الفرزدق
هوب أبو فراس همام بن غالب التميمي الدارمي أفخر ثلاثة الشعراء الأمويين وأجزل المقدمين في الفخر والمدح والهجاء.
ولد سنة 15 ه ونشأ بالبصرة. وأتى بها أبوه يوماً إلى أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه فسأله عنه. فقال ابني يوشك أن يكون شاعراً مجيداً. فقال له أقرئه القرآن فأقرأه وحفظه ثم رحل إلى خلفاء بني أمي بالشام ومدحهم ونال جوائزهم، وأخص من كان يمدحه منهم عبد الملك بن مروان ثم أولاده من بعده. وكان الفرزدق فوق إقذاعه في الهجو وفحشه في السباب وقذف المحصنات يرمى بالفجور وقلة التمسك بشعائر الدين ثم تاب في أواخر شيخوخته على يد حسن البصري. وكان فيه تشيّع يستره أيام اختلافه إلى بني أمية ثم كاشف به آخر حياته حتى أمام الخليفة هشام عندما رأى الناس تفسح طريق الطواف بالكعبة مهابة وإجلالاً لعلي بن الحسين فسأله عنه كالمتجاهل لأمره، فشق ذلك على الفرزدق وأنشد قصيدته الميمية الآتية يعرّف بعلي وينكر على هشام تجاهله، فحبسه هشام ثم أطلقه. وعاش الفرزدق قريباً من مائة سنة ومات بالبصرة سنة 110 ه.
شعره: يمتاز شعر الفرزدق بفخامة عبارته، وجزالة لفظه، وكثرة غريبه ومداخلة بعض ألفاظه في بعض، ولذلك يعجب به أهل اللغة والنحو وكان يقال (لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث اللغة) ويعتبر الفرزدق من أفخر شعراء العرب وأشدهم ولوعاً بتعداد مآثر آبائه وأجداده.
ومن جيد شعره قوله يمدح علي بن الحسين:
هذا الذي تعرفُ البطحاء وطأته
والبيتُ يعرفه والحلُّ والحرمُ
هذا ابن خير عباد الله كلّهم
هذا التقي النقيُّ الطاهر العلمُ
وليس قولك من هذا بضائره
العربُ تعرفُ من أنكرتَ والعجمُ
إذا رأته قريشٌ قال قائلها
إلى مكارم هذا ينتهي الكرمُ
يغضي حياءً ويغضى من مهابته
فلا يكلّم إلا حين يبتسمُ
بكفه خيزرانٌ ريحها عبقٌ
من كف أروع في عرنينه شممُ
يكاد يمسكه عرفان راحته
ركن الحطيم إذا ما جاء يستلمُ
ينشقُّ ثوب الدّجى عن نور غرته
كالشمس تنجاب عن إشراقها الظلمُ
من معشر حبّهم دينٌ وبغضهم
كفرٌ وقربهم منجّى ومعتصمُ
إن عُدّ أهل التقى كانوا أئمتهم
أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
جرير
هو أبو حزرة بن عطية بن الخطفى التميمي اليربوعي: أحد فحول الشعراء الإسلاميين، وبلغاء المداحين الهجائين، وأنسب ثلاثتهم المفلقين، وهو من بني يربوع أحد أحياء تميم، ولد باليمامة سنة 42 ه ونشأ بالبادية وفيها قال الشعر ونبغ. وكان يختلف إلى البصرة في طلب الميرة ومدح الكبراء، فرأى الفرزدق وما كسبه الشعر من منزلة عند الأمراء والولاة وهو تميمي مثله وود لو يسبقه إلى ما ناله، وأغراه قومه به للتنويه بشأنهم فوقعت بينهما المهاجاة عشر سنين كان أكثر إقامة جرير أثناءها في البادية، وكان الفرزدق مقيماً بالبصرة يملأ عليه الدنيا هجاء وسبا. فما زال به بنو يربوع حتى أقدموه البصرة واتصل بالحجاج ومدحه فأكرمه ورفع منزلته عنده، فعظم أمره وشرق شعره وغرب حتى بلغ الخليفة عبد الملك فسد الحجاج عليه، فأوفده الحجاج مع ابنه محمد إلى الخليفة بدمشق ومات باليمامة سنة 110ه.
وكان في جرير على هجائه للناس عفة ودين وحسن خلق ورقة طبع.
شعره: اتفق علماء الأدب وأئمة نقد الشعر على أنه لم يوجد في الشعراء الذين نشأوا في ملك الإسلام أبلغ من جرير والفرزدق والأخطل وإنما اختلفوا في أيّهم أشعر ولكل هوى وميل في تقديم صاحبه: فمن كان هواه في رقة النسيب وجودة الغزل والتشبيه، وجمال اللفظ ولين الأسلوب والتصرف في أغراض شتى، فضل الفرزدق، ومن نظر بعد بلاغة اللفظ، وحسن الصوغ إلى أجادة المدح والإمعان في الهجاء واستهواه وصف الخمر واجتماع الندمان عليها، حكم للأخطل. وإن له في كل باب من الشعر أبياتاً سائرة هي الغاية التي يضرب بها المثل فيقال أن أغزل شعر قالته العرب هو قوله:
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللّب حتى لا حراك به
وهنّ أضعف خلق الله إنسانا
وإن أمدح بيت قوله:
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
وإن أفخر بيت قوله:
إن غضبت عليك بنو تميم
حسبت الناس كلّهم غضابا
وإن أهجى بيت مع التصون عن الفحش قوله:
فغضّ الطرف إنك من نمير
فلا كعباً بلغت ولا كلابا
وإن أصدق بيت قوله:
إني لأرجو منك خيراً عاجلاً
والنفس مولعة بحبّ العاجل
وإن أشد بيت تهكماً قوله: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً=أبشر بطول سلامة يا مربعُ ومن جيد شعره قوله من قصيدة يرثي بها امرأته والتي هي ندبت بها نوار امرأة الفرزدق:
لولا الحياءُ لهاجني استعبار
ولزرت قبرك والحبيب يزار
ولهت قلبي إذا علتني كبرة
وذوو التمائم من بنيك صغار
لا يلبث القرناء أن يتفرقوا
ليل ويكرّ عليهم ونهار
صلّى الملائكة الذين تخيروا
والطيبون عليك والأبرار
فلقد أراك كسيت أحسن منظرٍ
ومع الجمال سكينة ووقارُ
الكميت
هو الشاعر الخطيب الراوية النسابة أبو المستهل الكميت بن زيد الأسدي الكوفي أشعر شعراء الشيعة الهاشمية، ومثير عصبية العدنانية على القحطانية ولد سنة 60ه ونشأ بالكوفة بين قومه بني أسد إحدى قبائل العرب الفصحاء من مضر فلقن العربية، وعرف الأدب والرواية، وعلم أنساب العرب وأيامها ومثالبها بمدارسة العلم والأخذ عن الأعراب، وكان له جدتان أدركتا الجاهلية تقصان عليه أخبارها وأشعار أهلها، فخرج أعلم أهل زمانه في ذلك وأقر له حماد الراوية بالسبق عليه وقال الكميت الشعر وهو صغير وكان لا يذيعه ولا يتكسب به، ويكتفي بحرفته تعليم صبيان الكوفة بالمسجد، ولما حصف شعره وقوي أثره، ولا سيما قصائده التي أعلن فيها تشيعه لبني هاشم وآل علي، أنشده الفرزدق مستنصحاً له في أمر إذاعته إذا أعجبه، فأمره بإذاعته فقال قصائده البليغة المطولة المسماة "بالهاشميات" التي يقول فيها:
طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ
ولا لعباً مني وذو الشيب يلعبُ
ولم يلهني دارٌ ولا رسم منزل
ولم يتطربني بنانٌ مخضّبُ
ولا السانحات البارحات عشية
أمرَّ سليم القرن أم مر أعضب
ولكن إلى أهل الفضائل والنُّهى
وخير بني حواء والخير يطلب
بني هاشم رهط النبي فإنني
بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب
خفضت لهم مني الجناح مودة
إلى كنف عطفاه أهل ومرحب
وما لي إلا آل أحمد شيعةٌ
وما لي إلا مذهب الحقّ مذهب
بأي كتاب أم بأيّة سنة
يرى حبّهم عاراً علي ويحسب
شعره: لشعره من التأثير السياسي والمذهبي أثر سيئ شتت شملة الوحدة العربية.
الرواية والرواة
ظهر العرب وعمدة العرب في ضبط علومهم وآدابهم على الحفظ والرواية: فجاءهم من كتاب الله وسنة رسوله بالأمر الخطير، والعلم الكثير فكانت عنايتهم بحفظها في الصدور أكثر من كتابتها في السطور. ولما اتسع علم المسلمين بما أضيف إليهما من تفسير الصحابة والتابعين ومن أقوالهم في الدين تعدد طوائف الرواة للقرآن والحديث وفنون الأدب.
وإذا كان الإنسان عرضة للنسيان، وأحوال الناس تختلف في الصدق والكذب تشدد الصحابة والتابعون وتابعوهم في تصحيح الرواية وشدة التوثق من صدق الرواة تحرجاً منهم أن يدخل في الدين ما ليس منه.
ولما خاف سيدنا عمر بن عبد العزيز أن تموت السنة الصحيحة بموت رواتها وبما وضعه الزنادقة والشيعة والخوارج ودسوه فيها، أمر العلماء بتدوين الحديث وبقي الأمر في الشعر والأدب كما كان في الجاهلية: لكل شاعر راو أو عدة رواة. ومن أشهر هؤلاء هدبة بن خشرم رواية الحطيئة، وجميل رواية هدبة، وكثير رواية جميل، وأبو شفقل وعبيد أخو ربيعة بن حنظلة رواية الفرزدق، ومربع رواية جرير والفرزدق معاً، ومحمد بن سهل راوية الكميت، وصالح بن سليمان راوية ذي الرومة وذو الرمة راوية الراعي.
وبقي الأمر كذلك حتى أواخر هذا العصر فاشتعل العلماء بالرواية وصار الراوي منهم يروي لمئات من الشعراء والشواعر وإن لم يكن هو شاعراً وأكثر هؤلاء العلماء من الرواة أدرك عصر بني العباس فيذكر فيه. ومع تشدد الناس في تصحيح الرواية سنة وأدباً حدث في الشعر والخطب كثير من التصحيف والتحريف والنقص والزيادة ونحو ذلك.
العصر الثالث عصر الدولة العباسية من 132 656 ه
أحوال اللغة العربية وآدابها في ذلك العصر
كان بنو أمية شديدي التعصب للعرب والعربية، فكان كل شيء في دولتهم عربي الصبغة، وكانت جمهرة العرب منتشرة في كل مكان امتد إليه سلطانها فلما قامت الدولة العباسية بدعوتها، لم تجد لها من العرب أنصاراً وأعواناً مثل من وجدت من الفرس وأمم الأعاجم، فاكتسحت بهم دولة بني أمية وأسست دولة قوية كان أكثر النفوذ فيها للموالي. فاستخدمهم الخلفاء والأمراء في كل شيء من سقاية الماء إلى قيادة الجيوش والوزارة، وابتدأ شأن العرب السياسي يتضاءل من ذلك الحين شيئاً فشيئاً واختلطوا بالأعاجم وكان من المجموع شعب ممتزج لغة وعادة وخلقاً فأثر ذلك في اللغة لفظاً ومعنى، وشعراً ونثراً كتابةً وتأليف ولم يظهر ذلك بالطبع في جميع الممالك بنسبة واحدة بل كان في أواسط آسيا أظهر منه في مصر الشام. أما حال ممالك الغرب والأندلس صدر في هذا العصر فلم يبعد كثيراً عما كان عليه في العصر الماضي ثم سرت إليها عدوى تقليدها للمشارقة في أكثر الأمور.
ويمكن إرجاع جميع هذه التغيرات إلى ثلاثة أمور "الأول" ما يتعلق بالأغراض التي تؤديها اللغة "الثاني" ما يتعلق بالمعاني والأفكار "الثالث" ما يتعلق بالألفاظ والأساليب.
أغراض اللغة
لما قامت الدولة العباسية وتشبّه الخلفاء بملوك الفرس في أكثر أمور السياسة والمعيشة، وحاكتهم العامة في ذلك بتقليد أمثالهم من طبقات الأعاجم، تناولت اللغة في المشرق أغراضاً لم تعهد فيها من قبل بنقل علوم تلك الأمم وآدابها وعاداتها وطرق معيشتها. ثم تناولت هذه الأغراض في الغرب بعدئذٍ بفرق يسير فكان من تلك الأغراض ما يأتي:
(1) تدوين العلوم الشرعية واللسانية والعقلية ولم يدون في صدر الإسلام من ذلك إلا نذر يسير، وكذا الترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية.
(2) تأدية مقاصد الصناعات المختلفة، وخاصة بعد دخول العرب في غمار الصناع وبعد تغرب الأعاجم.
(3) تأدية المقاصد التي استدعاها الانغماس في الترف بلذائد الحضارة التي جرت فيها الأمم عصر الدولة العباسية إلى أمد بعيد، أو اقتضاها نظام الملك والدفاع عنه. كالإمعان في وصف الأشياء النفسية مما لم يعرف للعرب في صدر الإسلام أو عرف وكان قليلاً ممقوتاً صاحبه، وكوصف البحر والأساطيل الحربية والمعارك البحرية. وامتاز بأكثر من ذلك المغرب والأندلس كما امتازت الأندلس بالإجادة في وصف مناظر الطبيعة ومحاسن الوجود لملائمة بيئتها لذلك، وكادت تلحق بها في الوصف صقلية وأفريقية إبان ازدهائهما.
(4) تأدية مقاصد أنواع الخلاعة والسخرية مما قل نظيره في صدر الإسلام.
(5) المحاضرة والمناظرة والبحث والجدل وتدريس العلوم.
المعاني والأفكار
إن ما حدث في مشارق الممالك الإسلامية ومغاربها أثناء العصر العباسي من الانقلابات السياسية والاجتماعية كان له نتيجة ظاهرة في الحركة الفكرية للمتكلمين بالعربية ظهر ذلك في عباراتهم وأشعارهم بصور مختلفة. فمنها:
(1) ازدياد شيوع المعاني الدقيقة، والتصورات الجميلة، والأخيلة البديعة.
(2) التعويل على القياس والتعليل في الأحكام الفردية: بالإكثار من الحجج والبراهين العقلية وانتحاء مذاهب الفلسفة في الشعر والكتابة والتدريس ولا سيما بعد عصر الترجمة وأكثر ما كان ذلك بالمشرق وقلما عني به أهل المغرب.
(3) التهويل والغلو في التفخيم المقتبس في المشرق من اللغة الفارسية والساري بعضه بالعدوى إلى أهل المغرب والأندلس.
الألفاظ والأساليب
غلب على عبارة اللغة العربية في هذه المدة أمران عظيمان: السهولة والمحسنات البديعية. ويشمل ذلك على ما يأتي:
(1) انتقاء الألفاظ الرشيقة السهلة وقلة الحاجة إلى الارتجال.
(2) ازدياد الميل إلى استعمال ألفاظ القرآن والاقتباس منه والاستشهاد به.
(3) الإكثار من ألفاظ المجاز والتشبيه والتمثيل والكناية والمحسنات اللفظية.
(4) التوسع في إدخال ألقاب التعظيم على أسماء الخلفاء والأمراء والعظماء.
(5) تفاقم الخطب في استعمال الكلمات الأعجمية في كثير من الأشياء.
(6) وضع اصطلاحات العلوم والفنون والصناعات ودار الحكومة وغيرها.
(7) التأنق في صوغ العبارات وتوثيق الربط بينهما والميل إلى استعمال السجع.
(
التطرف إلى غاية حدي الأطناب والإيجاز ولكل منهما مقام.
(9) حدوث لغة تأليفية لتعليم العلوم تقاس بمعيار المنطق لا بمعيار البلاغة. وإذا كانت اللغة إما نثراً وإما شعراً والنثر محادثة، وخطابة، وكتابة، فاحفظ ما يتلى عليك.
النثر المحادثة أو (لغة التخاطب)
إن لغة التخاطب بين الخاصة من العرب في أواخر العصر الماضي كانت العربية الفصيحة الخالية من اللحن إلا من آحاد عيروا به، وأن لغة العامة والسوقة من العرب المختلطين بالعجم هي العربية المشوبة بشيء من اللحن، ولغة المتعربين من العجم تقل عن هذه في الفصاحة، وتزيد عليها في اللحن بمراتب مختلفة.
فلما تم امتزاج العرب بالعجم عصر الدولة العباسية، تكونت بين العامة في البلاد التي تكثر فيها جمهرة العرب لغات تخاطب علمية، إلا بين أهل جزيرة العرب، فلم يزل تخاطبهم باللسان العربي الفصيح إلى أواسط القرن الرابع. وبقيت لغات التخاطب في البلاد التي تقل فيها جاليتهم هي اللغات الوطنية الأعجمية ممزوجة ببعض الألفاظ العربية التي أدخلها عليها الإسلام.
وخاف الخلفاء والخاصة من هول تغلب العامية على الفصيحة فيستغلق على المسلمين فهم الكتاب والسنة وهما كل الدين، فحرضوا العلماء على تدوين اللغة والإكثار من العناية بضبط النحو وفنون البلاغة، ولكن ذلك كله لم يوقف تيار العامية الزاخر، واستمر في طغيانه إلى أن غلب في النصف الأخير من عصر هذه الدولة على جميع لغات التخاطب، حتى لغة الخلفاء وعلماء العربية أنفسهم وأصبح لكل بلاد عربية لغة تخاطب عامية خاصة بها، ولكن لم تصبح العامية لغة علم وأدب، كما وأن ذلك لم يكن طويل الأمد.
الخطابة والخطباء
لما كان قيام الدولة العباسية في المشرق والإدريسية في المغرب الأقصى والأموية الثانية في الأندلس، من الأمور التي ينشأ عنها كثير من الانقلابات السياسية والمذهبية والاجتماعية. وكان ذلك يستدعي تأليف العصابات ودعوة الناس إلى التشيع لأصحاب الأحزاب كانت دواعي الخطابة متوافرة لتوافر أسبابها. فكان بين قواد هذه الدول ودعاتها وخلفائها ورؤساء وفودها خطباء مصاقع، ثم لما فترت هذه الدواعي باستقرار الدول. واشتد اختلاط العرب بالأعاجم. وتولى كثير من الموالي قيادة الجيوش وعمالة الولايات والمواسم، ضعف شأن الخطابة لضعف قدرتهم عليها، فلم يمض قرن ونصف من قيام تلك الدول حتى بطل شأن الخطابة إلا قليلاً في المغرب أيام الحفل وقدوم الوفود وبقيت الخطابة قاصرة على خطب الجمعة والعيدين والمواسم وخطب الزواج ونحو ذلك. وقل فيها الارتجال أو عدم جملةً، وحل محل الخطابة في الأمور السياسية نشر المنشورات، وفي الأمور الدينية مجالس الوعظ والتدريس في المساجد والمدارس، واشتهر في صدر الدولة العباسية خطباء أشهرهم داود بن علي، وشيب بن شيبة.
داود بن علي
هو داود بن علي بن عبد الله بن عباس خطيب بني العباس، وأحد مؤسسي دولتهم، نشأ هو وأخوته (وكانوا اثنين وعشرين رجلاً) في قرية الحميمة من أعمال عمّان، وكان الوليد بن عبد الملك أجلى علي بن عبد الله بن عباس وأهل بيته إليها سنة 95 ه غضباً عليه.
وكان داود أحد النابغين من إخوانه، وكان بليغهم ولسانهم وأخطبهم في وقته. وعاجلته منيته قبل أن يستطير سلطانه في الدولة. ولاه أبو العباس عقب بيعته بالكوفة ولاية الكوفة وسوادها، ثم ولاه إمارة الحج في هذه السنة وولاه معها ولاية الحجاز واليمن واليمامة، فقتل من ظفر به من بني أمية في مكة والمدينة سنة 132ه وهو أول موسم ملكه بنو العباس وخطبهم الخطبة الآتية وهي (شكراً شكراً، إنا والله ما خرجنا لنحفر فيكم نهراً ولا لنبني فيكم قصراً أظن عدو الله أن لن نقدر عليه إن روخى له من خطامه، حتى عثر في فضل زمامه، فالآن حيث أخذ القوس باريها وعاد القوس إلى النزعة، ورجع الملك في نصابه، في أهل بيت النبوة والرحمة، (والله قد كنا نتوجع لكم ونحن في فرشنا) أمن الأسود والأحمر لكم ذمة الله، لكم ذمة رسول الله ( ، لكم ذمة العباس، لا ورب هذه البنية وأومأ بيده إلى الكعبة لا نهيج منكم أحداً).
شبيب بن شيبة
هو شبيب بن شيبة بن عبد الله المنقري التميمي خطيب البصرة ونشأ بها وامتاز بنبالة نفس وسخاء كف. وحسن تواضع ونزاهة لسان كما امتاز بخطبه القصيرة البليغة القريبة من حد الإعجاز. قال الجاحظ: يقال أنهم لم يروا خطيباً كشبيب بن شيبة. فما ابتدأ بحلاوة ورشاقة وسهولة وعذوبة. فلم يزل يزداد منها حتى صار في كل موقف يبلغ بقليل الكلام ما لا يبلغه الخطباء المصاقع بكثيره وقد يطول حتى يقول فيه الراجز:
إن غدت سعد على شبيبها
على فتاها وعلى خطيبها
من مطلع الشمس إلى مغيبها
عجبت من كثرتها وطيبها
وعرف شبيب أبا جعفر المنصور قبل خلافته ثم اتصل به بعدها. فجعله في حاشية ولي عهده المهدي. وبقي كذلك حتى ولي المهدي الخلافة فصار من خيرة سماره وجلسائه إلى أن مات في خلافته سنة 165ه.
ومن خطبه القصار ما عزى به المهدي يوم ماتت ابنته البانوقة وجزع عليها جزعاً شديداً: "أعطاك الله يا أمير المؤمنين على ما رزئت أجراً. وأعقبك صبراً ولا أجهد الله بلاءك بنقمه ولا نزع منك نعمه، ثواب الله خير لك منها ورحمة الله خير لها منك، وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى رده".
الكتابة خطية وإنشائية
الخط: تنوع في هذا العصر الخط الكوفي إلى أنواع أربت على خمسين نوعاً ومن أشهرها المحرر والمشجر والمربع والمدور والمتداخل. وبقي مستعملاً في المباني والسكة إلى حدود الألف. ثم نسي جملة وقد جددت منه أنواع في عصرنا أما تاريخ خطنا المستعمل الآن فحدث في آخر الدولة الأموية أن استنبط "قطبة المحرر" من الخط الكوفي والحجازي خطاً هو أساس الخط الذي يكتب به الآن واخترع القلم الجليل الذي يكتب به على المباني ونحوها. وقلم الطومار (الورقة الكبيرة) وهو أصغر أنواع الجليل وحسن عمله غيره من كتاب صدر الدولة العباسية حتى ظهر إبراهيم الشخري وأخوه يوسف من كتاب أواخر القرن الثاني: فولد إبراهيم من الجليل قلم الثلثين وولد يوسف من الجليل القلم الرياسي وهو قلم التوقيع.
وعن إبراهيم أخذ الأحوال المحرر من (صنائع البرامكة) واخترع قلم النصف. هذه هي أشهر الخطوط وقد تولد منها نحو من 20 خطاً يختص كل منها بغرض خاص. واتفقوا على أن طول الألف يعتبر معياراً لارتفاع بقية الحروف. وأن يكون طول الألف مربع مقدار قطعة القلم.
وعن الأحول: أخذ منهدس الخط الأعظم الوزير "أبو علي محمد بن مقلة" وأخوه أبو عبد الله الحسن المتوفى سنة 338ه وهما اللذان تم على أيديهما هندسة خط النسخ والجليل وفروعه على الأشكال التي نعرفها الآن وأتما العمل الذي بدأ به "قطبة" فهندسا الحروف وقدرا مقاييسهما وأبعادهما وضبطاها ضبطاً محكماً واخترعا له القواعد وعن الوزير ابن مقلة أخذ أبو عبد الله محمد بن أسد القارئ المتوفى سنة 410ه. وعنه أخذ أبو الحسن علي بن هلال البغدادي المعروف بابن البواب المتوفى سنة 413ه وهو الذي أكمل قواعد الخط واخترع عدة أقلام وإليه انتهت الغاية. وكل من جاء بعده فهو تابع لطريقته: كأمين الدين ياقوت الملكي المتوفى سنة 618ه كاتب السلطان ملكشاه السلجوقي. أم الأندلسيون والمغاربة فلم يعبئوا بهذا الإصلاح وبقوا يكتبون على طريقة الخط الحجازي إلى الآن بنوع من التعديل. واخترع الخليل الشكل المستعمل الآن بان كتب الضمة واواً صغيرة تكتب فوق الحرف والفتحة ألفاً والكسرة ياءً والشدة رأس شين والسكون رأس خاء وهمزة القطع رأس عين ثم اختزل شكلها وزيد عليها حتى آلت إلى الشكل المعروف الآن.
وهاك ترجمة الخطاط المتفنن المشهور.
ابن مقلة
هو الوزير أبو علي محمد بن علي بن الحسن بن مقلة إمام الخطاطين وأحد كبار الكتاب البارعين، أخذ الخط عن الأحوال المحرر صنيعه البرامكة وتم على يديه ويدي أخيه الحسن نقل الخط من الكوفي إلى الشكل المعروف في زماننا. وكان ابن مقلة يتولى في أول أمره بعض أعمال فارس ويجبي خراجها وتنقلت به الأحوال إلى استوزره الإمام المقتدر بالله سنة 316 ثم كاد له أعداؤه عنده، فقبض عليه سنة 318ه ونفاه إلى فارس. ثم وزر للراضي فوشى به أعداؤه عنده فقبض عليه وعزل ثم أطمعه نحسه أن يكيد لابن رائق أمير الأمراء ببغداد سنة 328ه ومن قوله في تلك الحوادث:
إذا مات بعضك فابك بعضاً
فإن البعض من بعض قريب
وقوله:
ما سئمت الحياة لكن توثّق
ت بأيمانهم فبانت يميني
بعت ديني لهم بدنياي حتى
حرموني دنياهمو بعد ديني
ولقد حطت ما استطعت بجهدي
حفظ أرواحهم فما حفظوني
ليس بعد اليمين لذة عيش
يا حياتي بانت يميني فبيني
الكتابة الإنشائية في الرسائل الديوانية الإخوانية
كانت كتابة الرسائل في أوائل حكم بني العباس جارية على نظام كتابتها في أواخر عهد بني أمية، سالكة الطريق التي سلكها عبد الحميد وابن المقفع والقاسم بن صبيح وعمارة بن حمزة ونظراؤهم: من العناية بجمل عبارتها جزلة بليغة متناسقة الوضوع والأسلوب، وبقيت كذلك بل زادت حسناً وجمالاً ومراعاة لمقتضى الحال إلى أوائل القرن الرابع. ثم أخذت الصناعات اللفظية تغلب عليها تدريجياً بتضاؤل ملكة البلاغة في الكتاب وتقاصر هممهم عن استيفاء أداتها: لتغلب الأعاجم من الديلم البويهيين والترك السلجوقيين على سلطان الخلفاء في الشرق، وتغلب البربر على شمالي أفريقية والأندلس في الغرب، فلم يعد في الملوك والأمراء من يعينهم أمر العربية وبلاغتها. ومازالت كذلك حتى سقطت الدولة العباسية على أيدي الأعاجم من التتار فكان ذلك ابتداء اضمحلال الكتابة واللغة.
الكتّاب كان أكثر كتاب المشرق في هذا العصر من سلائل فارسية أو سوادية وقد بلغوا بحذقهم سياسة الملك ونبوغهم في البلاغة أن ارتقوا عند خلفاء العباسيين إلى مرتبة الوزارة. وأول كاتب منهم ارتقى إليها هو أبو سلمة الخلال. وأشهر من بلغ نفوذه وسلطانه مبلغاً زاحم فيه الخليفة يحيى بن خالد بن برمك وابناه جعفر والفضل، ثم محمد بن الزيات في زمن المعتصم والواثق. وكان كتاب الأندلس والمغرب أكثرهم من سلائل عربية. ومن أشهر كتاب هذا العصر في الشرق ابن المقفع، ويحيى بن خالد بن برمك. وابناه: جعفر والفضل، وإسماعيل بن صبيح، وعمرو بن مسعدة، وأحمد بن يوسف، وابن الزيات. والحسن بن وهب وعلي بن الفرات، وابن مقلة، وابن العميد، والصاحب بن عباد، وأبو بكر الخوارزمي، والبديع، والصابي، والعماد الكاتب، والقاضي الفاضل.
ومن أشهر كتابه في الأندلس ابن شهيد، وأبو المطرف بن عميرة، ولسان الدين بن الخطيب.
ابن المقفع
هو أبو محمد عبد الله بن المقفع أحد فحول البلاغة وثاني اثنين مهدا للناس طريق الترسل. ورفعا لهم معالم صناعة الإنشاء أولهما "عبد الحميد".
نشأ ابن المقفع بين أحياء العرب. فكان أبوه داذويه المقفع الفارسي يعمل في جباية الخراج لولاة العراق من قبل بني أمية، وهو على دين المجوسية وولد له ابنه هذا حوالي سنة 106ه وسماه (روزبة) فنشأ بالبصرة. وهي يومئذ حلبة العرب ومنتدى البلغاء والخطباء والشعراء. فكان لكل ذلك (فوق ذكائه المفرط تأديب أبيه له) أعظم أثر في تربيته وتهيئته لأن يصير من أكبر كتاب العربية وعلمائها وأدبائها والمترجمين إليها. وقد أسلم بمحضر من الناس وتسمّى (عبد الله) وتكنى بأبي محمد، وكان نادرة في الذكاء غاية في جمع علوم اللغة والحكمة وتاريخ الفرس متأدباً متعففاً قليل الاختلاط إلا بمن على شاكلته كثير الوفاء لأصحابه.
وكان أمة في البلاغة ورصانة القول وشرف المعاني إلى بيان غرض وسهولة لفظ ورشاقة أسلوب. ولا توصف بلاغته بأحسن مما وصف هو البلاغة حيث يقول: (البلاغة هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها).
ومن رسائله أنه عزى بعضهم فقال: أما بعد: فإن أمر الآخرة والدنيا بيد الله هو يدبرهما ويقضي فيهما ما يشاء لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه فإن الله خلق الخلق بقدرته. ثم كتب عليهم الموت بعد الحياة لئلا يطمع أحد من خلقه في خلد الدنيا ووقت لكل شيء ميقات أجل لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون فليس أحد من خلقه إلا وهو مستيقن بالموت لا يرجو أن يخلصه من ذلك أحد. نسأل الله تعالى خير المنقلب وبلغني وفاة فلان فكانت وفاته من المصائب العظام التي يحتسب ثوابها من ربنا الذي إليه منقلبنا ومعادنا وعليه ثوابنا.
فعليك بتقوى الله والصبر وحسن الظن بالله فإنه جعل لأهل الصبر صلوات منه ورحمة وجعلهم من المهتدين.
وقد ترجم كتباً عديدة من أشهرها كتاب كليلة ودمنة وقيل إن هذا الكتاب من وضع ابن المقفع وهو قول مقبول لا بأس به: وله كتاب الأدب الكبير والأدب الصغير والدرة اليتيمة. وقتله والي البصرة سفيان بن معاوية سنة 142ه لاتهامه بالزندقة والكيد للإسلام بترجمة كتب الزندقة.
إبراهيم الصولي
هو أبو إسحاق إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول كاتب العراق وأشعر أصحاب المقطعات. نشأ ببغداد فتلقى العلم والأدب عن أئمة زمانه، واشتغل بالشعر في حدثاته، فبرع فيه، وتكسب به. ورحل إلى العمال والأمراء يمدحهم ويستميح جدواهم. ثم قصد الفضل بن سهل وزير المأمون أيام مقامه معه بخراسان ومدحه فوهب له ولي العهد عشرة آلاف درهم. وجعله الفضل كاتباً لأحد قواده وبقي يتنقل في أعمال النواحي والدواوين حتى كان زمن الواثق عاملاً على الأهواز فتحامل عليه وزيره ابن الزيات فعزله وسجنه بها. فكتب إليه يستعطفه، فلم يزدد بذلك إلا جفاء وغلظة، ثم اطلع الواثق على ذلك فأطلقه. وتولى ديوان الضياع والنفقات في خلافة المتوكل ومات سنة 242ه ومن رسائل تعزية عن لسان المنتصر بالله إلى طاهر بن عبد الله مولى أمير المؤمنين "أما بعد" تولى الله توفيقك وحياطتك. وما يرتضيه منك ويرضاه عنك إن أفضل النعم نعمة تلقيت بحق الله فيها من الشكر وأوفر حادثة ثواباً حادثة أدي حق الله فيها من الرضا والتسليم والصبر ومثلك من قدم ما يجب الله عليه في نعمة فشكرها وفي مصيبة فأطاعه فيها وقد قضى الله سبحانه وتعالى في محمد ابن إسحاق مولى أمير المؤمنين "عفا الله عنه" قضاءه السابق والموقع. وفي ثواب الله ورضا أمير المؤمنين "أدام الله عزه" وتقديم ما يعدم مثله أهل الحجا والفهم ما اعتاضه معتاض وقدمه موفق فليكن الله "عز وجل" وما أطعته به وقدمت حقة فيه أولى بك في الأمور كلها فإنك تتقرب إليه في المكروه بطاعته يحسن ولايتك في توفيقك لشكر نعمه عندك.
ابن العميد
هو الأستاذ الرئيس الوزير أبو الفضل محمد بن الحسين العميد كاتب المشرق وعماد ملك آل بويه وصدر وزراهم: نشأ شغوفاً بمعرفة العلوم العقلية واللسانية فبرع في علوم الحكمة والنجوم ونبغ في الأدب والكتابة حتى قيل فيه. (بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد) ثم رحل عن أبيه إلى آل بويه وتقلد شريف الأعمال في دولتهم إلى أن تولى وزارة ركن الدولة سنة 328 فساس دولته ووطد أركانها وتشبه بالبرامكة ففتح بابه للعلماء والفلاسفة والشعراء والأدباء وكان يشاركهم في كل ما يعملون إلا الفقه وما زال في وزارته محط الرحال وكعبة الآمال حتى توفي سنة 360ه.
ومن رسائله: كتابي إليك وأنا بحال لو لم ينغصها الشوق إليك ولم يرنق صفوها النزوع نحوك لعددتها من الأحوال الجميلة، وأعددت حظي منها في النعم الجليلة. فقد جمعت فيها بين سلامة عامة. ونعمة تامة. وحظيت منها في جسمي بصلاح وفي سعيي بنجاح، لكن ما بقي أن يصفو لي عيش مع بعدي عنك ويخلو ذرعي مع خلوي منك، ويسوغ لي مطعم ومشرب مع انفرادي دونك وكيف أطمع في ذلك وأنت جزء من نفسي وناظم لشمل أنسي وقد حرمت رؤيتك وعدمت مشاهدتك وهل تسكن نفس متشعبة ذات انقسام وينفع أنس بيت بلا نظام، وقد قرأت كتابك جعلني الله فداك فامتلأت سروراً بملاحظة خطك وتأمل تصرفك في لفظك وما أقرظهما فكل خصالك مقرظ عندي. وما أمدحهما فكل أمر ممدوح في ضميري وعقلي.
وأرجو أن تكون حقيقة أمرك موافقة لتقديري فيك فإن كان كذلك وإلا فقد غطى هواك وما ألقي على بصري.