السلاطين الشعراء
كان الشاعر قديماً، لسان قومه وعشيرته، وكان ميلاد شاعر فى قبيلة ما، يعنى ميلاد ديوان جديد، لتخليد ذكرها ورفع شأنها، وإعلاء بيانها. ومن ثم كانت تحتفل كل قبيلة ترزق شاعراً جديداً، احتفالها بتنصيب أمير جديد، فكيف الأمر إذا كان هؤلاء الشعراء الذين سنتحدث عنهم، هم سلاطين المسلمين وخلفاءهم، في فترة من أمجد وأزهى عصورالحضارة الإسلامية.
هؤلاء هم السلاطين الشعراء، من خلفاء الدولة العثمانية، الذين بلغ عددهم أكثر من عشرين من السلاطين الشعراء المجيدين، أشهرهم السلطان محمد الفاتح، ومنهم خمسة تعاقبوا على العرش العثماني هم: السلطان سليمان القانوني، ووالده سليم الأول، ووالده بايزيد الثاني، ووالده محمد الفاتح، فاتح القسطنطينية ووالده مراد الثاني..
السلطان مراد الثاني
السلطان مراد الثاني (1403-1451م) هو الشاعر الرائد في السلسلة السلطانية الفاتحة الشاعرة، هو أول سلطان من آل عثمان ينظم الشعر، ويؤدى دوراً مهماً في تاريخ الأدب التركي، وهو وإن كان مقلاً في أشعاره، إلاّ أنه كان على وعى كامل برسالة الأدباء والشعراء، الذين كانوا لا يفارقونه حتى في حروبه وغزواته، وفضله على الأدب لا ينكر، من خلال لغته السهلة الواضحة، وأغراضه القريبة البسيطة، التي جعلت الناس يرددون أشعاره على ألسنتهم كطرائف ولطائف من الكلام الطيب الجميل.
وبلغ من احتفائه بالشعر والشعراء، أن كان يدعوهم إلى مجلسه يومين كل أسبوع، ويطارحهم الأشعار والأفكار، ويجالسون أهل الفكر واللغة الذين يديرون حركة الترجمة من التركية إلى العربية ومن العربية إلى التركية، مما جعل قصره الحاكم، أقرب إلى الأكاديمية العلمية، وقد ترك وصيته شعراً، يقول فيه: "فليأت يوم يرى الناس فيه ترابي"؛ لأنه كان يكره أن يبنى على قبره، أو يشيد له ضريح.
السلطان محمد الفاتح
وبعد وفاة مراد الثاني، خلفه ولده السلطان محمد الفاتح (1431-1481م) عبقري الجهاد والسياسة، الملقب بأبي الخيرات، حكم ما يقرب من ثلاثين عاماً، كانت كلها خيراً وفتحاً وعزاً وتمكيناً للإسلام والمسلمين، وبه تحققت نبوءة المصطفى صل الله عليه وسلم: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش".
وهو الذي تولى الإمارة وهو ابن العشرين من عمره، إلا أنه كان أمة وحده، وقد تجلت عبقريته المتفردة في فتح القسطنطينية عام 1453م وهو ابن الثانية والعشرين من عمره القصير الميمون.
وكان السلطان محمد الفاتح ذا ثقافة واسعة، ومواهب جمة، غلب على إمبراطوريتين، وفتح سبع ممالك، ورفع راية الخلافة على مائتي مدينة، وشيد المئات من المساجد ودور العلم، وأجاد اللغات العثمانية، والفارسية، واللاتينية واليونانية والسلافية والعبرية، وتبحر في اللغة العربية وآدابها، وتمكن من بلاغتها ونحوها وصرفها وعروضها وبحورها [1]، وكانت الكثرة في مكتبته الخاصة من نصيب اللغة العربية، ودرس بها الآداب والرياضيات والفلك والفلسفة والكيمياء.
وديوان الفاتح يسمى ديوان "عوني"، وهو الاسم الشعري الذي اتخذه لنفسه، ليوقع به أشعاره، ومعناه "المخلص"، وقد كان هذا الديوان مجهولاً، حتى أخرجه المستشرق الألماني "جورج جاكوب" ضمن مجموعة خطية لأشعار الفاتح، ونشره في برلين عام 1904م، ثم أعيد نشر الديوان مرة أخرى عام 1918م وعام 1959م بإسطنبول.
وقد قام رائد الدراسات الأدبية المقارنة العلامة د. حسين مجيب المصري بترجمة بعض معاني أشعاره، منها:
أنــــا عبــــد لسلطـــــان مــــن عبيــــده
وهــــــذا البستـــان إلى ذوى وذبـــــــول
وإذا ما وافى الخريف فلا ربيع ولا رياض
ويتناول الدكتور عبد الوهاب عزام طرفاً آخر من معاني أشعار الفاتح، حيث يشير في مجلة (الرسالة، مارس 1933م) إلى إحدى قصائد الفاتح التي يقول فيها:
لهـذه الألوان من الآلام خلقتني يا رب
قــد اجتمـع علــى إحراقــي وهدمــي..
مزقة القلب، ونار الآهات، ودمع العين
ومن أشعاره الإسلامية الراقية يقول السلطان "محمد الفاتح" في إحدى قصائده:
نيتـــــي: امتثـالــــــي لأمـــــر الله "وجاهـدوا فـي سبيل الله".
وحـمــاســــي: بــــــذل الجـهـــد لخــدمــــة دينـــي، ديــن الله.
وعـزمـــي: أن أقهــر أهــل الكفـــر جميعـاً بجنــودي: جند الله.
وتفكيري: منصب على الفتح، على النصر والفوز، بلطف الله.
وجهادي: بالنفس والمال، فماذا في الدنيا بعد الامتثال لأمر الله.
وأشـواقــي: الغـــزو الغزو، مئات الآلاف من المرات لوجه الله.
ورجـائــي: فــي نصـــر الله، وسمــو الــدولــة على أعداء الله.
ومن مآثر هذا السلطان الفاتح العظيم، وتواضعه الجم، أنه عند دخوله القسطنطينية فاتحاً مظفراً، لم يستشهد ببيت من أشعاره، بل استشهد ببيت لشاعر فارسي، ترجمه د. حسين مجيب المصري في كتابه تاريخ الأدب التركي (القاهرة: 1951م) يقول:
"تنعق البوم على قباب الأكاسر، والعنكبوت تضرب نسيجها على قصور القياصر".
رحم الله فاتح القسطنطينية، أبا الخيرات السلطان الشاعر محمد الفاتح.
بايزيد الثاني الشاعر الخطاط
أما السلطان بايزيد الثاني (1447-1512م) ابن الفاتح الأكبر محمد الفاتح،.. فقد كان ماهراً في فن تحسين الخط العربي، ومعه خطاط عصره "حمد الله"، وكان متضلعاً بالعلوم العربية والإسلامية، يمتاز شعره بالعمق والطلاقة والإحساس الديني الدافق، وكثرة التدبر والتأمل في صفحة الكون البديع.
يقول في معاني إحدى قصائده:
استيقظ من نوم الغفلة، وانظر إلى الزينة في الأشجار
انظـر إلى قـدرة الله الحـق، انظـر إلى رونـق الأزهـار
وافتــح عينيــك لتشاهــد حيــاة الأرض بعــد الممــات
ويقول في قصيدة أخرى:
يليــــــق الخـلـــق بـالـخــالـــــــــق
ويليق الاستجداء بي.. أنا السلطان
ذلـك لأنــــك أنـــت ملجـــأ الإنسـان
فمــــن غيــرك يجــدر إليه الالتجاء
السلطان سليم الأول خليفة حافظ الشيرازي
أما رابع هؤلاء السلاطين الشعراء، فهو سليم الأول (1470-1520م) بن بايزيد الثاني، الذي نظم شعره بالفارسية، لغة أكابر الشعراء في زمانه، حتى قيل إنه الشاعر الذي سيكون حافظ الشيرازي، أشعر شعراء الفرس، وفى شعر السلطان سليم الأول رقة وجمال، وكتب الشعر أيضاً بالعربية التي كان يجيدها إجادة تامة.
وقد قام المستشرق الألماني "باول هورن" بطبع ديوان سليم الأول بأمر من الإمبراطور الألماني "غليوم"؛ لإهدائه إلى السلطان عبد الحميد الثاني عام 1904م، رمزاً للصداقة الألمانية العثمانية، ثم قام الدكتور "نهاد طارلان" بترجمة الديوان ونشره بالتركية في إسطنبول عام 1946م.
السلطان سليمان القانوني
ثم خلفه السلطان سليمان القانوني (1495-1566م)، الذي عاش في السلطنة ستاً وأربعين سنة في جهاد موصول، حتى لقي الله أثناء حصاره لقلعة "سيكتوار" بالمجر، ويغلب على أشعاره الزهد والتدبر والتفكر، والخشوع والخضوع لله تعالى، ومن ذلك.
فلننشر الراية العظمى .. ونردد اسم الله
ولنسيّـــــر الجيــــوش نحـــــو الشــــرق
فــرض الله علينـــــا حمــايـــة الإســــلام
فلمـــاذا نخلــــد للــراحـــة فنحمل الذنوب
إني آمل أن يحسن تمثلنا بقيادة أبى بكر وعمر
أيها الشاعر "محبي" سر على بركة الله
وسيّــر الجيـــوش نحو الشرق من الحدود
وكان يكنى نفسه في أشعاره باسم (محبي)، رحم الله السلطان المجاهد، الذي استشهد على ظهر جواده، في حصاره لقلعة المجر الحصينة عام 1556م.
السلطان عبد الحميد خان
ولعل خير خاتمة لهذه الكوكبة من الشعراء السلاطين، هي قصيدة الدرة المضيئة التى نظمها السلطان عبد الحميد خان بن السلطان أحمد عام 1191هـ، واستحقت بإخلاص ناظمها، وحبه الصادق للمصطفى صل الله عليه وسلم، أن تنقش على جدران الحجرة النبوية الشريفة، وقد استخرجناها من كتاب "مرآة الحرمين" لأيوب صبري باشا.
وهى قصيدة مكونة من ستة عشر بيتاً من الشعر العربي الرصين، وقد أُفرد البيت الحادي عشر منها، بالكتابة على شباك الحجرة النبوية، أمام دكة الأغوات، أي في جهة المحراب المعروف بمحراب التهجد، والبيت المذكور هو:
ربُّ الجمال، تعالى الله خالقه
فمثله في جميع الخلق لم أجد
رحم الله هؤلاء السلاطين الفاتحين، الذين حملت دولتهم وخلافتهم راية الإسلام والمسلمين قرابة السبعمائة عام، فكانوا أطول الدول عمراً. وكانوا عند وصية جدهم (عثمان رحمه الله ت 1360م)، الذي أوصى أبناءه، وصية غالية جامعة، ثم قال لهم فيها:
"نحن بالإسلام نحيا، وللإسلام نموت، وبالجهاد يعم نور ديننا كل الآفاق، فتحدث مرضاة الله جل جلاله".
[1] انظر: موسوعة اللغة التركية وآدابها، اسطنبول، 1977م.
المصدر: مجلة التبيان – العدد 55 – 24 فبراير 2009م