى التفاوض بعد أن استطاعت إسرائيل تجميده بعد اتفاقية أوسلو وتقسيم استعادة الأراضي إلى مراحل تقوم على حسن السير والسلوك، الذي تقدره إسرائيل في سلوك السلطة الوطنية، واستعادة المسارات العربية للتقارب، وأولها الأردني – الفلسطيني يغدو ضرورياً، واليوم، وبعد حصول الشعوب العربية على الأقل في الملاعب الكروية على استعادة فلسطين من جديد، يمكن القول إن مشروع التطبيع الذي سعت إسرائيل من خلاله إلى تقطيع وتعليب العلاقات العربية، بحيث تصبح حلقة تدور في فلك التفاعلات السياسية الإسرائيلية والحكومات الهشة، التي تطلب من الجميع المحافظة على استمرارها، وتقديم التنازلات من أجل ذلك، وكأن المهمة العربية أصبحت تنحصر في المحافظة على إسرائيل وتقديم المزايا.
في هذه اللحظة الصعبة والحرجة، يجب البحث عن مشروع جديد يجمع الشعب الفلسطيني، ويضعه في موقعه المناسب من المنظومة العربية المرهقة معنوياً وعاطفياً بعد الربيع العربي ونتائجه، ويفضل أن يقوم المشروع على الأرض وعلى صراع يمكن ضبطه وقياسه، من خلال الأميال المربعة التي تستعاد، وأمتار المياه المكعبة التي تصب في المناطق العربية، وفي حرية التعبد والتنقل في الأماكن المقدسة.