متاهة "التاريخ" بين "حقيقة الحدوث" و"فتنة الرواية"
د. نارت قاخون
"في "الأزمنة الخدّاعة" يكون "قول الحقيقة" عملاً "ثوريّاً"" (جورج أورويل).
في مقولة "أورويل" ملحظ مهم يكمن في عبارة "قول الحقيقة"؛ فالحقيقة ولاسيما التاريخيّة لا يتجلّى حضورها إلا إذا صارت "قولاً" يُنقل ويُتداول، فإنّ "ما يُقال ويُروى عن الحدث" أهمّ من "حقيقة ما حدث". وهذه الأهميّة تنشأ من الفرق بين "الحدث في التاريخ" و"الحدث في الثقافة"، فالأول هو ما وقع فعلاً وواقعاً وصدقاً في تقاطع بين فعل الإنسان في الزمان والمكان، ويكون عيار الدارسين للحدث التاريخي هو البحث عمّا يتطابق فيه "الخبر" مع "الواقع التاريخي". وهذا يُمكن معرفته باستخدام الوسائل العلميّة والمنهجيّة الضروريّة. وهي وسائل تتنوع وتتعدد وتتطوّر يمكنها أن تصل إلى ما يقترب من "الحقيقة التاريخيّة" مرّات، ويحدث أن تعجز عن الاقتراب منها مرّات أخرى.
أمّا "الحدث الثقافيّ"، فهو النموذج الذي تحضر به الأحداث التاريخيّة في المدوّنات الثقافيّة من نصوص دينيّة وأدبيّة وفقهيّة وتاريخيّة، أو "المخيال الجمعيّ والشعبيّ" من أساطير وحكايات شعبيّة.
و"الحدث الثقافي" قد يتطابق مع "الحدث التاريخي" وقد يختلف عنه، والاختلاف قد يصل حدّ "التضاد"؛ فهناك "أحداث تاريخيّة" لها تجليّات في المدوّنات الثقافيّة أكبر بكثير من "حقيقتها التاريخيّة"، وهناك أحداث ثقافيّة تقوم على أحداث تاريخيّة "مختلَقة" لم تحدث، ومع ذلك تتمتع بحضور كبير ومؤثّر في الثقافة والوعي والوجدان.
والأمثلة في تاريخنا العربيّ كثيرة؛ فكلّ الأحداث التي تروى على "أنّها حدثت" في العصور المبكّرة الإسلاميّة ولاسيما في عصور "التأسيس" للخبرة المسلمة، وما بعدها مروراً بما يُعرف بـ"الفتنة" ثمّ "عصر السيطرة الأمويّة"، تواجه الباحث فيها عوائق معرفيّة ومنهجيّة تجعل تمييز "التاريخيّ" من "الثقافيّ" أمراً ليس هيّناً؛ فالمراحل التأسيسيّة للحركات الثقافيّة الكبرى من دينيّة وسياسيّة لا تكون عادة موضع اهتمام وتناقل إلا بعد أن تصبح هذه الحركات مهمّة ومؤثِّرة، وغالباً ما يكون هذا بعد انتصارها وانتشارها، ممّا يجعل "المؤسِّس" أو "المؤسِّسين الأوائل" وأحداثهم محكومين بصور "نمطيّة استثنائيّة" يغلب عليها الإحاطة بـ"هالة التقديس"، ترافقها عمليات "اختلاق أقوال وأفعال" منسوبة للمؤسِّسين تفرضها "تقاليد" الجماعة المنتسبين لهذه "الحركات الدينيّة" و"السياسيّة" و"الرؤية "الثقافيّة" التي يريدونها للأحداث التاريخيّة. ومع تقلّبات "السلطة السياسيّة" تظهر "الرؤى المتدافعة والمتضادة" للأحداث التاريخيّة، فيجد الباحث نفسه أمام "مرويات" تعبّر عن رؤى متضادة كلّها تزعم أنّها تروي "ما حدث تاريخيّاً".
وإذا أُضيف لهذه العوامل البعد الزمني والإيغال في القدم وسيادة الثقافة "الشفوية" المعتمدة على الرواية، وندرة أدوات التوثيق أو ضعفها، تصبح دراسة المراحل التأسيسيّة عسيرة علميّاً.
وإذا كان "الحدث التاريخيّ" فاصلاً ومؤثِّراً لدرجة أن يوصف بـ"الفتنة الكبرى" مثلاً كما حصل في تاريخنا المبكّر، فإنّ أسباب "التزوير" و"الانحراف" عن "الحدث التاريخيّ" لصالح "الحدث الثقافيّ" المعبِّر عن المصالح والاتجاهات المختلفة تزداد وتقوى، وتصبح أهميّة "الحضور في الثقافة" أكبر بكثير من حقيقة "الحدوث في التاريخ"، فأغلب ما لدينا من أخبار عن تلك "الفتنة الكبرى" مرويّة بطرق لا يُمكن الاطمئنان إلى "صدقها التاريخيّ"، وأكثر ما يستطيع الباحث القبول به هو صدق أصل الحادثة التاريخيّة دون كثير من تفاصيلها ومجريات أحداثها الجزئية. فمقتل عثمان حقيقة، ومقتل علي حقيقة، ومقتل الحسين حقيقة، واختلاف الصحابة والتابعين ومن بعدهم واقتتالهم حقيقة. لكن "تفاصيل هذه الأحداث كلّها" لا يمكن الوثوق بها والقبول بها قبولاً علميّاً، ليس "لاستحالة وقوعها" كما يرى أصحاب الاتجاه "التقديسيّ لتاريخنا"، بل لتعذّر الوسائل العلميّة القادرة على إثبات الحقائق ونفي الأباطيل في مجمل الروايات التاريخيّة.
لذلك، يُمكن أن نقسّم "الأحداث التاريخيّة" المرويّة عن تلك المراحل المبكّرة إلى ثلاث فئات: 1. ما يمكن الجزم بأنّها صادقة حقيقيّة، وهي أقلّ الفئات. 2. ما يمكن الجزم بأنّها كاذبة غير حقيقيّة، وهي قليلة أيضاً. 3. ما لا يمكن إثبات صدقها أو كذبها، وهذه أكثر ما بين أيدينا من أحداث تاريخيّة.
لكن "المشكلة" أنّ حضور الحدث التاريخي في الحدث الثقافي يُضعِف أثر هذا التصنيف؛ فالحدث الثقافي أكثر تأثيراً وأعمق أثراً من الحدث التاريخيّ نفسه؛ فمن يستطيع أن يخلّص "الشيعة" من الكمّ الهائل للأثر الثقافيّ المدوّن والمحكيّ لحدث مثل "موقعة كربلاء"؟ وفي دائرة الاشتباك المذهبيّ مَن يستطيع تحرير "معاوية بن أبي سفيان" من صوَره الثقافيّة المتضادة ليصل إلى أقرب صورة لـ"حقيقته التاريخيّة"؟ وفي ظلال الاشتباكات المذهبيّة والقوميّة والعرقيّة أيضاً مَن يستطيع تخليص التجارب "الأمويّة" و"العباسيّة" و"الفاطميّة" و"الأيوبيّة" و"المملوكيّة" و"التركيّة في طورها السلجوقيّ ثمّ العثمانيّ" من تجاذبات "الصوَر المتضادة المتدافعة"؟
أمام هذه المفارقة بين "الحدث التاريخي" و"الحدث الثقافي" ما الذي ينبغي أن يفعله المشتغلون بالعلم والثقافة؟
ستختلف الإجابات نظريّاً وعمليّاً نتيجة تدافع "الانحيازات" المؤثِّرة في وعي هؤلاء العلماء ووجدانهم وأفعالهم، فمَن غلب عليه "الانحياز للصدق المعرفيّ"، والسعي إلى "الحقيقة" قدر الإمكان، فإنّ موقفه النّظريّ والعمليّ سيحتّم عليه أن لا يُخرج "الحدث التاريخيّ" من دوائر التصنيف العلميّ، ولن يُبيح له "توظيف" الحدث التاريخيّ ثقافيّاً بما لا ينسجم ومدى مقبوليّة صدقها التاريخيّ.
وهنا سيأتي مَن يقول: ومَن يستطيع إدراك "الحقائق التاريخيّة"؟ وهل هناك سبيل لـ"الحقيقة" بما هي "حقيقة" سواء في التاريخ أم في غيره؟ فأقول: إنّني أدرك صعوبة إدراك الحقائق كلّها ولاسيما في "الحدث التاريخي". لكن رغم هذه "الصعوبة" لا ينبغي التنازل عن أمرين:
الأوّل: بذل الوسع المعرفي اللازم لكشف "الحقيقة"، فللعلم أدوات معرفية وعقلية وعمليّة تتجدّد بتجدّد آفاق العصر وممكناته تمكّن من إدراك "أقصى" ما يمكن في هذا الجانب، والتقصير عن إدراك "الممكن" يتجاوز "الخطأ" العفويّ إلى "الخطيئة" المقصودة.
الثاني: في حال تعذّر هذا الوصول فلا ينبغي التنازل عن الاتساق العلميّ والأخلاقيّ بالانسجام مع الحقائق المعرفيّة ومدى صدقيّتها، فليس من الاتساق أن تجد "باحثاً" يشكّك في "منظومات الرواية الحديثيّة والتاريخيّة" ومدوّناتها كلّها ثمّ يأتي إلى "الأحداث التاريخيّة" المنقولة بهذه المنظومات فينتقي منها أحداثاً يؤسّس موقفه عليها، ويأتي إلى أحداث أخرى فينفيها ويبطلها، ولا أحد يعرف -حتى هو- بأيّ عيار علمي انتقى ما انتقاه.
وليس من الاتّساق أن يتخذ المثقّفون مواقف "حاسمة يقينيّة" استجابة لأحداث لا تكاد تبلغ حدّ "الظنّ الراجح" بل يغلب أن تكون "أباطيل وأكاذيب".
ولكن لماذا لم يكن هذا "الانحياز للصدق المعرفيّ" حاكماً قديماً وحديثاً؟
للأسف يشهد التاريخ والواقع أنّ كثيراً من المنتسبين للعلم كانوا أوفياء "للمصالح والأهواء" أكثر بكثير من وفائهم "للحقائق والصدق المعرفيّ"؛ فـ"الانحيازات" للمذهب والسلطان والمصالح الآنيّة والصور النمطيّة المقبولة عند جماعته تدفع "هؤلاء" للانسياق وراء "التجليّات الثقافيّة" للأحداث التاريخيّة ولو كان الثمن "التضحية بالصدق المعرفيّ"؛ فإنّ "الموضوعيّة" و"التجرّد" أقرب للمثاليات التي يسهل ادّعاؤها ولكن يصعب جداً التحقّق بها.
ومع هيمنة "الخِداع والأكاذيب" يصبح "قول الحقيقة" عملاً ثوريّاً مكلفاً.
وفوق ذلك كلّه فما فائدة أن نعرف أنّ أغلب مدوّناتنا تقوم على "سرديّات ثقافيّة" تستند إلى "أحداث تاريخيّة" قلقة مضطربة في صدقيّتها وموثوقيّتها إن كان للسرديّات نفسها بغض النّظر عن مدى "صدقها" أثر في النّاس أكبر من أثر الحقائق نفسها؟
هنا ينتقل السؤال من البحث عن مدى "صدق السرديّات التاريخيّة الثقافيّة" إلى البحث عن مدى "نفع هذه السرديّات" وتفاضلها في الآثار الحضاريّة والإنسانيّة، فإذا كان دعاة "الخراب والفتن" ومَن يريدون لنا أن نكون في "صراع مع العالم" لا يقصّرون في توظيف سرديّات التاريخ لأغراضهم، فينبغي على "دعاة الإعمار" ومَن يريدون لنا أن نكون "جزءاً فاعلاً من العالم" أن لا يقصّروا في توظيف سرديّات التاريخ لهذه الأغراض، وإن كنتُ أرى أنّ الاتجاه الأوّل سيجد عوناً أكثر ممّا سيجد الثاني، وهذا بحكم شروطنا التاريخيّة التي لم تتغيّر منذ مئات السنين.