رسائل كيري الحقيقية للفلسطينيين
عندما سمعت في نشرات أخبار إذاعية عن تصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري، بشأن المستوطنات الإسرائيلية، رجحت أنّ أمامي مادة طويلة لقراءتها. فمجلة "ذي نيويوركر" التي نشرت التصريحات، لا تنشر في الغالب أخبارا ومقابلات قصيرة، بل هي، في مجال السياسة، غيرها في الثقافة والأدب؛ هي مجلة التحقيقات المعمّقة البانورامية الطويلة. وبالفعل، كان مقالا مطولا عن كل شيء يتعلق بكيري، فيما موضوع فلسطين مجرد جزء، إلى جانب كل السياسات الأميركية الخارجية. ويتضمن المقال إعلان اليأس. وأهم ما يعلنه ليس الانتقاد للحكومة الإسرائيلية، وهو ما ركز عليه الإعلام، بل أنّ كيري لن يعود لعملية التفاوض حقاً، وهو ما يجب أن يوجه رسالة للفلسطينيين.
يحلل المقال حياة كيري وشخصيته منذ طفولته، ويصف تأرجحه بين الطموح والنجاح غير المكتمل، واضطراره للتخلي عن طموحاته أحياناً مع شعوره بمرارة لأنّ من حوله يخذلونه؛ من مثل خسارته الانتخابات الرئاسية العام 2004 ضد جورج بوش الابن، أحد أسوأ الرؤساء في التاريخ الأميركي، كما تصفه المجلة، وشعور كيري أن فريقه الانتخابي خذله عندما منعه من الرد على افتراءات وجهها له بوش. بالمثل، يصف المقال الذي يعتمد على الكثير من الملاحظات والمعلومات المتراكمة من شخصيات مختلفة حول كيري، حالات السخرية والهجوم الشخصي التي تعرض لها كيري، ومثله الرئيس الأميركي باراك أوباما، من قبل المسؤولين الإسرائيليين. فمثلا، كتب ران باراتاز، الذي عينه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مؤخرا، مسؤولا للإعلام في فريقه، على صفحته في "فيسبوك"، أنّ أوباما معاد للسامية، وأنّ المستوى العقلي لكيري لا يتجاوز قدرات ولد عمره 12 عاما. وقبل هذا سخر منه وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعالون، وقال إنّه يتمنى أن يحصل كيري على جائزة نوبل حتى ينتهي هوسه بالتوصل لسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وليتخلص من همه بوجود "رسالة" إلهية عنده.
ما توقف عنده الإعلام هو نقد كيري (الذي ربما عبّر عنه قبل أسابيع) بشأن مواصلة الإسرائيليين للاستيطان وهدم بيوت الفلسطينيين، وكيف أنّ هذا سيؤدي إلى دولة واحدة تصعب إدارة أراضيها، ولا تتمتع بالسمة اليهودية والديمقراطية التي "ميزت إسرائيل عند ولادتها". ولكن ربما الأهم من ذلك أنّه بعد سرد تفاصيل من نوع أن غالبية وزراء الحكومة الإسرائيلية يعلنون جهاراً أنهم ضد حل الدولتين، وبعد الإشارة إلى رأي المسؤولين الأميركيين بشأن شخصية نتنياهو وأنّه "قصير النظر، مغرور، لا يمكن الوثوق به، جامد، لا يحترم الرئيس الأميركي، وهدفه قصير المدى الدائم هو الحفاظ على حكومته"، فإنّ الموقف الأميركي هو فعل لا شيء.
بل أكثر من ذلك، يؤمن كيري أنّ اتفاقا فلسطينيا إسرائيليا مفيد لإسرائيل، ورائع للفلسطينيين، ورائع للمنطقة، سيوفر دخلا وفرص عمل أكبر للناس، وسيكون هناك سلام، وسيكون ضربة ضد الجهاديين. ورغم قناعته أن إسرائيل تعرّض هويتها اليهودية وديمقراطيتها للخطر، ورغم خوفه من أنّ انهيار السلطة الفلسطينية سيؤدي إلى تشرذم ثلاثين ألف رجل أمن فلسطيني، وتجدد المواجهات وانخراط هؤلاء في العنف ضد الإسرائيليين، إلا أنّه بعد هذا كله يقول (كما ينقل المقربون منه) إنّه وإن كان سيبقى مؤيدا لحل الدولتين، فإنّه لن يعود لجهده في التوسط للوصول إلى اتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلا إذا "جاؤوا وطرقوا بابه"، وطلبوا ذلك.
يبدو حال الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهو يتحدث، هذا الأسبوع، أنّ الانتفاضة مبررة، من دون طرحه خطة تحرك شاملة، كمن يقول إنّ الكرة الآن في ملعب الشبان الفلسطينيين وأنّه لن يعارضهم. أمّا كيري، فيقول إنّ بلاده ستظل منحازة للإسرائيليين مهما فعلوا، وحتى لو كانوا يؤذون أنفسهم، ويؤذون المنطقة وسلامها، وبالتالي يؤذون السلام العالمي ويؤذون المصالح الأميركية. وهذه أيضاً رسالة للشبان الفلسطينيين أنّ أحداً لن يتدخل لمساعدتكم، وأنّ العالم لا يكترث بكم. وفي المقال يقول كيري "إنّ الفلسطينيين لا حول لهم، وأغلب الأوراق بيد الإسرائيليين". وبالتالي، فإنّ العامل الذاتي الفلسطيني الذي أوصل الثورة الفلسطينية يوماً للبقاء، وأجبر العالم على محاولة الوصول لتسوية، كان هو الأساس وسيبقى هو الأساس بتطوره ضمن تصورات أكثر شمولا ووضوحاً.