الفينيقيون : تجار العالم القديم
لا بد ونحن نتحدث في ابحاثنا هذه عن التجارة الدولية القديمة من ان نتكلم عن الفينيقيين بشكل
رئيس . فهذا الشعب الذي قدم مهاجراً من جبال زغروس في الزاوية الشرقية الشمالية من بلاد ما
بين النهرين العليا حط رحاله فوق تلة خضراء تطل على البحر الأبيض المتوسط إسمها أوغاريت
ومنها تمدد شمالاً وجنوباً على طول الساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط وأقام له مملكة
عرفت تاريخياً بمملكة أوغاريت٬ عاصمتها أوغاريت (راس شمرا) وميناءها ماهادو (مينا
البيضا) قرب راس ابن هاني على الساحل السوري الشمالي٬ وعلى بعد بضع كيلومترات من
مدينة اللاذقية الحالية. هذا الشعب الاوغاريتي الفينيقي كان تاجر العهود القديمة بامتياز. وان خرج
بمراكبه شمالاً صوب المناطق الاوروبية المجاورة او جنوباً على طول الساحل الافريقي الشمالي
المطل على البحر المتوسط ٬ فلم يخرج فاتحاً اومحارباً او مستعمراً بل متاجراً .
المحطات الفينيقية التجارية
قبرص
كانت جزيرة قبرص اولى محطاته التجارية٬ وهي لا تبعد سوى اقل من مئة كيلومتر عن ميناءه
في ماهادو . وكان لقبرص علاقات تجارية مع الساحل السوري من قبل٬ لكنها كانت متواضعة
ومحدودة٬ حتى اذا حل القرن الخامس عشر او الرابع عشر قبل الميلاد بدأت هذه التجارة تزدهر.
وما وجد من آثار لبعض المصنوعات الخزفية٬ ومنها الخزفية الاغاريتية في الجزيرة القبرصية٬
وما وجد مثلها في أوغاريت وتعود الى القرنين المذكورين٬ لدليل مقنع ان تجارة ناشطة قد نشأت
بين قبرص واوغاريت. وقد تزامن هذا العهد السابق للميلاد مع هجرات متواصلة من سكان بحر
الجزيرة٬ وخصوصاً في مدينة بافوس القبرصية مدى تأثر الايجيين بالحضارة الاوغاريتية
بدءاً ايجه الى الجزيرة والى الساحل السوري٬ من شماله حتى جنوبه.
وتظهر الحفريات التي جرت في من القرن الرابع عشر قبل الميلاد .
وبالمقابل تأثر الاوغاريتيون – الفينيقيون بالحضارة الايجية. ولنا بعض الدلائل على ذلك.
فعشتروت وفينيس اصبحتا تعبدان وكأنهما آلهة واحدة. ولنا في قصة اليسا او اليسار الهاربة من
صور بعد خلافها مع أخيها على خلافة الوالد الملك وتوقفها في قبرص حيث التحق بها بعض
انصارها وهي في طريقها الى قرطاجة. وقد دلت بعض الحفريات التي تمت قرب مدينة لارنكا
القبرصية ان فينقيين استوطنوا هناك في حوالى القرن الاول قبل الميلاد وتبعهم فينيقيون جدد
باعداد كبيرة حوالى سنة 700 ق.م. وقد وجدت نقوش فينيقية كثيرة قرب لارنكا٬ التي كانت تدعى
كيتيون آنذاك.
لا يتحدث المؤرخون عن غزو او وجود استعماري اوغاريتي – فينيقي في جزيرة قبرص٬ إنما
موقع استراتيجي تجاري كانت تتجمع فيه السفن المبحرة الى أماكن ابعد داخل البحر الأبيض
المتوسط . ولنا في الفخاريات الايجية التي قلدت الفخاريات الفينيقية شكلاً ولونا (الاحمر) ما
يثبت هذا القول .
كليكيا
كذلك كان للفينيقيين محطات تجارية في كليكيا.
وكان لهم محطات مماثلة في جنوبي فلسطين٬
وبنوع خاص قرب غزة.
وتذكر مصادر تاريخية ان تجاراً فينيقيين أقاموا لهم مراكز في دلتا النيل
وفي منفيس بالذات. ويذكر هرودوتس ان الفينيقيين جاؤوا من شواطئ البحر الهندي وسكنوا في
جزء من مدينة عرفت باسم "معسكر الصوريين"٬ وكان لهم معبد لعشتروت. أما وجودهم في
مصر فقد أكدته الاثريات الفخارية الحمراء التي وجدت في اماكن متعددة من الدلتا. وهنا نؤكد ان
هذا الوجود كان وجوداً تجارياً موقتاً. فالفينقيون لم يقيموا لهم مستعمرات في بلدان حكمتها
حكومات جيدة وفاعلة وتمتعت بنوع من التقدم الحضاري المقبول بمقاييس ذلك الزمان. فهمهم
إنحصر بالتجارة وليس بالاستيطان الدائم٬ باستسثناء قرطاجة٬ وسرهم دائماً وجود مواطن مستقر
وشعب متحضر يمكنهم ان يتاجروا معه .
بحر إيجية
نأتي الى بحر ايجيه. هنا نرى في جزيرة رودس٬ خاصة في مدينتي كامبروس واياليسوس تأثيراً
فينيقياً. فالاثارات تدل ان فينيقيين جاؤوا الى الجزيرة خلال حروب طروادة وقام اليونانيون
بطردهم. ويعتقد ان وجودهم اضمحل في القرن السادس بعد ان سيطر النفوذ الاغريقي على
الجزيرة .
رحبت كريت بالفينيقيين وساعدتهم على اقامة محطات تجارية. فلطالما اعتبرت مدينة إتانوس
الشرقية انها مدينة بناها التجار الفنيقيون. ورغم اننا نفتقر الى أي دليل أثري لاستيطان فينيقي
حقيقي٬ الا ان آثارهم الفنية والحرفية التي وجدت هنا تعود الى القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد.
وقد وجدت هذه الآثار في آماكن متعددة من الجزيرة.
كان الاغريق قد استقروا باعداد كبيرة في منطقة ايجيه ولم يرحبوا بأي وجود استيطاني فينيقي
دائم هناك. فقد ذكر هومر ان التجار الفينيقيين كانوا يقصدون المنطقة لبيع مصنوعاتهم المعدنية
التي اعتبرها أهل المنطقة مصنوعات حرفية فاخرة ومميزة. والامر مثله حدث في غربي اليونان
حيت جاء التجار الفينيقيون يتاجرون بمصنوعاتهم الحرفية المميزة. ومما يدل على ذلك تمثال
ملكارت البرونزي الصغير الذي وجد قرب موقع على الشاطئ الجنوبي من صقلية٬ وكان من
صنع فينيقي يعود الى القرن الرابع عشر او الثالث عشر قبل الميلاد .
الشاطئ الافريقي الشمالي
أقام الفينيقيون محطات ومستعمرات تجارية صغيرة على الشاطئ الشمالي من القارة الافريقية.
وتعود هذه المحطات الى حوالى سنة 1100 قبل الميلاد٬ ومنها محطة في اوتيكا واخرى في
هدروميتوم (سوسه الحالية) ولبس مغنا. واذا اتجهنا غرباً نجد للفينيقيين بقايا محطات اخرى٬ منها
واحدة في غادس أنشأوها في القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وكانت هذه المحطة أقدم محطات
الفينيقيين على الساحل الافريقي الشمالي باستثناء قرطاجة .
جزيرة مالطا
يعود التواجد الفينيقي في جزيرة مالطا الى القرن الثامن قبل الميلاد٬ وربما قبل ذلك. واذا صدقنا
افتراضات بعض الباحثين حول قراءتهم للكتابات والنقوش على صخرة نورا في جزيرة سردينيا
بانها تعود الى القرن التاسع قبل الميلاد٬ فان الوجود الفينيقي لا بد انه بدأ في القرن الثامن قبل
الميلاد. فالنقاط الحساسة ومفتاح قرطاجة واوتيكا وموتيا ومالطة كانت تتحكم بالممر المائي
الضيق الموصل الى قادس وما وراءها. وان الوجود الفينيقي في سردينيا٬ من نورا الى ثاروس
وسولسيس وكاراليس٬ أبعد الاغريق عن الشطر الجنوبي من الجزيرة. الا ان الاغريق ربحوا
السباق في فرنسا٬ بينما أقام الفينيقيون لهم مستعمرة في مساليا في سنة 600 ق.م. وتحكموا
بصقلية وجنوبي ايطاليا وثبتوا وجودهم على الشاطئ الافريقي من مصر الى سرتيكا. وبعد حوالى
مئة عام٬ أي حوالى سنة 500 ق.م. قام خط وهمي ليرسم مناطق النفوذ التجاري بين الاغريق
والفينيقيين في الشمال الافريقي .
قرطاجة
قامت قرطاجة باول مغامرة توسع خارجي سنة 653 / 654 كما يخبرنا المؤرخ ديدوروس
سيكولوس حين أقامت مستعمرة في ابيزا حيث كان هناك مرفأ طبيعي جيد بعيد عن خطر
الاغريق وسواهم من المنافسين . وكذلك أنشأوا مرفأ تجارياً في مينوركا حمل الاسم الفينيقي
"مرفأ ماهون" . وكان هذا المرفأ من أفضل مرافئ البحر الأبيض المتوسط .
الشاطئ الاسباني
المستوردة من طرطوس ٬ او ربما من ترشيش . وكان هناك ما يشير الى ان نفوذاً فينيقياً تجارياً
إستعمل الفينيقيون مرفأ غادس الاسباني القائم فوق موقع مميز لجمع وتخزين المعادن الخام
قد بدأ يظهر في جنوبي او في جنوبي غربي اسبانيا في القرن الثامن قبل الميلاد وليس قبلاً . من
هنا شكك البعض في ان انشاء غادس يعود الى القرن الثاني عشر٬ كما شككوا في ان اوتيكا قد
أقيمت في زمن مماثل ٬ مما حمل بعض المؤرخين الى عدم الاقرار بنشاط تجاري ٬ او وجود
فعلي ٬ فينيقي في اسبانيا يسبق الالفية الاولى قبل الميلاد . واذا كانت صخرة اتيكا التي تحدثنا
عنها اعلاه تعود الى القرن التاسع قبل الميلاد فانها تكون أصدق برهان يؤكد الوجود الفينيقي في
الجنوب الاسباني . وعلى كل فان الحفريات لا تعيدنا الى ابعد من القرن الثامن قبل الميلاد .
هناك بعض الادلة التاريخية التي تشير الى نشاط فينيقي تجاري عائد الى القرن السادس او السابع
قبل الميلاد على الشاطئ الشمالي من المغرب القريب من الشواطئ الاسبانية٬ وبنوع خاص في
موغادور وطنجة وتامودا. وليس من دليل قاطع ان القادمين جاؤوا من فينيقيا او غادس وليس من
قرطاج. الا ان الآثار التي وجدت في هذه الامكنة ومن بينها الفخاريات التي وجدت في المقابر
القديمة تدل الى ان هؤلاء الفينيقيين قد قدموا فعلاً من قرطاج. ومما يعزز هذه الدلالة قصة رحلة
هانو التي سنتحدث عنها لاحقاً .