«الصديق الإسرائيلي» وأمن الخليج
نصري الصايغ 30-11-2015
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2015-11-30
على الصفحة رقم 15 – قضايا وآراء
في كتاب الفنان البريطاني بانكسي، رسوم وزّعها على جدران المدن، وعلى جدار الفصل العنصري في فلسطين. جاءت الرسوم تعبيراً عن ألم وفتحة لأمل. من رسومه طفلة على جدار تلهو، برج مراقبة إسرائيلي عُلّقت به أرجوحة أطفال يلعبون، قطة بحجم حائط هو ما تبقى من بيت... وغيرها من الرسوم الغرافيتية المدهشة.
وفي الكتاب حوار بين الرسام وكهل فلسطيني. يقول الكهل: «أنت ترسم على الجدار فتجعله جميلاً». ظنّ بانكسي أن الرجل يمدح فنّه، فأجاب: «شكراً». فقال الكهل: «لا نريده أن يكون جميلاً. نحن نكره الجدار. إذهب من هنا».
«نكره الجدار... إذهب من هنا». لا تطبيع مع الجدار. تجميل الجدار يجعل من إسرائيل جميلة، يجعل من قصاصها منحة ومن جريمتها مكافأة. لا. يجب أن يظل الجدار قبيحاً. يلزم أن تبقى صورة إسرائيل في الجدار، «بلا رتوش».
بانكسي الفنان، في ظنّه، أنه يزرع الأمل. قد يكون ذلك طوباوياً ورائعاً، لكنه، إزاء إسرائيل، تحسين لصورتها.
ولقد أقدمت أنظمة عربية على ذلك. لم تعد إسرائيل ذئباً استعمارياً احتلالياً. باتت دولة، وتفرض «الواقعية النفعية» التعامل معها، كدولة معترَفٍ بها، ترتكب مخالفات، كغيرها من دول المنطقة، بل إن بعض دول الإقليم ترتكب ما هو أفدح. صورة إسرائيل الديموقراطية المتقدمة الناجحة، يلزم أن تُخفي أخطاءها وخطاياها، فيتناسى الإعلام «الخطيئة الأصلية» و «الجريمة الكبرى»، وما آلت إليه فلسطين والشعب الفلسطيني بعد ثلثي قرن من الأزمنة العربية البائسة.
«الموضوعية» و «الواقعية» و «الضرورات تبيح المحظورات» وإلى آخر التبريرات والتّرّهات، تقتضي تقديم صورة «إسرائيل» كجارٍ مفيد، يمكن الاعتماد في حاجات أمنية أو في أحلاف سرية ضد مخاطر وجودية، أنبتتها ورعتها عقيدة الخوف والتخويف من الجار العربي أو من الأخ العربي. وهكذا تختفي صورة «إسرائيل» كدولة محتلة، تتراجع فجيعة بناء جدار الفصل، التي حوّلت فلسطين إلى جلجلة يومية، يتسلّقها الفلسطيني كل لحظة. لا تعود تذكر حروب «إسرائيل» على قطاع غزة، يمرّ الاستيطان الزاحف بصمت جارح، تسحب من القدس روحها، وليس مَن يصلّي لأجلها أو يُلفت النظر إليها. تُنسى مسألة اللاجئين، «بؤساء العرب» منذ ستة عقود ونيف. تُنسى الضفة المتآكلة ويهمل شعب يجرب المستحيل بلحمه وصدره وفلذات كبده، تُنسى الألوف المأسورة في السجون...
لا، يجب أن يبقى الجدار على بشاعته، شاهداً على الظلم الفائق، وعلى العار العالمي. وإذا صار الجدار جميلاً، وباتت إسرائيل دولة طبيعية، لأصبح الفلسطيني كقضية، مسألة تخصّ كوكباً آخر.
المشهد الخليجي غني. «إسرائيل» المفيدة (تعبير سياسي ناشط جداً) ضرورية. فعلاً، الثراء يُعفي من الأخلاق. يبرِّر التحلل من القضايا. يشتري بلا كفاف. يبيع بلا خجل. يحرص على الارتكاب بتبرير. يستبدل الأصدقاء ويستضيف الأعداء. يؤجر فلسطين لغزاتها ويعامل الفلسطيني كخردة. يدفع نقداً أثمان حماية. لا تهمّه الملايين والأرقام الفلكية. لديه مما «رزقناكم» ما يكفي دهوراً من النفط والغاز و... يداوي خوفه بعباءة الأمن المستعار ولو كان إسرائيلياً.
آخر ما أوردته المعلومات والتسريبات، من دول الطاعة، قناعتها بأن أمنها مهدد من إيران، وأن أمنها آمن بالأمن الإسرائيلي. لا ضمانة تفوق ضمانة هذا «الصديق». ممالك وإمارات ومشيخات اكتشفت بأن أفضل تقنيات الحماية وأفضل وسيلة للأمن الممسوك، تسليم الأمن الخليجي للخبرات الإسرائيلية وتقنياتها. إسرائيل إذاً، حاجة خليجية، بل من ركائز الأمن الوطني والقومي الخليجي.
ليس هذا مستغرَباً. إذا أردت أن تبرر الحماية، فلا عليك غير أن تُشهِر خوفك وتعظّمه. التخويف من عدو أو من هيمنة، يبرر التكليف لإسرائيل. المفاضلة بين «إسرائيل» وإيران خليجياً مقنعة، لأنها مُقنَّعة بحجة الخوف. وهي حجة مثالية: «إيران تخيفنا لا إسرائيل. انظروا ما يحصل في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. إسرائيل لا تهدّدنا، وهي بعيدة عنا. ليس خطأ الطلب من عدوّ لم يعتدِ علينا أن يساعدنا، لنقف في وجه عدو ينقضّ علينا من حولنا». هكذا هي الصورة. صورة إعلاء الخوف تبريراً لشراء الأمن من عدو (ربما هو لم يكن عدواً ولم ينظروا إليه كذلك، إلا لماماً).
ليس مستغرَباً كل هذا. سبق أن حذفت فلسطين من خريطة السياسات العربية الرسمية. أسقطت قبل اندلاع «الربيع العربي». فوِّضت أميركا بفلسطين، وأميركا تنازلت عن تفويضها، ففوَّضت «إسرائيل» بفلسطين. وسبق أن ارتفعت أصوات خليجية ضد النووي الإيراني في موازاة صمت مطبق إزاء النووي الإسرائيلي. وحدث ذلك قبل اندلاع الحرائق في الإقليم وعلى أطراف الخليج. إيران الثورة مدانة خليجياً مذ ولدت إيران الفلسطينية. دعمت حرب صدام ضدها. دُمِّر بلدانِ، بأموال خليجية. فماذا بعد؟
الخلاف مع إيران يُحلّ بتسويات. ملفات الخلاف لن تجد حلاً بالحروب أو بالتدخل أو بالعمليات الأمنية السرية. مآل الخلافات البينية هو الحوار، غداً أو بعد سنوات. إن إيقاظ شياطين الخوف والتخويف يستدعي «الاستعانة بعدو». ولقد حصل ذلك فعلاً من قبل في لبنان، في كردستان العراق، ويحصل حالياً في سوريا.
ظاهر المشكلة يخفي الحقيقة. أمن دول الخليج لم يتعرّض لاهتزاز بسبب إيران، بل بسبب الطموحات الخليجية الإقليمية. غامرت مع صدام ثم دفعت ثمن احتلاله للكويت. وهي خائفة اليوم، بسبب حربها في اليمن. والمشكلة الأعمق، أن للكثير من هذه الأنظمة مشكلات مع شعوبها، إما بسبب الاستبداد، وإما بسبب الاختلاف المذهبي، وتنامي شعور الأقليات وتفاقم خوف الأكثريات.
ليست دول الخليج وحدها في هذا التفلُّت والتراخي. فسياسة شيطنة الفلسطيني مزمنة. فالفلسطينيون يحملون مشكلات الأمة ودولها وكياناتها وشعوبها. كما يحملونه مسؤولية ضياع فلسطين وعدم استردادها. لسان حالهم واحد: «كان يجب أن يقبلوا التقسيم... كان يلزم أن يتشبثوا بأرضهم وأن لا ينزحوا عنها... «خطة دالت» لا تعني أنظمة العرب ولم يسمعوا بها. هم السبب في «النكبة» و «النكسة»، وهم المصيبة عندما حملوا السلاح، فاستحقوا مجازر الأردن والحروب اللبنانية. كان يلزم أن يكونوا مع أميركا. 99 في المئة من أوراق الحل بيدها. كان يجب أن يعادوا السوفيات، وكان يجب ألا يتدخلوا بالقضايا العربية وكان يجب ويجب...
في مقابل تحسين صورة إسرائيل، تُرسَم صورة مشوَّهة للفلسطيني. تلك هي المعادلة الجديدة. أما التكفيريون والجهاديون الإرهابيون فمتروك أمرهم لولاتهم ورعاتهم ومموّليهم من تركيا ودول الخليج.
تباً لهذا العصر. لا طاقة للأمة على هذا القهر.