|
| نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:26 pm | |
| حب من خلف النافذة بقلم الكاتب: يحيى الصوفي كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة مساءً عندما لاحظت أمل بان ثمة حركة غير عادية تجري في البيت المقابل لمنزلها.. حيث تطل عليه من نافذتها، ذلك البيت المهجور بحديقته الصغيرة وأشجار البرتقال والليمون و"الاكيدنيا" التي لم تمس منذ أكثر من عشرين عاما... عشرين عاما من الحكايات الغريبة... وقصص عن أشباح تسكن في زواياه المظلمة خلف نوافذه المغلقة المليئة بالأسرار... حتى بدت ملامحه الوديعة مع سقفه القرميدي الأحمر كقصر خرافي يشبه ما كانت تراه في قصص الحب الخيالية الملونة التي كانت تقرؤها عندما كانت في السابعة من العمر... وكانت يومها تتمنى أن تكون كبطلتها سندريلا بفستانها القرمزي المطرز بألف نجمة... وحذائها المخملي الأبيض وعربتها المزخرفة بشتى أنواع الزهور... وأحصنتها البيضاء وقد وقفت تنتظر عودتها بكل إباء وغرور!. وكانت وفي كل مرة تطل من خلال نافذتها الصغيرة -الوحيدة التي سمح لها بالوقوف عليها بدون حجابها المعتاد- تستعيد ذلك الحلم الجميل الذي يعشش في خيالها منذ إن كانت طفلة صغيرة... تتعثر وهي هاربة لتترك على إحدى درجات السلم فردة من حذائها... وكانت عندما تعبر بجوار ذلك القصر المهجور لتقطف بعض من أزهار الياسمين المتدلية من فوق أسواره تجده كبيرا وكبيرا جدا!... ولم يتضاءل حجمه وتنحسر عدد درجاته إلا بعد أن أنهت الثانوية وبدأت تعد العدة لدخول الجامعة... فلم يعد ذلك البيت الموحش يثير اهتمامها!. والدرجات الثلاث لم تعد كافية لتعيق هروبها من قصر أميرها... والحديقة صغرت على قدر لم تعد تسع عربتها الكبيرة... كبر حلمها!... والنافذة المدورة الصغيرة التي ضمت ساعتها بعقاربها الثلاث وأجراسها السبعة قد تلاشت ولم تعد تدق منذرة قدوم الثانية عشرة ليلاً!... وأميرها المنتظر لن يعثر على حذائها ولن يجوب المدينة بحثا عنها ولن يطرق بابها كما كانت تتمناه وتنتظره منذ أكثر من عشرين عاما!؟... لقد انحسرت المسافات وتضاءلت عدد الدرجات وعادت للأشياء أحجامها الطبيعية، وعاد لذلك المنزل وحديقته الصغيرة شكلاهما المألوفان ككل البيوت القديمة!... وتلك الزهور التي كانت تجمعها له بين أوراق دفاترها الملونة بالذكريات فقدت أريجها ولم يبقى منها إلا رقائق هشة تشبه أجنحة الفراشة الميتة!. (لابد أنهم قد عادوا أخيرا) تنهدت أمل وهي تحاول أن تستطلع من خلال الخيوط الدقيقة للأنوار المنبعثة من خلف النافذة عن شكل الساكن العائد بعد غياب طويل عن الوطن، ثم تساءلت: (كيف يبدو خالد يا ترى؟.... ذلك الشاب المرح؟.... هل سيذكرني إذا ما رآني؟... هل سيذكر "أمل" الفتاة الصغيرة التي كان يلاعبها عندما كانت تحل عليهم ضيفة مع والدتها؟... هل سيتذكر كيف كان يحملها بين ذراعيه ليضعها على الأرجوحة الخشبية، وهو يهزها ويغني لها ويحاول إضحاكها بحركاته الظريفة التي تشبه المهرجين؟... سيذكر الزهرة الحمراء التي أهداها لي والتي لازلت أحفظها بين أوراقي أتفقدها كلما اشتقت لان أراه واسمعه!؟.) فجأة تذكرت بأنها لابد تحتفظ بتلك الوردة في أحد دفاترها العتيقة الموضوعة في صندوقها الخشبي الصغير بانتظار هذه اللحظة!؟... لحظة عودة أميرها الموعودة!...فذهبت لتحضره، وتتفقد محتوياته، باحثة بكل اهتمام عنها!... فوقع نظرها صدفة على آخر الصفحات التي كانت قد كتبتها قبل أن تغلق على تلك الوردة الحمراء والتي لم يبق منها إلا بتلة واحدة!... والى جانبها بعض كلمات تقول: (هذه أخر بتلة من البتلات العشرة الحمراء المؤلفة من الوردة التي أهديتني إياها منذ عشرة سنوات كنت اترك في كل دفتر من دفاتر ذكرياتي التي خططتها واحدة منها وبدأت مع أولاها ((يحبني))، وهكذا حتى وصلت إلى العاشرة والأخيرة حيث وقعت على عبارة ((لا يحبني)) وعرفت أخيرا بأنك لا تحبني ولا تفكر بي وأنا كذلك؟!.) أغلقت أمل الصندوق بعصبية ظاهرة وهي تحاول أن تطرد من ذهنها شبح أحلام جميلة عايشتها، وكانت قد وضعت حد لها، واعتبرت تصرفها ذاك وكأنه خيانة للعهد الذي يربطها بها، وأرادتها أن تكون سر أسرارها!.... وتذكرت بان العبارات الجميلة التي خطتها وكل الذكريات لم تكن إلا من وحي خيالها وبان لاشيء يربطها مع القادم الجديد. (إذا لما أنا مضطربة هكذا؟) تساءلت أمل ثم تابعت: (لابد لان هذا الغريب القادم من بعيد قد حل فجأة ليسرق ما هو لي!... قصري... أميري... حديقتي... أزهاري... أحلامي... ذكرياتي... ولن اتركه ولا بشكل من الأشكال أن يفعل؟!... هذا كل ما تبقى لي!... هذا كل ما املك؟!.) تقلبت أمل في فراشها طوال الليل محاولة أن تتجاوز القلق الذي حل بها فجأة من جراء وصول هذا الغريب وقد استولى على كل أمالها وأحلامها بلحظة واحدة، وقررت أن تأخذ المبادرة لتدافع عما اعتبرته حقا شرعيا لها. فهي التي كانت تزين هذا القصر الصغير بأحلامها وترسمه في مفكراتها.. وتعتني بأشجار حديقته وأزهارها.. من خلال نظراتها القلقة عليها تتفقدها في كل صباح... هو غائب عنها بعد أن هجرها ولا تربطه بها أي شيء سوى أنها ارث مكتوب ومهدى له على الورق. واعتبرت بأنها أحق منه بها فهي تمثل كل شيء لها بل وأكثر... حريتها... فلن تستطيع بعد اليوم من الوقوف على نافذتها الوحيدة التي تطل منها على العالم الخارجي بحرية... وتصورت بأنه سيسرق منها حتى حريتها وقررت ألا تتركه يفعل!!!. في صباح اليوم التالي استيقظت أمل على أصوات العمال وهم يتناوبون في إخراج أغصان الأشجار التي قطعت، وبقايا من أوراقها المتكدسة منذ سنوات. وشعرت وهي تراقبهم من خلف ستارة نافذتها وكأنهم ينقلون بعض منها إلى المجهول!. ولفت انتباهها علبة بيضاء للبريد قد ثبت على باب المنزل بطريقة لم تألفها من قبل (هكذا إذاً؟!.. أنه ولابد قد عاد ليستقر هاهنا إلى جواري وللأبد؟!.) تساءلت بامتعاض ثم ابتسمت فلقد جاءها الفرج من حيث لا تدري وصاحت بفرح: (لقد وجدتها... سأكتب له... ستكون علبته نافذتي الجديدة لكي استرد منها حريتي التي سرقها بدلا من تلك التي أغلقها... واجبره على الفرار!!!.) وقررت الكتابة له!!!. فخطت أولى رسائلها تستفزه وتسأله فيها عن نفسه تاركة عنوان بريدها الخاص في المؤسسة التي تعمل بها ووقعتها باسم مستعار ثم رمتها بعلبته البريدية قبل أن تغادر إلى وظيفتها. ولم يطل انتظارها طويلا حيث عثرت في اليوم التالي ضمن بريدها الخاص على رسالة منه يقول فيها: (وصلتني رسالتك وأنا لم استغرب من وجودها بقدر استغرابي من كاتبتها التي لم يحصل لي وان عرفتها من قبل.؟ اخبريني من أنت؟.) أسرعت أمل إلى غرفتها حيث أوراقها وأقلامها وخطت له بعض العبارات المختصرة تسأله نفس سؤاله؟. (رسالتك رغم قلة حروفها فهي بليغة، ويبدو بأنك لم تضع الوقت ولديك رغبة عارمة في معرفة صاحبتها، وقد تتخيلها سهلة وهي ليست كذلك ولكن بيني وبينك حساب قديم ويجب أن نراجعه ونعيد لكل ذي حق حقه؟!. وأخيرا أتمنى أن تخبرني أولا من تكون؟.) وكأنها أرادت بذلك أن تثير فضوله أكثر قبل أن يعرفها وتكشف له كل أوراقها. وبالرغم من أنها كتبت له بجفاء إلا أنها كانت تحتضن رسالته وتعود لتقرأ كلماته القليلة بشيء من النشوة وهي ترتجف، ومضت ساعات قبل أن تستعيد هدوءها واضطرابها غير المعهود وكأنها ارتكبت إثماً، فغادرت المنزل دون أن تتناول طعام غذائها لترمي له بالرسالة وتمضي!... في اليوم التالي لم يخب أملها حيث وجدت رسالته الثانية إليها وقرأت: (أنت ولابد تعرفين الكثير عني، وأنا لم استقر بعد في بيتي ولم افتح أبوابه ونوافذه التي علت أقفالها الصدأ حتى أجد خصوم لي وحسابات قديمة لا اعرف مصدرها، وأنا في كل الأحوال لا أمانع بالتعرف عليك أكثر ومناقشتها إذا شئت ولكن اخبريني كيف ومن أنت ولماذا تتخفين خلف اسم وعنوان مستعار؟؟؟.) وشعرت وهي تعيد قراءتها بأنه ولابد يتمتع بالكثير من الخلق أو انه يشعر بالوحدة مثلها ويرغب بالتعرف إليها... أو ربما لم يكن تصرفه معها على هذا النحو إلا لتعوده على التصرف بلباقة مع مخاطبيه تأثرا بعادات وتقاليد البلاد التي عاش فيها!... لم تنتظر أمل عودتها إلى المنزل فمسكت بالورقة وكتبت له: (أولا أنا اسمي الحقيقي أمل ولن تجد صعوبة كبيرة في التعرف علي إذا ما نظرت حولك ورأيت شيء ما قد تغير، الق نظرة من نافذتك تجد عنواني الجديد تستطيع أن تكتب لي إليه، ويسعدني التعرف أليك أكثر، ولكن قبل أن نلتقي لمناقشة ما نختلف حوله عليك التوقف عن تقطيع أوصال عروق الياسمين المتدلية على أسوار الحديقة فهي تعني الكثير لي، فلا تستغرب سأخبرك بالسبب لاحقا؟!.) ترددت أمل في إيداع رسالتها وشعرت بأنها لابد تسرعت في التجاوب مع شخص غريب كان غريما لها منذ أيام وتساءلت في سرها عن سبب اندفاعها نحوه بهذا الشكل، وبأنها ربما قد أخطأت في التحرش به على هذا النحو!. ولكن هي تعرف تماما بأنها لم تكن تتوقع أجابته السريعة لها وبأنها ربما قد وقعت في نفس الفخ الذي نصبته له!... وقعت بالحيرة والفضول وهاهي تكشف كل أوراقها؟ (أي أوراق؟.) تساءلت أمل: (هو لن يعرف شيئا عني أكثر من بعض كلمات وعنوان!.. وإذا رغب باللعب فيكون قد أعلن حرب خاسرة سلفا على نفسه وسأدير معاركها ضده بكفاءة!... فانا من يعرف مكانها جيدا واطل عليه من نافذتي فأراه ولا يراني. أستطيع بكل بساطة أن افتح النافذة لأطل عليه وأقرا برنامجه اليومي... متى يصحو... متى يتناول إفطاره... متى يخرج ومتى يعود ومتى ينام... كل شيء تقريبا... في حين هو لا يستطيع ذلك!!!.) ولهذا لم تتردد أمل ثانية واحدة من متابعة ما عزمت عليه وطلبت من البواب شراء وتعليق علبة بريدية خاصة لها لونتها بلون زهري مميز وقد كتب عليها بحروف واضحة "الأستاذة أمل". سر خالد بوجود رسالة أمل بين بريده اليومي وصحفه التي لم تتأخر بالوصول إلى عنوانه الجديد، وقد وضعت على طاولة مكتبه القديم بعد أن جلبها الآذن، ووضع إلى جانبها فنجان قهوته المعتادة. وجلس يقرأها وهو يبتسم... فلقد وجد في صراحتها وجراءتها علامات من الاستقلالية والثقة ما كان يتوقعها في بلدته المحافظة، فتناول القلم وكتب لها: (لقد سررت كثيرا بوجود رسالتك الوحيدة في بريدي هذا الصباح.. وسررت بصراحتك، ويبدو بأنك قريبة مني كثيرا لدرجة أن لا أراك فيها، وأنا لا اخفي عليك بأنني حاولت العثور عليك بين البيوت الكثيرة والنوافذ التي تعد بالمئات.. والتي تطل من العمارات الشاهقة التي احتلت مكان البيوت القديمة في هذا الحي المتواضع، والذي تنكر للماضي على ما يبدو.. واخذ أجمل ما املكه وهو الوطن!... الوطن الذي حننت إليه وحلمت به وتمنيت أن أعود إليه واجده مع أهله وأحيائه وخلقه وقيمه وروائحه المميزة... وأنغام الطيور وهي تهدهد، وغناء عصافير الدوري وهي تزغرد... وعندك حق عندما اشترطت عدم المساس بأغصان الياسمين مقابل لقاءنا؟!. فيبدو بأن من حسنات هجري لهذا البيت، هو إنني حافظت على أخر ملجأ آمن لكل الطيور والعصافير والسحالي وجميع أنواع الفراشات... وحتى أعشاش "السنونو" لم تفتقد لهجرتها مكانا!... ويبدو بأنني المتطفل والغريب الوحيد عليكم جميعا؟؟؟... فلا تقلقي ساترك كل شيء على حاله فهل استحق مكافئتي بلقاك والتعرف إليك؟.) ثم نادى على الآذن طالبا منه إيداعها بالعلبة الزهرية اللون المعلقة على مدخل البناية المقابلة. لم تتأخر أمل من الهبوط درجات السلم الأربعين التي تفصلها عن علبتها... فلقد شاهدت الآذن -الشخص الوحيد الذي رأته إلى الآن- يقترب منها وبحدس الصياد الماهر الذي ينتظر اهتزاز قصبته منذرة بوقوع سمكة جديدة بالأسر.. فتحت أمل علبتها لتخلص تلك الرسالة من صنارتها وتعيد إغلاقها بحرص كمن يعيد الطعم لاصطياد أخرى!... وعادت إلى غرفتها متشوقة لقراءتها... فألقت نظرتها الأولى المعتادة تطالعها بسرعة البرق ثم عادت لكي تتأمل السطور تبحث بين حروفها عما يمكن أن تخفيه من مشاعره المخبأة فيها فوجدته رصينا وجديا أكثر مما توقعت... عادت مرة ثانية تتفحصها وكأنها قد أغفلت أمرا لم تستطلعه بما فيه الكفاية... وصدق حدسها فلقد وجدت كلماته مطبوعة على ورقة ملونة تخفي بين رساماتها الهادئة بعض مما يحب أن يقوله... انه النصف الآخر الصامت الذي تبحث عنه ووجدته!... فسرت لاكتشافها وجلست تخط له جوابها: (أشكرك على احترام رغبتي في الحفاظ على أغصان الياسمين موحشة كما هي.. وعلى البقية الباقية من أشجار قديمة حوت فيما حوت ذكريات وأحلام جيل كامل من أهل هذا الحي.. وتختصر أمالهم بالحفاظ على البقعة الخضراء الوحيدة التي تسر النظر وتبهج الروح وتعيد إلى النفوس بعض الأمل. خاصة إذا ما علمت بان الأماكن المعتمدة لإنشاء الحديقة الخاصة بالحي الجديد قد سرقت وبيعت لتتحول إلى دولارات في جيوب المسئولين عن هذا المشروع. وبان أشجارك الوحيدة الباقية هي دليلنا بحلول الفصول الأربعة بعد أن فقدنا الإحساس بها في خضم الزحام والضجيج وروائح المازوت المنتشرة في كل مكان؟؟؟.. فمن خلال زهور أشجارك الوديعة وزقزقة العصافير وهديل الطيور نعرف بان فصل الربيع قد حان! ... وعندما تتدلى أغصان أشجار الليمون والبرتقال من ثقل ثمارها لتلامس الأسوار نعرف بان الصيف قد وصل!... ومع حلول طيور "السنونو" تتسابق لتحتل الجحور البسيطة التي تركتها أسلافها نعرف بان الخريف قد قدم!... وعندما تبدأ ثمرات الليمون والبرتقال تتساقط أرضا صابغة الحديقة وأطراف الرصيف بألوانها ورائحتها المميزة العطرة نعرف بان الشتاء قد حل علينا!... أما الياسمين فهي مزار الصغير والكبير من أهل هذا الحي كلّ منهم يتزود من أزهارها لحاجته ولم تبخل. وإذا قدر لي أن اعد المئات من الملايين منها التي أفرحت القلوب وزينت الصدور وعطرت المياه العذبة بدلا من البخور... وكانت وسيلة العاشقين للدلالة على حبهم وامتنانهم وإدخال السرور... حتى المقابر لم تفتقدها ففي كل جنازة منها المئات تتناثر عليها في خشوع!... لكل واحد منا فيها ذكرى وقصة وحصة!؟.. سننازعك عليها إذا ما قررت سوءً بها؟!. واعذرني قسوتي وجفائي فهذا البيت هو كل ما تبقى لي....ما تبقى لنا من خضرة هذا الوطن ومن ذاكرته ووجدانه.؟ ! أما عن سؤالك عن لقاء قريب بيننا فكل شيء في حينه أفضل، تحياتي، أمل.) استلم خالد رسالتها وقرائها بكل هدوء ثم وضعها جانبا وكأنها لا تعنيه فلقد شعر لأول مرة بأنه يخضع لأسئلة صعبة ومحرجة، انه بكل بساطة يخضع للتحقيق عن أشياء تخصه ولا يحب أن يتداولها مع أي كان. وبالرغم من الصراحة البليغة التي تناولت بها أموره الخاصة تلك وغيرتها واندفاعها في تحويل ملكيته وأخر قطعة من وطنه إلى أمر عام ستنازعه عليها، فلقد وجد فيما طرحته حقيقة لا يمكن أن يتجاهلها... وكان مستعد تماما أن يقايضها به مقابل رغبته في لقاءها والتعرف إليها... فلقد شغلت عقله وأثارت فضوله وحركت جوانب منسية من طفولته وعشقه وحبه للوطن، لقد كانت -ومن حيث لا تدري- تعيد رسم اللحظات الباهتة الحنونة من ذاكرته وتلونها بألوان مليئة بالفرح والأمل. فتناول رسالتها ليعيد قراءتها باهتمام وقرر أن يخطو خطوة أكثر جدية معها فهو لا يحب هذه اللعبة -رغم براءتها- أن تستمر. فلقد تجاوز سن المراهقة وعليه أن يحترم عادات وتقاليد أهل البلدة المتعارف عليها، فكتب لها: (أنا اتفق تماما على كل ما طرحته علي في رسالتك ومستعد للقائك للتفاوض على التفاصيل، فانا لا اخفي عليك بأنني سحرت بك وتمسكك بما تحبيه وتعشقيه من وطنك وأتمنى أن أكون وبكل بساطة بعض منه علني اكسب اهتمامك وحبك وحنانك... أن تكوني بكل بساطة وطني... فهل تقبلين بي؟؟؟ أرجو ذلك.) تلقت أمل رسالته بشيء من الغبطة وتفاجأت بصراحته ودعوته لها!... واعتبرتهم إعلان استسلام من طرفه.. وبأنها لابد قد أصابت مقتلا منه فوقع بغرامها دون أن يراها.. وبالرغم من شعورها بالانتصار بمعركة لم تخوضها كما تمنت إلا أنها ترددت بالإجابة عليه.. لأنه جردها من وهج المبادرة.. فأصبحت بكل بساطة أسيرة دعوته المسالمة وإعلانه لحبه دون مقدمات. فأصيبت بالحيرة وتناوب عليها القلق والاضطراب وشعرت بمفاصلها ترتجف دون أن تعرف السبب، فارتمت في فراشها وقد أخذت أطراف الغطاء لتختبئ تحته، وكأنها تحاول الهروب من موقف صعب لم تتعود عليه، وأحست بالمياه الباردة تغمرها بعد إن كانت غارقة بالعرق، لقد أصابتها اعترافاته بشعور غريب لم تألفه وبضيق وخجل؟. لم تستفق أمل من الحمى التي أصابتها إلا بعد أسبوع.. كانت تتهرب من الجميع... جميع من حولها متحججة بشتى الأعذار.. ونافذتها التي لم تغلق منذ سنوات لم تفتح كما هي العادة لتتعرف من خلالها على تناوب الليل والنهار!!!... لقد فقدت الإحساس بالزمن وشعرت بنظراته تطاردها وبكلماته تبحث عنها دون كلل أو ملل!... وبأنه لابد سيعثر عليها ويطرق بابها بعد أن غابت عنه... وتذكرت أحلام طفولتها...تذكرت سندريلا وحذائها... أميرها... قصرها... فشعرت برهبة الموقف وتخوفت من اللقاء... فجأة تذكرت بأنها نسيت أن ترد على رسالته الأخيرة... نسيت أن تدله عليها... عما قررت...أن تترك فردة حذائها... دليله على وجودها!!! ... فنهضت من الفراش وخطت رسالتها المؤلفة من بضع كلمات تقول فيها: (لقد تأخرت كثيرا عليك لأنني كنت مشغولة في بعض أعمالي، اشكر لك اهتمامك وكلماتك المعبرة الحنونة واقبل بدعوتك لي للقائك، ما رأيك بزيارتنا هذا المساء لقد تحدثت إلى والدي بالأمر وهم فخورين بك وبمعرفتك ويحفظون لوالديك كل الاحترام فلقد كانت تربطنا بكم صداقة قوية وقرابة قبل أن تترك الوطن بعد فقدانك إياهم... وان دققت قليلا في ذكرياتك البعيدة لوجدتني اسكن في بعضها، أعذرك إذا نسيتني فلقد كنت صغيرة جدا يومها، نحن بانتظارك وإلى اللقاء.) نزلت أمل الشارع لتعبره للجهة المقابلة حيث بيت خالد ساعية إلى علبته البريدية فلم تجدها ؟!.. فظنت بأنها ولابد قد أخطأت المنزل... تفقدت المكان حولها وأعادت تبحث عن علبتها الضائعة فلم تعثر عليها!.. وتخيلت للحظات بأنها ولابد تهزي من أثار الحمى التي أصابتها! (ولكن أثار تلك العلبة لازالت هنا بثقوبها الأربعة) تساءلت أمل: (ماذا حصل إذا؟... أين هو ولماذا أغلقت النوافذ والأبواب وعاد المنزل إلى سابق عهده مهجورا؟.) وقبل أن تترك المكان رمت برسالتها في الحديقة وعادت إلى منزلها وقلبها يشتعل من القلق والحزن والخوف.. وتمنت لو أن الأرض انشقت وابتلعتها على أن تجد نفسها في موقف كهذا وشعرت بنوبة الحمى تعاودها. مضى أسبوع آخر وأمل طريحة الفراش تهزي... حتى استيقظت على أصوات صراخ وعويل قادمة من الجهة الأخرى من الشارع يصاحبه ضجيج لآلات ضخمة تعبره... ففتحت نافذتها تستطلع الأمر فوجدت الجرافات الإسرائيلية تقوم بهدم المنزل بحراسة الجيش وبعض من أفراد الشرطة... وشعرت وهم يقومون بقطع أخر الأشجار الخضراء التي يحتويه ونقل أخر أحجاره في سيارات نقل عملاقة -لإفساح المجال لبناء جدار العزل المشئوم- بأن جزءا منها قد هدم واستبيح وقتل!؟... فصرخت بأعلى صوتها حتى سقطت أرضا وقد أغمى عليها من الحسرة والألم. ومن يومها لم تجرؤ على فتح نافذتها لأنها فقدت وسيلة الاتصال الوحيدة بعالمها التي كانت تفرح بالإطلالة من خلالها... خاصة بعد أن خسرت مساحتها الخضراء الوحيدة ودلالات الفصول الأربعة ورائحة الزهور... وزغردة العصافير والطيور... وأزيل أخر أثر لحلمها وحريتها... والوجه الصغير الأصفر الذي كان ينبئها بوجود خالد خلفه... نافذته... انطفأ... وانطفأ معه قصره... قصرها... حبه... حبها... حريتها... حريته!؟. فجمعت الوصلات الكهربائية بعد إن فصلتها عن جهاز "الكمبيوتر" ووضعتهم معه في صندوق خشبي كبير وأغلقت عليه بكامل ملفاته ومراسلاته دون تغير. مع تحيات المؤلف: يحيى الصوفي جنيف في 08/04/2004 |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:27 pm | |
| إرث جدتي بقلم الكاتبة: نجمة حبيب هو زيتونة دهرية ترقد، ككل زيتونة في بلادي، متواضعة راضية بما قدّر لها من غذاء وماء وهواء ونور. جوادة معطاءة دونما جلبة أومطالبة بحقوق أو رد دين. فهي لا تبتئس لو أنك أهملتها. ولا تطالبك بسقاية أوتشجذيب أوتمشيط, ان حدث وتعطفت عليها ببعض عناية كافأتك بصمت، وان لم تفعل أكملت مسيرتها بصمت أيضا دون معاتبة او اقتصاص على اهمالك وتناسيك. وهي أيضا مقتصدة محتشمة، لا تظهر عورة ولا تتعرى مهما جارت عليها عوائد الفصول. لا يعتريها ما يعتري بنات جنسها من شبق ربيعي، فلا تزهو ولا تغوي ولا تفاخر، حتى انها لا تحسد جارتها شجرة اللوز التي تزهو كل ربيع بزهرها المشتعل فتنة. ثمرها أيضاً كزهرها، لا يغويك بسحر ولا ينصب لك شباك الفتنة لتقع صريع هواه، بل ينتظرك حتى تتعطف باسقاطه فلا يئن متوجعا من ضربات "شاروطك" الظالمة ولا يقاضيك على قسوتك بل يمتثل كالزوجة الخانعة. يقبع خاضعا في الزوايا المهملة في الخوابي المعتمة لا يشكو قسوة حر ولا شدة برودة. ينصاع صاغرا لأحجار طاحونتك القاسية فلا يئن لثقل وطأتها بل يفرح لو رآك تتشمم سائله المخضر الجميل بعد عملية الهرس القاسي والمهين. قد تزهو بعض اغصانها الصغيرة مرة في العام عندما ترفعه ايدٍ طفولية ملوحة "مبارك الاتي باسم الرب. أوصانا في الاعالي. اوصانا في العلى". إلا أن جذورها عنيدة متشبثة بتربتها وفية لهذه التربة, حريصة على ترجمة هذا الوفاء بالتغلغل عميقا حد التوحد الصوفي بذراتها. مر فوقها اباطرة وملوك، طغاة وجبابرة، من مشرق ومن مغرب، فما مالآت ولا خفضت "لغازٍ جبينا". كلهم زالوا وظلت هي على وفائها وسخائها إرث جدتي فاطمة, هذه الزيتونة التي ورثتها عن فاطمة، عن فاطمة منذ الآف السنين, في فيئها غنت لأبنائها ومن بعدهم أحفادها حتى يناموا "وتيجيهم العوافي كل يوم بيوم"، وفي تجاويفها خبأت لنا ليوم العيد مفاجآت من جوز ولوز وزبيب. وفوق أغصانها علقت اطواق التين والمشمش والبامية لتجفف مؤونة للشتاء. وربما أيضاً خلف جذعها قابلت جدي سراً أيام المراهقة. وقد حرصت جدتها لجدتي على تسمية اغصان زيتونتها باسماء احفادها، وبما ان جدة جدتي لم تكن تعرف الكتابة فقد طلت الاغصان باصباغ مختلفة: أحمر، أخضر، أسود، أصفر، زهري، بنفسجي وغيرها. أصرت جدة جدتي على ان تعيد الدرس على احفادها وحفيداتها مرارا وتكرارا حتى تتأكد من انهم حفظوه جيدا وسوف ينقلونه دون اي خطأ لأبنائهم واحفادهم ذكورا واناثاً: الاحمر غسان كانت تقول، والاخضر محمد، والابيض لميس والازرق هدى والبرتقالي سميرة والاصفر اميل والرمادي زكي والبنفسجي سحر وهكذا في هجومهم الاخير على بلدتنا كانت مجزرتهم في زيتونها. صبر وشاتيلا من توع آخر. أصيبت جدتي بالذهول. لم تذرف دمعة على زيتونتها ولم تشتم او تطلق الدعوات كما كانت تفعل في المرات السابقة. بقيت جامدة كتلك الام التي فجعها موت ابنائها أمام عينيها فأفقدتها المفاجأة سمعها ونطقها. كالت امي لهم اللعنات فلم تجبها كما في الماضي: "صواريخك كاسدة فتشي عن بضاعة غيرها". رمى أخي الصغير دبابتهم بحجر فما لوت رقبتها بحزن كعادتها وقالت: "يا ولدي العين لا تقاوم مخرز". قرأت عليها مقالتي النارية والتوقيعات التي جمعتها احتجاجا وقدمتها لمنظمات حقوق الانسان فما هزئت بجهودي ولا قالت "كلّو حبر على ورق". ذلك الصباح رأيت جدتي واقفة مكتوفة اليدين منتصبة في وسط الدار. كانت قامتها مشدودة ورأسها مرفوعاً بإباء نحو السماء. كانت عيناها جامدتين لا تفصحان عن حزن أو غضب. فلو أن غسان كنفاني رآها لكان قال فيها ما قاله بصاحب "العروس". رميت عليها تحية الصباح فما التفتت صوبي إلا أن ابتسامة عريضة كانت تضيئ جبينها الذي امحى منه ما كان له من تجاعيد. مددت يدي اطلب يدها لأقبلها فظلت جامدة ولم تتمنع لتقول لي كعادتها "بوس الايادي ضحك على اللحى". في زحمة الانشعال المهين بين هذا الحاجز وذاك، نسيت الملمح الاسطوري الذي وسم جدتي ذاك الصباح ولكنني انتفضت مستذكرة كل تفاصيله فيما المذيع يخبر عن امرأة في السابعة والخمسين من عمرها تقوم بتفجير نفسها بواسطة حزام ناسف بعد أن تركت رسالة مصورة تظهر فيها وهي تقرأ ورقة كتبتها بخط يدها: أقدم نفسي فداء لله وللوطن وللمعتقلين والمعتقلات.... نجمه حبيب بوسطن الولايات المتحدة 13.12.2006 |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:27 pm | |
| بط أبيض صغير بقلم الكاتب: د. أحمد الخميسي من قبل كنت أتابع كل شئ ، ثم توقفت عن متابعة أي شئ . منذ شهور طويلة لم أعد أشتري الصحف ، أية صحف ، لم أعد أفتح التلفزيون . توقفت عن توقيع البيانات السياسية ، وتوقفت عن النقاش فيما يحدث حولنا . أخبار الأحداث السياسية الهامة صرت أتسقطها من أفواه معارفي خلال مكالمات هاتفية عابرة ، أو لقاءات بالمصادفة وسط المدينة . قلت لنفسي : لا شئ يتغير إلي الأفضل . وكنت أعلم أنني مخطئ ، وأن ما أقوله يعني أنني لا أرصد التغيرات بدقة . فلابد أن هناك أشياء تتحرك إلي الأحسن وأنا لا أراها . لكني بحكم العادة والفضول القديم أشغل التلفزيون من حين لآخر، أكتفي فقط بمشاهدة مقدمة النشرة الأخبارية ، وخلال ذلك ، مثل الماء الذي ترفع عنه السدود فجأة ، تتدفق نعوش أطفال الفلسطينيين من شاشة التلفزيون إلي صالة بيتي ، يحملها الناس وهم يهرولون بها قبل أن تشن عليهم غارة جديدة في الشوارع المحاصرة. أغلق التلفزيون وأندم على اللحظات القصيرة التي فتحته فيها . أغلقه ، لكن طوفان الأطفال يكون قد سرى من الشاشة الصغيرة وشغل كل فراغ في شقتي . طوفان ، ينظر إلي بعدم فهم ، نظرة مشبعة بالتساؤل ، لأنه احتمي بجدران بمنزلي دون استئذان وشغل كل المساحات الشاغرة بين قطع الأثاث في الصالة وفي غرفة نومي ، ومكتبي ، وجانبي الردهة الممتدة إلي الحمام والمطبخ . يستريح الأطفال المبتلون من الموت قليلا ، ويألفون المكان ، ولا يغادرون مسكني ، لأنهم مذعورون من الدنيا المرعبة في الخارج . وما أن أنهض من مكاني حتى يسارعون بالتدافع خلفي مثل سرب من البط الأبيض ، ويتبعون خطواتي أينما توجهت برؤوسهم المشجوجة وبشريط من شاش أبيض يربط الفك السفلي بأعلى الرأس . صفوف متعرجة ومتكدسة من البط الأبيض الصغير تسكن معي منذ زمن وتتبع خطواتي ، كأنها وجدتني بعد جهد ، وتخشى الآن أن أضيع منها ، فتتنقل ورائي من غرفة لأخرى ، وتسارع بالالتفاف حول قدمي في المطبخ . حين أكون مضطرا لمغادرة المسكن ، تقف صفوف البط الأبيض الصغير عند باب الشقة ، تمط رقابها النحيلة الطويلة لأعلى ، تتفحصني ، تهز رؤوسها قليلا ، ومناقيرها مثبتة من أسفل بقطع شاش معقودة عند رؤوسها الصغيرة . ينظر البط إلي صامتا يفكر إن كنت سأعود إليه أم لا ؟ . أرجع في المساء ، وأفتح الباب بهدوء ، فتخفق أجنحة البط الأبيض في الهواء ، وتضطرب صيحاته في ما بين الباب والصالة ، وتسبح في الجو عيون مغلقة وحقائب وصنادل صغيرة ملونة . أخطو بين الصفوف البيضاء محاذرا ، أتجه نحو غرفة مكتبي ، تتدافع الصفوف ورائي، أتوقف أمام باب الغرفة ، وأشيح بيدي له لكي يتراجع ، أريد أن اهتف فيه، لكنه يظل واقفا ، صامتا ، وأعينه معلقة بي . في الليل يملأ البط الأبيض كل موضع في غرفة نومي ، وفقط حين أرقد في فراشي ينعس فوق صوان الملابس ، وعند حافة النافذة ، وعلى طرفي سريري ، فإذا تقلبت على جنبي ، أو تحركت ذراعي وأنا نائم يفتح أعينه بفزع وينقل نظراته ما بيني وبين باب الغرفة، أتطلع إليه في العتمة ، فيحدق في ، بصمت ، ورهبة ، وأمل . منذ زمن يداخلني شعور أن على أن أعيد تلك الكائنات الصامتة إلي هيئتها الأولى ، وأن أفك عنها وعني السحر الذي ربطنا هكذا . أفكر في كل ذلك ، وأهرب من كل هذا إلي الكتابة في النقد الأدبي ، أكتب ، وأحس بالخجل ، لأن زجاج نوافذ شقتي يكاد أن يرتج من صوت القنابل ، لكني أسد أذني وقلبي بإحكام ، وأواصل عملي في المساء فأسجل ملاحظات عن تقنيات القصة القصيرة ، أو التقدم الذي حققته الرواية ، ثم أخرج لأتجول قليلا في الشوارع القريبة . أعود ، أفتح الباب ، فتلقاني الأجنحة البيضاء التي يتطاير منها زغب خفيف في الهواء ، وأجد أمامي تلك النظرات الخرساء ، فأشعر أنني كنت هاربا ، مثل جندي تسلل من موقعه خلال القصف وهبط من تل مشتعل بالنار إلي أشجار الغابات البعيدة . يقول لي صديق : " الحياة لا تتوقف ، والنقد والصحافة مهام ضرورية لا تتعطل " . أهمس لنفسي : " بالطبع . يد محترقة لا تمنع اليد الأخرى من تناول الطعام " . أقول ذلك لكني أحس بمرارة وأنا أفعل كل ما هو ضروري ، أو حين ألتقي بأصدقائي القلائل ، أو أضع شفتي على حافة كوب الماء فأجد صفوف البط الأبيض تتطلع إلي بنظرة مبهمة ، أحدق فيها هاتفا : وهل أنا المذنب ؟ هل أنا الذي ألقي بالقنابل كل يوم ؟ منذ زمن توقفت عن القيام بأي شئ . كل ما أفكر فيه ذلك البط الأبيض الذي يحيا في مسكني ، و يتخبط حولي ، ويمنعني من التنفس أو تناول الطعام براحتي، دون أن يصدق أنني برئ مما يحدث ، ودون أن يكف عن التماس الحماية . الزغب الأبيض الخفيف غير المرئي تقريبا في أجواء الشقة كلها أخذ يدخل صدري يوما بعد يوم ، ويدخل رئتي دون أن أشعر ، إلي أن وقفت صباح أحد الأيام وربطت بشريط من شاش فكي السفلي بأعلى رأسي ، ثم تجمدت بين الصفوف البيضاء ، ورفعت رقبتي النحيلة لأعلى ، وصرت أتجول معها بصمت بين الغرف الفارغة ، وجناحاي يخفقان في الهواء ، أشهق لأعب نسمة ، على أمل أن تطرق الباب علينا يد بشرية |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:28 pm | |
| جدار الصبر بقلم الكاتب: مصطفى مرار* قطوفها دانية. وهي كانت كذلك، يوم تسلم صك تملّكها، أقطعها، له، لص متمرّس، كان منح نفسه لقب "القيّم على أملاك العدوّ" هو كل من اغتصبت أرضه، وأجليَ عن وطنه. "الخواجا بنيامين" يقضي نهاره، يتحسس ثمارها، ويتلمظ. حتى إذا غلبته نفسه الأمّارة بِـ..القطف، فإنه يصفع تلك النفس، فتأمر الجسد الناحل، فينثني مبتعدًا عن الثمار الذهبية. ثم ينحني، ويلتقط ثمرة، مما ألقت به الريح "تحت أمه". يبتسم للثمرة الذابلة، يدغدغها، وهو يقول... لنفسه، مبررًا لها شُحُ... نفسه: هذا برتقال، والذي يتدلى على شجرة برتقال. وكما يقول عمالنا البدو: "كله عند العرب قُطّين".. والثمر المليح ينباع، وهذا ما ينباع!". ويمتد موسم النضج والقطف أربعة أشهر، وأكثر، وينظر "الخواجا بنيامين" بعينيه، ويقطع قلبه، حين بعض العمال البيض الأفندية من بني جلدته، يشلخ الأغصان، ليجعلها تركع عند قدميه، فيكون أسهل عليه مرط ثمارها . وإذا أراد هذا الأفندي الأبيض أن يأكل، فإنه يفغم فمه من الحبة، ثم يلقي بها أشلاء! فلا يجد "بنيامين" من يرشق في وجهه سم الغيظ غير ذلك العامل الغزي، الذي ربما كان حرصه على سلامة الثمر، وجماله والشجر، أشدُ من حرص "بنيامين" نفسه، فالغزي يتشبث بمكان عمله، إلى حين، ولا يريد الاحتكاك بذلك "النمرود الأبيض" لما يعلمه من استعداده، وزمرته، للتحرش، ولإيقاع الأذى، كلما سنحت لهم الفرصة، حتى إنهم ليفتعلون "الفرص" للتنفيس عن حقد، أرضِعوه أطفالاً. ومالهم لا يفعلون، والفرص في عصر الحجارة لا يحدّها زمان ولا مكان! ويريد "النمرود الأبيض"، الذي أرسل للعمل في البيارات بحكم "قانون البطالة" أن يثبت بأن هذا "العمل الأسود" لا يلائمه، وأنه من اختصاص عمال "الشطحيم" دون غيرهم. إن من "حق" هذا الجندي المسرّح أن يكون آمرًا وسيّدًا، لا يمدّ يده لتناول قشة. بل يقضي نهاره على شاطئ البحر، ويسهر ليلـه في الملاهي، فهو،الضمان الوحيد الباقي للحفاظ على ما تحقق من "الحلم القومي" ، ومن ثم المضي في إتمام ما بدأه "الآباء، البناة الأولون". وقبل هذا وذاك، فإن "الغزي" حين هو يتعامل مع أشجار البيارة وأثمارها، فإنه يتمثل صورة صاحبها "أبو إبراهيم" الذي انتزعت منه، وانتزع منها، ولما يَطعَم بواكير ثمارها. وهي، البيارة، ما زالت على مدى عشرين عامًا، تؤتي أُكُلها ذهبًا وعسلاً . بينما اليد التي حرثت، وزرعت، وتعهدت، ترقد هامدة إلى جوار الجسد المسجّي فوق الحصير، في كوخ متهدم، عند أطراف المخيم. وليس ما يشير إلى وجود الحياة في الجسد الهامد، سوى عينين جاحظتين. بعد صلاة الفجر، وحين العامل الغزي "حميدي" يغادر كوخه، نادته "أم إبراهيم" من فوق الجدار الذي يفصل بين الكوخين: -حميدي! حميدي، يا ولدي!! -لبيك، أم إبراهيم! خير إن شاء الله؟! توقف "حميدي" وكرّ عائدًا... لم ينتظر حتى تفتح له "أم إبراهيم" فهو دفع الباب، وهتف في قلق: -خير إن شاء الله! كيف حال أبي إبراهيم؟! -هو بخير يا ولدي. تفضل ادخل. إنه يدعوك إليه، لن يؤخرك كثيرًا. اقترب "حميدي" من فراش الرجل الذي كان يومًا بطل القفز على النبّوت، وسيد من ضرب "المورة" والذي كان يقعر، في اليوم الواحد، خمسين "جورة" . ركع إلى جوار الفراش، واحتضن اليد الهامدة: -لبيك، يا أبا إبراهيم. تفضل، ومرني بما تريد. -معذرة، يا ولدي.. لا أريد أن أطيل عليك، حميدي، يا ولدي.. أوصيك، بالبيارة، خيرًا.. إلى أن أعود إليها، ولا بد يومًا أن أعود.. فإنني أتمنى عليك أن تأتيني بحبتين من ثمارها كل يوم، حبة من كل شجرة، إلى أن ينتهي الموسم، فأكون قد طعمت كل ثمارها، أنا وهذه المرأة الصابرة.. لا تبك، يا ولدي.. لا تبك يا حميدي.. الدموع تخيفني.. لأنها سلاح العاجز.. بل إنها ليست سلاحًا على الإطلاق، ولسنا بعاجزين.. انظر! انظر!! إنني، أنا.. أنا لا ابكي! وأدار الرجل القوي وجهه إلى الحائط.. قبّل "حميدي" اليد الميتة، وسجّاها إلى جوار الجسد الهامد.. وقبل أن يبلغ الباب، بلغه صوت أبي إبراهيم واضحًا، واثقًا، قويًا.. ولعله كان مدويًا، فقد خيل إلى "حميدي" أن صدى ذلك الصوت يطبق عليه ، بل يخرج عليه من الأزقة، فيحمله إلى هنالك، إلى البيارة: "حميدي، يا ولدي! ابدأ بالشجرات عند جدار الصّبر ، تلك البقعة التي كانت مصلاّي ومرقدي، يوم كانت الأرض مخضرة بالمقاثي.. لا تبطئ في العودة!". "الخواجا بنيامين" ينفجر في وجه العمال الغزي، كلما لمس تمردًا من النمرود الأبيض، الجندي المسرّح: "خميدي!" انت خمور . لماذا لم تلقن ذلك الشاب الأشقر أصول الشغل؟ ويتساءل "حميدي": -ولكن يا "خواجا بنيامين" هذا جندي. ومن أنا حتى أصدر الأوامر إلى الجنود؟ -أنت "معلم قطيف". -أخشى أن قلت له "اقطع". أن يقطع رقبتي! -ولماذا؟ -وهل يفعل غير ذلك؟! اليوم يا "معلمي" كانت يدي تطبق على حبة برتقال صغيرة، فأوقفني وصرخ: "وجهك إلى الحائط! ماذا تخبئ في يدك؟!". وفتحت يدي، فسقطت الثمرة.. قد خالها الجندي الهمام حجرًا! هزّ "بنيامين" رأسه: -اسكت عزّاتي ! أنا لازم بقرا جريده! وسكت "العزاتي" حميدي. وتوجه إلى الشجرات عند "جدار الصبر" - تلك البقعة التي كانت قبل زراعتها بأشجار البرتقال، مصلى أبي إبراهيم ومرقده، يوم كانت الأرض مخضرّة بالمقاثي. وقف أمام البقعة المباركة مشدوهًا حائرًا. الأشجار، كلها، مثقلة بالثمار الذهبية. وكل برتقاله تغار من أختها. وكلها تدعوه أن يقطفها، ويحملها إلى المخيم، إلى جاره أبي إبراهيم. و"حميدي" يحب البيارة كلها، ولا يطيق أن تزعل منه واحدة من أشجارها، فهو اخترق البقعة المباركة، حتى إذا توسطها، أغمض عينيه، وراح يدور بين الأشجار على غير "هدى"، ثم مد يده فقطف حبة عن يمينه، وأخرى عن شماله. وفتح عينيه، وعرف الشجرتين، فجعل لكل منهما علامة على جذعها، قال وكأنه يخاطب كافة الأشجار: "في المرة القادمة، لن تكون قُرعة". وأسكن الحبتين جيبه الكبير، بلطف وحنان، كي يسلمها إلى صاحبهما، دون خدوش أو رضوض. وفي عودته إلى التخشيبة، كان "الخواجا" ما زال ينظر في الجريدة. وإذ أحسّ اقتراب "حميدي" ناداه: -هالو "عزّاتي"! -نعم، يا معلم. -تعال بِشوف.. تعال اقرأ! هرول "العزاتي" لـِ "يشوف" ، لكنه توقف قبل أن يبلغ مجلس "الخواجا"، فقد ذكر أنه لا يعرف لغة "المعلم"، فبادره هذا: -اقترب... انظر! انحنى "حميدي" : -نعم. رفع "الخواجا" رأسه، ونظر في وجه "حميدي" بعينين حالت زرقتهما إلى لون الرماد: -عَمَى، يعمي قلبك! اقرأ.. أنت مش بشوف؟! -يا معلمي، أنا ما بعرف عبراني. نفخ "الخواجا" في الهواء.. وقال ساخرًا: -يا سلام! عشرون عامًا، نعلمكم، ونشغّلكم، ونطعمكم وما بتعرفوا عبراني؟! صحيح، زي ما بقولوا: "عربيم، أين سيخل ". وقف "حميدي" لحظة يتفجر. كانت يده ما زالت تقبض على المقص الذي قطف الحبتين.. ضغطت عليه.. عصرَته... كان "الخواجا" قد عاد إلى صحيفته. رفع "حميدي" مقصه إلى ما فوق رأسه.. وقبل أن يهوي به على عنق الرجل، ذكر أبا إبراهيم، الذي ينتظر الثمرتين الذهبيتين.. أعاد المقص إلى حزامه، ومضى نحو التخشيبة.. "الخواجا" يطوي الصحيفة. وهو ذا يتابع تحرّك "حميدي" حين هو يتجه إلى التخشيبة. كان طرف معطفه متهدلاً، يشده ثقل البرتقالتين، فصرخ "الخواجا": -"عزّاتي"! ما هذا الذي يثقل جيبك؟ توقف "حميدي" ولم يستدر، وقال في تحدّ: -هذا برتقال.. أحسن حبتين، عن أحسن شجرتين في البيارة! -أنت خرامي! صرخ "الخواجا".. فانثنى "حميدي" وخطا نحوه خطوتين... لكنه، مرة أخرى، تذكر أبا إبراهيم، فتوقف، وتساءل من بين أسنانه: من فينا الحرامي، يا أولاد الحرامي؟! ملعون أبوكم، على أبو شغلكم، على اللي كان سببكم.. خُذ! وألقى إليه بالمقص، وحقيبة القطف، ومفتاح التخشيبة. وهتف وهو يُخرج الحبّتين من جيبه، ويرفعهما في وجه "بنيامين": -أما هذه، فلا! وطُقّ وافقع.. إن صاحبها أحقّ منك بها. وإذ بلغ "حميدي" المدخل الوحيد للمخيم، فإن الدنيا لم تكن تَسَعه من الفرح، لم يصدق أنه اجتاز "محسوم إيرز " لكنه لم يكد يخطو داخل زقاق المؤدي إلى كوخه، حتى توقف، وكأن عشرة من الجنود يتعلقون بحذائه، كان هناك عند باب أبي إبراهيم، جمع من أهالي المخيم.. مدّ يده إلى جيبه.. إلى حيث ترقد البرتقالتين. واندفع، حتى بلغ الباب، فاخترق الجمع، ودخل على أبي إبراهيم.. كانوا قد فرغوا من تجهيزه، وينتظرون بقية الأهل والجيران.. انحنى على الجثمان المسافر، دسّ يده داخل الكفن، ووضع في الكف الدافئة إحدى الحبتين، وأعاد الكفن إلى حاله. ثم رفع رأسه إلى أم إبراهيم، ومدّ إليها يده بالحبة الثانية، وهو يقول:"وهذه لك يا أم إبراهيم.." فاختطفها منها أحد أحفادها.. ابتسم له "حميدي" وقال: "هي لك، يا ولدي. والبيارة إن شاء الله.. إنها من بيارتكم.. وهي أحسن الثمار.. والله، لكأني بجدك هذا، يفضل برتقاله، التي في يده، على كل ثمار الجنة". *الكاتب مصطفى مرار من موليد جلجولية - فلسطين سنة 1930 ، عمل في سلك التعليم مديرًا لمدرسة ابتدائية ، وكان محررًا لدار النشر العربي ....له عشرات المجموعات القصصية والمسرحيات وكتب الأطفال ، وحصل على عدد من الجوائز ، وقد جرى له حفل تكريم مؤخرًا تحدث فيه كل من د . فاروق مواسي والشاعر أحمد دحبور. لقراءة الدراسة حولها (قراءة لقصة جدار الصمت) |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:28 pm | |
| متى سينتهي بقلم الكاتبة: فتنة القهوجي متى سينتهي التهريج بين زعيم خائن وآخر جبان زحمة وضجيج وضحك حتى البكاء كالمجانين استنشقنا البارود وكأنه الياسمين وجثث القتلى المرمية ظنناها لعب .. من طين أرضنا القاحلة حين ارتوت انحنينا .. ببلاهة شكرنا زعمائنا على... النزاهة أدخلوا الأعداء .. وروينا أرضنا بدم الشهداء نزعوا عن أجسادنا شوكة الكرامة ضحكنا حتى البكاء كالمجانين فكيف يؤلمنا طفل عربي جريح ونازح افترش العراء في فلسطين ونعترض على التهريج .. بالدين حتى صور العراة في سجون العراق نقلتها لنا الصحف بأنهم مدثرين فكيف يؤلمنا اغتصابهم والتفعيل بهم ونحن مأخوذين بفعل تهريج زعمائنا ومخدرين |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:29 pm | |
| النخلة المائلة بقلم الكاتب: محمد علي طه* " اعلم أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام ،الذي هو أول جسم إنساني تكون ،وجعله أصلاً لوجود الأجسام الإنسانية ،وفضلت من خميرة طينته فضلة ، خلق منها النخلة ، فهي أخت لآدم عليه السلام ، وهي لنا عمّة ،وسماها الشرع عمة ،وشبهها بالمؤمن ، ولها أسرار عجيبة دون أسرار النبات". أرض الحقيقة- الفتوحات المكية محيي الدين بن عربي وأخيرًا أعود أليك يا مبروكة بعد غياب طويل . غياب قسري. ملعون أبو الغياب وأبو الفراق . ما أمرّها ! الشوق يقتلني.. وعلى كتفيّ محنة أيوب. صبرت حتى عجز الصبر .اغتالوني وأنا أصب قهوة الصبح في الفنجان. قتلوني مرات عديدة. نهضت من بين جثث الموتى كما قام المسيح. هي خطوات وسألقى جسدي المتعب على صدرك مثل محارب عائد من الوغى ليرتمي بين ذراعي أمه .. ذراعي زوجه! قبلاً سأقبّلك ،لم يعرف الحب مثيلاً لها ! سوف تلسع جسدك حرارة أنفاسي المتقدة. نار مشتعلة منذ عقود. حرقت جسدي وأضوته. هل تحتاجين إلى لحظات أو دقائق لتتعرفي عليه؟ عليّ ؟ على ما تبقى مني؟! كانت الحرب سجالاً. كرٌّ وفرّ. ذقت حلاوة النصر أكثر من مرة وطعمت حنظل الهزائم مرات. وعلى الجسد يا مبروكة ندوب لا تحصى قد التأمت. وفي روح ندوب عميقة ما زال ينكأها الزمان صباح مساء! هل ستتعرفين على شعري الأسود الطويل الذي كانت أمي تتمتع في تسريحه في أثناء زرقة الشمس؟ تركت أصابع الزمان على خصلاته بصمات! هنا مر الإبهام. وهنا رجّلته السبابة والإصبع الوسطى! وهنا حك الخنصر والبنصر جلدة الرأس! كان الزمان يسير.. وكنت أعدو.. ما قعدت يومًا وما عرفت القعود! مستنشقًا هواء الفجر المضمّخ بعبير البرتقالة ساعة.. ومنتشيًا ببرودة نسيم البحر المنعش الذي مسحت وجهه الأسمر وعنقه المتجعد مشى!! يقولون إن أيوب وصل إلى شاطئ البحر متحاملاً على جسده الواهي الناحل المقروح وألقى جسمه فيه وغاص لحظات فخرج سليمًا معافى.. جسدًا شابًا قويًا يتنشف بالنور! كان يحاول أن يستنشق الهواء بشراهة لذيذة كأنه غير مصدّق أن هذا الهواء له. هذا الهواء كله له. يعرف.. وما أدراك ما المعرفة؟ّ! يعرف رائحة النسيم الذي تلبى عليه . يعني شذى الأرض! الهواء فوق تراب "البيّاضة" بارد ومنعش في الصيف. ونسيم الصباح في "رباع الست" يذكر الفتى بعطر امرأة شابه تمرّ بجواره... يتضرع في الجو ويملأ الخياشيم ويحرك الشهوات النائمة. وأما هواء "المراح" فيحمل رائحة الأنعام .. الأبقار والماعز والأغنام. ويـغذ الخطى. محمولاً على بساط من الشوق أعود إليك يا مبروكة . مرفوع الصدر. ذراعاي مثل جناحي نسر. أسمعك. يا هلا . يا هلا! ويسير . نابشًا بليونة الفجر ذاكرته الغنية ليفتح خوخة الذكريات النائمة في أعماقها. يتذكر أسماء مواقع الأرض. أسماء التلال والدروب والشعاب والسبل. سائلاً عن رائحة الهواء في هذه الهضبة في سويعات الصباح وعن نعومة النسيم فوق ذاك المنحنى. قلب العاشق دليله. من هنا! يلفظها في سرّه مكويًة بالزفير. على هذا المنحنى كنا نعدو مثل الحملان ونطير مثل الفراشات الملونة. نتسابق وراء عصفور بني الذنب. نتسابق على ورده برية شذت بلونها الليلكي عن أترابها الحمراوات . نعدو من زهرة إلى زهرة وراء طزيز .. من شجيرة قندول تفتحت أزهارها الذهبية وتمايست مع شعاع الشمس تراقص النسيم وقد لف ذراعه حول خاصرتها إلى شجيرة بطم ضحكت أوراقها للنهار وفاح عطرها في الفضاء . نتعثر بعود يابس استراح على الأرض ملتاعًا على الحياة .. بحجر خضبه التراب وبحجر لفعه العشب الطري . ننهض ضاحكين . تسخر منا الفراشات . يصفق الطزيز . يركض خطوات. تتقافز الحشرات والهوام والطيور مذعورة تصفق له أوراق العشب.يلهث. يتعب. يقف. لقد كبرت يا يوسف العلي وكبر الزمان معك ، ورسم على وجهك خطًا بل خطين . وبنى سخام التبغ في صدرك مداميك سوداء مثل الغربة . ستون عامًا يربضون على كتفيك بما يحملون من الغربة والذل .. من الجوع والحرمان .. من المطاردة والرحيل .. من التحدي والإحباط .. من الكفر والإيمان ..من الفشل والنجاح !!! ما ضل صاحبك وما هوى ! يحفظ سفر الخروج عن ظهر قلب . رواه يوسف العلي للرفاق على سفوح جبل الشيخ . في الكهوف . في ليالي الشتاء القارس .يحكي عن آدم وحواء . عن قابيل وهابيل .القاتل والقتيل .الفردوس المفقود . كان يروي السفر واقفًا . كان يحكي مستلقيًا والبندقية بجواره . وكان ينام وهو يقول .. ويقول .. يقولون له : كفى يا يوسف العلي ! ألا تمل ! ألا تضجر! إن كثرة الاستعمال للكلمة تقلل قيمتها وتفقدها جمالها ! ويردّ قائلاً : يقرأ المسلم صورة الفاتحة ثماني وعشرين مرة في اليوم فهل فقدت السورة بلاغتها وجمالها ؟! يرتشف شايه الساخن مع رفاقه في الفجر وهو يحدثهم عن حلم قصير راَه في المنام . حينما أسندت ظهري على مبروكة وأغمضت عيني في غفوة لذيذة سمعت وحيًا يقول : وهزي إليك بجذع النخلة يتساقط رطباَ وجنياَ . لماذا تضحكون ؟ ليست معجزة! مبروكة تعرفني . تحبني . تنتظرني . أنا يوسف العلي ذو الشعر الأسود الطويل والقميص المزركش . كنت إرقص حولك مع أخوتي السبعة . نقفز ونغني .ونرتمي عليك . " مبروكة يا مبروكه يا عين أمك وابوكِ !! " تضحكون ؟ لا يهمني . قولو ما شئتم ! أنا .. أجل أنا يوسف مبروكة !وهل في هذا عار . لا عار إلا العار.والعار هو أن لا أنساها . لا أحلم إلا بها ! ألا أتغنى بها .. قادمًا في ليل الغربة الدامس ممتطيًا جوادًا أصيلا ً من الشوق . في الصدر عشق . وفي الذاكرة حكايا . كان أبي يسبح في لحظات الوجد ويقول إن الله خلق النخيل في الجنة وفي دار الإسلام . ولم يختر فاكهة سوى التمر لتتغذى بها ستنا مريم حينما وضعت سيدنا عيسى عليه السلام . كانت شاهدة الميلاد ولباه وحليبه !! والنخل ذات الأكمام . يا يوسف العلي .ليس كل ولادة ولادة . وليست كل قابلة قابلة .كانت النخلة قابلة مريم ومن رطبها تلبى وليدها ! " مبروكة يا مبروكـه . يا عين أمك وابوك بالدم زرعناك وبالدمع سقيناك واجا الغربا سرقوك " لو كنت معي يا أبي الآن ! لو تكحلت عيناك بنور الأرض الخضراء . بزهر القندول . بشقائق النعمان .بورق الشجر الطالع مبتسمًا من البراعم . لو مشيت على سجادة خضراء نسجها مبدع قدير وزركشها بالأقحوان والنرجس والبرقوق وعصا الراعي ولفة سيدي وإبرة ستي وعين البقرة وعرف الديك .. تهمس لك : يا هلا يا علي . ولكنك رحت . مت . ضيعني أبي صغيرًا وحملني الهم صغيرًا ! اسمعها .. اسمعها تناديني . صوتها الرخيم يقول لي : تعال . أنا ما زلت على العهد . الحارة والزقاق . البيت والمدرسة .الحاكورة والبئر درب الملايات . السور والياسمينة المتعمشقة على حجارته العتيقة . البوابة وحذوة الفرس والخرزة الزرقاء . الخوخة . القنطرة .. " تعال .. تعال .. يا طيورًا طايره ! يا وحوشًا غابره سلمو لي عَ يوسف العلي وقولوا له : تعال شوف مبروكه كيف صايره !! " غير مصدق ما ترى عيناه . لا يعي ما تسمع أذناه . واقفا ً مشدوهًا . أين ؟ يتمتم . يردد . تخرج الكلمات من شفتيه الناشفتين . أين ؟ أين ؟ البيوت . الزقاق .الناس . القنطرة . الخوخة . الياسمينة . هل لجأوا معنا ؟ هل انشقت الأرض وبلعتهم ؟ أين آثار خطاي التي شاهدتها في أحلامي الوردية ؟ أين الأمل الضاحك ؟ ماذا بقي من الوطن ؟ أين عصافير الدوري التي كانت تقفز حولي في ساحة البيت ؟ أين ساحة البيت ؟ أين البيت؟ ويحدق بعينيه المتعبتين .. ويجد مبروكة . الشاهد الوحيد . لا شيء سواها ! يعرفها . يسير إليها . يمشي . يهرول . يقفز .. يعدو . وأخيرًا أعدو إليك يا مبروكة .يا عشيرة الطفولة . يا وفية .يا من حافظت على العهد !! أتذكرينني ؟ أتذكرين أترابي وأخوتي ونحن ندور حولك نرقص ونغني . ونلهو نرتمي على جذعك . محدقًا في جذعها العتيق باحثا عن بصمات أصابعه وآثار قدميه الصغيرتين حين كان يتسلق عليها . مبروكة الباسقة . ذات الجذع الطويل العالي . مبروكة التي مات أبوه وهو يحكي عنها . لا تنبت مبروكة إلا في بلاد المسلمين والجنة . يعانقها . تخزه أضلاعها الجافة . ويتذكر فاطمة . فاطنة الحلوى . فاطمة الزهراء . بنت الجيران . كان يكتب لها الرسائل القصيرة ويدسها لها في جذع مبروكة لتأخذها حينما تأتي لتملأ جرتها من بئر الماء . فاطمة اليانعة.. الخضراء.. جفت مثل عود يابس . فاطمة التي دفنتها الطائرات في مخيم عين الحلوة تحت أنقاض البيوت الطينية . باحثًا في جذع مبروكة عن فاطمة . عن ورقة . هل هي رسالته الأخيرة أم جوابها ؟ وفيما هو يبحث تنبأ أن جذع النخلة مائل . مائل كثيرًا . مبروكة منحنية . مبروكة مائلة . وتراجع خطوات .. يا الله .. حتى أنت يا مبروكة ؟ ما الذي حنى جذعك الباسق ؟ الحنين ؟ الغربة ؟ الزمان ؟ قولي لي يا مبروكة . قولي لي !! أود أن أسمع صوتك الذي سمعته في الليالي المعكورة . أنا يوسف العلي . أنا الفتى التي كان يقفز حول جذعك الباسق ويتسلق عليك ؟ ما الذي حناك ؟ هل انحنيت لتصمدي أمام الريح ؟ أم انحنيت لتشمي رائحة أهل الأرض ؟ " مبروكة يا مبروكه يا عين أمك وابوك لومي مش ع الزمن لومي ع اللي راحوا وهجروكِ " !! =================== *الكاتب محمد علي طه: ولد في قرية ميعار المهجّرة سنة 1941 . لجأ إلى قرية كابول في الجليل، وعمل في سلك التعليم . حصل على شهادة B.A في جامعة حيفا في موضوع اللغة العربية . يرأس اتحاد الكتاب العرب في الداخل حرر في صحيفة الاتحاد، كما حرر مجلة الجديد الأدبية له أكثر من عشر مجموعات قصصية أولها: لكي تشرق الشمس ( 1964 )،وآخرها " بيرالصفا (- دار الشروق ، عمان 2004) وله رواية (سيرة بني بلوط - 2004 ، دار الشروق) أصدر عددًا من كتب للأطفال، وله كتب تضم مجموعة مقالات ساخرة ..... وقصتنا المدروسة هي من مجموعة ( النخلة المائلة). لقراءة الدراسة حولها (قراءة في قصة النخلة المائلة) |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:29 pm | |
| رقصة الموت بقلم الكاتبة: إيمان حامد الوزير أفاق فجأة من سبات طويل ، يجمع من الظلام الدامس بعض ضوء خافت كان ينبعث من جهاز معلق بقربه ، ترامى إلى بصره أشباح متدلية من أعلى السقف ، شحذ بصره نحوها فعرف أنها محاليل معلقة فوق رأسه ، بدأ يستجمع وعيه محاولا تذكر ما حدث ، انهالت عليه جموع الأسئلة تقارع جسده المصفد ، شعر بأجهزة التنفس كجنازير تلتف حول أنفه وفمه ، وأحس بشيء خفيٍ يتراقص في أوصال جسده المشلول ، وبدأ الخاطر يتحدث من جوفه نيابة عن لسانه الذي كان مسلوب الإرادة. يداعب ذاكرته بأحرف متلعثمة : ما الذي حدث ؟ كيف وصلت إلى هنا ؟ ، كنت أمارس غواية القمع ، فهل انقلب السحر على الساحر وابتلعتني الأمواج ، تراجع الخاطر أمام أصوات أجهزة التنفس وأنابيبها التي كانت تفرض على شرايينه مزيدا من الحصار . تقرع في أدنيه قرع الطبول ، راح خاطره يتساءل في غضب : ما الذي يضعون في هذه الخراطيم التي تقضم أنفي وفمي كسمكة قرش هل هو أوكسجين أم غاز مسيل للدموع ؟ جفل فزعا من جملته الأخيرة ، أحس بصدره يعلو ويهبط كأفعى كوبرا تتلوى على إيقاع الطبول القادم من الأجهزة ، فصاح: كفى ..كفى لا أريد أن أموت ، أين أنتم أيها الأطباء الملاعين ! أين أنتم يا معشر الأشكناز ؟ ألم نشرب سوية نخب يهوه ؟ لأجلكم أفقدتهم هدأة السبات في هجيع الليل، وبنيت لكم حوائط من أشلائهم. أنا الآن هاهنا مسجيا مهملا مشلولا لا يسمعني منكم أحد! توقف خاطره فزعا على قيئ يندفع من أمعائه ، يجتاز فمه وأنفه نحو الكمامة الموصودة على فمه بمزلاجها كباب زنزانة ، تداخل خاطره مع قيئه في امتزاج موحل يشبه أرض الزنازين الانفرادية ، كان اندفاع القيء كافيا لاقتحام باب الزنزانة في سيل جارف يجتاز مساحة الخد المتجعد في وديان تندفع نحو أذنه وتخترق الطبلة ، بعض القيء عاد مرة أخرى إلى بلعومه فلامس لسانه مرارة العصارات ، وانهالت دموعه تمارس الغواية مع القيء تحمله إلى عالم الهذيان ، أحس بالاختناق يفّحم جسده ، وانبرى خاطره يلهث بحثا عن طوق نجاة ، زاغت عيناه وتعلقت بسقف الحجرة فرأى جموعا غفيرة من الأشباح تتراقص أمامه في ابتهاج ، ازدادت مساحة الاختناق في جسده ، التفت جموع الأشباح حوله تراقصه( التانجو ) ، تدنو منه وتبتعد مطلقة صيحاتها ، كان الاختناق قد بلغ أوجه فراح خاطره يبتهل بتضرع للحشود : كفوا عني سأرحل ، صدقوني إنها المرة الأولى التي لا أكذب فيها ، سأعود إلى بولونيا ، أعلم أنني لن أكفر عن ذنوبي التي تخطت الآلاف ، لم أشأ يوما بناء هيكل الرب بقدر ما أردت هدم كبريائهم ، كانوا في مملكتي ذبابا متوحشا ، جنادب تتطاير من حولي ، كابوسا فاسدا يجب تجريفه ، عدوى أخشى أن تنتقل إلى جيراني فيزداد كمّ الذباب من حولي، نفثت السموم في أوردة جيراني فأغلقت عليهم باب الأرض وسقف السماء . اقترب الراقصون منه وبدؤوا يمسكون جسده ويدغدغون رأسه ، يترنحون بأجسامهم مطبقين على صدره، صرخ خاطره في فزع وراح يفتش عن مكان آمن داخل قلبه ، طاردته الجموع إلى داخل جسده ، بدأ الخاطر يفر من شريان إلى وريد ، اقتحم جدار المعدة ، وأحدث فجوات داخل أمعائه والراقصون يعبرون الطرقات يدوسون بأقدامهم أحشاءه ، يسبحون في برك الدماء يغبون منها ويثملون، والخاطر يفر منهم جزعا ، حتى وصل إلى القلب لجأ إلى البطين الأيمن والراقصون يطاردونه ، يضيقون عليه الحصار، يلتهمون المضغة بشره ،يترنح الخاطر بين أفواههم ، الأجهزة المعلقة تصرخ ، حشود الأطباء والممرضات تملأ المكان تحاول إنعاش القلب ، لتتسع مساحة الرقص من الداخل والخارج ، وهو يصيح ... يستجدي بلا كلمات ..بلا لسان ...بلا خاطر ...بلا قلب ، لا أحد يسمع الأنين في حلبة رقص مجنونة ، و الكل يلهث لإحياء ميت !!!! |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:30 pm | |
| البقاء على قيد الوطن بقلم الكاتب: أحمد يعقوب I لا تفعيلة عندي لأرقّّّص الكلام في حفلة موت لا منطق عندي لأًنطّّّق الذئاب بثغاء الأيل لا ذِئْبَ فيَّ لأُذَئِّّبّ البطريقَ بالعواء على إيقاع لسعات المزامير في الجسد أرفع البقاء على قيد الحياة أرفعه من ياقته المنخلّة قبالة الشمس ومثل قاضٍ بابليّ أسائله فيما الورّاقون الطيبون يكتبون: البقاء على قيد الحياة : بقاءٌ على قيد الوطن اغتسلي بلادي خبأت لك عطر المرّ اغتسلي بلادي خبأت لك إكليلاً من خشب الصندل اغتسلي بلادي خبأت لك قلادة من الشوك البري اغتسلي بلادي يليق بالبحر أحياناً أن يغتسل III كنت قبل أن أعرف لسع المسامير في جسد يسوع _ كنتُ ـ مثل نورسٍ نسي أن يكبر في مرايا البحر وبزغب الطائر الخداج أداعب كرة الشعر أشلشلها بِنَزَقٍ محب وبرفقٍ وحنان آخذ الخيوط أبني عشا شفافاً كبياض عين أمي أضع قصائد شفافة _ الشفافية هي الفن ـ منها أنسج وثناً فراشات لها رائحة الأزرق تصحح لثغتي أنظر إليها بِحيرِة الطائر التعب -للتعب لون البحر ـ فأنطق: وثن : وطن IV في القلعة يستنسخ القاتلُ وَهْمَ المكابيين : خرافةً ! خوفاً! رصاصا! وخفافيش تائهة! هل للرصاص أن يرصرص وقتنا؟ هل للرصاص أن يدمغه بشمع الرماد؟ ماذا بين الوجود والعدم؟ نظرت إلى عيني "عبد اللطيف عقل" لا يزال يعيشها في القحط تيناً وزعتراً ولا أحد يعرف هيئة طائر الفينيق الوراقون الطيبون يكتبون : طائر الفينيق ينبعث من الرصاص يا قاتلي من هذي الرصاصات أو تلك.... تنقّ خذ حارقاً خذ خارقاً خذ باعثاً وتمل ياقاتلي لولا خيول طروادة الكثيرة ما كنت يا قاتلي هكذا في قتلي تتسلى ، ..... لست أنا دريئة المهنة القانية لست بياضاً لسهام الخرافة وخرافة السهام أرتدي جسد البلاد المنخل أقلبُ ساعة الرمل على مضض وأدخل لعبة الوقت في عضّ الأصابع صوت أمي يقول : قريباً من الماء الآسن لا تشتك لسعات البعوض V يا موت ياموت يا موت: أنا لست فيلاً ماموثاً لتكون أنت صياداً يهودياً كنت نورساً هزلته "الديباسبورا" وهزّأته صرت فيما تيسر من وطن: طائر كنار يرعى الأزرق زغبه يا جند: يا جند: ثمة كلام ثمة كلام ثمة كلام ثمة كلام حجبته الأحذية الحديدية عن الرماديّ فيك كلام اليهودي "ماركس" بصنارة حتميته و لهذا أقول : "الصهيونية أفيون الشعوب" علّ مومياء لينين تسمع : الصهيونية أعلى مراحل الإمبريالية كلام اليهودي "اسبينوزا" بفراره من اللاهوت إلى الناسوت كأنه حوتٌ عاد من اليباب كلام اليهودي "اسحق دوتشر" وهو يؤشر كأستاذعتيق بين : "اليهوديّ واللا يهوديّ" ولهذا أيضاً أقول "لفرويد" العزيز: الحرية ـ وليس الليبيدو "اللزيز"ـ موتيف الإنسان يا "أنيشتاين" اليهودي! إن ثانية واحدة تحت الكولونيالية اليهودية تعادل سنين من ضوء في بئر فليكتب الوراقون معادلة جديدة للنسبية: كمية الحرية = الكولونيالية X (سرعة التخلص منها/ضوء)2 لهذا بالضبط أقول : "اغتسلي بلادي" يليق بالبحر أحياناً أن يغتسل VI يا موت ياموت: لي ما أقوله لمرايا التراب ما ينبغي أن تقوله الفضة للزجاج : عرفت لسعة المسامير في جسد يسوع عرفت لسعة المزامير في الجسد تراءى لي كلكامش من صورة محمود درويش كان بعين تبكي وثانية تضحك هذه المرة كان يحمل كل الرقم الطينية كان يحمل إدراكه لسر الموت كان يصيح: لن يموت "أنكيدو" مرتين يا لهذا الحرز البابلي! يصير درعاً واقياً للرصاص كنت قبل اقتراف الشعر البابلي أتخفى خلف أغنية وأدعو النساء بأسماء أعشاب وثمار وأحجار وفراشات وأزرق تلك هي أنوثة بلاد صارت مثل مغارة "الرعيان" VII مر الرصاص مثل أفعى حديدية مرت من اليسار إلى اليمين أنظر بعينين أيائلية السلالة أنظر إلى القدس المجسمة على الجدار كأن ظل القدس نزل من كرسيّ الله إلى كرسيّ كان درعاً واقياً للرصاص ربما "الجبل الطويل"* استدار ظلا ًصوفياً ربما جبرائيل الشعر ـ أقصد الذي جَبَرَ أيل ـ ربما بياض عيني أميّ من البعاد ثمة أنامل أثقلها الشعر بالشجن قبضت على الرصاص كخفافيش تائه قالت "عناة " : يا وادي الزبالة هي ذي قاذورات الحياة! في شوارع بلادي الزبالون الطيبون يرددون حكمة نظيفة: كناس الحي لا يرثي تلوث يديه اغتسلي بلادي كيف ينشئ الرصاص وكراً؟ يؤثث فيه ارتباكه! ويغادر كظل ثقيل! يا عدواً من مستحثات الخزر هل تكفيك هياكلنا العظمية لتشيد هيكلك ؟ علك تخرج من وعينا ونخرج من لا وعيك ؟! "هذه هي الأرض التي تمتلئ بالجماجم بدلاً من العسل واللبن هذه هي الأرض التي تغطيها بالأموات فلا وقت عندك لتغطي وجهك يا عدوا من مستحاثات الموت ستذوي عظمتك في ضجيج الزمن سيختفي ضجيج رصاصك وملكك سَتَنْسُجُ الأرض منكما دودة خالدة" يا قاتلي: على الخراب يقوم عرشك خذ ما شئت من "البارانوي" ودع كبريائي ينضج من مستحاثات الألم والأمل إلى متى يأخذك الضبع إلى مغارات الموت؟ متى يجشُّ رأسك لتقول للأزرق ما أجملك ! يا عدوي : لن يموت من يزرع شجرة لن يموت من يزرع كلمة لن يموت من يزرع مضغة في رحم الوجود VIII يا نساء بلادي أحضرن أدوات النسيج حكن حكاية باهتة لأمريكا أمريكا ترتدي كاوبوياً مهترئا يا والت وايتمن يا نساء بلادي أجلن طقوس النشيج اكتبن على شجرات البلوط على مريلة الأطفال: حرية زرقاء نحبها زرقاء هل للدنيوي جمال الحرية ؟ أم العدم من الرصاص من القبر إلى القبر؟ اغتسلي بلادي يليق بالبحر أحياناً أن يغتسل IX يا جنيني أنا عدو لعدوي وعدوي عدو لي كالقطة والفأر، كالنور والظلام منذ قليل كان جدك عند الكرمل يقبّل ليلى يخيط التين قلادة للشتاء ويقبّل ليلى يحيك الطين للبيت قبعات مطر ويقبّل ليلى يقبّل ليلى ولا ينسى: كلما البحر " قرقع أن يقوصه " منذ قليل أيضاً لفظ البحر مومياء رأسها رأس كاهن وأسفلها قدمان: سيفان من ذهب المومياء ادعت وصلاً بليلى قال الكاهن المزنجر: إنه أمضى آلاف السنين في اليم لا يفعل شيئاً سوى العادة السرية على وهم ليلى منذ قليل أيضاً صار جدك في البحر يرتق الدمع الأزرق شراعاً للعودة إلى دموع ليلى فيما المومياء تضخ الماء الأزرق في العيون يا جنيني هذا قميصي قدَّّ من ميسرة وميمنة أنا لست عثمان الخليفة لست يوسف هذا قميص الحكاية قدَّه العدم يا جنيني لك أن تقف منتصباً كشجرة سرو من نور كأعمدة شعر زرقاء علَّ حيفا تتمشى تحت ظلال مترعة علَّ رفات الأهل الغافيين في توابيت "الديباسبورا" يتابعون حفرهم كخلندات عتيقة في طريقها إلى سرادق القدس يا جنيني بيني وبينهم دمي وأعطيات الحياة بيني وبينهم شهقة أمي على أسلاك الهاتف ولك أن تعانق ليلى كماندولين من أوغاريت لك أن تدندن للأزرق أغنية عالية لأقلدك إكليلا من ألف زهرة زرقاء علك تظللني وأنا أقرأ الحكاية نفسها وأنا أحب ليلى أكثر أحب حيفا ثانية وأنا أقرأ نيتشة ثانية وأقلب الطفل والحمل والأسد وأنا أنفخ في كور انتمائي ثانية ومثل عامل يسقسق فولاذ الحكاية أكوّرني حمماً من طين شعر فلسطين شعر X اغتسلي بلادي خبأت لك: عطر المر اغتسلي بلادي خبأت لك: إكليلاً من خشب الصندل اغتسلي بلادي خبأت لك: قلادة من الشوك البري اغتسلي بلادي خبأت لك: عطر الصبار اغتسلي بلادي يليق بالبحر أحياناً أن يغتسل بلادي: ثمة ذباب أحمر كرأس رصاصة يعلن الفرق بين الغار والعار |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:30 pm | |
| قرية "كفر برعم" المهجرة الحزينة خاطرة بقلم المبدع الناشئ (احد عشر عاماً): أمير مخول* برعم قرية عائلتي, كانت قرية جميلة تتألف من حوالي 1000 شخص يمتلكون مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية. عند نشوب الحرب سنة 1948 طلب الجيش الإسرائيلي من سكان القرية مغادرتها لمدة أسبوعين فقط بادعاء سلامتهم. عاش السكان في الخيام مدة الأسبوعين, بعدها حاولوا العودة إلى القرية لكن الجيش منعهم مرة أخرى فلم يكن لديهم إلا الرجوع إلى الخيام والبقاء فيها شهرا آخر. بدأ الطقس يبرد فحاولوا أن يرجعوا إلى بيوتهم لكن الجيش الإسرائيلي منعهم وأخذهم في شاحنات كبيرة ورموهم على حدود الأردن. بدأ الناس بالسير من الأردن إلى سوريا ثم لبنان حتى وصلوا إلى حدود إسرائيل الشمالية, بعض الناس استطاعوا الدخول إلى البلاد بطريقه غير رسميه وبعد بضعة أيام تفاجئوا بان الجيش الإسرائيلي قد سّكن اليهود في منازل أهالي برعم, عندها قرروا أن يتوجهوا إلى المحكمة للمطالبة بحقهم للعودة إلى بلدهم. في سنة 1953 قررت المحكمة العليا بإمكان أهالي برعم العودة شرط أن لا يكون في ذلك خطر على امن الدولة. أعلن الجيش الإسرائيلي فورا عن قرية كفر برعم منطقة عسكرية مغلقة وبدأ بهدم القرية بالطائرات العسكرية, ليهدم بذلك أمال الناس بالعودة. كان الأهالي ينظرون من تلة قريبة مطلة على برعم كيف تهدم الطائرات الإسرائيلية بيوتهم وهم يصرخون ويبكون من شدة الحزن والألم لذلك يطلقون اليوم على التلة اسم "مبكى البراعمة". أما بالنسبة لجدي وجدتي فقد فرقت النّكبة بينهم حيث ذهبت جدتي وأعمامي الصغار إلى لبنان وبقي جدّي في قرية الجش, حتى جمعت الأمم المتحدة شمل العائلات المتفرقة في عام 1952. بقي الأهالي ممنوعين من الدخول إلى قرية كفر برعم إلا في يوم عيد استقلال دولة إسرائيل. كان اليهود يحتفلون بعيد الاستقلال بالرقص والغناء, حين كان أهالي برعم يبكون على أطلال بيوتهم وحرمانهم من مصادر رزقهم وسعادتهم. يروي لي والدي قصة جدي عندما اصطحب أولاده إلى برعم لأول مرة بعد أن هدّمت القرية, وكان يحمل معه مفتاحا حديديا كبير الحجم, فتح به البوابة الكبيرة الّتي كانت تؤدي إلى ساحة كبيرة أمام البيت العتيق, فتقدم نحو الحائط واخرج دلوا مربوطا بحبل, ثم تقدم إلى وسط الساحة وفتح غطاء بئر ما زالت مليئة بالماء العذب, فدلّى الدلو في البئر ونشل من مائه قائلا: " خذوا اشربوا من هذا الماء, بذلك لن تنسوا برعم أبدا". بقيت الحال على هذا المنوال حتى عام 1965, حيث بعد استشارات وجدالات سمح بدفن إحدى العجائز في مقبرة القرية, وهكذا بدأ الناس يدفنون موتاهم في المقبرة وبعدها سمح للأهالي بترميم وتصليح الكنيسة للصلاة فيها. في كل عام يحتفل الأهالي بأعيادهم المهمة مثل عيد الميلاد وعيد الفصح في القرية, حيث يتجمعون من جميع أنحاء البلاد للاحتفال والمعايدة, والتذكير أن كفر برعم في القلب والوجدان والذاكرة ولن ننساها أبدا. نتجمع نحن الأولاد في فرصة الصيف لمدة 10 أيام, حيث نقوم بمخيم صيفي نتعرف من خلاله على تراث أجدادنا وبلدنا, ونتعرف على بعضنا البعض, حيث نجتمع من أنحاء البلاد وحتى من خارجها لنعرف أننا من بلد واحدة وتجمعنا عائلة كفر برعم الكبيرة, لنشدد ونجدد القسم على ألا ننساك كفر برعم أبدا. ونعرّف أجيالنا القادمة بانتمائهم إليك. ونرضع محبة برعم مع حليب ألام.. برعم إلى الأبد إما جدي بولس, الذي لا اعرفه إلا من خلال والدي الذي يحدثني عنه دائما, وصورته فوق سرير والدي, فقد كان رجلا شجاعا وبسيط القلب ومحبا لبلده وأهلها, يزرع حقوله الكثيرة بالحبوب, مثل القمح والذرة والشعير والعدس والفول وأشجار التين والزيتون والعنب وجميع أنواع الفواكه والخضار. كان جدي يملك ما يقارب ال- 800 دونم من الأرض وكان يعتبر من الأغنياء, لكنه كان متواضعا جدا يساعد الفقراء ويحسن معاملة المحتاجين. قطعت النكبة فرحه وسببت له ولجدتي الألم الذي لا يمحى, حيث اخذ يعمل في البناء بعد أن نزح عن بيته ووطنه ليعيل أولاده, ويهتم بالأخص على تهذيبهم وتعليمهم. برعم لم تغب يوما عن حديثه وذاكرته, حتى يوم وفاته في يوم سبت النور في 2/4/1983 الساعة السابعة صباحا اثر نوبة قلبية حادة, كان قبل دقائق من حصولها يتذكر برعم وأيام صباه فيها. رحم الله جدي, وأنا مؤمن انه في السماء اليوم ولا ينسى برعم. *أمير مخول (احد عشر عاماً) القدس فلسطين 15 أيار 2006 بواسطة الأديبة المبدعة نجمة خليل حبيب - استراليا |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:31 pm | |
| نصف جسد بقلم الكاتبة: إيمان حامد الوزير على نافذة موصدة تراكمت جموع الثلوج ترصد حركات المكان ، لم يكن لذلك المكان أبوابا بل مجرد نوافذ يُقذف من خلالها كل من تسوّل له نفسه الخروج عن النص . حول المحيط كانت الثلوج تشهر بنادقها مترقبة شبقه لاقتناص قلب حرف قد يفر من المعتقل ، وذات سهد قرر أحد الحروف لثم الخوف المسجيّ بداخله ، فأطلق ساقيه للريح ، يقتحم بكل قوة زجاج النوافذ مخترقا جموع الثلج التي راحت تطارده بأزيز رصاصها، حتى أصابته إحداها في جناحه الأيمن ، لم يثنه ذلك عن مواصلة التحليق لبرهة ، حتى أجبره عمق الجرح على السقوط بين كومة قمامة كانت تروم المكان ، فأسرع بالاختباء داخل علبة فارغة متضجراً بدمائه ، ينهكه الإعياء ، كان سيل الدم المتدفق منه أثناء الطيران أثرا كافيا لجنود الثلج كي يصلوا إلى المكان ، لكن أحدهم لم يخطر بباله أن يكون مختبئا داخل تلك العلبة ! ولما يئس الجمع من لقاء الضحية صاح أحدهم قائلا : اللعنة عليه !!!!!! أين اختفى هذا الحرف اللعين ؟ ولم يجد ما ينفث به غضبه سوى تلك العلبة الملقاة أمامه فركلها بقدمه ، فتدحرجت واصطدمت بكمٍ هائل من المهملات والحرف بداخلها يتضور من الركلات الدائرية التي قلبت كيانه رأسا على عقب في تصادمات مشحونة تزيدها دائرية العلبة غيلة أفقده الوعي ! أفاق من غيبوبته على ضوء يثقب عينيه بأشعة رصاصية ، شعر بجسده يسبح في بركة ضحلة ، نصفه داخل العلبة والباقي خارجها ، عبثا حاول النهوض دون جدوى ، واستحال جسده إلى كمٍ من الآلام والهذيان في آن واحد ! ، تغلب ألمه على هذيانه حين سمع صوت كلاب السجن تنبح بالقرب منه ، فعرف أنه هالك لا محالة وعاد إلى هذيانه من جديد . كان كمّ الماء البارد الذي صبوه فوق رأسه كفيلا بإيقاظه ، ففتح عينيه على صوت يعرفه وضحكة صفراوية لم تغادر مخيلته بعد ، جاء الصوت من مصدره مترنحا يقول له : إلى أين المفرّ أيها الغبي ، ألم تعلم بعد أن عيوننا مركبة ، ترصدك أينما كنت حتى لو في قاع البحر أوفي جوف سمكة قرش ! كان البرد والماء والجراح قد اجتمعت عليه لتعيده إلى هذيانه من جديد ، لكن مزيدا من الماء الساخن الذي صبوه فوق رأسه أعاده من غفوته فعاد ذاك الصوت الصفراوي يقرع بكلماته من جديد : قل لي من هم الذين أعانوك على الفرار ؟ ، ولماّ لم يجد ردا انهالت الأقدام المحيطة بالصفراوي تركله وتتقاذفه فيما بينها حتى جاءهم الأمر بالتوقف ! واقترب منه هامسا في أذنه وهو يمسح قطرات الماء المختلطة بالدماء : أشعر بك يا صديقي ، كم أنت منهك وخائر القوى ، جائع لا محالة ، وعطشُ أيضا ، كل ما تحتاجه سيأتيك على طبق من ذهب .......ولكن بعد أن تخبرني بأسماء من أعانوك على الهروب . رد بصوت منهك : أريد لفافة تبغ وفنجان قهوة ! قهقه السجان بأعلى صوته وأومأ بالقبول : لكن بعد أن تخبرني خرج صوته خافتا : من يعلم العصفور كيف يهرب من القفص!!!!!! عادت الأقدام تركله من جديد وشعر بجسده يترنح ويرتفع ويهبط ثم أمسكوا به ورفعوه إلى أعلى وأصواتهم جميعا تنطق بكلمة واحدة : وقع على المحضر ! وضع توقيعه ثم غاب ّ! استيقظ بعد حين على صوت مطرقة تصعق أذنيه ، وصوت ثقيل يحدثه من أعلى المنصة : ما اسمك؟ ـ حرف ! ـ محل إقامتك ؟ ـ وطن ! ـ ويحك أتجرؤ على النطق بهذه الكلمة في قاعة المحكمة ؟ اجب بكلمة توضح مكان إقامتك ! ـ حسنا جئت من فم طفل جائع كان يلتهم شيئا من كومة قمامة ، ومنفى ترصده بنادق الغرباء و........... توالت عليه الطرقات تقطع سيل كلماته وتلزمه الخرس ، خرج لحظتها صاحب المطرقة من باب خلفي بعد أن أعلن لجمع الثلوج المحتشد أن الحكم سيصدر بعد المداولة . جالت عيناه في المكان ينظر في أعين المحملقين فيه ، وراح يحدث نفسه : ـ كم أنا مهم ! واختفائي أهم ! كل هؤلاء قدموا ليشاهدوا محاكمة حرف بائس ؟ عاد القاضي من جديد إلى قاعة المحكمة وأطرق بشكوشه قائلا : حكمت محكمة المداد الدولية بإعدام نصف الحرف نظيره جرائمه الحبرية والإبقاء على نصفه الآخر، على أن يتعهد النصف المتبقي التزام الأدب والتعامل مع الرقميات والحبريات والورقيات وفق قواعد الأمن !.......فهل تتعهد ؟ كان الذهول قد اعتراه بعد سماع الحكم ثم قال : كيف أتعهد وقد أصبحت نصف حرف ولا ادري أي النصفين سيبقى لي ! ابتسم القاضي ورد عليه : سأجيبك ـ رغم أن هذا ليس من حقك ـ سنقطع نصفك العلوي ونترك لك الباقي ـ ولماذا لا يكون العكس ؟ ألا بجدر أن أوقع على ما طلبتم وفق استنباطات عقلية ، كيف سأوقع بنصفي السفلي ؟ ـ لا يحق لك الاعتراض على قرار محكمة الحبر الدولية ، ( سنترك لك نصفا سفليا ) !!! ـ بلا عقل !!!!!!! ضحك الحرف بهستيرية تزايدت تأججا مع صوت طرقات القاضي ، وانتابته لحظة مجون دفعت بالجمع المحتشد من الجنود إلى ركله ورفسه وهو لا يزال يضحك ويضحك.. ويضحك .... ويضحك ... حتى غابت قهقهته إلى الأبد ! |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:31 pm | |
| صابرين بقلم الكاتبة: ملاك أحمد الرحاب بسكينة انسلت صابرين من سريرها ودست جسدها المتعب في كرسيها المتحرك ... اعتادت عليه واعتاد عليها ... صار بينهما لغة وتفاهم عميق ... لم يعد يهرب منها و يتملل كلما حاولت تطويعه لها . وجهت كرسيها ناحية الشرفة لتطل على البحر وتشهد معه الغروب ... ها هي الشمس تلوح لها مودعة لتشرق في مكان آخر...أخذت صابرين نفسا عميقا ...ولوحت للشمس مودعة . البحر مضطرب قلق ... صوته المتكسر يزيد من غربة روحها...ويأخذها إلى شاطئ غزة حيث موطن ذكريات الطفولة وهي تلعب مع أنس ... يتدافعان نحو الموج بمرح طفولي يهربان من الموجة القادمة بخوف مصطنع ... ثم يلحقان الموجة المنحسرة بتحدٍ ... عندما أكبر سأكون طبيبا لأعالج عيني جدي ليرى البحر ... وأنا عندما أكبر سأكون ... يرد أنس بسرعة ... ستكونين لي ... تخجل صابرين ... انظر الموجة قادمة هيا ... جالت عيناها على الأمكنة كأنها تراها لأول مرة ... تؤلمها رؤية الشفقة تسكن عيون من يحيطون بها ... دموعهم التي تذرف عليها في الخفاء وأمامها ... تحيل نفسها المعذبة إلى هواء ... وتدك كبرياءها بصمت ... ويزيد من إحساسها بعجزها ... تدعو الله أن يأخذها عنده ...لعلها تجد خلاصها وترحم قلوبهم . تومض عينا صابرين بذكرى اقتحمت المكان... ترمش ... ترتعش الشفاه ... تنكس رأسها على راحة يدها تهزه ... تنهمر الدموع لعلها تغسل خيالات تلك الليلة ... الصفارات وأزيز الطائرات يصم أذن الليل ... ضجيج ارتطام يستفز لجة الوسن ... ونحيب يخطف الأمن ويبعث الخوف ... لم تشعر بنفسها إلا وهي طائرة من على سريرها والدماء تتناثر في الأماكن ... وآخر صيحة لها يمّهْ يابا ... "ياااه ... كفي أيتها الذاكرة عن تعذيبي ...النفس غريبة ... وغربة الروح ... تنخل الوقت ... وتُبْذَرُ في رمال ناعمة ... فلا تنبت نبتة خضراء... ولا ينفع معها طول هطول المطر ". تَلَعْثُم غثاء البحر على رمال الشاطئ وأنينه حين يتلاشى يُبعثر فيها طاقة مختزنة ... مكبوتة تريد التحرر من صدرها ... طاقة كهربائية تزيد من توتر قلبها ... هذا الكائن الصغير الذي يعيش في مساحة ضيقة في صدرها يتحكم بها ... شَقَى بها وشَقِيت به ... أرهقته بحزنها ... وأرهقها بخفقه ... يتبادلان التنكيل ببعضيهما ... شقها الحزن شقين ... شق باكٍ ميت... وشق يجاهد الحياة ... يقاوم و يتعايش مع موت الآخر ... مرة تَغْلِب الميت ومرة يغلبها . تحمد الله ... ما زالت يدها اليمنى تتحرك ... لتطرز معاناتها على أثواب أو شال طويل لا ينتهي ... لا تريده أن ينتهي تطرز كل مساحة فيه حتى لا تبقى فيه مساحة سوداء ... لعل روحها تشرق وتصبح زاهية كألوان طبب الحرير ... علها تمسح دمعتها ... لتتواصل مع الحياة ... بعد أن سلمتها الصدمة للشلل والخرس ... كطباع اليهود الغادرة كانت تلك الغارة ... حصدت العائلة بأكملها... غارة تعللت بتصفية أحد النشطاء ... فأبادت مجمعا سكنيا كاملا ... الصدمة سلمتها لكرسي متحرك وحرمتها من استكمال تجهيزات عرسها ... لم يبق لها غير التعفر بغبار الذكريات . حبها للبحر خفف عنها الكثير وأعطاها فضاء رحبا لتطلق حزنها ... فتخفف من ثقل قلبها فتهجع الأحلام تحنو عليها بالأمل ... خيط شعاع تتعلق به حتى تقاوم فناء روحها . مازال الموج يعلو ويتشاقى مع الرمال ومازالت أنفاس صابرين تعلو وتسلبها الهدوء والأمن. في لحظة تماهي ... أشرقت عينا صابرين... تنهدت بآهة لو مزجت بماء البحر لأسرجته وتطاول الموج فيه ملتهبا. شيء ما سرع النبض في قلبها ...شيء ما حرك في خيالها طيفا تعيشه ويعيشها قادما من ناحية البحر... مادا يديه... تعالي... أمسكت بقبضتها سرج كرسيها ... تحاول النهوض إليه ... آتية ... لا تتركني ... خذني حيث أنت ... لا أريد إلا إلاك ...خذلتها ساقاها فانهارت مطأطئة رأسها حزنا ... تنفر الدموع ثائرة على عجزها . فارقته بإرادتها وأسكنته ذاتها ... تحبه حد التضحية... لم تشأ أن تشقيه بحالها ولم تشأ أن تلمح نظرة شفقة بعينيه فتشقيها ... تعلم عميق تعلقه بها... وتعرف جيدا أنه لن يتخلىَ عنها- رغم ظرفها - وسيبقى إلى جانبها ممسكا بيدها . هذه تضحية لن تقدر على ردها ولم يبق منها إلا خيال روح نحيلة ... ممنوعة من الحركة ... مشلولة ... خرسااااااااء ... قصيدة رائعة الجمال ... ولكنها حزينة تسكن كرسيا متحركا . كان ضروريا أن تفكر بسرعة .. كيف ؟... كيف تنسحب من حياته وبسرعة قبل أن تفقد الإرادة وترتمي بين ذراعيه مستسلمة ...امتطت جناح السفر خلسة ورحلت . فجأة جفلت صابرين... يد دافئة تلمس كتفها... التفتت: أنس ! |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:32 pm | |
| الوصول إلى المنعطف بقلم الكاتبة: لبنى ياسين محمود ركب في الحافلة وانتظم في مكانه.... دفع بدريهماته الى يد الجابي وقال باقتضاب: الى القدس, نظرة دهشـة سكنت عين الجابي , فقال تقصد الى اورشليم.... فرد الشاب مرة اخرى باقـتضاب : القـــدس . سارت الحافلة والشاب في مكانه متسمر دون حراك , اخرج من حقيبته الصغيرة جريدة ما , وأخذ يقتل بها الوقت .. دونما أي اكتراث بأي شئ حوله , دخلت الحافلة الأراضي السليبة , تعرضوا للتفتيش , ولرؤية الثبوتيات الشخصية , كأنما هم الدخلاء ....قال الشاب في نفسه: حيف علينا ...ما بيحقلنــا نـدخل بلـدنا ؟؟ ثم عاد كل مسافر الى مكانه , وأكملت الحافلة سيرها .... هذه المرة رمى الشاب الجريدة من يده وتعلقت عيناه بالنافذة , والشوق يكاد ينطق منهما .. المشاهد تتوالى أمام عينيه وهو يتمعن كمن يرسم لوحة , أو كمن يحاول الأحتفاظ بأكبر قدر من الوطن في الذاكرة ... أو ربما يحاول التعرف على ملامح بلده بعد سنين من النفي و الانتظار . وصلت الحافلة الى المحطة الأخيرة ... القدس , تحرك الشاب بخطوات ثابتة نحو الباب تاركاً حقيبته الصغيرة وراءه , فما كان من السائق الا أن ذكره بها , الا أنه أجاب باقتضاب بامكانك الأحتفاظ بها لو شئت , فرد السائق بلهجة فلسطينية صرفة : عزا.. لكن ليش حاملها كل هالطريق. لم يجب الشاب ببنت شفة واكتفى باكمال سيره نازلاً من الحافلة ... توقف على الرصيف و استنشق كل ما تستطيع أن تبتلعه رئتاه من هواء ..انها أول نسمة فلسطينية مرت به منذ زمن بعيد, ونظر الى ساعته كمن ينتظر شيئاً ما أو ربما أحداً ما , ثم ما لبث أن حث السير ..كانت نظراته ثابتة نحو الأفق .. وكأنما هو يسير نحو هدف يعرفه جيداً , أو لمهمة محددة , وربما نظر حوله بين الحين والآخر متذكراً أو متشوقاً أو حتى ربما مستغربا , ومن وقت لآخر كان يمر به جنود اسرائيليون فهم منتشرون في كل مكان من القدس كالتربة...انما حصاد التربة الخير وحصادهم القتل والدمار .. أما هو فكان كل ما مر به أحد هؤلاء الجنود حدق به بحقد.....بكره ....باباء العربي المجروح و الكرامة المغدورة . ما زال المنعطف بعيداً .. ذلك المنعطف الذي حمل على صدره اسرته الصغيرة ومنزله البسيط , الذي زرع أبوه في حديقته الصغيرة شجرة برتقال وشجرة ليمون وزيتون , وما وسعته تلك الحديقة الصغيرة التي كانت ملعبه هو واخته ...يكاد يشتم رائحة ترابها اذ اقترب منها , أحس فجأة بعينين ترقبانه .. نظر حوله فرأى جندياً يضع على صدره النجمة المسدسة , اسرائيلي اذاً لماذا يتبعه ابن الملعونة, صرخ الجندي بصوت حاقد توقف مكانك ... توقف الشاب ونظر الى وجه الجندي تمعن في تقاسيمه القاسية , صرخ الجندي اخرج اوراقك و انبطح أرضاً , عاد زورق افكار الشاب يحمله الى تلك الحارة بعد المنعطف , نفس الجملة كانت آخر عهده باسرته الصغيرة قبل قتلهم وترحيله عن تراب الوطن , وبعدها توقف الزمن عن الدوران في ذاكرته ... بدأ الشاب يسترجع ذلك المنعطف, شجرة الياسمين التي كان يقطف من زهورها هو واخته ليصنعا طوقاً يكلل صدر أمهما الحنون قطعتها يد اسرائيلية ,أخته الصغيرة ذات الضفيرتين والأعوام الستة ذبحتها يد اسرائيلية ... أبوه ذو التقاسيم الهادئة المتزنة والبشرة السمراء التي اكتسبها من عناق الشمس لجبينه أثناء عمله في حقله الصغير .. قتلته يد اسرائيلية , وتذكر أمه وهي تمد يدها له بالحلوى التي يحبها , تذكر دموعها في لحظات احتضارها الأخيرة , لم تكن تبكي خوفاً من الموت , انما بكت وهي ترى اسرتها الصغيرة تنتهي في لحظات غادرة... أين أمه ؟ رشاش اسرائيلي أوقف قلبها عن النبض... ذلك القلب الكبير الذي لم يعرف سوى العطاء , منزله .. أين منزله الذي يسير الآن ليقف على أطلاله وقوف العاشق المشتاق ؟! هدمته قنابل اسرائيلية . تفقـد المسدس الجديد الذي كان قد اشتراه بعد أن ادخر ثمنه قرشاً تلو الآخر , لم يكن من السهل الحصول على السلاح , لكنه فعل المستحيل حتى حصل عليه , و فعل ما هو أكثر من ذلك حتى مر به من الحدود بسلام , وعليه الآن أن يقتل هذا الجندي , فهو لن يكتفي بطلب الأوراق سيقتله كما فعل سابقاً مع أبيه.. ثم انه اقتنى المسدس لكي ينتقم لعائلته وليس ليبعد شبح الموت عن نفسه اذ انه مات منذ زمن بعيد , منذ قتـلت اسرته واحداً وراء الآخر ونجا هو باعجوبة جسداً من دون روح .. سيقتلونه هو يعلم هذا تماما , لكنه لن يموت قبل أن يثأر لعائلته فذلك كان ديناً في رقبته عاش لأجله وسيموت لأجله أيضاً فما معنى الحياة دون وطن ولا هوية و لا أسرة ؟ يده ما زالت تتفقد المسدس وعيناه تتفرسان في ذلك الوجه الشيطاني , وفي ذاكرته يمر شريط من الذكريات القاسية لا يستطيع ايقافه , تلك الحياة الهانئة التي كان يعيشها قبل أن يأتي هؤلاء , وطيف أمه وأبيه وخاله وعمه وزوجة خاله وابن خاله واولاد عمه وجده وجيرانه , كلهم ..كلهم قتلوا على يد الاسرائيليين , دونما أي ذنب اقترفوه ... بسرعة خاطفة رفع المسدس و أفرغه في جــوف الاسرائيلي الذي يتـربص به فوقع صريعاً يتخبـط في دمائه, هاله لون الدم الذي لم يكن احمر كدماء اهله , وانما كان اسود بلون الفحم الذي كان في السابق منازل عامرة وحدائق خضراء , بلون الحقد والكراهية والشر الذي في قلوب هؤلاء الأسرائيليين , ما زالت الأفكار تتوارد في رأسه بينما عيناه شاردتان ...شعر بقضبان من النار تخترق عدة أماكن في جسده ووقع على الأرض نازفاً , لكنه يجب أن يصل الى المنعطف ولو زاحفاً عليه أن يبشر عائلته بأنه أوفى بوعده, أخذ يجر نفسه زاحفاً باعياء على الأرض التي ما زالت تحمل آثار قدميه و أقدام أصحابه , ربما ما زالت تحمل رائحتهم ... رائحة دمائهم, زحف مقترباً من الحائط المتهدم .. انها مدرسته أو هي آثار مدرسته على الأصح , عليه أن يصل قبل أن تنتهي لحظات حياته الباقية ... معركة بين الحياة و الزمن .. ما زال يضغط على جرحه النازف , ما همه وهو المتعود على تحمل الألم صامتاً منذ الأزل ؟! أخذ يصغي .. خيل اليه انه يسمع صوت اخته تناديه لم يبق للوصول إلى لمنعطف الا القليل , لكن ما بقي من حياته ربما كان أقل , ابتلع حشرجة كادت تخرج من فمه وجر نفسه ثانية , فتح اصابعه فاذا هو يفبض على صورة قديمة لأسرته كسرتها يد الزمن وروتها دماؤه النازفة حتى فقدت معالمها , ها هو سور حديقتهم الصغيرة ..متهدم ..لم يبق منه سوى بضع أحجار , نظر الى الصورة وفي عينيه فرح طفولي شديد ... اهو فرح اللقاء ام فرح الانتقــام أم فرح الوفاء بوعد كان يبدو لوهلةمستحيلاً , بدأ يخط على الحائط بدمه كلمة عاش من أجلها .. و ها هو اليوم يموت من أجلها , هو أمي فبعد أن احرقوا مدرسته وقتلوا أهله لم يعد الى أي مدرسة , ونسي الحـروف التي كان بالكاد بدأ يتعلمهـا عندما حدث ما حدث , لم يعد يعرف كيف يكتب اسمه, لكنه كان يعرف تماماً كيف يكتب تلك الكلمة , أنهى الحرف الأول ...ثم الثــاني ...فالـثالث ...وأخذ يقـاوم لكي ينهنيها ..أصبحت الكلمة ( فـلـسـط .... ), لكـنه لفـظ أنفاسه قبـل اتمامهــا. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:32 pm | |
| رائحة الدم كان الوقت يقترب من الظهيرة في القدس , وأصوات أزيز الرصاص تأتي مبعثرة من كل الاتجاهات وصوت ارتداد الأحجار عن الأجسام المختلفة يسمع من هنا وهناك ..والأم الثكلى تمارس أعمالها المنزلية بآلية أتقنتها منذ عصور .. بينما عقلها يقلب الأحداث والأحزان والذكريات على مائدة الأسى , وكعادتها اتجهت إلى سرير أصغر أبنائها و أخرجت من تحته كيساً من الخام وفتحته وأفرغت بعض الأحجار في كيس ورقي, جلبته في يدها لهذا الغرض , وحملت ذلك الكيس و مضت إلى حاوية القمامة في مطبخها ,ووضعته في داخلها و قلبته مخفية إياه عن الأعين ,هذا دأبها منذ استشهد آخر من فعل من أبنائها , محرضاً بموته أصغر أشقائه, وآخر من تبقى منهم على قيد الحياة ,على أن يخرج إلى الطرق مع أقرانه ليقاوم بالحجارة ,إذ أنه الآن رجل هذا المنزل المتشح بالحزن , شأنه شأن أغلب بيوت فلسطين أن لم يكن كلها. كانت الأم تحاول التحايل على الزمن بعملها ذاك ..والنيل من قدر كانت تعلم تماماً في أعماقها انه آتٍ لا محالة ,إذ أن رجل البيت ذو السبعة أعوام يناضل في محاولة مستميتة للخروج بأحجاره الصغيرة والانضمام إلى قافلة الشهداء, لكنها كانت تمنعه قائلة لم يبق لدي غيرك ,ثم انك ما زلت صغيراً. كان أصغر من أن تفقده ..وأوهى وأنحل من أن يخترقه رصاص العدو, كما فعل مع أخيه منذ أقل من شهرين فألحقه بمركب من سبقه ,لحق بأخيه الأكبر الذي قضى في عمل استشهادي , وأخته التي مضت بانفجار , وأبيه الذي غرس آخر ذريته بذرة نور في أحشائها وخرج ولم يعد , وكأن الشهادة كانت خالاً أو شامة أو أحد ملامح الأب وتفاصيله انتقلت بالوراثة إلى أبنائه فمضوا يلحقون به واحداً تلو الآخر ..حتى أنها لم تعد قادرة على البكاء ..صار قلبها يحترق بصمت مقدس استمد قوته شيئاً فشيئاً من كل شهيد فقدته ,أما هذا ..صغيرها هذا فلم تستطع الوقوف مكتوفة اليدين إزاء إصراره على المقاومة ,لقد وضعته وحدها, وربته وحدها, و لازمها كظلها لوقت طويل ..كيف كبر فجأة ابن السنين السبع, و صار قادراً على الوقوف في وجه جنود لا قلب لديهم ولا رحمة ,يقتلون الأطفال كما يقتلون جندياً مدججاً بالسلاح هاجمهم بغتة , وبضمير أقل ما يقال عنه أنه ليس حاضراً, أو ربما سقط وفق نظرية التطور نظراً لعدم استخدامه, وفقدان الحاجة إليه لديهم, (إذ أن العضو الذي لا يستعمل يتلاشى وينتهي كما تقول النظرية) ,مؤكدٌ أنهم كانوا وراء اكتشاف هذه النظرية عندما حاول أحدهم أن يعرف أين الضمير الإسرائيلي وأين القلب الإسرائيلي هذا إن أسقطنا الحديث عن الأخلاق والإنسانية والرحمة و...و...وهكذا فقد كان السلاح الأخير الذي تمتلكه هذه الأم هو المماطلة متذرعة بحجة ما وسرعان ما وجدت الأم هذه الحجة ,فأخبرته أنها ستسمح له بالانضمام إلى أقرانه عندما يمتلئ هذا الكيس بالحجارة شريطة أن يضع فيه كل يوم ملء كفيه لا أكثر, وأخذت تنقص منه بحذر كلما زاده مطمئنة قلبها إنها قد وجدت الحل أخيرا . وبينما هي غارقة في ذكريات أكثرها مؤلم ..إذ اندفع صغيرها من الباب صارخاً , وعيناه تقدحان شرراً أولاد الكلب يدخلون البيوت ), توجست الأم خيفة فأخذت الطفل في حضنها و عانقته بقوة كأنما هي تعانقه للمرة الأخيرة . فجأة ضرب الباب بقوة وهمجية يعرفها كل بيت في فلسطين جيداً , وما أن فتحت الباب حتى اندفع بضع جنود مدججين بالسلاح وكأنهم في طريقهم إلى ساحة القتال , وانتشروا في المنزل بسرعة , وأخذوا يرمون كل شئ على الأرض باستهتار , أفلت الطفل من يد أمه وركض إلى غرفته خائفاً على الكيس الذي أمضى قرابة الشهر يجمع فيه الأحجار ترقباً ليوم إطلاق يديه وسراحه , كان الجندي قد وجد الكيس حمله و كأنه قد وجد أسلحة للدمار الشامل في كيس من الخام , عندما اندفع الطفل محاولاً الإمساك بكيسه, فتلقفه الجندي بضربة بكعب بندقيته أطاحت بسنينه السبع قرب سريره متألما ,رفع الطفل رأسه فإذا بحجر قد أفلت من يد الأم وهي تفرغ من جعبة القدر محاولة تأخير يوم طفلها وسقط بجانب السرير, التقط الصغير الحجر وجرى خلف الجندي ورماه بكل ما أوتيت عضلاته الواهنة من قوة ,لكن الحجر بالكاد لامس ظهر الجندي , الذي التفت وأفرغ رصاصه في صدر الطفل مخلفاً إياه غارقاً في بركة من الدم , هذه المرة لم تستطع الأم أن تثكل بهدوء كما اعتادت أن تفعل, فقد حملوا الموت إلى داخل منزلها, بعد أن أغلقت الباب لكي يظل خارجاً ..وقتلوا آخر صغارها فلم يعد لديها المزيد ممن تخاف أن تخسرهم,فاندفعت بكل قوتها نحو القاتل الذي افرغ ما تبقى من الرصاص في صدر الأم ,فارتمت إلى جوار صغيرها غارقة بدمائها هذه المرة ,بعد أن سبحت في دماء أسرتها فرداً فرداً , وفقدتهم واحداً تلو الآخر ,أما الآن فلن يؤلمها رحيل صغيرها هذا ما دامت راحلة معه . خطر في بالها كل تلك الأحجار التي كانت ترميها في القمامة بالخفاء, والباب الذي أوصدته في وجه الصغير فإذا بحجر واحد فقط , في عقر دارها يودي بحياته .ابتسمت و هي ترى كيس الأحجار و قد حمله الجندي خارجاً به وهي تتمتم بما تبقى لديها من قوة ساخرة: هل ستصادرون الحجارة أيضاً؟؟ فلتفعلوا ..سننتزع أحجار بيوتنا ونقاتلكم به. كان صوتها أوهى من أن يسمع بالنسبة للبشر, أما بالنسبة للجنود فلم يكن من ضمن وظيفة آذانهم الإصغاء إلى ضحاياهم, إنما يسمعون ويرون فقط ما يريد حقدهم الأسود أن يسمع و يرى, وبالطبع لم يكن هذا الحديث مدرج في تلك القائمة, وإن كانوا يدركون ذلك تماما في أعماق بشاعتهم. خرج الشياطين من المنزل ,حاملين كيس الأحجار..تاركين جثتين هامدتين تسبحان في الدم ..ورائحة الطعام الذي كانت قد طهته منذ قليل تختلط في تناقض عجيب مع رائحة الدم ..والبارود ...رائحة تعرفها جيداً كل بيوت فلسطين وعائلاتها. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:32 pm | |
| كيمنسانيا (1) دير ياسين بقلم الكاتب: نزار ب. الزين بدأت محنة الإنسانية منذ نظر ساسة العصر إلى التفاعلات الإجتماعية نظرتهم إلى التفاعلات الكيمياوية، والقصة التالية هي ثمرة إحدى تجارب الكيمياء الإنسانية، كما صممها عتاة الصهاينة، بنيتها على الواقع وأتممتها من الخيال . شهد رعنان أفدح كارثة تحل بقومه خلال إحدى أنجح عمليات جيش الإنقاذ العربي؛ مما خلف في نفسه شعورا بالذنب لوقوفه تجاهها موقف العاجز، فقد انهمرت القنابل على حي ميشاروم فزرعت الدمار في أرجائه ودفعت بسكانه إلى الهجرة الجماعية نحو غربي أورشليم دون أن يتمكن من إيقافها. وفي إجتماع ضم قادة الأرغن زفاي لئومي والشتيرن ، عرض رعنان فكرة إنتقام تعتق أرشليم من الحصار المفروض عليها و تفرِّغ المنطقة كلها من الفاسطينيين. صاح رعنان في وجه معارضيه : - يجب أن نستثمر سقوط القسطل ، يجب أن ننتقم لأهالي ميشاروم، لدينا أسلحة حديثة وذخائر بعد أن يسَّر البريطانيون لنا نهبها من مستودعاتهم ، فماذا ننتظر؟ أجابه يهوشَع بهدوء : - القرية التي تتكلم عنها ساقطة عسكريا ، مكالمة مع المختار ، تجعلهم يهجرونها دون إراقة قطرة دم . رد عليه رعنان و قد شبت فيه نيران الغضب : -الدم .... الدم ...الدم ، وماذا عن الدم اليهودي الذي يراق في كل مكان كل يوم، ماذا عن مذابح ومحارق الهولوكست ، وماذا عن والدي وأخي اللذان اقتادهما النازيون و لم أرهما منذئذ ؟ ماذا عن ثلاثة آلاف سنة من الشتات ؟ أجابه موشي مهدئا : - أهلك و أهلي جرت تصفيتهم هناك ، أما هنا فليس أكثر من قرية ساقطة عمليا، إنها محاطة من جميع الأطراف بمستوطناتنا ، ولا داع لإهدار رصاصة واحدة فيها . فرد رعنان دون أن تخبو حماسته : - نحن بحاجة إلى دمائهم ، تجعل الرعب يدب في قلوبهم و قلوب بني جلدتهم ، فيرحلون عن أرض الأجداد ؛ هذا ما نريده .. - وماذا عن اتفاقية عدم الإعتداء التي تربطنا بهم ؟ تساءل يهوشع فرد عليه رعنان متهكما : - لا تساوي ثمن الورق الذي كتبت عليه . - والبريطانيون ؟ - سيحتجون بداية – كعادتهم – ثم يصمتون ! - وماذا عن الدول العرببة المحيطة بنا من كل صوب ؟ - كل زعمائهم بلا استثناء أحجار شطرنج بيد الإنكليز والإنكليز في صفنا من الباطن . هنا تساءل هتسل : - وما هو موقف الهاغانا - معنا طبعا ، على أن يبقى الأمر سرا ، فهي الوجه العسكري للوكالة اليهودية كما تعرفون . وانتهى الإجتماع بالموافقة على الخطة و طلب من رعنان أن ينفذها بقيادته . ***** في عصر ذلك اليوم اتصل يهوشع هاتفيا بمختار قرية دير ياسين و دار بينهما الحوار التالي : - كيف حالك يا مختار ؟ - نحمد الذي لا يحمد على مكروه سواه - أفهم من رنة صوتك أن سقوط القسطل بلغ مسامعك - بلغني - ومقتل عبد القادر ؟ - أجل، بلغني إستشهاد عبد القادر الحسيني ، تغمده الله بواسع رحمته . - أمر محزن أن يموت الناس هكذا بلا مبرر . - الله يصلح الحال. - القتلى يتزايدون يوما بعد يوم يا مختار . - قافلة الشهداء لا نهاية لها ، ولكن هل من أمر خاص ؟ أم إنها مجرد شماتة ؟ - شماتة ؟ أبدا أبدا يا مختار؛ نحن آدميون قبل كل شيء ، و لكن الأخوان في المنطقة يودون التأكد من سلامة اتفاقيتنا . - طمِّنهم ، من طرفنا لا زلنا على العهد طالما أنتم باقون عليه . - شالوم. - شالوم عليكم و رحمة الله. ***** كان عدد من وجهاء القرية في مضافة المختار، يصغون إلى المذياع الوحيد فيها، عندما ابتدرهم قائلا : - يا إخوان، أنا لست مطمئنا إلى هذه المكالمة، قلبي يحدثني أن وراءها ما و راءها ! ثم أخذ الرجال يناقشون وساوس المختار، إلى أن قرروا في النهاية أنها أوهام لا تستند إلى أي منطق وعلى الأخص بوجود اتفاقية عدم الإعتداء التي لم يجف حبرها بعد. ***** ولكن..... قبيل ظهور شمس اليوم التالي ، سقطت القنبلة الأولى في ساحة القرية ، إلا أن القنبلة الثانية سقطت فوق منزل اسماعيل، كان أفراد العائلة جميعا في الحقل خارج القرية، ذهبوا لتعشيب الزرع وتنظيفه من النباتات الطفيلية ، عدا أم اسماعيل العجوز التي خنقتها الأنقاض. وكان آخرون قريبون من عائلة اسماعيل، في طريقهم أيضا إلى الحقول ، جمدهم الدوي، ولكن عندما سقطت القنبلة الثالثة على بعد أمتار منهم، فأصابت شظاياها بعضهم ، عادوا إلى القرية مهرولين يحملون أو يجرون جرحاهم . ذُعر المختار، فخرج إلى الزقاق يستطلع ، الأهلون يندفعون نحو منزل إسماعيل .. قائد المليشيا أبو حسن، يهيب بهم أن يعودوا إلى منازلهم وأن يحموا أطفالهم، فما سقط من القنابل الثلاث إن هي إلا اختبار لدقة التصويب . أدرك المختار معنى ما قاله أبو حسن ، فاندفع إلى منزله ثم تناول الهاتف طالبا ( جبعات شاؤول ) ، ولكن اسلاك الهاتف كانت قد قطعت منذ الليل. مضافة المختار امتلأت الآن بالرجال من كل الأعمار ، لقد اتخذوا قرارهم بالمقاومة حتى النفس الأخير وراح أبو حسن مع جنوده الثمانين – الذين توقفوا عن التدريب منذ عقد تلك الإتفاقبة – يبنون تحصينات سريعة حول القرية اشترك في بنائها الصغار والكبار ، ذكورا وإناثا ؛ ومن حين لآخر يسقط جريح برصاصة أو يتمزق آخر بشظايا قنبلة، وإذ يهدأ القصف قليلا، يُحمل الجريح إلى مدرسة القرية . وهناك يغطى من استشهد بملاءة بينما تحاول، فدوى، الممرضة الوحيدة، بمساعدة نساء أخريات تضميد الجروح. وعند انتصاف النهار امتلأت المدرسة بالجرحى والقتلى، وكان اسماعيل من ضمن الجرحى فقد مزقت شظية ساقه . تمكن المدافعون حتى الظهيرة من صد ثلاث موجات هجومية، إلا أن الرابعة بدأت تنجح وخاصة بعد أن قامت طائرة بإلقاء قنابلها فوق التحصينات فدمرت معظمها . مقاتلو ( الأرغون و الشتيرن ) أخذوا يتسللون إلى قلب القرية، ثم انخرطوا في قتال ضارٍ، من بيت إلى بيت ومن خرابة إلى خرابة . واستمرت المعركة ضارية حتى العصر، عندما نظر فؤاد إلى نجاده فوجده خاليا ، فتذكر رمانتيه ( قنبلتيه اليدويتين ) فجسهما ثم صاح بمن بقي حيا من رفاقه : " سأحاول شق طريق للإنسحاب ، فليتطوع أحدكم لحماية المؤخرة ، زودوه بما بقي من ذخائركم " . ثم اندفع نحو الجنوب في مقدمة زملائه . سبعة من رفاقه لم يتمكنوا من الإنسحاب فلجؤوا إلى ما بقي سالما من منازل القرية . ***** غضب روبنسكي – وهو قائد إحدى المجموعات – إذ لم تكن هذه المقاومة العنيفة في حسبانه فاقتحم أول منزل ... صاحت سيدة مذعورة : - ليس في البيت أحد غيري و غير أبي العاجز وأطفالي - والرجال أين هم ؟ ثم أضاف : - إنهم يقاتلوننا طبعا ! ثم نصحها أن تغلق باب منزلها جيدا خوفا من انتقام الجنود، غادرها ليقوم بتلغيم المنزل من جميع جوانبه ثم ليفجره بمن فيه. وعدَّ في سره (( واحيد )) ثم رفس بقدمه بابا آخر ، وبعد أن عد من فيه فوجدهم ثمانية مذعورين من جميع المقاسات والأعمار ، طمأنهم، ثم فجرهم وعدَّ (( إشنين)) . وهكذا انتقل وشرذمته ، من بيت إلى بيت وهو يعدّ: (( شالوش .. أرباع ..... )) أسرة يصلونها بطلقات رشيش، وأخرى يذبحون أفرادها ذبح النعاج ، وغيرها يدفنونها تحت حطام منزلها المدمر.. وعلى فراش الموت تشبث أبو نضال بقنبلة يدوية بيد كادت تتخاذل من الضعف ، عندما خلع بعض أفراد مجموعة روبنسكي باب داره ، استجمع بقايا قوته فانتزع أمان القنبلة بأسنانه، ثم ألقاها بين أقدامهم، وقبل أن تصدر عنهم أية ردود فعل تناثرت أشلاؤهم مختلطة بأشلائه. جن جنون روبنسكي فاندفع مع من بقي حيا من وحدته يفتك بمن تطاله أيديهم . ***** كانت الممرضة- فدوى - منهمكة بتضميد الجراح، أمروها بالتوقف ، توسلت إليهم أن يتركوها لمهمتها الإنسانية، مشيرة إلى ذراعها حيث شارة الصليب و الهلال الأحمرين ؛ قهقه إلياهو عاليا – وهو من الشتيرن – ثم وجه إليها رشيشه فمزق جسدها الغض، وأجساد من حولها من الجرحى ، ثم أخذ يتلو بالعبرية بعد أن ضبط موقع قلنسوته السوداء : " وإن مدن الشعوب التي يعطيك الرب نصيبا فيها فلا تستبق منها نسمة " ثم أضاف بصوت مجلجل : " إنه عصرك ياهوووو ، لقد ولّى عصر الآخرين ياهوووو، إنه عصرك يا إله اسرائل ويهوذا والسامره " ***** اجتمع من بقي على قيد الحياة في ساحة المدرسة بناء على أوامر رعنان ، وقد أحاط بهم عناصر المليشيات مصوبين إلى رؤوسهم بنادقهم . أمروهم الآن بالجلوس على ركبهم ورفع الأيدي فوق الرؤوس. ثم أمروهم أن يتجمدوا بلا حراك . ثم جاء من يفصل الرجال عن النساء ، ومن بين الرجال اكتشفوا الشبان السبعة؛ فانهالوا عليهم بكعوب بنادقهم وكعوب أحذيتهم ضربا. ثم ألقوا بهم مكبلين في شاحنة ، بينما كانت دماء أكثرهم تنزف وعقول بعضهم تحت رحمة الإغماء . قال إتسل وهو يشير إلى جميع الأسرى: - إنهم ملكي يا رعنان فرد عليه روبنسكي معترضا: - فيما عدا الشبان السبعة، لقد لحقت بسريتي أفدح الخسائر ! فتدخل رعنان حاسما الأمر: - قسمة عادلة ، وليبارككما رب إسرائيل . ***** عندما بلغ إتسل حي منتفيوري، أمر برش وجوه أسراه بالماء الآسن . أنزلوهم من الشاحنات .. مزقوا ثيابهم .. عرّوا صدور الفتيات.. لم يأبهوا لتوسلاتهن وعويلهن.. وعندما حاولت عجوز ستر حفيدتها ، مزقها أحد وحوشهم بحربة بندقيته . وصل الآن قارعو الطبول، وبدأ الموكب . في شارع الملك جورج، خرج السكان من بيوتهم وأخذوا يقذفون حطام دير ياسين الآدمي بما تطاله أيديهم من أحجار وزجاجات فارغة وقمامة . ***** مع إنبلاج الصباح كان الشبان السبعة يتهالكون في الحفرة الكبيرة التي حفروها بأيديهم وقد أدركوا أنها ستكون قبرا جماعيا لهم ، كان ثلاثة منهم على الأقل ينزفون . وبينما كان روبنسكي يصب البنزين في الحفرة وعلى حوافها، أدرك أحدهم نيته، فحاول تسلقها، أصابته صلية رشيش فأردته في الحال ، فاستسلم الباقون لمصيرهم. أشعل روبنسكي النار... أمسكت بهم النار ، فأخذوا يرقصون معها رقصة الموت ويودعون الحياة بصرخاتهم المدوية . كان روبنسكي خلال ( نيرونيته ) المبتكرة ، يصيح صيحات هستيرية تتخللها عبارات باللغة البولونية : ". انتقمت لكم أيها المضطهدون منذ بابل .. هكذا سيكون مصير ( الغوويم ) وكل من يحاول مس شعرة من جلود بني إسرائيل ، وكل من يحاول وقف انتشارنا في مملكة رب إسرائيل من الفرات إلى النيل ..." ظل روبنسكي واقفا إلى جوار الحفرة إلى ما بعد خمود آخر لهب فخمدت معه- من ثم - نيران حقده ، ثم نكص إلى القرية المكلومة . ***** كان إتسل قد عاد بعد طوافه بأسراه في شوارع أرشليم إلى القرية. أمرهم بالإلتصاق بأحد الجدران، فتهالكوا على بعضهم بعضا كالأموات، وإن هو همّ باصدار الأمر بإعدامهم ، ظهر يهوشع في سيارة ( جِب ) من مسروقات الثكنات البريطانية، وإلى جانبه وخلفه بعض القادة. تحدث أحدهم مع رعنان وقادة العملية الآخرين ، بحزم مشفوع بالود: - كفى قتلا . الإذاعات العربية و الأجنبية بدأت تجسم الأمر.. المندوب السامي البريطاني تدخل بكل ثقله ، ونحن مرغمون على إبقاء حد أدنى من العلاقة مع الإنكليز . سلِّم الأسرى إلى الصليب الأحمر في أرشليم، ولا تنس التخلص من الجثث . ***** وفي دير ياسين فرغ لتوهم أبطال ( الأرغن زفاي لئومي ) من دفن آخر جثة في بئر القرية، وكانت جثة طفل ذكر ، فصل أحدهم خصيتيه، رمزا لإستئصال آخر عنصر عربي من المنطقة . وعلق إلياهو وهو يمسح عرقه : - ما أعمقها من بئر، كيف اتسعت لكل هؤلاء ؟ وبينما كانت جرافة تهيل التراب فوق الجثث ، وتملأ ما بقي فارغا من البئر لتسويه بالأرض المجاورة ، كان الأبطال الميامين ينتظمون في حبل بشري، يطول شيئا فشيئا، في ممارسة لطقوس ( الهورا ) أي رقصة النصر ! |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:33 pm | |
| جسد بين الغيوم بقلم الكاتب: ناجي ظاهر* ذلك القنفذ، لا أدري من أين أتى، ولا كيف احتل المساحات الشاسعة الواسعة من فكري. في كل مكان أراه. هو في البيت والشارع، والساحات العامة، في الباصات، وفي الأماكن التي أذهب إليها كلما ضاقت الدنيا. منذ وضعت قدمي في بحر الكهولة وهو يتقافز في الظلام، يراوغني، ويخرج لسانه شامتًا بي وبما صار إليه حالي كأنما هو يقول لي: أنت لا تستطيع أن تلمسني. الغريب العجيب أنه يلوح مثل شعاع غريب في النهار وما اقترب منه، حتى يخرج لسانه ويختفي، سحرني ابن الحرام. جعل من نفسه شعاعًا لا ينتهي في لحظات تعاستي وحزني. جربت كل الطرق للوصول إليه، لم أفلح، حاولت وحاولت، لكن المحاولة باءت بالخيبة. قلت له تعال عندي لك بحار من الفرح والنشوة، وآفاق لا محدودة من الأحلام اللامتناهية، ولم يستجب، بقي يقفز من مكان لآخر، دون أن يقترب. قلت له: - تعال. فقال: - خذني. أنا بين يديك. حاولت لمسه، فلم أنجح. شربت الكأس الأولى، والثانية، والثالثة، لاحظت أنه يقترب مني كلما شعر بي منتشيًا. أفرغت زجاجات الخمرة جميعها. لم يبق في الحانة شيء أشربه. نظرت في المرآة فرأيتني أعود شابًا. بحثت عن كأس أخرى أدفئ ظمأ الروح. بحثت في كل مكان عن كأس أخرى، وفجأة ظهر في أقصى الحانة، كان يحمل بيده زجاجة عسلية، تناولتها منه بحنو، شربت وشربت. كانت كلما أشرب منها تمتلئ. قدمت له، للقنفذ، كأسًا فشربها بكرعة واحدة. بعد ذلك أخذت أقدم له الكأس وهو أيضًا. لامس كل منا الآخر دون أن يخاف. دون أن يختفي. أنا أشرب وهو يشرب والزجاجة لا تفرغ. ودبت فينا النشوة، قلت: -أريد أن أرى الدنيا. قال: -ومن منعك؟ قلت: -أنت. قال باستغراب: -أنا؟ قلت: -أنت من حرمني النوم. قال: -أنا لم أقصد أن أضايقك. أردت فقط أن أكون شعاعًا من فرح كهولتك. ذكّرني بما أنا فيه، فوضعت رأسي بين يدي. وقررت أمرًا. قلت: -أريد أن أذهب إلى رأس الجبل. قال: -هذه الليلة أنا معك حتى الفجر. لم أعر كلماته الملغوزة أهمية.ومضيت.في رأس الجبل.عندنا.إلى الزجاجة العسلية،امتلأنا خمرا.عند وصولنا اخذ يقدم لى الكأس تلو الأخرى،وأنا أيضًا.وبعد لحظات اكتشفت أنني اشرب من كأسه،وهو من كأسي،بالضبط مثلما يفعل العشاق.في ساعات الليل المتأخرة خطرت لي خاطرة.فلماذا لا أنتقم منه،واشفي غليلي؟! الآن جاء حَبه إلى طاحونتي،سأريه من أنا.ومن هو.سألقنه درسًا عن حكمة الكهول وطيش الشباب.سأجعله يندم على كل لحظة اختفى بها،وتركني وحيدًا. واقترحت عليه أن يخلع كل منا ثيابه.الغريب أنه وافق،وابتدرني قائلا: -ها أنذا خلعت ملابسي.والآن ماذا تريد ؟ قلت: -أريد أن أتحداك.أنت تحديتني بما فيه الكفاية،ولن اسمح لك أكثر.إما أنا وإما أنت. قال: -كيف سيكون التحدي؟ واقترح قبل أن افتح فمي،وتفوح منه رائحة الخمرة،أن يرفع أحدنا الآخر.والذي يرفع مرات أكثر يكسب التحدي،ويكون له ما يريد ورهن إشارة الآخر.في اللحظة الأخيرة،قبل أن أقترب منه،أدركت ما أراد أن يفعله بكهولتي،فوقفت مفكرًا.وقلت بسرعة: -أنا أقبل التحدي.لكن ليس بعدد المرات،إنما بالقدرة على الرفع ، ومن يرفع الآخر إلى الأعلى،إلى السماء،يكسب التحدي. وبسرعة لم أكن أتوقعها وافق.كان على استعداد لتقبل كل ما اطرحه عليه.ثقته بنفسه،شبابه،كانت أكبر من أن يتراجع.ولذا أقدم.قال ساخرًا: -بإمكانك أن تبدأ. اقتربت منه.رزته.من أين بإمكاني أن أرفعه.وبكل ما لدي من سنوات مختزنة.وأحلام مكبوتة،وضعت يدي حول خضره،ورفعته إلى أعلى.وأعلى.فأعلى.ولامس جسمه كبد السماء.رفعته ورفعته،حتى لم يعد بإمكاني رؤيته.اختفى جسده بين الغيوم السابحة بالفضاء،وهمى مطر أغرق جسدي بلزوجة ممزوجة بالحلم،بتحقيق الذات،بإمساك لحظة فارة. ومرت الأيام،وأنا أرفعه،وهو يسبح بملكوته المفتوحة على الأبدية.مر اليوم الأول.والثاني والثالث.طلب مني أن أنزله.فأنزلته.لكنه لم ينزل على الأرض وإنما على جسدي.استرخى فوق جسدي العاري ونمنا معًا.عندما أفقت.سألته ما إذا أراد أن يعرفني .فهز رأسه بالنفي.وعدت أساله.وأخذ يجيبني بهزة من رأسه.مشيرًا إلى نفيه... قلت منتشيًا: -كان بإمكاني أن أرفعك عشر مرات. قال وهو يفتح عينيه لأول مرة منذ أيام: -مرة واحدة،مثل تلك،تكفي. آنذاك،فقط،أدركت تمام الإدراك أنه أصبح رهن الإشارة.فقد كسبت التحدي. ======================================== *الكاتب ناجي ظاهر: ولد سنة 1951 في الناصرة، وهو من أسرة نزحت من قرية (سيرين)... شارك في تحرير بعض الصحف في الجليل، وهو متفرغ للكتابة... له مجموعتان شعريتان ومجموعات قصصية عديدة نذكر منها: درس نورا، الزهرة اليابسة، بحجم سماء المدينة ، حدث في ذلك الشتاء، وقصتنا المدروسة من مجموعة (درس نورا). لقراءة الدراسة حولها (قراءة نقدية لقصة جسد بين الغيوم) |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:33 pm | |
| فلسطين لفلسطين بقلم الكاتب: د. أسد محمد أولاد العثرة كبروا ، ومقابر النوح جاهزة ، اليتامى ، زرعوا الصفحات خطوات ، وشبابيك الخريف تفتح لدخول الربيع إلى غرف المدارس علانية ، الحارس نائم ، والخيمة وطن وبسملة ، طقوس تتبدل ، وأجنحة للعيون اُستكملت، صباح الخير صباح الخير *** زمن في منارة الاعتراف ، والأنين يفصح عن أمجاد موزعة على الضفاف الأخرى ، نزل برج الضوء ليكون ترابا ، وليكون في الدعاء قرى متناثرة على بطاح الأمل ، فلسطين انتهت من ترتيل أسفار الجروح ، وزرعتها الأيام في سنيِّها أبجدية ، الوداع توقف عن الرحيل ، الرحيل ينبت ثغورا في تراب النظرات ، عائدون: حيث الوطن في قرنفلة ، والقرنفلة التي قطفت ، نبتت في عطرها ، وبقايا العطش أغرقه العطش بماء الرجوع ، والانتظار ، عاد من الانتظار ليلقي التحية على وطن اسمه : فلسطين. *** أمها الأرض ، وأمها السماء، وأمها أبوها ، وأبوها – هي أبو نفسها ونفسها من مطر ، وعطر ، ومدار .. قلبها رجع نهار إلى نهار ، وبداية في البداية ... قرابتها : كلمات من كلمات لا تولد من حروف ، ولا من نسق .. وعائلتها : البراري ، المراعي ، الشموع .. كل الذين لم يولدوا من رحم ، وكل الذين ينتظرون الميلاد ، وكلُّ مَن ليس له أماً ، وكلُّ مَنْ ليس له أباً ، أما مَنْ .. يقامرُ ، ويغامرُ و ويعرضُ مائدةً للجياع وللقديسين للبيع ، فهو طي هواه .. من يتجرأ على اعتراض وجودها وهو عابر ظل ، من يسأل ، ولا يتساءل عن المصير ، ركبته الحماقة ، فمثيلاتها قديسات ، لا يرهبهن خوف اعتلى ظهر الخائفين ، ولا شجب أدمى حناجر المتسولين ، ليس من ظهر ، أو من نظرة ، أو رغبة ، من يعرضها في سوق النخاسين ، ويقف إلى جانبها كسلعة خيش ، كل ما في الأمر ، اختبار : هي خارج الاختبارات خارج المتاهات ، واكتمل رونقها ، والراغبون في شرائها جُهّل ، اختبار لمن تسول له نفسه ، اختبار لمن يقبل أن يقف في سوق العرض ، ويكشف أنه ليس من رحم ، وليس أقل من ابن فراغ ، وتجرأ على وضع ابنة السماء على طاولة التفاوض : 9528قبل الميلاد- 1948 - 1968- - 2001- 2025- 30052بعد الميلاد .. أي زمن كان ، أو سيكون ، أي وقت كانت فيه الخلائق أو ستكون ، ابنة السماء ليست للبيع ، هي ابتاعت نفسها ، وانتهى الأمر ، واشترت نفسها ، لنفسها ، وانتهى الأمر ، فلسطين لفلسطين ، فلسطين لزيتونها ، وزيتون فلسطين لفلسطين ، وفلسطين لنجومها ، لبحرها لنقبها ، لعكا لحيفا لرام الله لغزة لموسكو لواشنطن لباريس لجوهانسبرغ لـ........ فلسطين للعالم فمن معه أن يدفع ثمن العالم ، فليدفع ثمن الشمس ، ومن معه أن يدفع ثمن الشمس ، فليدفع ثمن المجرة ، ومن معه أن يدفع ثمن المجرة ، فليبقَ هناك ولا يعود.. فلسطين لفلسطين *** هل سألتَ النجوم كم سعرها ؟ وهل سألتَ القمر كم سعرها ؟ وهل سألتها كم سعرها ؟ هل نظرتَ في عينيها ؟ هل قابلتها ؟ هل تتجرأ أو حتى تقف إلى جانبها في المزاد؟ هل مددت يديك لتدفع ثمن الكعك في الأعياد ؟ ماذا فعلت؟ هل لديك ثمن السؤال ؟ لملم خزيك وارحل .. فلسطين لفلسطين *** أيها الــ.. هل تعرف كم في جسمك خلية ؟ وهل تعرف كم في الفضاء نجمة؟ وهل تعرف كم في المحيطات قطرات ماء؟ عندما تعرف ابق حيث أنت ولا تأتي ، لأنك لست أي أحد ، ولست من يبيع ويشتري ، فلسطين لفلسطين *** إن كنت من الذين يحكم بانقلاب، أو جئت إلى القصر تجرك الكلاب ، أو وصياً من قبل استعمار ، أو مرائيا ، أو مهانا، أو دون ذاكرة ، فلسطين تعلمك: فلسطين لفلسطين . *** قبل الخطوط الحمراء ، بعد حدود الأرض ، في دائرة العاطفة ، في مجال اللانهاية ، بعد خطوط القمع ، وفي قلب ضمير الأم ، تقيم فلسطين في فلسطين ، *** فلسطين لفلسطين : أينما ذهبت ومهما فعلت ، وأي سلاح امتلكتَ : الوشاية ، النووي ، المدمر ، الساحق ، الماحق ... ومهما زينتَ وتزينت وتنكرت وتبرأت ، فلسطين ليست قطاعا من خيانتك ، وليس لها من ضميرك المحنط ، وليس كيسا من هوانك ، ليست لقادم من بعيد أو قريب ، ولا للقادم من الاسيكموا أو الحبشة ، أو لناجٍ من محرقة ، ليست لمغن أو مطرب أو قديس ، فلسطين ملك ترابها ملك زيتونها ملك سماها ملك عنبها وملك الحب . *** بعد حدود الدم ، قبل حدود الأحلام ، في دوائر الشجاعة ، خارج الهم ، في فسحة الأمل ، فلسطين ثابت العدالة ، خارج الأوطان ، والقرارات ، والبيانات ، والرموز ، فلسطين تتكلم بكل اللغات : فلسطين لفلسطين . *** معادلة تحل نفسها بنفسها ، وتكشف أمام العالم أجمع ، أن الحل الوحيد هي مَنْ تعرفه : فلسطين لفلسطين . *** تتحمل الظلم ، تتجاوز ضرب الجلاد ، تدمى ، ولا تصرخ ، تفجع ، وتصبر ، ليتعلم العالم : أن فلسطين لفلسطين . |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:34 pm | |
| يا أحمد العربي بقلم الكاتب: أحمد يعقوب كنت المصباح وكنا في الصبّ فراشة درنا وندور !! على نَوْلِ النور نحلج خيط رداء في وطنٍ مصطكٍ الأسنان ? كنت الجذوة وكنا بعض رماد وبنشوة صوفي نتجلى خيلاً من جمر يصعد صهوتنا الإعصار كنت الريح وكنا فيك طواحين يباب في إسطرلاب اللقلق درنا وندور نذري الصخر ثريداً في وطن صدئت أمعاؤه كنت وكنا كانت كينونة تكوين كائنة في كينونة تكوين أو لا تكوين هل كنت النوى ? فكنا تيجان الهوا نطبق فيك بثورة أن مسك الندى من نخَّل دمع الروح ..? كي تثقل أجنحة فراشة ?! وفراشات تتأرصف وتأرصفنا حتى عدنا "فسيفساء" غبار كنت الغابة وكنا فيك أيائل متعبةٍ من هشم أقداح العطشى ?! وأباح نبيذ الروح لمواسير المدن ? كيف تذوب على الموشور الصارخ أقواس قزح ? ما هكذا يُفتت الماس !! ما عاد الماس المتضور نوراً يتفتت ويُنثر كالآس بـ "درب الجلجلة" إيه بلادي : ظلي الآن يعلق في ظله الماء تثاءب وقال كفى للموج فوق حبال صوتية ستنشر عملتنا الناسكة عملتنا : بعض وسائد من قلق لنعاس صار عتيقاً يا أحمد العربي : أشكوك لحيوان الكنغر وسأشكو لبلادي صومَ بلاد ... |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:38 pm | |
| في انتظار بربارون بقلم الكاتب: أحمد يعقوب (وقائع وسيرة) الإهداء: إلى حسين جميل البرغوثي... طبعا I سيجارة أخيرة هي ما تبقى في علبة السجائر. لا أذكر إن كان هناك فيلم سينمائي بعنوان "الرصاصة التي بقيت في الجيب" .. أو: الدينار الأخير في البيت !! لكنني, أعرف ذاك السؤال : ماذا بعد الأشياء الأخيرة !! انظر إلى زوجتي2، وهي تنظر إلى علبة السجائر، تبتسم وتقول لي: " دخنّها لا عليك بي". وأتساءل:لماذا "يعتبر الناس المرآة عميقة ? أ لأنهم لا يلمسون العمق لديها أبداً ؟" . لا أذكر من قال:" حتى تنتصر خارجياً عليك أن تنتصر على دواخلك أولاً ". وأحاول تذكر اسم أحد أبناء الخلفاء العباسيين ،أحدهم كان مولعاً "برمّ" التراب، وقد أحضر والده الخليفة كلّ أطباء الخلافة علّهم يبرؤوه من "المتعة القاتلة" ولم يفلحوا. لكن شاعراً قال له :" أين منك همة الرجال "؟ .. وبعد مدة ،عندما، رأى من كان مريضاً الشاعر قال له:"روضت نفسي ولو أمرتها أن تمتنع عن الهواء لفعلت". أنا أيضاً أستطيع محاربة أهوائي و متعاتي و عاداتي وغرائزي, لكن بشرطٍ واحد : أن أقرر أنا ذلك ، لا أن يقرر لي ذلك أحد ، ولا أنفذ ذلك تحت وطأة ظروف لست أنا من يتحكم بها .. ربما كان هيغل من قال:" لم يتحقق أي شيء كبير دون أهواء ".. ولا أذكر إن كان نيتشة هو الذي قال: "الذي لا يعرف كيف يوظف إرادته في الأشياء فليضفِ عليها معنى ما على الأقل.. فذلك يوهم بأن فيها إرادة مسبقاً " ...ماذا سأفعل كاستباقٍ لما قد يأتي ؟. أنا الذي يأسرني " مالك الحزين " أو قل: طائر اللقلق !!و لهذا الطير خاصيته الاستشعارية تجاه الرياح ..فهو يستشعر قدوم العاصفة, وفي الحال يستكشف منطقة لا تمسها العاصفة ، فيبني عشاً جديداً, ويبدأ بنقل أفراخه إليه, فتمر العاصفة دون أن تدمر عش اللقلق. فكيف لي أن أقاوم الحزن والقهر ؟!. في بيتونيا إلى الجنوب من رام الله، حيث سكنت في "شقة أقرب إلى السماء" ، وعندما كانت التطورات تشير إلى إنهم سيحتلون بيتونيا ، فلقد فرحت لذهاب زوجتي إلى غزة كي تنجب وليدنا، الأول بين أهلها,وإن كان ذلك طبيعيا, فإن الأمر الأهم بالنسبة لي هو أنها لن تراني إن هم أذلوني أو ساقوني كعبد.عندها كنت أسآئلني: هل سأقول لهم "خذاني فجرّاني ببردي إليكما فقد كان قبل اليوم صعبا قياديا"! أنهضُ, صامتاً, أحاول إظهار توازني وقوة إرادتي, بل وكبريائي أمام زوجتي. لهذا تركت السيجارة في مكانها وذهبت باتجاه الشرفة. لقد اعتدت أن أقول للبحر: سلاماً أيها الأزرق. لكنني أراه الآن باهت اللون. كل ما يبدو لي هو لون يمتزج فيه الرمادي المطفأ بالأزرق المطفأ أيضاً. ليست عيوني هي التي تراه هكذا، وليست السيجارة الأخيرة وما بعدها، ما يجعلاني أرى البحر هكذا.. هل أصيب البحر بالقلق أيضاً !! أذكر أنه في تحليل النفس السريري لفرويد يُسأل المريض عن البحر:صف البحر!! ماذا يعني لك البحر؟ هل تجيد السباحة؟إلى أي مدى تسبح ? في الأعماق أم على الشاطئ فقط ?. على هذه الأسئلة يجيب اللاوعي عن موقف المريض من الحياة ورؤيته لها. "هل تسممت حياتي"!! لماذا "روحي توجعني"؟؟ للسماء أيضاً ألوان تبعث على الكآبة. ثمة غيوم تسبح بين الأبيض المتسخ والرمادي المستهلك والأسود المطفأ.. هل أرى قلقي شبحاً يتخفى بين الألوان ما بين البحر والسماء !!? من هذه الشرفة كنت شاهداً على وقائع حية لانقضاض طائرات الـ(أف 16) على الشاطئ الذي أراه على بعد فراسخ قليلة. أكاد أجزم أنني سمعت صرخات بعضهم - المقصوفين- قريباً من فندق ماريوت غزة (طور الإنشاء) شاهدت سيارات الإسعاف تصل إلى المكان. لكنني لم أتمكن من متابعة المشهد, وكان مشهداً يوحي بالسيادة المطلقة. الطائرات أغارت ثانية في اللحظة التي بدأ فيها رجال الإسعاف مهامهم. وقبل أسبوع من تلك الغارة العربيدة ، وفي عين المكان (كما يقول التوانسة) لم يكن الصيادون قد أناروا قناديلهم ، كان فجراً, وكان ذلك نذير شؤم . أصوات زنين مزعج كانت تملأ الفضاء, خلتها للطائرة "الزنانة" كما يسميها أطفال غزة , وهي ذاتها التي أطلق عليها أطفال لبنان "أم كامل" .لكنها كانت أصوات الزوارق الحربية التي يسميها الإسرائيليون "الدبور" !! "دبور" و"زنانة" !! قصفت "الدبابير" قريباً من الفندق طور الإنشاء. وكنت أعدّ عدد الإطلاقات منذ لحظة خروجها من فوهات المدافع ، حتى لحظة انفجارها قريباً من ماريوت غزة, الذي ربما تسكنه الأشباح فقط . كل انفجار كانت ترافقه صيحات أطفال جيراني، كانت صيحات ممزوجة بالهلع وبالنشيج. لا أدري إن كانت السيجارة الأخيرة تجعلني أسمع الآن الصرخات تلك ! وكذلك أصوات سيارات الإسعاف التي تعرضت للقصف أيضاً. الآن، تقتحم مخيلتي مناظر جنود وكأنهم يأتون من البحر ..ويعودون بشباب الحي مقيدي الأيدي ومعصوبي العيون كأنهم عبيد !! (شيء خفي يطالبني بإعادة قراءة سبارتاكوس وعنترة) عند ذلك كيف سيكون منظري أمام زوجتي ?!! وكيف سأظهر توازني وكبريائي !! أغلقُ النافذة كما أغلق ديوان شعر لا شعر فيه, وأجلس أرضاً كالذي ركلته تلك الصور. كانت نظرات زوجتي ترافق حركتي وها هي الآن توجه نظراتها إلى علبة السجائر, كأنها توحي وتومئ لي بأن أدخن السيجارة الأخيرة, هل حقاً تكون المرأة الملاك والشيطان في آنٍ واحد ?! اللعنة !! اللعنة أين أنت أيتها الطمأنينة الآن ?! حقا ما يقوله حسين، في "ذاكرة عادية في زمن غير عادي ": "الاحتلال يترك إحساساً بالعجز والتوتر" ... ربما لهذا السبب انتحر خليل حاوي3, و ربما لهذا السبب أيضا احتفظ محمود درويش بمسدس عندما رفض الخروج من بيروت 1982 أنظر إلى البحر.. وأبتسم .. أطرد تهيؤاتي عن الجنود.. وأتوهم خضير ميري4 يرسو في مركبٍ فينيقي ..تحمل اسم "آتيه" إله الجنون ومعه كل فلاسفة التاريخ وعظام المجانين .. وأراه بلحيته من السرخسيات وشعر من المرجان..في يده اليمنى "الجنون عند نيتشة5" ..وفي اليسرى "صحراء بوذا6" ..وعلى صدره يافطة تقول: "الفكر المشتت7" !! أذهب إلى مكتبتي لأبحث عن خضير ميري، أو "معدان" 8 وارد بدر سالم. أنظر إلى كتبي القليلة.. وأحنّ إلى مكتباتي التي تركتها أينما حللت.، قال لي مهيب البرغوثي9 : " إن درزياً كان مع الجنود الذين اقتحموا شقته على "روف رام الله" .. وانتقى " أمهات الكتب"..!! هل افتدى مهيب حياته بالكتب ؟أم بحكمة الجنون ؟أم بجنون الحكمة ؟ أقلب قنوات التلفزيون كأنني أبحث عن قناة تقول خبراً درامياً ..يحل عقدة هذه التراجيديا التي ربما هي عصية على "اسخلوس" المؤلف الخالد للتراجيديات الإغريقية. الأمر هنا لم يعد بيد "أفروديت" ..ولا "زيوس" ..ولا "أبولون" أو أي من تلك الألهة بما في ذلك "آتيه" . الأمر هنا متعلق "ببروميثيوس" آخر سلب المعرفة والأفكار والحكمة, وقدم نار الحرب.. اقلب قنوات التلفزيون أبحث عن أي شيء... ثمة مسرحية كوميدية ..فأقلب ..فيلم مصري ممجوج !!فأقلب.. أغنية من أغنيات الموضة المتشابهة في كل شيء حتى بأصوات المغنيين!! أخرج من القنوات الفضائية إلى المحلية.. تلفزيون الأمل الذي يبث من الخليل يعرض مشهد الجنود الإسرائيليين وهم يجرّون فلسطينياً في شوارع المدينة.. تلفزيون النورس يعرض مشهد المواطن الخليلي الذي أصابه الجنود في رجله.. وأبقوه في الشارع يلوح برجله التي "انقصفت رقبتها "؟؟ التلفزيون الفلسطيني الرسمي يقدم نشرة الأخبار وهي مليئة بالمشاهد الكارثية.. التلفزيون الإسرائيلي في إحدى قنواته يقدم حواراً مع ملتحين يضعون ( الكبّة ) على الرؤوس. أقلب.. في القناة الثانية ثمة دعايات إعلانية تقدم مزيجاً من الفنتازيا الممزوجة بالشبق, و سرعان ما تطل المذيعة ذات الوجه الطفو لي تتحدث بغنج خفي ودلع واضح, في صوتها رنة موسيقية تزيدها رقة وشفافة , شيء ما يشبه صناعة البهجة المزعومة للتأثير في المتلقي في حالات عدم الرضى الشعبي في الحروب .أشعر أنها تنظر إلى المشاهد بعينين ساحرتين وكأنها تراوده عن نفسه . تنتقل الكاميرا إلى أعداد كبيرة من الجنود والمجندات فأفهم أنه برنامج ترفيهي للجيش !! يصفق الجنود الحضور ويهتفون مبتسمين .. وأتساءل هل أحد هؤلاء الجنود هو من أطلق الرصاص عليّ؟؟ وهل هؤلاء الجنود هم الذين يقتلون ويدمرون ويستبيحون كلّ شيء ؟!! هل هم من يقتحمون البيوت الفلسطينية ويملؤنها بالرعب! والسحل! والاعتقال! والتيتيم! والثكل !! إنهم يبتسمون !! ويغنون !! ويتمايلون!! تظهر الكاميرا وجوه المجندات الجميلات جداً.. شيء ما يشبه نجوم هوليود . أذكر أنه في العهد القديم عند الحديث عن الحرب المقدسة ثمة وصايا للمحاربين اليهود , أذكر منها : "أنه إذا بنى أحدكم بيتاً جديداً ولم يدشّنه فليرجع إلى بيته لئلا يموت في الحرب فيدشّنه سواه, وإذا غرس أحدكم كرماً ولم يقطف ثمره فليرجع إلى بيته لئلا يموت في الحرب فيقطف ثمره سواه. وأي واحد منكم خطب امرأة ولم يتزوجها , فليرجع إلى بيته لئلا يموت في الحرب فيتزوجها رجل آخر "...وأتساءل كيف يخوضون هذه الحرب القذرة ? فأتذكر أنهم لا يبنون!! ولا يزرعون!! وقد تركوا ذلك لـ"العبيد الكنعانيين ".. في الحال يدخل "موفاز"10 إلى الاستديو الطبيعي.. فتتعالى الهتافات والتصفيق ..ويزداد صوت المذيعة شبقاً وهو يتداخل مع موسيقى خاصة .. شيء ما يذكر بموسيقى فاغنر والأنوار الكشافة المركزة على الزعيم .. حيث المشية البطيئة للفوهرر باتجاه المنبر وسيل كلامه العنيف والموقع .. وهي تنمي وتمجد الهذيان الجماعي للحضور !! يتبادل "موفاز" القبل مع المذيعة التي تكشف عن عري ظهرها ، تبدأ الحديث مع موفاز ، التقط بعض الكلمات العبرية ذات الأصل العربي واللاتيني, لا أذكر إن كان الحاخام "ابن ميمون الأندلسي" هو الذي وضع قواعد اللغة العبرية وفق قواعد اللغة العربية.. اسمع "موفاز" يقول : "ملخماة نيكد تيرور " فأفهم ملخماة من ملحمة أي: لحم /حرب/تلحيم.. وأظن " نيكد" من negation بمعنى نفي أو ضد ..ولا أدري لماذا تذكرني بالنكد !! ألأن كلاهما تضاد!! ولأن تيررور واضحة المصدر من terrorism فأفهم أنه يتحدث عن تلحيم الإرهاب.. ويقول أيضاً فغوا .. فأعتقد أنه يقول فقع / انفجر.. فأظن أنه يتحدث عن العمليات . يتجه نحو جنده الحضور بالكلام .الأمر الذي يجعلهم يهيجون ويرفعون قبضاتهم ويصرخون فتخلو وجوههم من كل العلامات التي كانت تعلوهم في بداية البرنامج .. لا أدري لماذا تخيلته يتلو عليهم خطبة عن الحرب المقدسة من العهد القديم : " وأما مدن هؤلاء الأمم التي يعطيها الرب إلهكم ملكاً فلا تبقوا أحداً منها حياً بل تحللون إبادتهم وهم الحيثيون والأموريون والكنعانيون كما أمركم الرب" حقاً "إن وحي الحرب هو أخوة الحشد الفوضوي المستسلم إلى المذبحة في نشوة مماثلة للرغبة الجنسية" . ( فان سلون في كتابة المنبوذون) فالنوازع الغرائزية تتخذ صفة مقدسة , وبذلك تحديداً تصبح انفعالية , حينذاك , كل شيء ينحني أمام هذا الخير المطلق , وكل شيء يكون مسموحاً به , الحيلة والكذب والنية السيئة والاغتصاب والنهب والتعذيب , ويظهر شكل جديد من التقدير إزاء الخصم ...لأن الاحتقار إزاء عدو معين يؤدي إلى الازدراء بالكذب عليه.. ويقتصر تبجيل التضليل على الذين يعتبرون مساوين .. لا أدري لماذا أخضع " كلازوفيتز " الحرب للسياسة؟ عند موفاز أرى شغفاً وحيداً ومتعة وحيدة في رياضته "التدمير الحقيقي" .. أظنه يقول:" الحرب هي صحة الدولة .. الاكتفاء الذاتي .. التخطيط .. هي صحة الاقتصاد .. فالإنتاج العالي الوتيرة يجب أن يعتمد في نجاحه على التدمير العالي الوتيرة "!! ثمة من يعتبر الحرب مثل العيد أو الكرنفال ..ويبرر ذلك بأن الدولة تؤكد نفسها وتبررها وتمجدها عبر مجابهتها لكلية أخرى ..لذلك فإن الحرب تشبه الكرنفال وتشكل ذروة مساوية له, ويبرر ذلك بأنه عندما لم تكن الدول قد فقدت بنيتها المقدسة ، كانت تعيش على الطقوس السحرية الدينية، لكنها، عندما أصبحت دولة عنصرية باتت محكومة بالقوة والبطش في الحرب التي تضعها في مواجهة الدول الأخرى, وليس في الكرنفالات التي تتطلب المشاركة الجماعية بين الناس والمجموعات.. لو كانت إسرائيل دولة دينية لليهود لفعلت ما تفعله دولة الفاتيكان .. واكتفت بطقوسها . اللعنة!! انقطعت الكهرباء في الشقة ! اللعنة !! قالت زوجتي : "إنه الموعد الروتيني لانقطاع الكهرباء" ... كأنها بذلك تقول لم يقطعوا الكهرباء إيذاناً ببدء الاجتياح، وتشعل شمعة . قدحة النار قدحت رائحة السيجارة في أنفي فأنظر إلى علبة السجائر الزرقاء وقد منحتها ظلال الشمعة توهجاً خاصاً .. أتذكر أن الحرب الحقيقية بالنسبة لزوجتي هي العتمة لأنها مسرح للآخرين: . (The others) المسلسل الأمريكي عن الأشباح والرعب . أنظر إلى السيجارة بحقد .. وأتذكر كم تشاجرت مع خضير ميري كلّما قضى على سجائري بشراهة تدخينه المترافق مع جدالاتنا الطويلة جداً في ليالي "الأيام النحيلة"11 !! أذكر أننا ناقشنا ذلك ..ولا أذكر إن كان "سارتر" أم "ميري" هو القائل: "من خلال التبغ الذي أدخنه كان العالم هو الذي يحترق هو الذي يدخن وهو الذي يتم ابتلاعه كالبخار ليدخل إليّ" . ربما أراد أن يتحدث بذلك عن ردة فعل الامتلاك التدميري للتبغ، والتي ربما كانت تساوي عنده" رمزاً تدميرياً امتلاكياً للعالم بأسره ". في اتصالاتي مع الشاعر الصديق خالد درويش12 وقد وقع عليه حظر التجوال في رام الله/بيتونيا قال لي : "لقد كانوا -(الجنود)- جزءاً من التفكير كيف نؤمن السجائر" لا بأس يا "خضير" أنا الآن بلا سجائر لكنني سأبحث عنك سأقرأ" صحراء بوذا " ثانية وثالثة وألف وأنا اذكر تلك الليلة من العاشرة مساء حتى الرابعة فجرا !! عندما قرأتها لي وهي مخطوطة, "أبو العيون " كيف أسطرت حياتك؟!! وحياتنا هكذا !! أعود إلى الشرفة ... قناديل الصيادين قد بدأت تتماوج كهودج مائي.. شيء ما يعطي انطباعاً بأن الصيادين مطمئنون أو غير آبهين. أحس بالرغبة في أن أكون بينهم.. ليس لأصطاد.. إنما أن أكون مستلقياً على لوح خشبي مثل قوم "المعدان" في أهوار العراق.. تقترب مني زوجتي .. وتقترح عليّ الذهاب إلى بيت أهلها المجاور لنا !! يجبُ استخدام الدرج .. ثمة رياضة قسرية أيضاً !! كنت قد حفظت عدد الدرجات من وإلى الطابق السادس.. وكنت قد تعلمت ذلك من أصدقائي "العميان" .. ومن لاعبي الجودو الذين يقولون : "عندما يفقد البصر أهميته فعليك بالذاكرة " . يا إلهي ماذا حلّ بذاكرتي !! من يعصف بها !! من يحاول غسل دماغي !! لم يعد لي ذاكرة من رقم طينية يا "شوكت الربيعي12"!! عندما كنت صغيراً كنت أظن أنهم يفتحون الرأس ويغسلون الدماغ كما تغسل أمي الصحون !! لكنني فيما بعد عرفت أن تعرض الإنسان إلى ظروف شديدة القسوة وعصية على التحمل الإنساني وفي الوقت ذاته تُقدم له أفكارٌ أخرى نقيضةٌ لأفكاره وهذا هو اختصار لعملية غسل الدماغ ? اللعنة!! يا إلهي من يطبعني !?! أظن أنني قرأت في كتاب العين أو الصحاح أو مختار الصحاح ما يلي : طبع الدابة أي روضّها !! تقول زوجتي إنّ الزهايمر يصيب الذاكرة القريبة !! وأسألها أي مرضٍ يعني بالذاكرة البعيدة !! تقول : ربما أصبت بمرض "لعنة العراق" إثر زياراتك الكثيرة إلى جنوب العراق الذي تعشق . وأقول لها : ليس فقط لعنة العراق إنما لعنة بيروت ولعنة دمشق ولعنة كوبا ولعنة إسبانيا، ولعنة رأس الخيمة ولعنة تونس ولعنة عمان... وأخيراً لعنة حيفا..وعن هذا تدور مخطوطة كتابي "اللعنات". تقول زوجتي : اقصد استخدام اليورانيوم المنضب ونتائجه في العراق وفي البالوع رام الله !! وأقول لها : ربما.. وربما فارقتني ذاكرتي البعيدة عند جسر اللبني بعد مروري تحت نجمة داوود الكبيرة جداً !! ربما نسيتها في زيارتي اليتيمة إلى طيرة حيفا !! هناك حيث قبر جدي تحت الحديقة العامة !! "للذاكرة صفة عملية .. تتم عندما يأتيها المنبه المطلوب" تقول زوجتي وتتابع "إنها مجرد ضغوط" ليس أكثر .. وأقول : ربما ..وأغلق باب الشقة ..ونتجه في العتمة صوب الأدراج . بين أدراج العمارة تحفظ زوجتي أماكن الشقق الفارغة التي لا تزال "على العظم".. فهي بالنسبة لها مأوى "الآخرون".. وأنا أحفظ عدد الدرجات غيباً كي لا أتعثر !! عند باب العمارة ونحن نحاول التقاط لهاثنا قالت زوجتي : "لو لم نكن مدخنين لما تقطعت أنفاسنا" .. أطرد تلك الفكرة عندي .. كي لا تكون تبريراً سفسطائياً لترويضي كما يشاء الآخرون . أريد أن أكون نفسي لا أريد أن أكون كما يبغي الآخر !! أَخْرَجَتْ علبة السجائر ذات السيجارة الوحيدة ومدتها لي، وطبعا قلت لها : دعيها لك ..ونلتقي في بيت أهلك. II كان الظلام يخيّم على هذه المنطقة من غزة ! أنا أسكن في غزة.. لكنني لا أعيشها ! لا أعرفها ! لا أراها !! أعود إلى غزة بعد غيابٍ عنها دام عامين تقريباً قضيتها في رام الله . جئت غزة لأول مرة في حياتي مطلع العام 2000 بعد عودتي إلى ما تيسر من وطن .. آنذاك انشغلت بالركض وراء تأمين وظيفتي .. آنذاك كنت مشغولاً "بالإفلاس وبالمحبة" ما جعلا الشاعر سركون بولص13 "يجنّ ويدخل جمرة" . تزوجت في غزة .. وفي اليوم العشرين لزواجنا ذهبت إلى رام الله .. أسبوع فقط على اندلاع الانتفاضة . ولم أتمكن من العودة إلى غزة . بعد سبعة شهور تمكنت زوجتي من الحضور إلى رام الله ..بعد أن "سافرت" من غزة إلى رفح إلى مصر إلى عمان إلى رام الله.. طبعاً وحدث لها ما يحدث للفلسطينيين من إهانات وإذلال في النومٍ على المعابر وتأخر على الحواجز .ولقد عادت إلى غزة قبل أربعة شهور لتضع وليدنا الأول في رعاية أهلها في الشهر السابع للحمل . أطل الجنين السبعاوي ..عاش سبعة أيام .. ومات في السابعة مساءً ..أسميته نمر على اسم والدي ..والنمر يقترب من السبع!! كان ذلك سبباً كافياً لأجئ إلى غزة ..التي تحتضن في ترابها جنيني .وغزة الآن ليست أكثر من سجن كبير.. حتى البحر الصديق العتيق يتواطأ على هذا السجن.. كأنه جلاد يبكي بصمت . الدكاكين الآن تشعل شموعاً أو قناديل زيتية وبعضهم أنار مصابيح كهربائية . السيارات تطلق "زماميرها" بافتراض من السائق أنه سيقلّني قبل أن يقلني سائق آخر . لم أتمكن من ممارسة المشي بسبب مطاردة السواق "بزماميرهم" ..لهذا أمشي بالاتجاه المعاكس لحركة السير !! لقد جعل الاحتلال حياة المواطن الفلسطيني موثقة إلى الشيكل .. بالشكل الذي فرض عليه أن يقضي حياته في الركض وراء الشيكل . أذكر وأنا أشتري كعكة وزعتر من أحد بائعيها في رام الله ..كيف وقع الشيكل الذي أعطيته إياه .. وتدحرج الشيكل إلى الشارع.. وركض البائع وراءه.. فكادت إحدى السيارات تخطف حياته منه.. لهذا أتمعن طويلاً بالآية القرآنية "فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" ..ربما لهذا السبب قال ماركس : على المرء أن يأكل ويشرب ويلبس ويحتذي (من حذاء) ويأوي تحت سقف قبل أن يبدأ بصنع التاريخ والسياسة !! فبالسوط وبالشيكل أسست إسرائيل استعمارها !! فهل بالسوط وبالشيكل نرد لإسرائيل استعمارها ?!(لا يعجبني استخدام مفردة استعمار لأنها مفردة استشراقية توحي بان الغزاة جاءوا ليعمروا العمران .. افضل استخدام مصطلح كولونيالية) ذهبت إلى الدكان الذي اعتدت أن أشتري منه احتياجاتي. عند دخولي اعتقدت أنني لم أرَ جيداً بسبب العتمة.. لقد أدهشني البائع عندما أشار إلى المكان الذي يضع فيه السجائر .. كان خالياً تماماً ومن كل الأنواع. "مش معقول" قلت له: = لا يوجد سجائر في السوق . أجابني الكثير من الدكاكين في غزة تمتنع عن بيع السجائر على خلفية دينية .. لهذا سألته سؤالاً آخر : إن كانت بعض التنظيمات قد فعلت ذلك تنفيذاً لمقاطعة المنتجات الأمريكية !! لكنه أجاب بالنفي.. فأفسر لنفسي : ربما قام المدخنون بشراء كميات كبيرة من السجائر كتموين للأيام القادمة أو للاجتياح الإسرائيلي القادم . في المحل الثاني كان هناك جمع من الرجال يتجادلون على الطريقة الفلسطينية عن احتمالات أو عدم احتمالات غزو إسرائيلي قادم.. اكتفى البائع بتحريك كف يده اليمنى لي بما يعني "ما فيش" .وعاد يصرخ وهو يقول : " طيب ! الخواجات ما بيكذبوا : لقد قالوا إنهم سيأتون !! شو رأيك يا أستاذ ؟! " لم أجب . تذكرت صراع الخيميائيين على صناعة السم ..وكيف مات أحدهم من سماعه لدقات الهاون كل يوم ، وتذكرت الوهم الذي قتله.. تابعت المسير.. بدأت أقوم بتمارين استرخاء .. أتنفس بعمق مع المشي .. أركز عيني في شيء يشبه النجمة قد بدأ يلمع الآن !! أعتقد أنه ليس نجمة !! ربما كان "قمراً" اصطناعياً .. وذلك لقربه الشديد ولمعانه القوي!! فتبسمت له حتى تظهر صورتي مبتسماً !! أتمشى وأشعر أن دمي يقول لي أنني حرمته من النيكوتين .. ثمة حرقة في العيون وطنين في الآذان .. وجميع المحلات لا يوجد فيها سجائر .في الطريق رأيت أكياساً رملية وُضعت لتكون سواتر وحواجز لمقاومة الاجتياح المفترض.. شيئاً ما يشبه الشراك التي كان يقيمها الهنود الحمر في الأدغال لاصطياد الغازي الأبيض ..الشباب منهمكون "بتضبيط" الساتر !! إنها المقاومة بسلاح الحد الأدنى !! تغزوني الآن مشاهد من الفيلم السينمائي (البؤساء) يحكي عن الثورة الفرنسية وعن المتاريس في الشوارع . ربما كان ماركس من قال عن الذين صنعوا كومونة باريس : إِنهم "هبّوا لاقتحام السماء" . لقد أسماهم بالفوضويين الثوريين.. ولهذا نحت مصطلح "ديكتاتورية". لا أدري لماذا سمّى ماركس أيضا المؤمنين بالحرية المطلقة للفرد بالفوضوية "الأنا ركية" ? فأنا أفهم ديكتاتورية من "ديكتا" التي تعني لي "إملاء". عندما كتبت عن مشهد الصراع اليومي في المدخل الشمالي لمدينة البيرة (البالوع) قلت :إن الشباب أيضاً "هبّوا لاقتحام الفضاء" . لأن المشهد أخذني إلى وقائع الصيّاد مع الغزلان أو إلى وقائع مصارعة الثيران !! في أول مرة شاهدت فيها مصارعة ثيران في إِسبانيا وكان المصارع من أصل فلسطيني - أذكر أنه من عائلة قزق- .. وأنا أشاهد المصارعة تقمصت حالة الثور .. لقد كان فيّ الكثير من الهيجان .. والكثير من العناد أو قل الإصرار بلغة الأنسنة ..كان فيّ من القوة ليقال عني "ثور حراثة" . كنت أتأوه كلما طعن الفلسطيني القزق الثور.. وكنت أهيج بين الجمهور.. لكن بهياج آخر عنهم .. ربما كنت الوحيد المؤيد لفريق الثور !! لا أدري لماذا رأيت الإسرائيلي في دور المصارع وأنا الفلسطيني في حالة الثور ؟؟ كانت جدتي المفتونة بحكايات "كليلة ودمنة" - كافتتانها بسيرة بني هلال وعنترة والزير السالم- وكانت تحفظهما كأي حكواتي من عصر العصملي رغم أنها كانت تحمل ختماً تدمغ فيه شهادات الولادة التي تمنحها للأطفال الذين تسحبهم إلى الحياة بوصفها قابلة / داية . كانت تقول لي وراء كل هيجاناتي الثورية (من ثور) : "فلسطين راحت بالسياسة يا ستي". ولطالما طالبتني باتخاذ الذكاء عن الثعلب والصبر والتحمل من الحمار والعناد من الثور والشجاعة من الأسد . عندها في نهاية أيلول 1982 وكنت عائداً "كسيراً حسيراً ظمي" من لبنان ثم دمشق إلى كوبا مروراً بمدريد عندها فكرت بطريقة تشكل فيّ حيواناً جديداً فيه من الأسد والثعلب والحمار والثور، وإلى الآن لا أزال أحاول تشكيله لأن اللقلق قد أسرني.. اللعنة !! لا يمكن لنقص النيكوتين في دمي أن يجعلني أفكر بطريقة حيوانية . اللعنة !! آه لقد تذكرت ! إنها الحرب III اللعنة !! الذاكرة !! الحرب!! الحرب تشكل حالة استيقاظ للغرائز للحيوانية ودون كوابح ربما في شكلها الأكثر بدائية والأكثر فظاظة !! النوازع الغريزية ـ وربما ـ تتخذ صفة "مقدسة" ولذلك تصبح انفعالية ، فالحرب تفتن وترهب والغرائز التي تستثيرها يبدوا أنها تحوم حول الإنسان مثل سلطة مجهولة، فكلما كانت الحرب أكثر إجرامية، كلما اتخذت الغرائز التي تكشفها -الحرب- صفات غير إنسانية وقاتلة. إنها" الغريزة التي تنحط وتنقلب ضد الحياة بحقد جوفي" أجدني الآن عند تقاطع شارع النصر، شارع عمر المختار لقد قطعت مسافة طويلة جدا !! في هذه الأجواء "الاستنفارية" !! أجواء تشبه إلى حدٍ كبير الليلة الأخيرة من المهلة التي منحها جورج بوش للعراق قبل الحرب 1991 . كنت آنذاك عائداً من زيارة الفنان الكويتي مسافر عبد الكريم الذي قرر في تلك الليلة أن يرجع إلى الكويت حتى ولو مات هناك وهذا بالضبط ما لاقاه . كانت بغداد المدينة كعادتها تماماً تمارس حياتها الليلية.. ضجيجها , أنوارها, محلات بيع اللحمة المشوية, البارات التي تضاعفت آلاف المرات منذ أن أحصاها التوحيدي، وكذلك حزنها العتيق الباطن والظاهر. كل شيء على حاله, بل, ربما كان له بريق آخر . السائق كان صامتاً لا يتحدث ربما كان يخشاني كما أخشاه أنا كنت أتأمل المدينة كالذي كان في غيبوبة واستفقت على سؤال السائق لي :" شنو " ( أي ماذا ) = " شاكو " أجبته ( وأيضا تعني ماذا ) قال : كأنني سمعتك تقول "مش معقول كأن شيئاً لن يحدث غداً " عندها كانت كلمات الشاعر خيري منصور14 تجول في رأسي من ذلك النقاش الذي خضناه في مكتب سميح سمارة15 في مقر سفارة فلسطين في بغداد . كان سميح يعتقد أنَّ الحرب لن تقوم لأنها بالنسبة له قد خيضت إعلامياً وسياسياً وعلى سبيل النكتة قال خيري منصور إنّ يوم 16/1/1991 لن يأتي لأننا منذ 31/12 بدأنا نعدّ الأيام بـ 32/12 ... 33/12 ... 34/12 ........... السائق ينطلق بالحديث وقال لا تغرنك اللا أبالية هذه، لقد أَمَّن غالبية سكان بغداد مآوى لهم في ريف بغداد ولقد ملؤوها بالتموين .. وأخذ يتحدث بحرقة ويضرب على مقود السيارة بقبضته "إنّ هذه الشوارع الجميلة سوف تدمر وهذه المساكن وهذه الجسور" - وكنا نصعد الجسر المعلق- وبدأ السائق يبكي كما يفعل غيلان الشاعر عندما يهيج بحب العراق والعراقيين !! ويبدأ يهزج : " هذا بيتنا ونلعب فيه شلها غرظ بينا الناس "* في الصباح اكتشفت صحة ما قاله السائق . غيلان الذي لم نفترق إلاّ في ساعات نوم ما تبقى من ليل. كان قد أمن مأوى لزوجته الكردية الرسامة في شمال العراق وعاد في اليوم الثاني , والشاعر عمر رشراش قد ذهب مع عائلته وعائلات فلسطينية أخرى إلى منطقة تسمى (طوزخورماتو) يسكنها غالبية من التركمان والمسيحيين العراقيين . كان (الفيلسوف) خضير ميري لا يزال في مشفى المجانين , والشاعر حسن النواب قد التحق كسائق دبابة في البصرة ولم أعرف شيئاً عن الشاعر خليل الأسدي لم أقلق كثيراً على جان دمو الذي أمعن في تقمص القط. فكلما وجدوه نائماً على أعشاب الحدائق العامة كان يقول لهم: "اعتبروني قطة نائمة". ولم أكن قلقاً أيضاً على ضياء سالم والشاعر نصيف الناصري الذين أمعنا في الفرار من الجيش. لكنني كنت قلقاً على المخرج المسرحي ناجي عبد الأمير وأين سيكون مأواه ? كنت قد استفسرت الدكتور عوني كرومي عنه عندما حضر إلى موعدنا صباح 16/1/1991 كي نرتب فيلماً سينمائياً عن فلسطين . بعد يومين على بدء الحرب عاد الذين خرجوا من بغداد إليها بعد أن اكتشفوا أنه لا يوجد مكاناً آمناً لا تطاله الحرب !! إحدى العائلات الفلسطينية التي كانت تسكن قريبا من ملجأ العامرية, قررت الرحيل إلى عمان. لكنهم لم يتمكنوا من عبور الحدود. حكاية وثيقة السفر الفلسطينية.. عادوا إلى الملجأ في الليلة نفسها التي حدثت الكارثة.. IV أجد الآن صديقا قديما عرفته في بيروت ,كان محاربا ثوريا يسمي نفسه (غيفارا),الآن يطلق لحيته واتخذ له لقب "الغيفاري" فلقد اصبح اقرب إلى الصوفيين منه إلى السياسيين ..أفكر بالذي ينجو من ميتات محتمة,فإما ينحى اتجاه التصوف ومجاهدة النفس وأهوائها, أو يزداد تعلقا بمتع الدنيا. تعانقنا بما يليق بالأصدقاء ,كان يبحث عن سجائر أيضا. بدأنا نتمشى ووجدنا أنفسنا نتحادث في دائرة الهموم ذاتها .وبوصفه ضابطا قياديا سابقا ,كانت تسكنه حسرة خاصة ربما كانت حسرة الضابط الذي لا قوة له أمام عربدة الجيش الإسرائيلي وقال : "لقد فجرت عبوة ناسفة في غزة الدبابة الأكثر تطوراً في العالم. لكن !! هل كانت تلك العبوة هي اليتيمة ?! وهل الذي فعلها احتكر ذلك لنفسه !! فأتساءل مع نفسي: من أين يأتي الإحساس بالتوتر ? أو الإحساس بالارتباك !! هل يأتي من وحشية استباحة الجيش الإسرائيلي للإنسان قبل الأرض أم أنه يأتي من الهوة التكنولوجية بين الهندي الأحمر والغازي الأبيض ? وأساله:"كيف شايفها"? فيقول: لم نتخلص بعد من "روح العبودية" وعاداتها وأخلاقها ? فأقول له كيف؟ يقول ألم تقرأ نيتشة أبو السوبرمان؟ قلت ماذا بالتحديد؟ قال:أخلاق العبيد في أساسها أخلاق منفعة. وفي أخلاق العبيد ينظر إلى الإنسان الخّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّيّر نظرة فيها لون من الاستخفاف. وحينما تسود أخلاق العبيد تصبح كلمة طيب مرادف للأبله. ويصدر ذلك عن نية حسنة.. الخيّر في طريقة تفكير العبيد هو ذلك الشخص المأمون الجانب, ففيه طيبة وغفلة, وربما قدر من البله, إنه الرجل المغفل ". .فإذا تصورنا أن المغلوبين على أمورهم والمظلومين والمعذبين والمقيدين وغير الواثقين من أنفسهم والذين يحسون بالعناء من أنفسهم إذا تصورنا أن هؤلاء قد وضعوا نظاماً أخلاقياً !!فعلى أي نحو يكون العنصر المشترك بين تقييماتهم الأخلاقية؟؟ الأغلب أنهم سوف يعبّرون عن تحد متشائم لموقف الإنسان بوجه عام ..وربما حملوا على الإنسان ذاته في حملتهم على موقفه .لهذا يلقى ضوء ساطع على كل الصفات التي تصلح لتخفيف أعباء الحياة عن عاتق المعذبين. فتمجد الشفقة واليد المعينة المنقذة والقلب الرؤوف والصبر والجد والتواضع والتزلف ... وأخذ يسال وهو محتد: "هل نحتاج لمن يقول لنا كر فأنت حر" !! أم نبقى نردد وين الملايين نفوساً وفلوساً وننتظرهم وفي ذلك إتكالية ما "? ويصرخ بصوت عال إلى درجة أنه اسمع كلّ من كان في الشارع : "ما هذه الما فوق الليبرالية والتشوهات التي خلقها وخلّفها الاحتلال !! هل تتوافق الحرب مع الليبرالية "?! أهدّىء من روعه, لكنه وبعصبية أقل يتساءل: أليس حريّ بالذي يقف وراء عمليات المقاومة أن يقوم بمواجهة رد فعل الآخر ولو بالحد الأدنى؟! :"هدأ من روعك يا رجل".. أقولها له وكأنني بذلك أشعلت نيران غضبه فثار وهو يقول:" أحدهم قال لي إن الذين يصفحون المدرعات والآليات الإسرائيلية هم عمال فلسطينيون يعملون في إيرز" ..اللعنةٍ هل عدم التدخين يغذي الأجواء هذه ! اللعنة !! سأطرد هذه الفكرة الأخيرة إنها محاولة تبريرية أخرى !! إنها إذعان لرغبة الآخر وليس لرغبتي .. وأمشي . مع العتمة والزمامير التي تختلط بصياح المؤذن وهو يعلن صلاة العشاء رغم انقطاع الكهرباء !!ذهب صاحبي إلى المسجد .ٍ لقد مضى علي وقت طويل جداً !! من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء دون تدخين !! أجدني الآن في النقطة التي انطلقت منها عند أبراج العودة والتي يسميها الناس " أبراج المقوسي " وأعود بلا سجائر ..لكن بكثير من القلق والحسرة أدخل إلى سوبر ماركت ورغم العتمة التي تبدد منها الشمعة الكثير فلقد ذعرت من حملقته في وجهي, كدت أذعر من ذعره مني وأدهشني صمته وهو يمد يده إلى درج الطاولة ويخرج لي علبة السجائر قائلاً: إنه يحتفظ بها لنفسه .. وقال لي تفضل.. أريد أن أعرف كيف كانت ملامح وجهي ? كيف كان لون وجهي وحجم عيوني وطبيعة نظراتي.. وضعت علبة السجائر في جيبي ورحت أنتقي معلبات سردين فول ,حمص , كيس من الشموع, كيس من العدس, بطاريات صغيرة, وأخرى كبيرة, زجاجة زيت, طبعاً لا يوجد خبز ولا بيرة,, واشتريت زجاجات ماء، دواء للصداع ونارجيلة مع كل توابعها. قال البائع : التجار يصنعون أزمات في الحرب فعلوا ذلك بالطحين والخبز والآن بالسجائر.. "قرصته" بعوضة, وبدأ يحكّ مكانها قلت له :"هكذا هم" !! وطلبت من الرجل أن يحسب قيمة المشتريات ولما فعل : قلت له أضف المبلغ على حساب ديوني إذا سمحت !! وعدت أدراجي لن أصعد إلى الشقة , العتمة لا تزال سيدة الموقف .قررت أن أتمشى ريثما تعود الكهرباء لهذا تركت الأغراض عند حارس العمارة أوصيته بها وانطلقت... V العتمة الآن تجعل المكان مثـل مقبرة.. حقاً إن العتمة هي مسكن التأمل والتخيّل .. وهي مبعث الطمأنينة والهلع من المجهول في آن.. في العتمة تأوي التهيؤات و الإسقاطات النفسية !! ربما كانت العتمة الأولى هي التي خلقت الغولة لأجدادنا, وربما هي التي خلقت العفاريت للنواطير وللعشاق الليليين !! لهذا أرى في العتمة غاراً للحكمة وأغواراً للجنون.. وأتذكر " بروميثيوس " الذي علم الناس سرّ النار .. وكيف أنزل " زيوس " به أقصى العقوبات , وأتذكر العتمة والنور اللتين قامت المانوية عليهما .. وأخيراً أتساءل عن سبب انقطاع التيار الكهربائي هنا في غزة ?! ولماذا بقيت كهرباء فلسطين تحت رحمة شركة الكهرباء الإسرائيلية !! وقع حصان يشد عربة يلفت انتباهي .. أنا أعشق هذا الحيوان الجميل .. وأظن أنه يكاد يتكلم لو كانت له حبال صوتية .. وعندما تمر العربة بجانبي أرى الحصان رغم العتمة.. وأشعر أنه " يتقمّز " مثل "لوّيح " دبكة , لكن وربما بأشعة ما فوق حمراء في عينيه تجعله يشق هذه العتمة وكأنه سيدها !!سائق العربة يبدأ بتجويد القرآن بصوت رائع.. علبة السجائر لا تزال في جيبي .. لم أفتحها بعد, لا يعجبني التدخين وأنا أمشي, أفضل الاستمتاع بفعل التدخين مع فنجان قهوة !! كذلك لا أريد للتدخين أن يعكر عليّ هذه النسمات الشأن البحري في كسر هدوء المقابر . آخذ نفساً عميقاً .. أرفع رأسي.. وأمشي ببطء شديد باتجاه البحر البحر الذي كتبت إليه في بغداد : اشتري علبة سردين " لأشم البحر !! " VI عرفت البحر أول ما عرفته من روايات الأهل, ومن تندرات الآخرين على أبناء بلدة طيرة حيفا , الذين ينسب إليهم أنهم أطلقوا الرصاص على البحر لأنه هاج وماج بينما كان بعضهم يشرب الخمر قريبا من الشاطئ فعكر سكرتهم!!, ويقولون وفق لهجة أهل الطيرة : " قرقع البحر قوّصه "!! سبّحني والدي في بحر اللاذقية وأنا ابن ست سنوات, كان همي الوحيد أن أعود بالبحر إلى أمي , فأخذتُ قنينة من ماء البحر.. وكذلك عدت بأكبر هدية..عدت بكيس مليء بالسلطعونات الصغيرة جدا, وقلت لها: هذا ما تتحسرين عليه منذ إخراجكم من البلاد.. لم تفعل شيئا اكثر من البكاء... أبي وأمي أمضيا حياتهما يتحسران على رائحة البحر !! كانا يقولان يا ريحة البلاد . في زيارتي اليتيمة إلى طيرة حيفا (أيار 2000) عرفت أن للبلاد رائحة حقاً .. وعرفت أنها لا يشمها إلا الذي يحيا غريباً عنها أو غريباً فيها. فذاكرة البلاد في المنفى وطن.. الإسرائيليون الذين يعيدون احتلال المدن الفلسطينية هم أيضاً يتحدثون عن منفى وعن وطن. الإسرائيليون الذين يشهرون سيف داوود , نعم داوود هل يعلمون أنّ داوود كان لاجئا سياسيا عند الفلسطينيين عام(1000)قبل الميلاد,فقد لجأ مع (600) من رجاله خوفاً من أن يهلك على يد شاؤول ." وأقام داوود عند أخيش بن معوك ملك جيت".كما تقول الرواية التوراتية. شيء ما بين الملهاة والمأساة!!لقد كان في قيام الوطن الإسرائيلي في القرن العشرين تحطيما للوطن الفلسطيني المقام منذ أكثر من عشرين قرناً.. وعندما تخلصوا من المنفى أوجدوا مناف للفلسطيني .. وعندما يحطم الفلسطيني منفاه فإنه سيحطم بذلك وطنهم .. شيء ما مثل أنبوب مليء بالهواء إذا تم ملؤه بالماء فإنه سيطرد الهواء, وإذا أعيد إدخال الهواء إليه فإنه سيطرد الماء.!!. اللعنة .. وآية لعنة !!؟ لعنة وطن ؟.. أم وطن لعنة ..؟ وطن خرافة ؟ أم خرافة وطن ؟.. خرافة ? خريف ? خرّاف ? وأحدهم خرّ و راف .. وطن ? وثن ? وذاك الذي وطئ ثم طنّ ،ربما وتداً فصار وطّان الأوطان والاستيطان ?.. في اللغة العبرية فإن ها آرتس تعني أرض وتعطي دلالة وطن, وفي اللاتينية فإن كلمة وطن تعني " باتريا " لا أدري ما هي علاقتها بـ " بتراء ", وباتريا هي مصدر فاثر في الإنجليزية ومنها جاءت البطريركية / الأبوية.. عند ما زرت موطئ رأس أبي عند سفوح الكرمل وهاتفته من هناك قريباً من أنقاض بيته وبيت أجداده, فإن أول شيء قاله بعد أن كف عن البكاء : اذهب إلى قبر أبوي / جدك .. أغسله وأقراً له سورة الفاتحة . عائلة الحاجة أم حسين هي العائلة الوحيدة المتبقية في طيرة حيفا,طلبت مني أن اسأل والدي أين كان بيته بالتحديد.. واخذ يصف لي بأدق التفاصيل وأنا أقوم بنقل ذلك تباعا أردد ما يقوله كلمة كلمة وأم حسين تهز برأسها. وتقول لابنها :يا الله يمّا" وانطلقنا بالسيارة توجهنا أم حسين, بينما أنا وابنيها نتبادل النظرات وفي العيون شيء من الريبة حول العثور على المكان. تقول أم حسين :" إن الإسرائيليين هدّموا الطيرة بعد زيارة السادات إلى القدس ولم يبق سوى ثلاثة بيوت. أمّا ما هو قائم الآن من أبنية مجمعات سكنية فلقد تمّ إنشاؤه بعد مؤتمر مدريد 1991". ما أثار استغرابي هو تطابق الوصف القادم عبر الهاتف من مخيم اليرموك مع الذاكرة الموجودة في الطيرة. بعد تجوال لا بأس به أمرت أم حسين ابنها بالتوقف, وقالت هنا كان بيت أهلك بالقرب من مقام الشيخ خليل الذي يقف بأحجاره القديمة قريبا من تلة يسكنها الصبّار والعوسج. في 1948 كان في الطيرة أكثر من ثلاث مقابر . في أيار 2000 كانت المقبرة الرئيسة قد حولها الإسرائيليون إلى حديقة عامة وعند المقبرة الصغيرة قرب مقام الشيخ خليل فلقد احتجنا إلى اختراق الصبار والعوسج كي نقرأ أسماء الموتى . " أبو أبوي " لم يخرج من فلسطين بقي مع ابنة أخيه كانت البلماخ قد اعتقلت ابنه / عمي واعتقلت أخيه وابن أخيه.. عندها قال للذين أخرجوا في العام 1948 " قبر أبوي وأبو أبوي وجدّ جدّي هنا, وسأموت هنا .. لن أخرج " كان يعقوب أبو الإسرائيليين قد أوصى بني إسرائيل قائلاً : " أموت الآن وانضم إلى آبائي ادفنوني مع آبائي في المغارة التي في حقل عفرون الحثي " . لكن جدي أحمد يعقوب مات في سبعينات القرن العشرين بعد أن أعطاه الإسرائيليون الجدد هوية مواطن إسرائيلي. . هكذا ببساطة أصبح مواطناً إسرائيليا نعم بتلك البساطة التي حول فيها البريطاني بلفور الوعد الإلهي إلى وعد سياسي . لا أدري لماذا كنت أرى في الانتماء الحقيقي لفارس غلوب باشا إلى صفوف الثورة الفلسطينية الكثير من التكفير عن ذنوب بل عن خطايا البريطانيين بحق الفلسطينيين والعالم أثناء إقامتنا المشتركة في تونس اشتاط فارس غضباً عندما قدمته إلى أصدقاء آخرين بوصفه إنكليزيا وبعد أن أحمر وجهه الأبيض أخرج جواز سفره وبلهجة فلسطينية سليمة جداً قال لي أمام الأصدقاء : إقرأ هنا وقرأت : مواليد القدس .. مسح فارس بيده على ذقـنه الحمراء وقال بهدوء "إنكليزي " : لقد تنازلت عن جواز سفري البريطاني وحصلت على جواز سفر ايرلندي وما أن رحل الأصدقاء وقد أدى فارس صلاة العشاء آخذ يحدثني عن السياسة البريطانية في تعيين الايرلنديين والأقليات الأخرى في الجيش الإنكليزي بل وتحميلهم مسؤوليات كبيرة في بلدان المستعمرات كالهند مثلاً, طبعاً كان يقصد الحديث عن والده الجنرال أبو حنيك الذي غيرّ الخطة العسكرية للجيوش العربية في 1948 من خطة هجومية إلى دفاعية ثم انسحابية , آنذاك صاح أحد الجنرالات العرب إنها حرب عروش وليست حرب جيوش ! انتهى حديثناً أنا والصديق فارس بأنني طلبت منه أن يقرأ قصائده التي كتبها في حصار بيروت 1982 الذي استبسل فيه كأي فلسطيني أصيل, عندها كتب: " سنلقي قمصاننا في نور الفجر لأن أجسادنا ليست إلا قمصاناً ولن نموت " .. ... نموت أو لن نموت !! تلك هي المسألة !! ذلك هو الحديث الشائع والفعل المضارع دائم الحركة !! فالموت والحياة تساويا !! هكذا يردد الكثيرون من الشباب الفلسطيني.. وعندما سألت الكثيرين وكيف يستوي النقيضان ?! عرفت أن العلاقة بين هذا التساوي هي علاقة رفض لهذا الزمن ورفض للغد, لأن القبول بالغد هو قبول بالمجهول , بينما اليقين الوحيد هو يقين الماضي فلقد تم تحديده وهو التاريخ لهذا يمكن العودة إليه عبر الموت دون بذل الجهد الذي يتطلبه الذهاب إلى المستقبل !! ربما كان الموت الشيء الأكثر صفاء وهدوء بالنسبة للكثيرين من الشباب الذين نفد صبرهم إزاء الحاضر المليء بالمهانة الشخصية والوطنية, ومع ذلك لا توجد حالات انتحار كفعل عصابي مرضي!! لأن الفارق عندهم كبير بين الشهادة والانتحار,و أتتساءل : هل حقا كان دوستوفسكي قد مدح الحرب؟" بسبب الفضائل الخلقية التي تتطلبها: روح التضحية,الأخوّة, ولأنها تؤسس للعزّة والفن والثقافة! لكن, الحرب التي تدور رحاها هنا.. فثمة من حوّلها إلى غاية في ذاتها, إذ لم يعد تمجيدها أخلاقيا إنما غيبيا, ربما بسبب "الوحي" الذي تأتي به مثل ألوهية يتلقى الإنسان وحيها من ذاته الفردية!!! |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:39 pm | |
| في انتظار بربارون بقلم الكاتب: أحمد يعقوب
VII الحرب!! اللعنة إنها الحرب!! الطائرة الزنانة يسبقها زنينها .. هل قدوم الطائرة هو إشارة للهجوم؟! تمنيت لو أنني أستطيل وأستطيل بما يكفي لأمدّ يدي إلى السماء ..و ألتقف هذه الطائرة الخبيثة.. لألقيها في البحر ..كي يغسل آثامها فتكون مأوى للأخطبوط أو للمرجان .. وأن أقول للبحر: أيها البحر أيها الأزرق العظيم يا مـن ترد الأشيـاء دائماً كأيّ معطاء عظيم إذا أعدت هذه الزنانة ذات يـوم إلى الشاطئ فلتكن بلا زنين وبلا عيون سحرية !! في كثير من الليالي أحتاج إلى أكوام من القطن لأضعها في أذني كي أنام قليلاً .. فلا أحد يمكنـه النوم في غرفة تقاسمه إياها ذبابة زرقاء أو بعوضة غير مرئية !! هاتفي الخليوي يرن كنت قد وضعت له موسيقى السيمباثي "Sympathy " لهذا أدعه الآن يرن طويلاً ..كي تقوم هذه السوفت ميوزك بإعطاء المشهد موسيقى تصويرية .. أفضل على من يتصل بي أن يستمر في اتصاله لتتواصل الموسيقى .. أتذكرني عندما تعلمت هذه الموسيقى على آلة الترومبيت هناك في مخيم اليرموك قبل ما يقارب من ثلاثين سنة . وكيف كن طالبات الثانوية يلححن بإعادتها . لكن الطائرة "الزنانة " تقترب وتنشر الزنين والطنين في الأجواء فيتداخل زنينها مع السيمباتي تداخل الزيت بالماء .. يستمر رنين الهاتف وتستمر السمباثي مختلطة مع الزنين المثير للقرف , ربما لو كان في يدي الآن " ترومبيت سحري " لرفعته باتجاه الطائرة " كحسام ضاحك " ونفثت كل ما بي ضد هذا الزنين القبيح .... لكني أتذكر أنه عليّ بالاسترخاء ..وعليّ بالابتسامة فهي سر الاسترخاء, لأن الحرب بالمحصلة هي حرب أعصاب طالما كانت صراعاً بين فكرتين وبين حالتي وعي منها حالة السيادة وحالة العبودية . كأن الطائرة الزنانة تقف فوق رأسي بل كأن غزوة دبابير تدور حولي، ارفع الجهاز عالياً كأنني أكشّ به غزوة الدبابير وابتسم كي تظهر ابتسامتي إلى جانب " نور" الهاتف في التصوير الذي تقوم به الزنانة . هل تصور موسيقى السيمباثي أيضاً ?.. فأبدأ بغناء السيمباثي بصوت خفيف وأمشي باتجاه البحر. توقف الهاتف عن الرنين,كلانا أنا و الزنانة نمشي باتجاه البحر.. ينضم هدير البحر إلى الموسيقى التصويرية .. أرى أمواجه في العتمة متحركة منفعلة وربما متفجرة مثل بركان. لكن بحمم من رغوة ثلجية وليست كـ"قارب رامبو السكران" أجلس قريباً جداً من الشاطئ بالشكل الذي يجعلني ألمس ما يوصله المد إليّ من ماء. زنين الطائرة الخبيثة يبدأ بالابتعاد.ربما أزاحته السيمباثي عن مسامعي..!! أخرج علبة السجائر من جيبي برفق وحنان, وكذلك افتحها, وبذلك أسحب سيجارة ، أشعر أن السيجارة هي "حبيبتي " التي ستقاسمني هذه اللحظات والتي عليّ أن أتبادل معها القبل فالمرأة والسيجارة كلاهما تنعشان القلب وتضرانه أيضاً .. وكلاهما نبدأ معهما بالدلع وننتهي بهما بالولع .. والسيجارة والمرأة كلاهما تحترقان وكلاهما تحرقان .. أبدأ بالبحث عن " علبة الكبريت " في السترة المليئة بالجيوب " سترة الصحفيين التي تشبه أيضاً السترة الواقية للرصاص, ثمة سحّابات كثيرة, فتحت ثلاثة منها وأغلقتها حتى وصلت إلى علبة الكبريت .. ينقطع زنينها تماما, ربما اندحر لبرهة ليعود بجعير طائرات الأباتشي و(اف16) في الأثناء يرن جهاز الهاتف كان مهيب البرغوثي وفوراً وجدتني أقول له: ما هي أخبار حسين ? تلعثم مهيب وكاد صوته يختنق. عندها صرخت لا تقل لي .. ارتفع هدير البحر وهاجت أمواجه وأجدني وقد ارتميت على ظهري والماء يبللني . ـ ألو مهيب = نعم أحمد الوضع خطير, ولقد أرسل له أحد أصدقائه دواءً من عمان, لكن اعتقله الجنود عند الجسر ـ هل أستطيع الحديث مع حسين ? = إنه نائم ـ قبّله عني قبلة طويلة قل له هناك فصل آخر سيكتبه بين اللوز في بغداد (1998 ) عرفت حسين البرغوثي لأول مرة من خلال " حجر الورد" المنشور في مجلة عشتار حسين : أيها الصديق الصدوق أنت تعلم أن من يتجاوز الأربعين من العمر.. يصعب عليه تكوين صداقات كالتي كونها في شبابه حسين : أيها الشفيع الأشقر العالم يهلك والصداقة هي أقصر الدروب للوصول إلى وطن . حسين : هل الخسارات ميراثنا الأزلي ?!?. اللعنة لقد تبللت علبة الكبريت.. أخذت السيجارة من فمي ثم عضضت عليها بنواجذي ووجدتني أقول : أستأذن الجمر ؟ كفى ?.... أينبغي الجميل ? أعرف أن حسين معجب بالقط الذي يسقط واقفاً في كل الأحوال.. هل ستقف ثانية يا حسين ? أم أن القط استنفد أرواحه السبعة ? لا .. لا.. القط من سلالة النمر أيضاً آه . يا حسين ..... واقفا على حرقة البلاد والبلاد متلبّدة ببلادة الغزاة والحوذيين ثمة من ينتعل الخرافة ويتقافز في الجرل ولا يعرف:" ماذا قالت الغجرية " لـ"المرايا السائلة " ثمة هنود زرق أيضا وأمام"حجر الورد" ثمة سؤال أزرق: يا لهذه "الشمعة تبكي وتنسبك"!!! حسين الموت مثل جندب مجنون على كرسي هزّاز لكنه يقفز من أعلى إلى أسفل وذات اليمين وذات الشمال ويطيب له الاسترخاء في فراش دافئ وقد يفتح كتابا باردا عن أسطورة جحيم بلا صواب حسين هل ثمة وقت لديك لنبحث في مخلفات المماليك؟ الكلاب التي جرّت العربات على ثلج من زهور اللوز!! وماذا عن حصان السباق؟ عن لغة العلف التي تسبقه مسافة إصبع! هل ينالها أخيراّّّ ثمة نرد بعد نلقيه بين المعنى والمعنى ثمة صباحات زرق تُنهض كوارتز البحر لاستقبال المدن الثملى والثكلى ثمة وقت بعد لسيزيف وثمة وقت لي لأرجوزة أخيرة ربما أحتفل ببطاقة وجهك وهي تطالعني من خلف زجاج البحر استأذن الجمر كفى أينبغي الجميل؟؟
VIII طائرات الأباتشي تجعر من بعيد وزوارق الدبور كذلك السيجارة في فمي.. العتمة لا تزال تتجول في المدينة, مضى عليّ وقت طويل دون أن أدخن ولقد ازداد احتراقي الداخلي الطائرة الزنّانة تجعر.. وزوارق "الدبّور" أيضا ...في الحال, أضيء شاشة جهازي الخليوي !! وأبدأ أقلب خصائصه الفنية إلى أن أصل إلى خاصة العزف الموسيقي (Edit Music) وأضغط على " Play " فتعود موسيقى السيمباثي ..وهذه المرة كأنها تخرج من نور الجهاز.. لتصل إلى" نور" الجمر الذي بي وبين بحر العتمة وبحر غزة .. الموت . إنه الموت في كل مكان .. تنطلق موسيقى السيمباثي من جهاز الهاتف الخيلوي.. علّني أواجه بهما الزنين والطنين.. فأتذكرني ثانية أعزفها على البوق / الترومبيت . في" بهاء الأيام النحيلة" كتبت: " وأنا أعانق الساكسفون كامرأة حميمة أنفث -أشعاري/جوعي/حزني/قلقي/منفاي- لحناً لحنًا تنتشي له أشدّ الحيوانات افتراسا يجمع اللقالق حول رأسي والنوارس على كتفي يأمر الفقمات: أن اتركي البحور القديمة يجعل أشجار الأرز تتبعني أينما مشيت أيتها الأفراح السمراء كم أنتظرك؟ كنت قد رحلت لكن المطر ما عاد في حقائب أذار وأنا نحيل كخيط من ماس" الآن عند بحر غزّة.. في الأيام النحيلة أيضا أقف على بلوى البلاد كالذي من بلاءٍ لاذ أتلو" رسائل المنفى" إلى أفول الأصنام أحاول أن أرى بحراً في البحر... البحر في غزّة ليس جميلا يا حمزاتوف!!! قد بشّعته الحرب وجعلته أجرباً.. من رأى بحرا لا تؤمّه الناس ليلا نهارا؟؟ من رأى بحرا تعتقله الزوارق الحربية؟ الصيادون سكنة البحر الدائمون لا يفعلون شيئا سوى تقليب ساعات الرمل على الشاطئ!!! عرفت البحر في غابات الفرلنق في مدينة جبلة السورية القريبة من لواء إسكندرون, وكذلك شواطئ اللاذقية وبانياس وطرطوس على الساحل السوري,, وجونيه وبيروت وصيدا وصور وطرابلس وتونس والإمارات وشط العرب في البصرة , وكذلك المحيط الهادئ والبحر الكاريبي وقناة بنما... وفي كلّ بحر عرفته كانت زوارق خفر السواحل تؤمن الراحة والطمأنينة إلى رواد البحر. لكن زوارق"الدبور" الإسرائيلية تؤمن الجحيم للفلسطيني!! تعتقل حقه بالمتعة في البحر!!والبحر هو الحياة.. لهذا بالضبط يتحدث موفاز عن سعيه لهزيمة الوعي الفلسطيني لأن" الهزيمة العسكرية ليست كافية" بالنسبة له. لهذا أوجدوا الإحباط, واليأس, الشعور بالعجز,الإرباك, التخبط,فقدان الثقة بالنفس, فقدان الطمأنينة.. اللعنة!! أين أنت أيتها الطمأنينة؟ ربما خضير ميري من يقول : " العدو إنه يغرس فيك الحياة نزقاً ثم يساعدك على أن تصدق بأنها حياتك .. هو من ينهال عليك بالأخلاق والدسائس ثم يفتح لك جحراً في الأرض لتدخل وحدك عارياً .. وهو الذي يحضنك طويلاً لتكون سلّماً لا طائرا... وهو من يطعمك لتنام وإذا نمت نقص عقلك" ! في 1982 وربما اعتقدنا نحن الطلبة الدارسين في الجامعات الكوبية إن الحرب التي أعلنها بيغن وشارون على لبنان متوقف حسمها علينا !! أوقفنا دراستنا الجامعية وأتينا للدفاع عن لبنان بكل الطمأنينة والثقة بالنفس . وعندما قصفتنا الطائرات الإسرائيلية في الجبل ولم يزل غبار السفر عالقاً على ملابسنا الجامعية التي أتينا بها تطايرنا بكل ثقة بالنفس . انتقلنا إلى شمال لبنان..حيث كان هناك تحسباً لغزو إسرائيلي من الشمال..كان موقعاً قريباً من ميناء طرابلس .. على الساحل تماماً في منطقة تسمى " الفرير" قريبا من جزيرة الأرانب, منطقة كثيفة الشجيرات.. كانت مهمتنا تتلخص بحراسة الشاطئ تخوفاً من أي إنزال بحري وبالتحديد هجوم ضفادع بشرية إسرائيلية.. فنخرج عند حلول المغيب إلى الشاطئ مباشرة.. ونتمترس خلف تلال صغيرة من الرمل أقامتها الجرافات ...كان يحظر علينا التدخين ... وكنّ ندخن و ليس من قبيل رفض الأوامر ..إنما بسبب المغالاة بالثقة في النفس..أذكر عندما شاهدت شابا وشابة يتبادلان القبل على شرفة الطابق العاشر من عمارة مجاورة.. ففرحت أقصى درجات الفرح لأنني أشارك في حراسة المدينة وكي يتبادل العشاق القبل... في 15/1/2002 احتلوا بيتونيا وكان فجراً في فلسطين..كنت وحدي في الشقة...أصوات طائرات الهليوكوبتر في كل مكان من الشقة ... حتى خلت أن إحداهن تقف على الشرفة .. كانت أصوات المدافع الرشاشة تقتل الصمت والعتمة..وأصوات انفجارات قريبة تهز العمارة كتلك الهزة الأرضية التي عشتها في سانتياجو دي كوبا .. كانت عتمة ليست للتأمل .. خرجت إلى البلكونة التي اعتدت الجلوس عليها ليلاً حتى الصباح لأرى أضواء مدينة اللد من خلف الوادي الأخاذ.. نعم فلسطين هناك .. لم أر في السماء طائرات مع أن هديرها يصم الآذان وصوت سرفات جنازير الدبابات في كل مكان.. وعندما أضاء حسني الطيراوي صديقي العتيق شمعة في شقته المقابلة لشقتي جاء من السماء نور قوي.. عندها شاهدت الطائرة مثل رخ فقد الصواب.. وعندما سمعت صوت انطلاق الصاروخ تراجعت إلى خلف باب البلكونة..كان الصاروخ يمضي.. لكن باتجاه رام الله . في بغداد لم أر في السماء أية طائرات أمريكية كانت أم عراقية طيلة (45) يوم الحرب ...كنت أسمع أصوات بـ "52"... وأعيش ما يتلو ذلك من زلازل تأتي من السماء !! ورأيت صواريخ توماهوك..وكروز .. وسيماهوك تعبر الظلام . وتتصدى لها الدفاعات الأرضية العراقية فكانت السماء تشتعل.. ولطالما سقط أكثر من صاروخ قريبا جدا منا .. ومع ذلك كانت هناك الطمأنينة . حتى عندما اشتعلت الأحداث الداخلية في العراق كنت مطمئناً . وعندما أصبت في منطقة البالوع البيرة بأكثر من رصاصة مطاطية كنت هناك بكل الثقة والطمأنينة .. وعندما وصلت مع المتظاهرين إلى سيارة الجيب الإسرائيلية التي يطلق منها الجنود الرصاص.. كنت أزهو بالثقة والطمأنينة ..كذلك كانوا القادة: الشهيد أبو علي مصطفى وأبو ليلي وصالح رأفت ومروان ود.مصطفى البرغوثي وآخرين ..عندها أوصلنا للجنود اليافطة التي تقول :" أخرجوا من أرضنا " !! فأشبعونا بالغاز وبالرصاص المطاطي بل والحي من فوق الرؤوس . وعندما أصابتني رصاصتهم الحية(من حيّة/أفعى) الآتية من (بساغوت الكولونيا) .. واخترقت بطني وكنت أترجم قصائد عن اللغة الإسبانية للشاعر التشيلي فلسطيني الأصل محفوظ مصيص وراء مكتبي في الطابق الثاني من بيت الشعر الفلسطيني .نزلت الأدراج إلى الطابق الأول بكل طمأنينة وبها ذهبت إلى المشفى.. وبها كتبت " البقاء على قيد الوطن " وعندما ذهبت إلى مكتب الشؤون المدنية في السلطة الوطنية للحصول على تصريح لحضور دفن جنيني في غزة .. كانت الدبابات تقف عند أبواب مقر الرئيس الفلسطيني المسمى "المقاطعة".. وكان المكتب قد انتقل إلى عمارة تقع في شارع الإرسال أي وراء الدبابات . كان عليّ أن أمر بين الدبابات, في الأثناء وصلت مظاهرة الاحتجاج على الاحتلال من جهة "المقاطعة", وبدأت الدبابات بإطلاق النار, وأصبحت أنتظر اللحظة التي أرتمي فيها أرضاً ,أنتظر شيئاً دافئاً سيندلق من رأسي, وعندما قلت لنفسي:" إنه في الحال التي تخترق فيه رصاصة رأسي لن أتمكن من رؤيتي كيف أسقط !!".. عندها تابعت المسير بوصفي ميتاً, لكن واقفاً وماشياً بكل ثقة !! وعندما ذهبت إلى الخليل كي أتمكن من المجيء إلى غزة في الباص الذي يخرج من ترقوميا عبر الممر الآمن كي أحضر إلى غزة ولقد منعوني . أوقفنا الجنود عند حاجز منطقة"أبو جورج".. كان أحدهم متمرسا وراء أكياس الرمل ويصوب البندقية على الركاب بما يعطي الشعور أنه يوجهها على كل واحد منا..عندها تذكرت أحدهم في بيروت عندما شهر عليّ مسدسه, كان تحت تأثير المخدر الذي يعطيه العدوانية . ولما استنفدت معه كل أساليب الثعلبة وهو لم يرعوي !! قلت له من يشهر مسدساً عليه أن يطلق .. فأطلق فوق رأسي تماماً.. ولما شعرت أن رأسي لم تنفلق قلت له: من يطلق يصيب.. فارتبك.. وبعد لحظة انهار باكياً حبيبته التي أكلتها طاحونة الحرب.. فعرفت أن تجوالي ليلاً مع الفتاة التي كانت رفقتي قد استفزه !!. في 1967 كنَّا أطفالاً نتقافز على أسوار المدارس والملاجئ في مخيم اليرموك ، بينما كانت الطائرات تحدث اختراقاً لجدار الصوت ورجال الحيّ يتحلقون حول خطابات أحمد سعيد . كنا نبكي لبكاء أمهاتنا وجداتنا !! لقد بدأت حياتنا بالحروب والعويل!!! في 1971 وكانت حرب الاستنزاف وشاعت أسطورة الطيارين السوريين فايز منصور ، بسام حمشو ، والفلسطيني محمود عزام في تصديهم للطيران الإسرائيلي ، وكانت قد شاعت أيضاً أغاني عالرباعية ، كنا نمتطي الجدران كأن كلّ منا هو زير سالم !! في 1973 وقد صرت في الأول الثانوي ، كنّا قد ذهبنا إلى سوق الحميدية لتناول بوظة بكداش بعد أن حضرنا فيلماً سياسياً في صالة الكندي احتجنا لذلك أن نبيع بعضا من كتبنا المدرسية في السوق ، في السوق لفت انتباهنا جميعاً كثرة المسلحين المدنيين ، وعند الثانية ظهراً من 6 تشرين ..عندما انطلقت صافرات الإنذار ، وكذلك أصوات الطائرات الحربية في السماء ، واستنفر المسلحون فوراً !! ! عندها عدنا إلى المخيم مشيا على الأقدام.. وكدنا "نموت" من شدة القهقهة في الطريق التي لازمتنا مع كل قصف ومع كل صاروخ ومع كل سرب طائرات عسكرية..عدنا إلى مخيم اليرموك بكل الطمأنينة. في اليوم التالي تلقينا ذكورا وإناثا في ثانوية اليرموك تدريبات أولية في الإسعاف المدني ، وكان علينا أن نرابط عند مداخل الملاجئ في المخيم لا أن ندخلها ، وأن نمنع السكان من إشعال أي ضوء في الليل ، بل وحثهم على طلاء زجاج بيوتهم "بالنيلة الزرقاء" . وفي النهار كنّا نقف ونتابع سير صواريخ السام وهي تطارد الطائرات الإسرائيلية ،وتصطادها.. نقفز.. ونصرخ كالذي يشاهد مباراة كرة قدم .. مرةً قفز طيار بمظلته.. فهرع كل سكان مخيم اليرموك تقريباً ..وهم يضحكون ويمزحون.. كان كل واحد وواحدة يعتقد أن المظلة ستهبط في المكان الذي يقف فيه.. وعندما ركضنا مسافة أكثر من 5 كلم..وجدنا سكان المناطق المجاورة قد خرجوا لإلتقافه ، فالتقفته الشرطة العسكرية !! حتى عندما انقلبت الحرب لصالح إسرائيل.. وقال دايان أنه سيتناول طعام الغداء في دمشق ، كانت الطمأنينة في النفوس!! وفي 1978 عندما اجتزنا الحدود السورية اللبنانية على أقدامنا باتجاه جنوب لبنان اجتياح آذار 1978 ، فعلنا ذلك بكل الطمأنينة والثقة في النفس في بيروت وكان لكل يوم سيرة ووقائع من الحرب مع الخارج والداخل ، وكانت موضة السيارات المفخخة والاغتيالات وتصفية الحسابات ، كانت الطمأنينة سيدة الموقف . في 1988 وقد وصلت بعض الصواريخ الإيرانية إلى بغداد، كنت وغيلان وجان دمو في المطعم الذي عصف الصاروخ قريبا منه، وعندما قصف ملجأ العامرية الذي يبعد 100 متر عن مأواي وعندما اهتزت الأرض وربما السماء لم يكن هناك أي شعور بالارتباك أو بالعجز. ..كانت الطمأنينة سيدة الموقف . اللعنة ماذا يجري الآن؟ IX أنا لا أعرف الاحتلال المباشر من قبل ،عرفته بالفكرة وبتأثيراته ونتائجه البعيدة !! لم أكن واهماً يوماً من الأيام من أننا نستطيع أن نهزم الجيش الإسرائيلي عسكرياً.. بمعنى المواجهة المباشرة التي تشبه النزال بين ملاكم وزن ثقيل ومحترف مع ملاكم وزن الريشة وغير محترف. كنت أقول دائماً :" يجب عدم الذهاب إلى نقاط قوة العدو.. إنما إلى نقاط ضعفه من أجل الفوز بالنقاط وليس بالضربة القاضية !! ولطالما رددت حكمة: "ملعون من يخوض حرباً يمكن تفاديها وملعون من لا يخوض حرباً لا يمكن تفاديها !! أعرف جيداً أنهم فرضوا الحرب منذ مؤتمر "بال" في سويسرا ..وأجبروا شعوب المنطقة على خوض حروب كان بالإمكان تفاديها طيلة قرن مضى. في حربهم الأخيرة عندما احتلوا رام الله ومخيم بلاطة و مخيم الأمعري وتحدثوا عن " نمورٍ من ورق"!! تذكرت قلعة شقيف !! أسطورة ما سادا حقيقية!! احتلني إحساس بالتوتر وبالارتباك، تساءلت :" أما كان بالإمكان أكثر مما كان ؟؟ وهل تمّ الدفاع كما يليق بالدفاع عن مدينة هي بمثابة عاصمة ?!!وهل يتمّ الإعداد للدفاع والمقاومة في الحد الأدنى ?". السيجارة لا تزال تراوح بين فمي وأصابع يدي.. وأكرر: أستأذن الجمر كفى أينبغي الجميل؟؟؟ أغادر الشاطئ... وأنا أقترب من العمارات السكنية أجد مجموعة من الشباب يحملون البنادق, وبالقرب منهم ثمة سيارتان تسدان الشارع , لكن كلا منهما تقف في الاتجاه المعاكس للثانية . ولما اقترب منهما أجد السائقين يتحدثان بصوت عال يقول أحدهما للأخر : " ببالك تعود هديك الأيام و نرجع نشتغل بتل أبيب !! فيرد عليه السائق الثاني : " منين يا حسرة !! باينتها رح نضل عبيد للسلطة و زلامها !!".. إنها المفاضلة بين عبوديّتين ..ذكرتني بأحد ملوك طوائف الأندلس وكان يستشير مجلسه الوزاري عن كيفية التصدي للجيش الإسباني, اقترح أحدهم الاستنجاد بالمرابطين من المغرب, فردّ آخر : لكن المرابطين سوف يستعبدوننا بعد أن يهزموا جيش الفرنجة, فقال الملك جملته الشهيرة: " رعي الجمال ولا رعي الخنازير " في العراق القديم ثمة حوار مذهل بين السيد وعبده , إذ يقول السيد لعبده:: :" يا خادمي هل توافقني الرأي= : نعم ، سيدي، نعم- يا خادمي سأعشق امرأة= -:اعشق يا سيدي اعشق فالرجل الذي يعشق امرأة ينسى الفاقة والبؤس!! :لا، أيها العبد! لن اعشق امرأة= -:لا تعشق يا سيدي ، لا تعشق ! المرأة باب مسحور ، مكيدة ،خطر خافق, المرأة سيف فولاذي حاد قادر على قطع عنق رجل شاب!! =:يا عبدي هل توافقني الرأي -:نعم يا سيدي نعم! =:اجلب لي ماء لليدين وصبّها فوقها ، سأذبح قربانا لآلهتي -:اذبح يا سيدي ّ اذبح لأن الرجل الذي يضحي لألهته يريح قلبه وينال خيرا مضاعفا = :لا يا عبدي ، لن أذبح قربانا لآلهتي - :لا تذبح يا سيدي لا تذبح!!! دع الهتك تتبعك كالكلاب = :يا خادمي هل توافقني الرأي - :نعم يا سيدي نعم :لقد قررت أن أوزع الصدقات= - :وزع يا سيدي وزّع فالذي يوزع الصدقات كأنه يضع الخيرات في يد مردوك :لا أيها العبد لن أوزع الصدقات= -:لا توزع يا سيدي لا توزع!! لو أنك صعدت إلى التلال البعيدة ونظرت إلى القبور الغابرة الزمان هل بمقدورك أن تميز بين من كان خيّرا ومن كان شريراّّّّّ !!!".. لا أدري إن كان ذلك بمثابة التقية الأولى في التاريخ؟؟ تقية المظلوم خشية التنكيل!!!! و أتذكر البطش والحديد والنار.. وقمع الإنسان للإنسان..... تفترق السيارتان, فاسمع أحدهما يقول, بل يصرخ,:"روح حط راسك ونام أحسن لك.. حط راسك بين الرووس وقول :يا قطاع الروس".. نعم إنها الحالة الرابعة للوعي التي يتحدث عنها نيتشة.. الاصطفاف بين ومع المجموعة,لكن كيف وفي أي مكان... يناديني أحد الشباب المسلحين :" مرحبا أستاذ أحمد" لم أتمكن من تمييز صوته.. فترددت بالإجابة . وتابعت متجاهلا ذلك ..فجاءني الصوت ثانية: "إيش يا شاعرنا مش عارفنا ولا إيش, سلامة نظرك"!! الحقيقة ترددت في الإجابة ... بدأ رفاقه يبررون تجاهلي بأنني ربما لم أسمع ولا أستطيع التمييز ليلا.. لكنه أصر في مناداتي باسمي الكامل وبصوت قوي, عندها توقفت وألقيت السلام. المشكلة أنني لم أكن على استعداد للحديث مع أحد.. أريد الذهاب إلى الشقة وتحضير النارجيلة وأجلس على النافذة في انتظار البرابرة. وليكن ما يكون. اتجه الشباب المسلحون نحوي. كانوا يتفاوتون بالأعمار..ما بين 19 إلى 30 سنة.. أما الذي ناداني. فهو مهتم بالشعر, ومتابع جيد للشعر وللشعراء, وبدأ يحدثني عن الكثير مما نشرت وقلت في التلفزيون.. ويصر على أن يسمعني شيئا من أشعاره التي يحفظها غيبا وبدأ يقرأ شيئا كأنه لمظفر النواب من حيث الشتائم . حتى في طريقة الإلقاء. لقد سرحت مع أشعار مظفر باللهجة العراقية والتي يغنيها ملايين العراقيين "حن وآنا أحن" والتي يقول فيها: جفنك جنح فراشة غض وحجر جفني ما غمض يالتسري بي وا لنبض روحي على روحك تنصحن" يرن جهاز الهاتف مع السوفت ميوزيك.كانت زوجتي تسأل: وينك؟ فأجيبها: عند "عبد الودود.." فترد: "آه يا رابض عل الحدود ".. كيفك و كيف البحر.. = " البحر دبلان مابيضحكش " _: شو رأيك أبعتلك عمر يحكي حكاية للبحر... عمر عم بيسأل عنك, بدو يشوفك قبل ما ينام فأقول : عمر ولاّّّّّّّّ السجائر؟ فتضحك .. وأقول طيب أنا في الطريق " الشاعر" المقاتل يتحدث عن أزمة نشر الكتب.. وأنه أرسل عدة قصائد إلى جميع الصحف الفلسطينية ولم ينشروا له.. فينتقل الحديث بين المجموعة عن السلبيات والمساوئ في البلد.. وأن الانتفاضة ستستمر ويجب أن تحاسب وتعاقب ووووو وأسال أين قصفت الطائرات قبل قليل +: بيت لاهية وبيت حانون وجنب جباليا.. *: تمهيد للاجتياح.. في دبابات عند حاجز ايرز وعند نيتساريم ولازم نقاومهم أقول طبعا فيقول كيف يقاوم الشعراء؟ كيف أجيبه؟ فيرد أحدهم عليه: "أن يبقوا مخلصين للشعب. للحقوق وان لا يتنازلوا عنها أبدا. وأن لا ينهزموا في أعماقهم" استأذن منهم متمنيا أن تتواصل الحياة وأن نلتقي ثانية,, فيجيبني أحدهم "الجنة أفضل مكان نلتقي فيه" لم أعلق... أواصل السير ,اشعر أن رأسي ينفجر X اللعنة السجائر الحرب المقاومة الموت الجنّة النار العتمة الظلام الامام الحسام الكلام يرن جهاز الهاتف ادعه لا أريد التحدث.. لا أريد الاستماع تبدأ القنابل المضيئة في غزو سماء المنطقة الهاتف يرن تصفر الأجواء .. السيجارة في فمي الضوء الأصفر يحول الليل إلى ما يشبه خسوف القمر ساعة الصفر تقترب؟؟ الهاتف يرن أرد إنه الطفل عمر يقول: "معنوية عالية بدنا نحارب بدنا نصالح بدنا نطيّز... تعال بدي الكشاف تبعك( يقصد مصباح البطارية الصغير) أنا بخاف من العتمة تعال" وعمر هذا طفل لم يكمل الثالثة من عمره بعد.. له وجه ملك كنعاني.. يجعلني أجهد كثيراً لأرتقي بمخيلتي إلى مستوى تخيلاته وأسئلته العذراء.. كثيراً ما أطلب منه أن يحكي لي حكاية ..وعندما يبدأ بترداد فيلم كارتوني.. آخذُ من الحكاية بطلها وأطرح عليه أسئلة بما يجعله يبدأ برواية جديدة ..والأجمل فيه أنه يفعل ذلك بمخيلة ساحرة.. في كل زيارة لي لأهل زوجتي ..وما أن أصافح الأهل وأجلس حتى يبدأ عمر فورا بحكاية : -- عمر: العصفور عسّجلة ( على الشجرة ).. بيطلّع علبحل والسمش (على البحر _والشمس ). بيستنى السمش تؤل تسيس !! ينتظر الشمس أن تقول تشيش . ـ شو يعني تسيس يا عمر؟ ـ هي السمش حامية !! متل في المئلاية ( الشمس حامية كما هي الأشياء في المقلاة ).. بس تنزل المية البالدة بتؤول تسيس !! عندما تنزل في المياه الباردة تقول تشيش " - وبعدين؟ عمر : بيجي حوت كبيل كبيل !! بيفتح تمه منشان العصفور يتخبا في بطنه !! وبروح عند السمس ! السمس بتلوح عند عمو في أمريكا !! بيسير عنا ليل وأمريكا نهار " يذكرني عمر هذا بـ"آثر بن حسين البرغوثي" الذي جنّن حسين!! سألت حسين ذات مرة عن المشاعر التي يثيرها الابن فقال :" لم أكن أعرفها !! ولقد اكتشفها لي آثر هذا" !! في آخر زيارة قمت فيها لحسين في منزله في قرية "كوبر".. وكنت رفقة حسن البطل وخالد درويش.. أطلعنا حسين على ما زرعه آثر من خضروات وبقوليات ..وأكثر ما كانت تقلق آثر حيوانات النيص التي يخشى أن تأكل له زرعاته !! فيقول له حسين :" إذا النيص أكل الزرعات شو بتساوي يا آثر"؟ .. فيقول آثر:" أزرعه-( أي النيص )- في الأرض.. وعندما ينبت بيطلعوا الزرعات مرة ثانية !! عندما اتصلت مع حسين قبل دخوله المشفى بيوم سألته : ما هي أخبار آثر ? قال:" جنّني !! بدو يعرف أبو ظبي وين ساكن."" وأخذ حسين يقهقه بفرح.. تخيلت دموعه , تلك الدمـوع التي يذرفها كلما قهقه من أعماقه !! بالأمس كنت أشاهد أخبار التلفزيون مع العائلة وكان يجلس عمر وشقيقه عبد الله (عمره 5 سنوات ) ..وكانت النشرة الأخبارية كنشرة الأمس والغد: الموت !! الدماء!! القصف!! الاغتيال!! تدمير البيوت..!! وموفاز وشارون وتصاريح سياسية و..... يقول عبد اله: "يهود كلبين ? أما الثاني عمر فيقول : هذا فاز ?.. فينزعج عبد الله ويقول :لا ترد عليه هدول ما بفوزوا علينا هدول كلبين.. فأسأله : ليش كلبين ? يرد عمر : هدول كلبين لأني بخاف منهم زي ما بخاف من الكلب.. ويبدأ عمر بالعواء على التلفزيون ..بينما يقول لي عبد الله : " عمر ما بيعرف لأنه ما بروح على الروضة.. أنا بعرف بروح عالروضة ..عمر لأ ... ويسألني : " مش عزرائيل هو اللي يقبض أرواحنا ? " قلت له : ليش قال : هل الجندي الإسرائيلي هو عزرائيل ? يقول عمر: يعني اليعازر ? أصمت طويلاً طويلا ًنهرني الطفل وقال : ليش ساكت !! رد عليّ !!مش إنت كبير وبتعرف كل شيء " عندها قلت له : طيب شو رأيك إنت .. قال : " مش الملائكة بّّّّّّّّّّّّساعدوا ربنا سبحانه وتعالى " قلت : طيب ! قال : " يمكن الملائكة بتخانقوا مين يساعد ربنا أكثر .. ومين بيشتغل أحسن من شان ما يزعلوا ربنا .." قلت : طيب ?! قال : "جبريل ما عنده شغل لأنه النبي محمد مات ... لكن إيش اسمه اللي بينفخ في قرن الخروف الكبير يوم القيامة ". قلت : اسرافيل ? قال عمر : إسرائيل !!. قال :" أيوه اسرافيل بترجّى ربنا إنه يخليه ينفخ.. فعزرائيل بيغار وبيقول : لأ .. أنا بدي اشتغل لإنه إذا نفخ اسرابيل.. ما بضل في عندي شغل " قلت : وبعدين ? قال لي : " يمكن عزرائيل بيوقف مع اليهود ..واسرافيل معنا " عندها تدخل شقيقه الأصغر وأراد أن يتحدث فقال له الأخ الأكبر : " بس أنا بحكي إنت بتسكت " ...ودار شجار بينهما في "البقاء على قيد الوطن" شظيّت مفردة عزرائيل فأصبحت عزرا + إيل .. وإذا كانت إيل تعني الرب فإن عزرا عنت لي : آزر = عاضد = ساعد = ناصر ... وفي مفردة اسرافيل وجدت فيها إسراف +إيل !! فهل تعني أنها لحظة الإسراف الإلهي في العقاب عندما ينفخ اسرافيل البوق لقد أسرف الموت هنا في قتل الطفولة رمز كل شئ عذري وخلاّق . في الطريق إلى العمارة التي يسكن بها أهل زوجتي.. عدد من المسلحين.. نتبادل التحية... أحدهم يطلب مني سيجارة...ولما أردت إعطاءه لاحظت سيجارة في يد أحد رفاقه.. فعرفت أنه يريد الحديث معي ليتأكد من شخصيتي.. قال: الحق على العتمة !! قلت: وعلى المستعربين والملثمين.. فضحك وقال الحذر واجب .. قلت طبعا!! وقلت بسري :اللعنة!! أين رحلت الطمأنينة؟ قال أحد المسلحين لطالب السيجارة: ما بتعرف الشاعر.. ما شفته على التلفزيون؟ فأجابه: "أنا لا أفتح على تلفزيون فلسطين... وما بحب الشعر؟؟ قلت له شكرا ومضيت صعدت الطوابق قبلت عمر.. أعطيته" قنديلي" لاحظت زوجتي أن ملابسي مليئة بالرمل والطين .. طلبت منها أن تبقى عند أهلها.. رفضت وعدنا إلى شقتنا.. أضاءت هي الشموع..... وعمرت أنا النارجيلة.. وضعت الفحمات على الغاز.. وذهبت لأخذ حمام ماء فاتر.. تذكرت إصابتي بالرئة وكيف قال لي الأطباء الكوبيين :"إن احتمالات بقائي على قيد الحياة مفتوحة إلى سبع سنوات فقط!!! وأمروني أن أقلع عن التدخين فورا.."".. وبعد عام من تلك النصيحة عادت رئتي وبنشرت ..وأعادوا عليّ النصيحة ..كان ذلك في 1983، في بغداد 1993، أصبت بمرض السل وأمروني أن أقلع عن التدخين. تذكرت غابرييل غارسيا ماركيس في"مذكرات مدخن متقاعد" وكيف أصيب بذبحة صدرية عندما اقلع عن السيجارة.. لقد مضت عشرون سنة تقريبا عل تحذيرات الأطباء الكوبيين ،ولقد دخلت فيها ميتات محتمة.. صنعت زوجتي قهوة.. وجلسنا عند الشرفة أدخن النارجيلة.. أصوات القصف المدفعي ترتفع من مكان قريب.. ثمة ومضات انفجارات بعيدة. وأقول لزوجتي: = ثمة احتمالات أربع ما هي? = أن يبقوننا في البيوت تحت حظر التجول =أن يقتادونني مع شباب الحي إلى معسكرات الاعتقال =أن أتعرض لإصابة =أن أموت وببرودة أعصاب وبعد أن وضعت جانباً أوراق "الضوء الأزرق" لحسين البرغوثي تقول:: هناك احتمال خامس = ما هو؟ أن لا يأتوا اللعنة !! لقد أحدثت كتابات حسين البرغوثي نقلة جهنمية في تفكيرها لقد نسفت كلّ احتمالاتي. لا أذكر إن كان نيتشة هو الذي قال "الرجل هو الذي خلق المرأة. من ضلع إلهه من مثله". عندما درست نيتشة لأول مرة في الجامعة الكوبية تمايزت غيظاً لموقفه من الاشتراكية التي يعتبرها حالة حسد تسكن الضعفاء, ولموقفه من النساء اللواتي يراهن على الطريقة الشرقية على "أنها - المرأة- شيء يمتلك وقد كتب عليها أن تُستعمل في الخدمة المنزلية وبذلك تحقق ذاتها" بل "على الرجل أن يحمل السوط كلّما ذهب إلى المرأة" !! ربما فكرت آنذاك في دراسة العقد النفسية التي كانت عند نيتشة وأقارنه مع عالم النفس الألماني الذي يستبعد النساء من حظيرة العبقرية إلاّ في الحالات التي تتصف فيها بعضهن ببعض صفات الرجل مثل "الملكات الرجال بزي النساء" . وأذكر أنني قرأت شيئاً من هذا القبيل لنيتشة: "الروح الحرة لا تعيش مع المرأة, وإنما تحلق وحدها" ربما لأن "الإنسان كي يعيش وحيداً عليه أن يكون حيواناً أو إلهاً أو أن يكون حيواناً وإلهاً معاً أي فيلسوفاً" ربما لهذا السبب عندما طلّق"الفيلسوف" خضير ميري زوجته قال لها: اقرئي نيتشة ثانية ! XI الساعة السادسة .. بنفسج الصباح يتنفس الأزرق تمنيت لو كنت ظلاًلا. لولادة هذا الصباح . أرى طيراً أخاذا لم أره من قبل .. من بعيد اعتقدت أنه " هدهد ".. في بغداد اشتريت هدهداً بسعر يمكن من شراء20 دجاجة محشية أردت أن أتأمل الهدهد مدلل سليمان وسارق قصر بلقيس .كادت رائحته تقتلني فأطلقته في الحال بعض العراقيين الذين طحنهم الجوع بدؤوا يستعينون بالسحر والشعوذة لمواجهة طاحونة الحياة كانوا يشترون الهدهد وقيمته تعادل أربعة أضعاف راتب معلم مدرسي ويأخذون منه عظمة ما ويزرعونها في عضد الساعد كي يأخذ القوة عدا عن استخدامات أخرى لدم الهدهد ?.. الطير يقف على شجيرة أراه يفر..ّ كان نصفه الأعلى أسود بينما صدره ونصفه الداخلي يمتزج باللون البني والقرمزي وتحت إبطيه ثمة برتقالي ناصع !! لكنه وهو يطير أصدر صوتا كان ما بين النعيب والنعيق!! ربما كان غراباً .. لا أعتقد أنه كان غراب "ادغار ألن بو " لكني بدأت أضحك وأنا أتذكر حكاية نير ودا مع الشاعر الإسباني ميغييل ارناندث عن ذلك الطير الذي استغرق ارناندث طويلاً في شرح صفاته ومواصفاته لنير ودا ولم يستطع نير ودا التعرف عليه لأن المناخ التشيلي لا يلائم هكذا طيور ! عندها صعد ميغيل إلى الشجرة التي كانا يقفان تحتها وبدأ يقلد أصوات ذلك الطير ويحرك رأسه ويديه كما يفعل ذلك الطائر .. وأعود أقطب الحاجبين وأنا أتذكر بقية الحكاية عندما تحدث نيرودا_ ( سفير تشيلي في مدريد آنذاك ) _ مع مدير عام وزارة الخارجية الأسبانية مقترحاً تعيين ميغييل ارناندث في وظيفة لائقة باعتباره شاعراً مهماً لا يقل أهمية عن لوركا . فما كان من مدير الخارجية إلا أن أصدر فوراً كتابا يمنح إرناندث منصب مدير في الوزارة مبقياً الكتاب مفتوحا كي يختار إرناندث المكان الذي يعجبه ليداوم فيه حتى ولو كان في أي سفارة خارج أسبانيا ..لم ينبس ميغيل عندما سلمه نيرودا الكتاب ..وكل ما فعله أنه غادر ولم يعد إلا بمرور أسبوع .. وعندما سأله نيرودا عما إذا كان قد اتخذ قراراً بخصوص التعين كان إرناندث بغاية العصبية وهو يقول لنيرودا: ليت مدير عام الخارجية يؤمن لي قطيعاً من الأغنام لأرعاه في مدريد...( قتله الكتائبيون لاحقاً كما فعلو بلوركا). تبسمت زوجتي: لم يأت البرابرة!! قلت لها: البرابرة قادمون في أي وقت وإلا فلن يكونوا برابرة.. وهم بربارون ففي اللغة الإسبانية تستعمل" ون" للتضخيم فيصبحون برابرة جدا جداً بعد ساعتين من النوم .. وبعد تردد كبير أمام رنات جهاز الهاتف .. صحوت : كان من يقول لي : ـ إحمد ( يا فتاح يا عليم كان اسمي أحمد) - إحمد: ـ حسين مات . XII مرة قال لي حسين تأمل هذا لنيتشة : إن التشاؤم من علامات الانحطاط والتفاؤل من علامات السطحية ! ليكن التفاؤل المأساوي هو الحل ! وهو حال الرجل القوي الذي يطلب الشدة وسعة الخبرة ! حتى ولو دفع ثمنها الويل والكرب ? ويبتهج إذ يجد أن الصراع هو قانون الحياة " إن ما يجعلني أتغلب على كآبة خيبة الأمل هو أنني أرى العالم كموضوع للتأمل !! فالرعب .. والإرباك ..والعجز . والإحباط يجب معاملتهم فنياً على الأقل ولتكن دراما . غزة 21/ايار2002 هوامش 1- حسين البرغوثي الشاعر والمفكر الفلسطيني الذي ذهب في رحلة طويلة إلى قلب الجبل ربما ليحاور المكان أو الموت 2 الصحافية سهام أبو شباب 3 الشاعر اللبناني المعروف الذي انتحر عند رؤيته الجنود الإسرائيليين يتجولون في بيروت 4-مفكر وناقد عراقي شاب دخل مصح المجانين مدة عامين 7 مؤلفات لخضير ميري 8 عنوان رواية للروائي العراقي "وارد بدر سالم" ومعدان اسم لمجموعة من العراقيين الذين يسكنون في أهوار جنوبي العراق 9 خالد درويش شاعر فلسطيني مقيم في رام الله 10 وزير الحرب الإسرائيلي 11 عنوان نص شعري كتبته عن أيام الحصار في العراق كسيرة ووقائع شعرية 12 شاعر فلسطيني مقيم في رام الله 12 فنان تشكيلي عراقي 13 سركون بولص :شاعر عراقي من أهم الأسماء في قصيدة النثر يقيم في أمريكا ..أسس مع الشعراء: جان دمو و صلاح فائق و فاضل العزاوي و مؤيد الراوي وأنور الغساني جماعة كركوك الشعرية في ستينات القرن العشرين 14 الشاعر والكاتب الفلسطيني المعروف 15 كاتب وباحث فلسطيني توفي بعد عودته إلى الوطن 1996 "أي غرض للناس بنا " والشاعر غيلان : من شعراء قصيدة النثر المهمين ومن أكثرهم تمردا من اجل الحرية المطلقة للإنسان البياض مقصود أسميه فصل البياض* |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:40 pm | |
| ومختاراه بقلم الكاتب: علاء الدين حسو قبض مختارنا على لحيته شدها بقوة – وكانت هذه عادته حين يداهمه هم عظيم- ولسانه يردد: -لا بد من حل. حين عرض عليه الشيخ عوض فكرته ،رمقه المختار نظرة أرجفتنا في أرضنا ، ولكن الشيخ عوض أصر على فكرته قائلا: -لا حل ثالث.. انتفض مختارنا غاضبا ، وكاد يرفس المجمر النحاسي الذي يتوسط (أوضته) وامسك بأنف الشيخ عوض – وهذه عادته إن غضب من احد ما - وقال: -شيخ عوض..لو غارت مياه لعالم فلن اطلب منهم قطرة واحدة. كأن قبضة المختار أمسكت أنوفنا جميعا ،فأحسسنا بألم شديد لم نقدرأن نعبر عنه إلا بتنكيس رؤوسنا،مفكرين:"لولا إصراره، وعناده لتمكنا من حل المشكلة ، ولكنه يأبى ولو هلكنا جميعا.." الحقيقة ، سنموت جميعا ولن نخرج عن طاعته فهو كبيرنا وسيدنا ..وها صديق عمره الشيخ عوض ،الوحيد القادر على طرح أرائه ،.وصاحب الفضل في مبايعة المخترة بعد جده الراحل.. ها هو يقف صامتا،خاضعا للفرمان.. سدت علينا جميع المنافذ .وامتد المجلس المنعقد بعد صلاة العشاء حتى منتصف الليل ،ولكننا لم نهتدي إلى حل .فأخر الآبار قد جف منذ أسبوع..ولم يبقى لدينا سوى بئر المسجد والذي بمعجزة إلهية يجود علينا بمائه العذب..فتهرول نساؤنا وأطفالنا لأخذ كمية كبيرة من الماء حتى مختارنا تغاضى عن تلك الفوضى في جر المياه ..ولإحساسنا بان الماء سينفد ..بدأنا نستجر أضعاف ما نستهلكه ..ولم تبقى في منازلنا أوعية يمكن أن تستوعب الماء الذي نجلبه.وربما فكر الباقون مثلي بحفر حفرة في ارض المنزل وتكليسها لتخزين الماء فيها... انتشلنا المختار من بحر أفكارنا ..وسمعناه يقول: -سنحفر بئرا أخر. مرة أخرى تجرأ الشيخ عوض وقال: -لكننا حفرنا أربعة أبار هذا الشهر، وبعمق عشرون ذراعا ،ولم نحصل على قطرة واحدة. خيل إلينا بان المختار سيقتلع انف الشيخ عوض مثلما نقتلع نبتة الحليان الضارة بالقمح ، ولكنه خذلنا إذ تطلع في وجه صديق عمره وابتسم - وهذه عادته حين يصر على أمر ما - : -سنحفر ..سنحفر ..حتى تمل الأرض من حفرنا. .قطع مختارنا حديثه ، وانتصب واقفا. كأنه يستقبل ضيفا .. ثم جلس صامتا منكسا رأسه و هذه- عادته حين يأذن بالانصراف-..انفض المجلس ..وعدنا إلى بيوتنا ..ومشكلة الماء تسبح في عقولنا فتطوف الأفكار ..كان لدنيا ستة آبار جميعها تطفح في الربيع ولم يخطر على بال أحد بأن الماء سيكون مشكلتنا الكبرى إلا هذه السنة فقد حدث أمر غريب ..بدأت الآبار تجف واحدة تلو الأخرى ..كأن الأرض ثقبت من طرفها الأخر، فتسرب الماء ولم يبقى سوى بئر المسجد..وهذا ما جعلنا نفكر بتفسير الدرويش صحن. خادم جامع القرية .حين اسر بان نفر من الجن مروا بالقرية فشربوا من آبارها ورحلوا..ولنساؤنا دور رئيسي في نشر وتطوير المبررات ،حتى كان أخرها بان مختار القرية المعادية استأجر احد العرافين الكبار ممن يتعامل مع الجن فسخر أعوانه لجلب مياه الآبار وصبها في نبعهم ،الذي تحول إلى بحيرة. ستروها خوفا من العين. وابقوا على ثقب صغير يدر الماء بلا توقف .ولن تحل المشكلة إلا برضوخ المختار لتزويج ابنته الوحيدة إلى ابن المختار المعادي وهو ما يرفضه مختارنا لان ذلك يعني تسليم القرية لهم . -إلى متى سنصمد؟! . ذلك هو السؤال.. القرية المعادية تتمتع بالماء الوفير ..خصها الله ببركته ، فتفجر من أرضها نبعا اغرق جميع القرى ..ومنها قريتنا ، ولكن حين نشب الخلاف .. وحدث ما حدث.. قطعوا الخط الذي يمدنا بالماء ..صحيح بأننا منعناهم عن طاحونتنا ، ولكن ما النتيجة... هم استطاعوا بناء طاحونتين ونحن فشلنا في الحصول على قطرة واحدة..وقبل الدخول إلى بيتي لمحت شبحا يعرج إلى الاوضة وتفأجت بالدرويش أمامي: -انه كبير الشياطين الله يستر ويسلم البلد .. وقبل إن اسأله تركني ولسانه يردد : -نم يابني حتى لاتتأخر عن صلاة الفجر. لما أذن الدرويش لصلاة الفجر ..سمعنا صوت خادم المختار ينادي..الاجتماع ..الاجتماع..فهرولنا إلى الأوضة وكلنا أمل بأنه اقتنع أخيرا بفكرة الشيخ عوض المسالمة.دخلنا عليه .فوجدناه كما فارقناه ..قابض على لحيته، منكسا رأسه ، وكأن الساعات التي مرت دقيقة واحدة ..مع فارق رهيب بالرائحة وكان الآلاف الأشخاص باتوا هنا.. وربما كان الدرويش على حق .. إبليس كان هنا .. أشار علينا بالجلوس ..أمر خادمه فادر علينا القهوة نطرد ما تبقى من نعاسنا .. منتظرين الشيخ عوض الذي وصل متأخرا، فأتخذ مجلسه بالقرب من المختار وسأل: -خير إن شاء الله. وضع مختارنا راحته على كتف الشيخ – وهذه عادته حين يود احد ما – وقال: -لقد خطرت لي فكرة ... .تتطلع بوجهنا فلمحنا بريقا غريبا في عينيه وكأنها ليست عينيه ..نهض على غير عادته ، ومشى وقد حنى ظهره.. كحمال عجوز يحمل كيس الطحين فوق ظهره ..نظر إلى القرية المعادية من الشباك الغربي للمضافة: -سنحفر نفقا يوصلنا إلى نبعهم. وكالسهم رأينا شبحا يقفز فوق المختار يضربه ..عرفناه من صوته الجاهر: -اخرج يا ملعون اخرج واجتمعنا لنفرق الدرويش عن المختار الذي ابتسم وقال: -لا صلاة هذا اليوم ..استعدوا انه يوم طويل .. مع بزوغ الضوء كنا خلف المختار نحمل الفؤوس والمعاول باتجاه نقطة البدء أسفل الوادي..ورفع مختارنا الفأس . ليعلن ساعة البدء.. وضرب الأرض.. فهجم شبابنا يحفرون بسرعة الخلد.. وجلس مختارنا يلف سيجارة قدمها إلى الشيخ عوض ،الذي مد يده المرتجفة وتقبلها يبطئ ,وقبل أن يدسها في فمه.. صفعه الدرويش الذي هبط علينا فجأة وصرخ: -انه ليس صديقك .. وخطف معول من احد الشبان وهم بضرب المختار صارخا: -اخرج يا ملعون اخرج.. مرة أخرى منعنا الدرويش ولكن المختار أمر بطرده من القرية وأهدر دمه..فخرج الدرويش باكيا ورافعا رأسه إلى السماء معاتبا: -الهي الم توعدني بضيافتك ... الم يحن الوقت بعد.. لا اقدر على تحمل الجيف ..لا اقدر.. وفجأة قطع صمته وانتشل حجرة وقذفها فشجت رأس المختار وهرب ..شغلنا وقوع المختار عن الدرويش وأسرعنا إلى ضماد رأسه الدامي وصوته يحث على متابعة الحفر وكان ريحا كريهة خرجت من انفه وكدنا نمسك بالدرويش لولا صرخ احد الحفارين : -صخرة كبيرة لا يمكن حفرها .. أسرعنا نحو الصخرة فاجفلتنا شكلها وحطت من عزمنا ونظرنا إلى الشيخ عوض فرأيناه يبلع دخانه بصمت ..التفتنا إلى صوت المختار.. الذي تغير فجأة ، وكأنه مختارنا الذي نعرفه مراقبا الصخرة.. -ما الذي تفعلونه -نحفر النفق كما أمرت.. أجاب الشيخ عوض -أي نفق ؟ -النفق الذي سيوصلنا إلى نبعهم امسك المختار مكان الفج -ومن فجني ؟ -الدرويش صحن الذي طردته.. وكأن المختار في غير عالم وكأن امرأتي تقول: -ارايت انه عمل العراف .. والتفتت المختار إلى الشيخ عوض مبتسما: -يبدو لا حل إلا حلك. -فتت الصخرة ..فتتها أذهلنا يعقوب بحضوره متى وكيف وصل وأدهشنا بحله وتابع مقتربا من المختار - كنت اعرف بأنك ستستمع إلى مشورتي وستحفر النفق وعرفت بأنه ستكون صخور لذا أحضرت لكم أصابع ديناميت ستفجر الصخرة ستفتتها .. وكساحر سحرنا يعقوب التاجر الذي يزورنا كل شهر.. وساعدناه في وضع الأصابع حول الصخرة وطفقنا نستمع إلى تعليماته -أعدت ثانية يا ملعون. كمن أيقظنا من حلمنا التفتنا إلى صوت الدرويش . -اقبضوا على ضارب المختار . صرخ يعقوب ولكننا كنا نخاف درويش أكثر من المختار ولكن لا نصغي إليه.وكذلك مختارنا الذي أمر يعقوب بالتنفيذ . -من يتطوع . هتف يعقوب -أنا ..كنا نتوقع ذلك انه احمد بطل قريتنا وفارسها. ابتعدنا ألف فرسخ عن المكان، وبقي يعقوب واحمد يتلقى التعليمات ..ثم لمحنا يعقوب يبتعد الى الجهة المقابلة.. وسمعنا المختار يردد قول يعقوب سيحدث زلزال كبير علينا أن نحمي أنفسنا.. فتمددنا على الأرض، نترقب بنفاد صبر..وما أن وصلت الشمس إلى كبد السماء حتى دوى انفجار كبير رجت الأرض من تحتنا ولمحنا حجارة تتطاير من مكان الحفرة ..وحين هدأ الصوت أسرعنا نحو الحفرة فلمحنا احمد دون رأس وبلا ذراع .. وقبل أن نفيق من الصدمة سمعنا راعي القرية يصرخ: -يا مختار يا مختار لقد نهب أعداؤنا الخرفان..لقد نهبوا القطعان .. والتفت الشيخ عوض يسأل : -أين يعقوب؟ أجاب الراعي وقد اذهلته الجثة: - شاهدته باتجاه القرية المعادية. نيسان 2006علاء الدين حسو |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:52 pm | |
| الأرض... المرأة... فلسطين الحكاية... بقلم الكاتب: د. وليد مشوّح من يقرأ التاريخ العربي بعمق وحيدة؛ لا بد له من العودة إلى قراءة أدبيات الإسلام كعقيدة مثلى حملها العرب أمانة وجودية عظيمة قامت عليها ذواتهم الفردة وبالتالي الجمعية؛ وبها تشكلّت شخصيتهم عبر تاريخ طويل، وعليه كان ارتباطهم بالأرض كون التراب من مقدساتهم لأنه الجوهر المادة لخلق الإنسان؛ وعلى هذا الأساس بدأت حيواتهم في هذا الوجود، كذلك فهم أول خلق الله الذين قدّسوا المرأة لأنها خصب التراب وجذر الأرض حيث تبذر بذاراً يثبّت الأرض القيمة، ويطهّر التراب إذا ما اجتاحته جائحة. وعلى هذا الإبراق الخاطف تتجلى الذات العربية بأسمى صورها، حيث حكمة الرب التي وضعت هذه الخصوصية بمنزلة الطقس الإيماني، وكان الهبوط القدسي على هذه الأرض، ومنها أشرقت الرسالات على العالم، وما خصوبة ترابنا إلاّ تشكيل حيوي من نجيع وأجساد ما أنكر مؤرخ وجداني ذرة من تراب إلا وتتوأمت مع ذرة من جسد، وقد تغذى هذا التراب القدسي بتهطال من دم الشهداء الذين رووّها ذرة ذرة كسباً لصداقة التاريخ ونزاهته، وللآخرة بمعنوياتها التفسيرية المختلفة التي تنصب على رضاء صاحب الأمانة الذي إئتمنهم عليها وخصهم بها.. هي ذي افتتاحية المعنى في درس الوجود العربي الأمثل. تاريخ، وأساطير، وحكايا، وخرافات، واصطراع دموي بين الحق والباطل، بين الحقيقة والبهتان، بين الخلف والأمام، فوق المسرح وخلف الستارة، أحداث وأهوال، دسائس ومؤامرات، مزادات وغش وتدليس، اعتقال للتاريخ، وفسحة لشذّاذ الآفاق.. حركة مستمرة..؛ وتسوّق الدودة (كطراز من طرز "المودة" الآتية من هناك..". أقول: الدودة زرعت وكان كيان أخطؤوا لجهلهم- مع بساطة العرض الآنف ونصاعته- بذره في أرض العرب، وهم لا يعرفون عن التراب إلا لكونه تراباً.. وكانت الخطيئة الثانية؛ إذا كانت التفاحة هي الخطيئة الأولى!!. ولقد صرف المحللون السياسيون، والدبلوماسيون، وبعض المؤرخين الكثير من وقتهم وسوّدوا المزيد من صحائفهم، وأهدروا الكم الهائل من أحبارهم؛ لتحليل ظاهرة سياسية يشهدها العالم –مع قناعتهم المترسبة في أعماقهم بكونها طارئة زمانية ليس إلاّ-، وهذه الظاهرة أخذت عنواناً عريضاً يعني بُعداً سياسياً، وسموها –على ظلال- بـ "إسرائيل"، وراحوا يلهثون وراء تحليل أبعاد السياسة الإسرائيلية، مع إدراكهم بعدم وجود سياسة إسرائيلية؛ وإنما توجد ممارسة إسرائيلية مستمدة من عقدة نسجتها الخرافة، والعقدة بدورها تتوجه صوب ثور جانح ببهيمية متوحشة يقتل ويطرد ويدمّر، لأنه بلا قضية أساساً، كون ذاته الوجودية دون جذر إطلاقاً. فالإسرائيلي يَقُتُل لأنه يَقتُل؛ هكذا تقول الخرافة، وهكذا يدفع به الهاجس الخرافي المتموضع خارج الإطار الحضاري للعالم بمفهوماتها المختلفة. وجاء المصطلح بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، ليكتسح المنطق؛ كونه جاء على شكل جائحة شكّلتها معطيات نفسية تأتت من ردة فعل آني، فسوّق مصطلح الإرهاب... واختلط الحابل بالنابل.. واستفاد الصهاينة كعادتهم من مصائب الآخرين حتى ولو كانوا أصدقاءها، وحماتها ورعاتها. والفارق بين النضال والإرهاب واضح وضوح الشمس وتعرفه الشعوب وتقره منطقية التاريخ، وأكدنا عليه فرادى وجماعات، ودعونا إلى مؤتمرات دولية لتضع الخطوط الفاصلة بين النضال والإرهاب، ولكن إسرائيل شاءت أن تديف السم بالدسم على عادتها ولمصلحة شرورها أولاً وأخيراً. وثمة فارق آخر بين المنازلة في حدود الحق ومن أجله، وبين التقتيل من أجل هضم الحق، وإجراء الباطل مجراه. فالإسرائيلي يقتل لأن الحاخام الدموي الشرّير الذي ابتدع الخرافة سيطر على دواخله الإحساسية ثم حوّلـه إلى كتلة صدئة من التنك وبالتالي أمره بالقتل، والإسرائيلي يقتل لأن توراته وتلموده يحضانه على ذلك ظاهراً وباطناً، مباشرة وخفية، وتلويحاً وتلميحاً. إذن فقتاله لا يقوم على شرعة إنسانية أو كونية؛ بقدر قيامه على غاية القتل بحد ذاتها. أما الفلسطيني فمناضلٌ ينازل قاتلاً، وهو لا يقاتل؛ بقدر قيامه بفعل نضالي، وممارسة وجدانية وروحية وصولاً إلى حقه في التاريخ والحياة، ولا غرو في ذلك، وهو من أرومة مسالمة، طيبة، كريمة؛ لكنها –في الوقت نفسه- غضوبة، ماضيةٌ، شموسٌ، عنودٌ؛ إذا هضم حقها. ونضال الفلسطيني؛ ينصّبُ على استعادة الحق أولاً، وطرد مغتصب أرضه وحقه بالطمأنينة والسلام ركني الحياة الأساسيين، ينازل عدوه وليس بالضرورة يقتله؛ إلاّ إذا مارس عدوه فعل القتل عن سابق عمد وإصرار؛ فأعرافه ونواميسه وشرائعه، التي اقتضتها طبيعة أمته، تحرّم عليه السكوت والاستكانة للواقع المهين، وتدفعه وتحضّه بل تأمره بوجوب المناضلة، والتشدد بها إلى أن يعود إليه حقّه.. بل نجد اللغة العربية تقدم أشنع النعوت وتسم بها المتوانيَّ عن الإقدام في سبيل الحق؛ فتنعته: بـ "الجبان، الخانع، المستكين" وهي أدنى الصفات في لغتنا؛ لذا يقدم العربي على الموت غير هيّاب ولا وجل. هي ذي طبيعة العربي، وتلكم تركيبته النفسانية والروحانية والوجدانية التي كان يتوجب على دارسي طبائع وسلوكيات ونفسيات الشعوب وضعها بتصرف قوى الاستكبار العالمي. لقد عجزت إسرائيل في سنواتها العجاف ومن ورائها المؤسسة الصهيونية الإمبريالية؛ من تغيير طبيعة الفلسطيني؛ لا لمعجزة فيه؛ وإنما لجهل فيها. فلو قرأ قادة الكيان الصهيوني؛ الطبيعة الخاصة في الإنسان العربي ذي العمق التاريخي والعقيدي المستمد من خصوصية الجغرافية، والمنزلة المتميزة في التاريخ؛ لوفّروا الكثير من دمائهم واقتصدوا في شرورهم، ولظلوا آمنين في الرقاع التي جاؤوا منها، يعيشون كمواطنين في تلك المواطن (يشاركون الإنسان السوي، فوق الكرة الأرضية في صنع الحضارة، ووضعها بتصرف الإنسان)، ولكنه.. هذاك الداء العضال التي يتمركز في (الكروموزوم)، ضمن التركيبة الدموية أو الزمرة الدموية التي تقوم عليها الشخصية الصهيونية؛ تمنع صاحبها من الفعل في الواقع الكوني لصناعة الحياة؛ هي عقيدة تنحاز إلى الموت وحرق العالم وإلغاء الكون. وأخيراً لا بد من أن يقرأ قادة الكيان طبيعة حياة العربي، فهو ينعم بالخيمة كما في المنزل الاسمنتي، فإن دمروا بيتاً فهو القادر أن يعود إلى بيت الشعر، كذلك فإن العربي يقدس شهداء أي قضية حقوقية أو أخلاقية أو عقيدية، والدليل على ذلك وضعنا أسماء الشهداء منذ آلاف السنين في صفحات التاريخ حسب القدم متساوين فمن المسيح مروراً بالحسين وانتهاء وليس نهاية بمحمد الدرة، لذا يسير العربي على درب الشهادة منذ نعومة أظفاره.. إذن لا تجربوا وسائلكم القهرية، وعودوا من حيث أتيتم بسلام، وعوا تاريخ العرب النفسي والنضالي جيداً، واعرفوا أن العربي لا يستكين لقهر أو لموت؛ كونه يحمل خصوصيته الذاتية، واعلموا أن العروبة والإسلام يزدادان قوة وتحدياً وإصراراً وانتشاراً في الظروف الصعبة، وفي أزمنة التحدي والقهر والتدمير والتقتيل.. فقط اقرؤوا التاريخ وتعرفوا على الذات العربية الإسلامية؛ توفرون على أنفسكم الكثير.. وعلى سادتكم وحُماتكم أيضاً... |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:53 pm | |
| ثلاثة محاور في قراءة قصة النخلة المائلة لمحمد علي طه بقلم الكاتب: د . فاروق مواسي هذه القصة هي حكاية الحنين للوطن ، للماضي ، وللأحبة ، فيها المزج الرائع بين الواقع والفانتازيا ، وبين الصدمة والحلم ، وبين الإنسان والأرض . يوسف العلي في الستين من عمره يزور أطلال بلاده ، حيث مرتع الطفولة وموطن الأهل ، ولا يجد من معالم بلاده سوى النخلة " مبروكة " ، فهي ما زالت راسخة . يعبر الراوي عن لواعج شوقه وحرقته ومعاناته بسبب الغربة التي نشأت إثر التشريد قبل خمسة عقود . يخاطب النخلة فـ " يشخصنها " أو " يؤنسنها " ، فهي "عشيرة الطفولة " ، فلا بد إلا أن يحكي لها عن كل ما مر به من نكبات أو وثبات . فها هي الأرض /النخلة رسخت في وجدانه ، حيث لا ينسى الروائح في الطبيعة ، بل يعرف أسماء التلال والدروب والشعاب والسبل . ويراوح بين الماضي الجميل والحاضر الممض ، ويسترجع أمامها غناءه لها ، بل عشقه إياها ، فقد ورث هذا العشق عن أبيه الذي مات ولم يفتر عن ذكرها . ويخيل له أن النخلة تخاطبه ، وتؤكد له حفاظها على العهد ، بل إنها ترد على أغنيته بأغنية ، فيختلط الأمر على الراوي ، ولا يكاد يصدق . وفي خضم ذكرياته تطل شخصية فاطمة بنت الجيران التي كان يكتب لها الرسائل القصيرة ، ويدسها في جذع " مبروكة " لتأخذها ، ونتعرف من خلال تداعياته على مصير فاطمة التي لاقت مصرعها في مخيم " عين الحلوة " . ها هو يبحث عن أَثر لفاطمة في جذع النخلة ، وفيما هو مقبل على ذلك يتنبه إلى انحناء جذع النخلة – إنه مائل كثيرًا... .يتساءل عن سبب انحنائها : أتصمد أمام الريح ؟ أم أنها انحنت لتشم رائحة الأهل في الأرض ؟ ولا يملك إلا أن يمضي في غنائه الحزين : مبروكة يا مبروكـه يا عين أمك وابوك لومي مش ع الزمن لومي على اللي راحوا وهجروك . قراءة القصة: سأعمد إلى هذه القصة من خلال ثلاثة محاور أو أنماط قرائية مختلفة ، وذلك حتى أطل عليها من جوانب مضمونية وشكلية تؤلف كلاً قصيًا واحدًا ، وإليك هذه المحاور : 1- قراءة ما ورائية –نصية: وهي القراءة التي تجمع الخلفية التراثية التي تواشجت في القصة ، لنرى أن "النخلة" لم تنشأ في ذهن القاص من فراغ أو مجرد اختيار ، وإنما هي مرتبطة كرمز في الوجود الفلسطيني ، وإلى حد بعيد ومدى واسع . النخلة_ أولاً - هي شجرة عشتار المقدسة " إلهة الخصب" _ويقال إن هناك علاقة بين النخيل وتوالي الولادة والاستمرار أو معنى "الفينيق" ، بل هناك من يرى أن طائر الفينيق هو طائر النخيل ، وتبعًا لذلك فقد كانت بلاد فنيقيا / بلاد كنعان وطنًا يكثر فيه النخل، مما أكسب النخل مكانة هامة تواصلت جيلاً بعد جيل. أذكر ذلك لأن بداية القصة توحي بذلك . يقول الراوي : " اغتالوني... قتلوني مرات عديدة ، نهضت من بين جثث الموتى ... " أليست هذه الأقوال دالة على أسطورة الفينيق أو موحية بثباته أيضًا كالنخلة أو الفينيق ؟ وإذا انتقلنا إلى لقطات أخرى ، فإننا سنجد نخلة "نجران" التي عبدها بعض العرب ، كما سنرى أن المسيح ولد تحت النخلة ، فخاطب القرآن مريم : " وهزي عليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا وجنيًا " . ويرى بعض المفسرين أن الشجرة كانت قديمة العهد منذ أكثر من ألفي سنة " وكانت منحنية " لاحظ تسمية القصة لدى الكاتب. والوقوف على النخل ليس مستحدثًا في تاريخنا الأدبي ، فهذا الشاعر مطيع بن إياس يقف على نخلتي حلوان ، ويبكي أحزانه ، ويتحدث عن الفرقة التي حالت دون اللقاء بهما ، ولا أرى بعدًا كبيرًا بين معاني القصيدة وبين كثير من معاني الراوي ومعاناته . يقول الشاعر : أسعداني يا نخلتي حلوان وارثيا لي في ريب هذا الزمان واعلمـــا أن ريبه لم يزل يفرق بين الألاّف والجيران ولعمــــــري لو ذقتما ألم الفرقة أبكاكما كمــــــا أبكانــــي كم رمتني به صروف الليالي من فراق الأحباب والخلان أما كاتبنا أو الراوي فيقف على نخلة واحدة هي رفيقته التي واكبت طفولته ، وانتظرته حتى عودته ، وهو يخاطبها من خلال التنفيس عن نفسه والتعبير عن ألم الفرقة الذي أبكاه ، وعن صروف الليالي ، وكيف " أتى عليه ذو أتى " . إن وقفته تجعلنا نستحضر في أذهاننا كذلك وقفة عبد الرحمن الداخل أمام النخلة ، فقد رآها أمام قصره في الرصافة ، فخاطبها قائلا : نشأت بأرض أنت فيها غريبة فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي وفي القصة الفلسطينية سبق أن قرأنا لنجاتي صدقي قصة " الأخوات الحزينات " التي كتبها في يافا سنة 1947 ، حيث يتحدث فيها عن خمسة جميزات يقفن في صف واحد ، وكان يقابلهن بناء عربي قديم ، وذلك من منطقة بيارات عربية . وإذا بالشجرات يصبحن ( تصبح ) أسيرات في عالم غريب عن العالم الذي نشأن فيه . يسند الراوي رأسه إلى جذع شجرة ، ويحلم أن الخمس شجرات يصبحن خمسة شخوص أو أخوات يتذاكرن جوانب المأساة الفلسطينية . وتنتهي القصة أيضًا بمعنى الثبات والصمود : "وصحوت من غفوتي ، وكانت رياح الخريف تعصف بشدة ، فتهز كل شيء ، إلا أنها لم تقو على تلك الشجرات ، فقد ظلت راسخة كالطود . أما النخلة في القصة التي نتناولها فهي باقية على العهد ، صابرة ، متحدية ، ومشاركة ، وقد اختار الشاعر هذا النوع من الأشجار بسبب صبرها على الظمأ وثباتها في الأرض ، وحتى يكون مبرر لهذا البقاء وتواصل التاريخ وعودته كطائر الفينيق ، فالنخلة لها معنى يختلف عن معنى الجميز ، ووحدتها لها دلالة أعمق من اجتماع عدد من الأشجار معًا . وهي شجرة متفاعلة مع الحدث أكثر من سواها . وإذا عدنا إلى القصة وتناصاتها فسنجد هناك الغناء الشعبي ، كما نجد الآيات الكريمة غير مباشرة أو مستخدمة بتغيير ما في الكلمة لتلائم الموقف ، فها هو يخاطب النخلة بجملة : "ما ضل صاحبك وما هوى " ، وهو قول مستقى من الآية : "ما ضل صاحبكم وما غوى " _ يفعل ذلك ليستخدم لفظ صاحبك - أيتها النخلة - وما هوى سواك ولا أحب إلا أرضك . أما قول امرئ القيس " ضيعني أبي صغيرًا ، وحملني دمه كبيرًا " فيحوره الكاتب إلى " ضيعني أبي صغيرًا وحملني الهم كبيرًا " كما أنه ينقل تجربة أيوب ، ويتحدث عن " الفردوس المفقود " بالمعنى الحرفي للوطن ، أو سنة الخروج _ ويعني سنة التشريد أو التهجير . بالإضافة إلى الاقتباسات الأخرى المباشرة ، من القرآن : [ والنخل ذات الأكمام ] ، يا يوسف العلي ... كانت النخلة قابلة مريم ومن رطبها تلبي وليدها " . *** يمثل هذا الحشد الزاخر من الإيحاءات أو المرجعيات منطلقًا للقصة ، فترتفع النخلة بسموقها القصصي ، وهي بالتالي توصلنا إلى لوحة تتجلى فيها النخلة مرسومة ، أو يتجلى فيها المتلقي الصابر ، أو المهاجر الذي عاد للنخلة الصابرة - سيان . هي لقطة من مصورة يقف القاص فيها مسترجعًا ، مستوحيًا ، مستلهمًا ، وبانيًا لعالم من الواقع والخيال معًا . *** ب -قراءة أسلوبية - نصية: إن الخطاب الأدبي يقدم نفسه من خلال اللغة . واللغة بإشاراتها الخفية والظاهرة ترتبط لدى الكاتب بواقعها الاجتماعي ومؤشراتها البيئية ، ولما أن كانت اللغة هي الفاعلة في النص فإننا سنجد أنها تغوص في الأرض وتنداح عليها ، ذلك أن المعجم اللغوي الدال على الأرض ومفرداتها وما يستخرج منها ظل المكون الأول والفعلي لحبكة النص . قدمت اللغة في القصة قدرة سردية من استرسال العبارات وتلاحق المعاني ، كما مزجت بين تعابير من التراث وأخرى من واقع الحال ، واستعانت بلغة غنائية متصلة إلى حد مكين بمشيمة المعنى . لنلج إلى دوالّ من ذلك : يقول الكاتب : "يفتح خوخة للذكريات النائمة في أعماقها ... " ( ص 8 ) ، فهو لم يقل مدخلاً ، أو بوابة أو بابًا وكلها جائزة له ، ولكنه استحضر " خوخة " ليتواصل مع ماض وواقع . ويقول : " يتنشف بالنور ، " ما قعدت يومًا ولا عرفت القعود " ( ص 7 ) ، " ملعون أبو الغياب وأبو الفراق " ، " في أثناء زرقة الشمس " ( ص 6 ) ... الخ . ومثل هذه التعابير مستسقاة من اللغة الدارجة هي أقرب ما تكون لمحاورة أو على الأقل لملامسة واقعية . فإذا قال " من شفتيه الناشفتين " ( ص 12 ) فهو يتعمد الوصف حتى نستسقي صورة التشقق على هاتين الشفتين ، وإذا قال " ولكنك رحت " فهو يعني الموت وما هو أكثر منه ، يعني كذلك الحسرة عليه ، ويعني الزمن الذي تلا ذلك . وتورد القصة أسماء للأماكن ( البياضة ، رباع الست ، المراح .. الخ ) وأسماء لنباتات ، وأخرى لطيور ، وتصب هذه كلها بمعنى التشبث بالوطن ، حتى لتدل هي بذاتها على معنى الوطن . إن الراوي خبير كذلك في الروائح بالوطن ، وها هو يحبب لنا حتى " هواء المراح " الذي يحمل رائحة الأنعام _ الأبقار والماعز والأغنام ، فيحول بذلك رائحة القرف إلى حالة التشوق والارتباط ، إذ أن قلب العاشق دليله ، والراوي " يعرف " رائحة هذه الهضبة في سويعات الصباح ، ويعرف رائحة النسيم فوق ذاك المنحنى " ، ولا عجب فالمكان راسخ في وجدانه ، وما المكان إلا البيت الذي أشار إليه غاستون باشلار : " وهكذا فإن الكون الفسيح يصبح إمكانية لكل الأحلام عن البيوت . الرياح تنبعث من قلبه ، والنوارس تطير من نوافذه . إن بيتًا يملك هذه الدينامية يتيح للشاعر ( القاص ) أن يسكن في الكون... أو يفتح نفسه للكون ليسكن فيه ، ولكن في لحظات الطمأنينة يعود الى قلب هذا المأوى - كل شيء يتنفس من جديد " . أكاد أقول إن الكاتب جند لهذه القصة كل ما تحتضنه طبيعة الأرض الفلسطينية وعاداتها ( نحو حذوة الفرس ، الخرزة الزرقاء ) ، وبناياتها ( نحو الخوخة ، القنطرة ... ) ، وهي - على العموم - تضفي هذه الواقعية بشحناتها المؤلمة.... فتحديد الطبيعة التكوينية يسوق إلى تبيان يساعد الشخصية المحورية - هذه الشخصية التي قد تكون هنا : أ_ الراوي ، ب_ النخلة ، ج _ المكان بتفاصيله وجزئياته . فكل من هذه الافتراضات له / لها سيادة في إنتاج النص . وتأتي أهمية المكان في كل افتراض كمية وكيفية ، ذلك لأن الكمّ هنا مخفي ، فقد كانوا وعاشوا وسعدوا وراحوا وهلكوا .أما على مستوى الكيف فيبدو أن للمكان طاقته الاختيارية في تعميق العلاقة بينه وبين الراوي ، وقبل ذلك بينه وبين الوالد علي ( يلاحظ أن اسم والد الكاتب هو علي ؛ وهذا من شأنه أن يقودنا لحالة المطابقة بين الفن والمرئي ) ، فمشاركة المتلقي في إنتاج النص تأتي من توقعه بأن الكاتب قد عاش حقًا- بصورة ما - أو على الأقل أن له معايشة وجودية ونفسية - هي معايشة الرؤية العميقة الشاملة المتحركة من زمن إلى زمن وصولاً إلى زمن آخر. اللفظة على المستوى الكمي والكيفي تكتسب قوة وإيحاء ، فإذا قرأنا قوله " ستون عامًا يربضون على كتفيك بما يحملون من الغربة والذل ... "(ص9) فإن استخدام لغة الجمع المذكر ليدل بذلك قصدًا على القوة والتسلط والعتو . أما استخدام الحال - نحويًا - في بداية الجملة فقد كان دليلاً على منطلق الراوي الأولي : -" مستنشقًا هواء الفجر المضمخ بعبير البرتقال ساعة ... "(ص7) - " محمولاً على بساط من الشوق أعود إليك يا مبروكة "(ص7) -" نابشاً بليونة الفجر ذاكرته الغنية " (ص -" قادمًا من ليل الغربة الدامس ممتطيًا جوادًا أصيلاً ... "(ص10) وعلى غرار ذلك كان يقدم ( خبر كان ) وكأنه نوع من بيان الحال : " محدقًا في جذعها كان يتسلق عليها "(ص13) أو يقدم المصدر : قبلاً سأقبلك ، بل إنه يحذف أحيانًا الفعل الذي يجعل الاسم منصوبًا نحو : " واقفًا مشدوهًا - أين ؟ "(ص12) ( بدلاً من " وكان واقفًا مشدوهًا " ... ) أو " باحثًا في جذع مبروكة عن فاطمة "(ص13) بدلاً من " وكان ...... " وهذه النماذج وغيرها تؤدي إلى التوصيل البدئي . إنه يبدأ بالحالة الأهم - وهي مدار الحديث أو الحدث . وهذا التقديم كان مصاحبًا لغنائية لفظية ...وكأنها ترانيم حزن في مبنى النص . وما دام الكاتب يسترسل في أداء العبارات ملاحقًا المعنى بالمعنى فإنه يخلق نوعًا من الدرامية ؟ فإذا سأل " أين ؟ "(ص12) فإنه يواصل ذلك بتكرارية نعهدها في الشعر الحديث _ وبصورة بارزة ، فكل سؤال بلاغي يحمل إثارة ، كما يحمل شحنة من استيحاء الماضي . فكانت أسئلة " أين ... " تدور حول المادة المحسوسة والمعنى ، وهذه كلها تصب في إرض الوطن ، في أرض النخلة . ثم إن الجمل المتصلة المتراسلة تأتي في القصة بغية التوضيح أو إلقاء ضوء آخر معبر ، وذلك على غرار : " يعرفها . يسير إليها .يهرول . يقفز . يعدو(ص12) . "فهذه الأفعال المتعاقبة هي حركية تدل على معناها ، وبالتالي فهي انفعالية . وعلى نحوها : " مبروكة تعرفني . تحبني .تنتظرني "(ص9)، " يلهث ، يتعب ، يقف "(ص98)، ومثلها كثير . أما التشبيهات فقد كانت تُستقَى غالبًا من جو المكان والبيئة : "ذراعاي مثل جناحي نسر"(ص7)، " فاطمة جفت مثل عدو يابس "(ص13) ، " نعدو مثل الحملان ، ونطير مثل الفراشات الملونة "(ص18) ، " يتعثر بعود يابس استراح على الأرض ملتاعًا على الحياة " (ص ، ففي هذا النموذج الأخير نجد في آلـية النقل من حالة الراوي إلى حالة العود اليابس ، وهو تشبيه فني وإسقاطي _ حسب مفاهيم علم النفس . وهذه التشبيهات من واقع الحال نجدها كذلك في قوله : " وبنى سخام التبغ في صدرك مداميك سوداء مثل الغربة " (ص ، فسوداء مثل الغربة هو نقل حاسة إلى أخرى.... وتراسلها على صياغة ما اصطلح عليه في البلاغة الحديثة " الحس المتزامن . وإذا أضفنا إلى لقطات الواقعية سردًا على النحو " وهو يقول ... ويقول " أو نقل التساؤل المعبر " لماذا تضحكون ؟ " ( ص 9 ) ، فإننا ندرك أن هذه القصة وظفت لغويًا بما يعكس المضمون ، وشحنت المعنى بواسطة المبـنى المعبّر والموصِل . ج - قراءة تأويلية - نصية : التقديم أو " الفرش " الذي سبق القصة مستقى من " أرض حقيقية - الفتوحات المكية لابن عربي " ، حيث أنه يعمد إلى بيان فضائل النخلة إلى درجة كونها أختًا لآدم - خلقت من فضلة التراب الذي خلق منه فهي لنا " عمة " . كمان يمكن أن أقبل هذا النص مقصورًا على المستوى الثقافي المحض ، ذلك لأنه ليس موظفًا على المستوى الفلسطيني خاصة ، بل هو وارد في سياق ديني أو إسلامي قِيمي أو صوفي . فالحديث " أكرموا عماتكم النخل "، يشرحه القزويني : " إنما سماها عماتنا لأنها خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام "، ومضى بعد ذلك يشرح مبلغ التشابه بين الناس والنخلة: " ... ولو قطع رأسها لهلكت.. ولها غلاف كالمشيمة التي يكون الجنين فيها ... ولو قطع منها غصن لا يرجع بدله كعضو الإنسان، وعليها ليف كالشعر يكون على الإنسان ... وإذا قاربت بين ذكران النخل وإناثها فإنه يكثر حملها لأنها تستأنس بالمجاورة " ، فأنسنة النخلة لدى الكاتب كان موقفًا ، كما أن اختيار الصفة " المائلة"، يُعيدنا إلى نخلة مريم "المنحنية" ،وبالتالي فالنخلة هي رمز فلسطيني كنعاني هو الفينيق- رمز التجديد والانطلاق ، ورمز الصبر والثبات مهما تناوحت الرياح وكانت هوجاء. ويجيز خطاب الحداثة أن يحمل العنوان ما قد يفترض من أن المبدع يتعامل مع اللفظة بقدر من الحساسية ،لذا فإنّ النفاذ إلى أعماق اللفظة وكنهها والتغلغل في احتمالات أبعادها من شأنه أن يتجه بنا إلى الجوهر – هذا الجوهر المشحون بكثير من الموروث النفسي والتاريخي سواء كان المبدع على وعي بذلك أم لا. إن النخلة المائلة بكل ما تحمله من مصابرة ومرابطة ترتبط بصبر الراوي - أو لنقل بصبر الفلسطيني المشرد. فالصبر كان مترددًا –موتيفًا –لازمًا، يمثُل تارة بصورة مباشرة، وطورًا بالرمز "أيوب"، الذي ذكر في القصة في سياقين مختلفين: أما الأول فقد كان مباشرًا ووصفًا مجردًا ، و أما الثاني فقد ورد على صورة حكاية قصيرة جدًا تقول إنه تقاوى على نفسه ...حتى وصل إلى البحر فخرج معافى. فلا بدع إذن أن يصل الراوي إلى مسقط رأسه، وإلى النخلة حتى يعود أيوب الجديد معافى كذلك. يتمثل الراوي في أثناء عودته أن الهواء كله له، أنه يشم التربة، يستجلي محاسن الأرض، يعانق النخلة فتخزه أضلاعها الجافة. ولكن لا بأس! (ص13). يربط بين تكرارية علاقته بالنخلة كتكرارية قراءة الفاتحة وما من ملل.(ص9)، والتساؤل (أين؟) جزء من المبحث عن كينونته، فأين طيور الدوري التي كانت تقفز حوله في ساحات البيت؟ ولكن أين البيت؟ (لاحظ هذا التدريج أو التدرج في المبنى المتناقص). ثم "أين فاطمة اليانعة الخضراء التي جفت مثل عود يابس؟" ؟ - وفاطمة مثال لهذا الضياع الفلسطيني المريع. وتظل القصة تؤكد هذا الحنين الرومانسي حتى في تصميم الراوي الذي كان يستلقي في المنفى وبندقيته إلى جانبه. النخلة المائلة إذن هي منحنية أمام الصدمات والنكبات، وها هو يتساءل عن سر انحنائها ، ويضع لذلك ثلاثة احتمالات كلها تصب في مراح واحد، وكلها تعكس مشاركتها الإنسان في عذابه ووصبه، وكذلك في أشواقه وحنينه. إن هذه القراءة في المعنى التأويلي هي احتمالية أو افتراضية، وإن صدق الزعم فإنّ لكل موضوع دال - عددًا أكبر من المعاني ،وبعضها يتداخل فيما بينه. وبالتالي فإن الكتابة إذا انطلقت مجازية أو استعارية فهي تدل على حشد من الصور ، وعلى طاقة بنائية خلاقة- وهي خلاف الكتابة الواقعية المجردة التي تنشأ من فراغ.... أو تؤدي إلى فراغ. *** غير أن القصة تفاجئنا في السطر الأخير بهذه الحدة الموقفية: "لومي مش ع الزمن لومي ع اللي راحوا وهجروكِ " إن هذا الخطاب حتى ولو ورد في صورة أغنية قد يحتمل معنى أن نتهم –مباشرة وغير مباشرة- مثل هذا الولد المعذب يوسف ومثل أبيه علي - الذي ظلت أحلامه تعانق النخلة حتى رمقه الأخير ، فأغفى وهو يحتضنها ، وهو يتلمس كل رائحة من تلك الأرض التي نزح عنها ، وبالطبع فهذا الموقف في الأغنية هو آني وعاطفي وعابر. المصدر: طه، محمد علي: النخلة المائلة، دار الهدى، كفر قرع، 1995. المراجع: 1. القرآن الكريم 2. الأصبهاني، أبو الفرج: الأغاني، ج 13، دار الثقافة - د .ت. 3.باشلار، غاستون: جماليات المكان(ترجمة غالب هلسا)،ط3 ،المؤسسة الجامعية، بيروت-1987. 4. بيومي مهران: دراسات في الشرق الأدنى القديم، دار المعرفة الجامعية، القاهرة،1997. 5. الثعالبي: ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، دار المعارف،القاهرة، 1985. 6. خان، محمد: الأساطير والخرافات عند العرب،دار الحداثة، بيروت-د.ت. 7. شوقي ،عبد الحكيم : موسوعة الفولكلور،مكتبة مدبولي ، القاهرة-1995. 8.القزويني:عجائب المخلوقات،ج1، دار التحرير للطباعة والنشر، القاهرة،د.ت. 9. ياغي ، عبد الرحمن: حياة الأدب الفلسطيني الحديث، منشورات المكتب التجاري للطباعة، بيروت-د.ت. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:53 pm | |
| أرض الزيتون في نشيد الزيتون قضية الأرض في الرواية الفلسطينية بقلم الكاتب: حسن النيفي لعله من البدهي أن تكون قضية الأرض هي المؤرق الأقوى لأذهان ونفوس أفراد الأمة، ليس على المستوى الاجتماعي والنفسي والسياسي فحسب، بل على المستوى الفني والأدبي والوجودي بشكل عام. ولعلنا لا نذهب بعيداً إن قلنا: إن البواعث الوجدانية والشعورية لمفهوم الأرض تتجاوز كونها (محرّضات إبداعية) بل أضحت هدفاً في طليعة الأهداف التي يتحدد على أساسها مصير الفرد، ليس على المستوى القومي فحسب، بل على المستوى الإنساني العام. ولئن كانت الانكسارات التي تمر بها الأمة العربية ما تزال تقذف بشظاياها في النفوس، فتغدو رياح الفواجع هي الهواء الذي يستنشقه المرء، ويصبح الإحساس بالإحباط والانهزام والإذلال الذي ترسمه كل يوم توهجات الدم المراق، واستغاثات الشرف المستباح، سواء في فلسطين أو العراق حالة مألوفة، أقول: إن كان الأمر على هذه الحال، على مستوى الواقع المعيش، فإن الأدب (كمجال إبداعي) ما زال، في شطر كبير منه، مستعصياً على حالات الاحتلال والهيمنة والتدنيس، وما زال، أيضاً، يعلن عن مشروعيته في الدفاع عن منظومة القيم الإنسانية المتجذرة في النفوس. وانطلاقاً من هذه الحقيقة أقول: إن وقفتنا أو قراءتنا لكتاب (نشيد الزيتون) لمؤلفه الدكتور نضال الصالح، لم تكن نتيجة نزوع جمالي أو فني أو بدافع الفضول العلمي فحسب، بل هي، أيضاً، نتيجة الرغبة في إعادة الاعتبار إلى الذات، والبحث عن تجليات الوجدان المقاوم. يتألف الكتاب من مدخل وأربعة فصول، ويستهل الباحث مدخله بالإشادة بدور الصحافة كونها حدثاً هاماً في عالم الثقافة، استطاع أن يسهم في عملية التواصل المعرفي بين الناس كما أسهم في فتح آفاق رحبة لظهور فنّي (القصة والرواية) ووصولهما إلى القراء. ثم يستعرض الناقد بعد ذلك البواكير الأولى لظهور الرواية الفلسطينية، فيتوقف عند بعض العناوين، لعل أهمها: (ظلم الوالدين) ليوحنا دكرت، ورواية خليل بيدس (الوارث) وقد صدرت الروايتان عام (1920م) ثم يستعرض الناقد بعض الروايات التي تتالت تباعاً، مثل رواية (الملاك والسمسار) لمحمد عزة دروزة، 1934، و(مذكرات دجاجة) لإسحق موسى الحسيني، التي تشكل، وفقاً للدكتور نضال، منعطفاً هاماً في تاريخ الرواية الفلسطينية، كونها النص الروائي الوحيد، من أعمال تلك المرحلة، الذي حقق رواجاً استثنائياً وقت صدوره، ص 14. ثم يخلص الباحث إلى رأي مفاده: أن ما صدر من روايات فلسطينية قبل سنة 1974، (لم يكن سوى محاولات سردية مبعثرة لم تستطع أن تشكل إرثاً وجذراً تتنامى منهما المحاولات الروائية الفلسطينية في السنوات اللاحقة، بسبب عدم قدرة كتابها على الإمساك بأدوات الكتابة الروائية، وبسبب ابتعادهم عن معالجة الواقع الذي كان يواجه محاولات مسعورة لنفي الفلسطينيين خارج أرضهم، ولتشويه حقائق وجودهم التاريخي على هذه الأرض) ص: 6. ويمكن أن تكون رواية جبرا إبراهيم جبرا (صراخ في ليل طويل) 1955، وفقاً للناقد، هي الرواية الأولى، بالمعنى الدقيق لمصطلح الرواية، التي استطاعت أن تحوز شروط الفن الروائي، وذلك بفضل عدم رضوخها لشروط الرواية التقليدية من جهة، واستفادتها من تقنيات الرواية الغربية من جهة أخرى. ص: 17 ثمّة مسوّغان، وفقاً للدكتور نضال، يجعلان من قضية الأرض نقطة استقطاب في النشاط الروائي العربي الفلسطيني، أما المسوّغ الأول فيكمن في كون الفلاحين يشكلون الغالبية العظمى من المجتمع العربي، إضافةً إلى كونهم يرْكزون في قاع السلم الطبقي الاجتماعي، أما المسوّغ الثاني فيكمن في كون غالبية الكتّاب ينحدرون من أصول ريفية. وسواء أكان هذان المسوّغان كافيين أم لا، فإنه بوسعنا القول: إن مفهوم الأرض لم يعد يقف عند تخوم المسوّغات الموضوعية للبحث، بل نظنه يتعدى ذلك ليأخذ بعداً رمزياً في وجدان المواطن العربي، لكون الأرض، على مرّ العصور جسّدت مكمن السعادة والشقاء في آن معاً، فحينما يحوزها الإنسان وتجود عليه فإنه يسعد، وحينما تشحّ عليه، أو تسلب منه فإنه يشقى، أما مفهوم الأرض في الرواية الفلسطينية، فنظنه يكتسي طابعاً حسّاساً للغاية، لأن قضية فلسطين كانت النواة الأساسية في الصراع العربي الصهيوني. تجليات الأرض في الرواية العربية لقد تباين تعاطي الروائيين العرب لقضية الأرض في مرحلة الثلاثينيات وحتى الخمسينيات من القرن العشرين، ولعلّ مردّ هذا التباين يعود إلى تفاوتٍ في الوعي الاجتماعي والثقافي لدى الكتّاب أنفسهم من جهة، ثم إلى تفاوت امتلاكهم لتقنيات الرواية الحديثة من جهة أخرى، ففي الوقت الذي أخفقت فيه رواية (زينت) لمحمد حسين هيكل، في تجسيد علاقة الفلاح بأرضه، وذلك بسبب نزوعها الرومانسي الذي اكتفى بتصوير المشاهد الأخّاذة للريف المصري، على حساب إدراك الصراع القائم بين البنى الاجتماعية، فإن رواية (الأرض) لعبد الرحمن الشرقاوي، يمكن أن تكون الرواية الرائدة في إدراكها، واقعياً وجمالياً، لطبيعة العلاقة بين الفلاح وأرضه ومستغليه. أما بالنسبة إلى الرواية السورية، فإن انشغالها بقضية الأرض جاء متأخراً، ويمكن أن تُعد رواية (المذنبون) لفارس زرزور، في طليعة الأعمال الروائية التي انشغلت بهاجس الأرض، وعلى الرغم من ذلك، فإن الدكتور نضال يأخذ على الرواية السورية رضوخها للمفاهيم الروائية التقليدية، إلى درجة تجعل الروائي يتدخل في صياغة الأحداث وإنطاق الشخصيات وفقاً لما يرتئيه هو، لا وفقاً لما يقتضيه منطق الأحداث وسيرورة تنامي الشخصيات. وربما كان الشأن مختلفاً بالنسبة إلى الرواية المغربية، كون مرحلة النضال الوطني في الشمال الإفريقي تجسّدت على جبهتين: مناهضة الإقطاع والمستغلين من جهة، ومناهضة الاستعمار الخارجي من جهة أخرى. وفي هذا السياق يقف الدكتور نضال عند رواية (الريح الشتوية) لمبارك ربيع، ويرى فيها رواية رائدة بسبب (تثمينها للمستوى الفطري لعلاقة الإنسان بأرضه، وتأكيدها على نحو غير مباشر، أن هذا المستوى أشدّ تأثيراً وفعالية في معركة النضال الوطني من أي كم معرفي عن الفداء والتضحية من أجل الأرض) ص 31 ولعله من الطبيعي أن نؤكد في هذا السياق، أن الحاضن المنهجي للناشط الروائي المعني بقضية الأرض هو المنهج الواقعي، والواقعي الاشتراكي، ولعل ذلك يعود إلى إدراك الكتّاب الروائيين أنفسهم لطبيعة الصراع الطبقي في المجتمع آنذاك، ولإدراكهم طبيعة العلاقة بين البنى الاجتماعية المتصارعة، أضف إلى ذلك، أن قضية الفلاحين هي من طليعة اهتمامات المنظومة الفكرية الماركسية التي انبثق منها التيار الواقعي الاشتراكي. فلسطين والرواية العربية لعله من البدهي القول: إن قضية فلسطين هي محور الكفاح العربي منذ أربعينيات القرن المنصرم، وقد تجسّد هذا المحور النضالي في النشاط الروائي العربي من خلال استلهام العديد من الروائيين العرب قضية فلسطين في نتاجهم، ويرى الدكتور نضال، إن تعاطي الروائيين العرب لقضية فلسطين تجلى عبر نمطين: الأول لا تحظى فيه قضية فلسطين على أكثر من التعاطف المجرد، بمعنى أن فلسطين هي كسائر المشكلات التي يعني بها الكاتب. أمّا النمط الثاني، تشكل قضية فلسطين فيه مركز الاستقطاب، بحيث ينهض البناء الفني والجمالي للرواية على همّ واحد، هو فلسطين. وعلى أية حال، فإن الدكتور نضال يؤكد على قضية هامة، مفادها: أنْ ليس كل ما كُتب عن فلسطين من روايات يمكن أن يحظى بالجودة الفنية أو النجاح الجمالي، وذلك بسبب (نحول أدواته الفنية وقصور الوعي لدى كتّابه بالواقع) ص 36. وهذا يؤكد لنا على الدوام أن حضور الإيديولوجيا في العمل الفني، مهما كانت قيمتها، لا تعصمه من السقوط إن كان متهافتاً جمالياً. وينهي الدكتور نضال هذا الفصل بالحديث عن ثلاث روايات جعلت من القضية الفلسطينية هاجساً أساسياً لها، الأولى رواية حليم بركات (ستة أيام 1961)، والثانية لفتحي سلامة (المزامير 1968)، والثالثة لأديب نحوي (عرس فلسطيني 1970). قضية الأرض في الرواية الفلسطينية ثمة نوعان للرواية الفلسطينية، تجلى فيهما مفهوم الأرض، وفقاً للدكتور نضال، أما النوع الأول: فهو الرواية التي كتبت في الشتات، أما النوع الثاني فهو الرواية التي كتبت داخل الأرض المحتلة، وفي ظل الاحتلال الإسرائيلي، أما تجليات الأرض كما ظهرت في النوع الأول فتتبدى بطرائق متعددة، وتتمظهر بمظاهر وأفكار ذات صلة بالجانب الاجتماعي والإيديولوجي لمؤلفها من جهة، وذات صلة بالبنية الجمالية للرواية من جهة أخرى. حيث يقف الدكتور نضال عند عدد من الروايات محللاً ودارساً، فيستنتج أن مفهوم الأرض يتبدى عند غسان كنفاني في رواية (ما تبقى لكم) كمصدر قوة وحب وحنان، لأن الأرض وحدها (تحنو عليه وتمده بالقوة) ص 51، 52. في حين أن قضية الأرض عند أمين شنار في روايته (الكابوس 1968) تظهر على أنها حالة من التمازج والتماهي بين الإنسان الفلسطيني وأرضه، إلى درجة يشعر أنها تحدثه و تلامسه وتناجي خلجات نفسه ص 54. أما حضور الأرض في نتاج جبرا إبراهيم جبرا، فيتجلى عبر أكثر من صورة، فهو تارةً، يتخذ بعداً رمزياً يتمظهر في المرأة، وما تجسده من حنان ولذة نفسية، كما في رواية (السفينة). وتارة أخرى يتخذ شكل الحنين الجارف إلى فلسطين، باعتباره صورة القدس حلماً يقبع في أعماق الفلسطيني أينما حلّ، كما في رواية (صيادون في شارع ضيق). أما رواية (عصافير الشمال) لحسين علي خلف 1980، فتظهر فيها قضية الأرض من خلال تصور الطبقة الفلاحية، تحوّل حسهم الفطري إلى وعي مقاوم (يؤثْر الموت فوق تراب الأرض على الحياة بعيداً عنها) ص 70. في رواية الأرض المحتلة على الرغم من نصاعة وعراقة الثقافة التي أفرزها الأدب الفلسطيني المقاوم، وعلى الرغم، أيضاً، من كون هذه الثقافة نموذجاً متقدماً وعلامةً مميزة (لآداب المقاومة على مصر العصور) فإن هذه النصاعة لا تمثل الأجناس الأدبية كافة، بل تكاد تكون الرواية أقل إسهاماً في هذا المجال من الشعر والقصة القصيرة، ولكن أياً كان الشأن، فإن الناقد نضال الصالح يرى في العديد من الروايات الفلسطينية ملامح تجسّد ارتباط الفلسطيني بأرضه، بل يكفي أنها كتبت تحت هاجس القضية الفلسطينية، فاستطاعت أن تقارب مجريات المعركة من جوانبها العديدة. وانطلاقاً من هذا الموقف أو الحكم، يقف الدكتور نضال أمام العديد من الأعمال الروائية محللاً وناقداً ومتقصياً الظاهرة التي يحاول تلمسها. ولئن كان مفهوم الأرض بتجلياته العميقة، لم يظهر إلا بشكل عفوي وساذج وفطري، ينحدر إلى حدود الفجاجة في رواية (حارة النصارى) لنبيل خوري، بسبب ضعف الحوامل الفنية التي اتكأت عليها الرواية، فإن الأمر يغدو على النقيض من ذلك لدى التوقف عند رواية أميل حبيبي (الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل)، فهذه الرواية، فضلاً عن بنائها الفني المتميز، واكتنازها بعدد من الرموز ذات الصلة بقضية الأرض، فإنها تؤكد الوشائج التي تربط الفلسطيني بأرضه، بل يغدو حب الفلسطيني لأرضه ضرباً من (الإيمان العارم الذي يغمر الذات الفلسطينية بالعودة إلى الأرض مهما طالت فترة النزوح عنها) ص 77 ولعل أبرز سمة في هذه الرواية ـ وفقاً للمؤلف ـ هي نجاح مؤلفها في امتلاك قدرة استثنائية على صياغة شخصية ـ أبي سعيد المتشائل ـ التي تنطوي بداخلها على تناقضات ومفارقات تؤكد ـ في النتيجة ـ أن حبّ الأرض لدى الإنسان الفلسطيني متجذّر حتى في نفوس من انحرفوا أو جنحوا نحو الخطأ أو الخيانة.. وفي السياق ذاته، تأتي رواية سحر خليفة (الصبار). لتكشف لنا عن ثلاثة أنماط للشخصية الفلسطينية، يتجسّد النمط الأول في قدرة المرء على الانبعاث من جديد والمضي في طريق المقاومة حتى التحرير، أما النمط الثاني فيتجسّد في حالة الاندماج التدريجي في المجتمع الإسرائيلي تحت وطأة الظروف المعيشية والمادية، أما النمط الثالث، فهو الأشدّ سلبية، وهو النوع الذي لا يهمه سوى مصلحته الفردية دون أي اعتبار لقيمة أو مبدأ أو وطن. تطور قضية الأرض في الرواية الفلسطينية ثمة صلة تتأكّد على الدوام بين حركة الواقع الاجتماعي، والظاهرة الثقافية التي توازيه أو تحايثه، ولئن كانت هذه الصلة لا تخضع للضبط أو الدقة في أحيان كثيرة من التاريخ، إلا أنها في تاريخ الأدب الفلسطيني تكتسي طابعاً واضح المعالم، وذلك لسبب أساسي مؤداه: أن الثقافة الفلسطينية الحديثة برمتها تكاد تكون ثقافة مقاومة وكفاح، وإن اختلفت تجلياتها. وبناء على ذلك يمكن القول: إن انطلاقة الكفاح المسلح الفلسطيني سنة (1965) كانت منعطفاً هاماً، ليس في تاريخ الثقافة الفلسطينية فحسب، بل في تاريخ الثقافة العربية منذ مطلع القرن العشرين. والرواية الفلسطينية ـ بالطبع ـ هي إحدى تجليات هذه الثقافة، فمن الطبيعي أن يكون لها منحاها الخاص الذي واكب تطورات القضية الفلسطينية عبر مساراتها. ولكن تنبغي الإشارة إلى أن حركة الإبداع الروائي الفلسطيني لم تكن تسير في خط تصاعدي واحد، بل ثمة تشظّيات وانكسارات، ففي حين تجاوز العديد من الروائيين حالة النواح والبكاء والنكوص، والتخبط في شباك اليأس، وأخذوا يتطلعون إلى المستقبل بوعي أكثر عمقاً، فإنه من جهة أخرى، ظلّت روايات عديدة، إن على المستوى الفني الجمالي، أو المستوى الفكري أسيرة النزعة التشاؤمية التي لم تستطع أن تستشرف أفاقاً نضالية تفتح أمام الإنسان نافذة للضوء، ومن أبرز الروايات التي تمثل الاتجاه الثاني ـ وفقاً للدكتور نضال ـ كتابات سمير قطب وعوني مصطفى وباسم سرحان. وثمة سمات عديدة اتسمت بها الرواية الفلسطينية بعد انطلاقة الثورة ـ كما يرى الدكتور الباحث نذكر منها: 1 ـ مواكبة الرواية الفلسطينية لمعظم مراحل التاريخ الفلسطيني منذ الألف السابع قبل الميلاد وحتى النصف الثاني من القرن العشرين. 2 ـ قدرة هذه الرواية على سبر الجغرافية الفلسطينية وتجذيرها في ذاكرة المتلقي. 3 ـ أبرزت مدى تعلّق الفلسطيني بأرضه. 4 ـ جهرت هذه الرواية بتعرية الذات. 5 ـ أسهمت في تعرية المزاعم الصهيونية وادعاءاتها بحيازة الحق التاريخي في فلسطين. علاقة الإنسان بالأرض في الرواية الفلسطينية لئن كنا فيما سبق من الكتاب، قد تعرفنا على مدى تجذّر حب الأرض في وجدان الإنسان الفلسطيني، وتوقه العارم إلى ترابه، وتمسكه بأرضه وأشجارها، وعشقه لرائحتها، فإن ما يهمنا الآن أن نتعرف على طبيعة هذا التعلق. ولمعرفة ذلك قام الدكتور نضال بإجراء يتقوّم على تقسيم أو تصنيف للشرائح الاجتماعية بحسب انتمائها الاجتماعي والوظيفي ويتصدر هذا التقسيم طبقة الفلاحين، باعتبارهم الفئة الألصق بالأرض. وفي هذا السياق يؤكد الدكتور نضال أن من الروايات التي أبدت حفاوة بعلاقة الفلاح بأرضه روايتي رشاد أبو شاور (أيام الحب والموت، والعشاق) حيث نتبين في هاتين الروايتين لافنان قاسم، تنمو في الاتجاه ذاته إلاّ أنها تتعثر في النهاية ـ وفقاً للباحث ـ بسبب عدم قدرتها على إقناع القارئ بواقعية أبطال الرواية، وبسبب المصير المأسوي الذي انتهوا إليه. ويكاد الأمر ذاته ينطبق على رواية ـ عصافير الشمال ـ لعلي حسين خلف، التي تحاول إنطاق الشخصيات بما يفوق إمكاناتها، وفي هذا إخلال في الجانب الفني والجمالي للرواية. أما أعمال غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا فلا يبدو الفلاح فيها إلا بصورة عرضية ولعل مرد ذلك ـ بحسب الدكتور نضال ـ عدم ربط الكاتب لشخصياته بأصولها الطبقية ص 97 ـ أما نموذج الإقطاعي، فإنه يحظى بمساحات واسعة من النتاج الروائي الفلسطيني حيث بدا دوره السلبي والمتواطئ مع العدو الصهيوني والبريطاني، هذا ما فعله رشاد أبو شاور في روايته ـ أيام الحب والموت ـ وافنان قاسم في روايته (الباشا) حيث تظهر الروايتان أن الخطر الإقطاعي والخطر الصهيوني هنا بمنزلة واحدة. أما نموذج المختار، فيكاد يكون حضوره حصراً على رواية الشتات الفلسطيني دون رواية الأرض المحتلة، وهو لم يكن أقل سلبيةً من الإقطاعي، فهو على الدوام مستبدّ، أناني، ممالئ للاستعمار على حساب كل القيم الوطنية والإنسانية. ثم تأتي شخصية رجل الدين الذي تبدّى لنا في الرواية الفلسطينية بصورتين متناقضتين، حيث يظهر في الأولى بمظهر سلبي مخاتل، ذي نزعة إنهزامية، إن لم نقل متواطئة، وهذا ما فعله علي حسين خلف في روايته ـ عصافير الشمال ـ في حين يظهر في الصورة الثانية على أنه الإنسان المتنور الذي يواكب تطورات عصره، ويقوم بدور إيجابي في مضمار الكفاح والمقاومة، كما ظهر ذلك في رواية ـ العشاق ـ لرشاد أبو شاور، ورواية ـ بير الشؤم ـ لفيصل حوراني. أما صورة المقاتل كما استخلصها الدكتور نضال، فهي صورة نمطية رُسمت وفق مواصفات محددة، وكأنه قد تم التواضع عليه مسبقاً، وهي مواصفات تقترب من الكمال والمثالية، ولعل الروائيين، إذ فعلوا ذلك، أرادوا أن يقدموا صورة للمقاومة وليس للمقاومين. ثم نواجه بعد ذلك شخصية المثقف، التي أعارها جبرا إبراهيم جبرا أهميّة بارزة من نتاجه الروائي، وكذلك شخصية ـ المرأة ـ التي اكتست بعداً رمزياً ـ على الرغم من ندرة حضورها في الرواية الفلسطينية، فهي تارة المعادل الحقيقي لجمال فلسطين، كما هو الحال عند جبرا في رواية ـ صيادون في شارع ضيّق وهي تارة، رمز معادل للأرض، كما هو الحال عند رشاد أبو شاور ـ في روايته، أيام الحب والموت. وسائل التعبير الفني لا تعدو الرواية الفلسطينية حتى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، كونها رواية حنين رومانسي في الغالب الأعم، إلا أن الظروف التي واكبت مسار القضية الفلسطينية أثرت تأثيراً بالغاً في مسار الفن الروائي، نتيجة كشفها لمستويات من الوعي الفكري والفني والجمالي لم تكن معروفة من قبل. ويمكن الذهاب مع الدكتور نضال، إلى أن الاتجاه الواقعي يكاد يكون هو الحاضن الأمثل للاتجاه الناجح روائياً على المستوى الفلسطيني، وذلك بفضل سمتين وسمتا الرواية الفلسطينية وهما: البنية الروائية واللغة. حيث يقدم الباحث في هذا السياق استجلاءً فنياً نقدياً لبعض أعمال غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا، مؤكداً على الجوانب الجمالية والفنية والتقنيات الجديدة التي استخدمها الكاتبان، من خلال تجاوزهما للأسس والأعراف التقليدية للرواية. جماليات المكان في الرواية الفلسطينية ثمة مكوّنات ثلاثة للمكان في الرواية الفلسطينية: 1 ـ الريف، وهو الأكثر حضوراً في ساحة المنجز الروائي، لأنه الأكثر تعرضاً لحملات الاستيطان التي قام، ويقوم بها الكيان الصهيوني وقد ظهر الريف في النشاط الروائي الفلسطيني بصورتين متناقضتين، الصورة الأولى تُظهر مفاتن الطبيعة وسحر جاذبيتها، كما في رواية ـ الكابوس ـ لامين شنار، والصورة الثانية تُظهر الريف بملامحه البائسة، حيث شظف العيش والفقر وقسوة الطبيعة. ولعل بعض أعمال غسان كنفاني تكون استثناءً في هذا السياق، (حيث تتجاوز الأرض معطاها الواقعي، أي بوصفها مكاناً وحسب، إلى مستوى إنساني برع كفناني من خلاله في تقديم صورة مميزة من معظم النتاج الروائي العربي) ص ـ 150 ـ وما يميز حضور الريف في النتاج الروائي الفلسطيني هو دور العديد من أسماء القرى والأمكنة بأسمائها الحقيقية وليس من الفضاء التخييلي للكاتب. أما حضور المدينة فقد اكتسى طابعاً جمالياً مميزاً، والسبب في ذلك ـ وفقاً للدكتور نضال ـ يكمن في أن صورة المدينة ليست صادرة عما هو واقعي فحسب، بل بكل ما في الخيال من تحيّز ص 151. وانطلاقاً من ذلك تبدو المدينة في أعمال غسان كنفاني (كائناً حياً متحركاً وفياضاً بالأحاسيس والمشاعر). أما صورة المخيم، المكوّن الثالث من مكوّنات المكان، فقد ظهرت بمظهرين، الأول تتجلى فيه ملامح البؤس والشقاء وسوء الأحوال المعيشية، أما المظهر الثاني فيظهر المخيم على أنه موئل المناضلين وفضاء رحب لإعادة بناء الذات وتنامي الوعي المقاوم. وينهي الدكتور نضال بحثه بالحديث عن الرمز في الرواية الفلسطينية، حيث يؤكد أن سمات الرمز في الرواية الفلسطينية هي ذاتها في الرواية العربية، حيث تبدّت بطريقتين: الأولى رمزية خالصة، وهي ما كانت (فيه الرواية قد توصلت بأسلوب رمزي خالص للتعبير عن مضمونها) ص 157، ويؤكد المؤلف أن ثمة أربع روايات فقط، من المنجز الروائي الفلسطيني تنتمي إلى هذه الطريقة، وهي (1 ـ مذكرات دجاجة للدكتور اسحق موسى الحسيني 2 ـ الكابوس لامين شنار 3 ـ نزل القرية غريب لأحمد عمر شاهين 4 ـ الخيوط لوليد أبو بكر) أما النمط الثاني للرمز، فيكون في رمزية الدلالة، (أي تلك المعالجات الجزئية التي استخدمت الرمز من خلال ما يمتلكه من قوة وإيحاء، ليعمل على توضيح فكرة أو موقف للمساهمة في تفسير الرمز العام للرواية) ص 157. ومهما يكن من أمر، فإن السمة المميزة لمنهج الدكتور نضال في هذه الدراسة هي عملية التحليل والتركيب، ومن ثمة إعادة البناء، ونعني بذلك أن هذا النهج ذو منحى تطبيقي إذ قلّما يلجأ إلى التنظير، ولعل ذلك يعود أيضاً، إلى إدراك المؤلف أن طبيعة النصوص المعنية بالدراسة تسهم كثيراً في تحديد المنهج الذي عليه اتباعه. وتنبغي الإشارة إلى أن هذا المنهج هو ذاته الذي اعتمده الدكتور نضال في أغلب دراساته النقدية، نذكر منها: (النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة، المغامرة الثانية، تحولات الرمل) ولعلنا لا نحيد عن الصواب إن قلنا: إن السمة الإبداعية عند المؤلف ـ كونه روائياً وقاصاً ـ قد زوّدته بقدرة نادرة على اختراق النصوص وتفكيكها بسهولة ويسر، بغية استبطان ملامحها الجمالية والفنية، ودون أن يكون ذلك على حساب وحدة العمل الفني وتماسكه. وقبل أن ننهي قراءتنا لهذه الدراسة الممتعة والمفيدة، لا بدّ من إبداء بعض التساؤلات التي تتعلق بصميم الرؤية النقدية للدكتور نضال الصالح، ولعل أولها هو أن القارئ يستشفّ بطريقة غير مباشرة أن المؤلف يؤكد أن الرواية الناجحة ـ جمالياً وفنياً ـ فيما يتعلق بقضية الأرض، هي الرواية التي أدرك أصحابها طبيعة الصراع بين الطبقات الاجتماعية، بل يعدّ الدكتور نضال إدراك التناقض الطبقي مقياساً لنمو الوعي الجمالي. والذي يعنينا من هذا الأمر هو إذا كان الانحياز إلى إيديولوجيا معينة أمراً مشروعاً على الصعيد الفكري أو السياسي، فإنه على صعيد الفن، يبدو الجانب الجمالي هو الأولى بالأهمية، أقول هذا الكلام وأنا على يقين من أن الهاجس الجمالي هو ما يؤرق الدكتور نضال قبل أي هاجس آخر، ليس في دراسته هذه فحسب، بل في معظم إنجازه النقدي، ولهذا قلت في البداية إنها تساؤلات. وثمة شأن آخر، وهو صورة المثقف في نتاج جبرا إبراهيم جبرا، وأظن أن هذا الموضوع بحاجة إلى دراسة مستقلة ومستفيضة، ولئن كان هذا الأمر متعذراً طرحه ـ في سياق قضية الأرض ـ فإن التنويه إلى ذلك أمر ممكن. وبعد: إذا كانت الرواية الفلسطينية تعدُ خطوة نضالية على المستوى الثقافي الإبداعي، فإن كتاب (نشيد الزيتون) للدكتور نضال الصالح، هو خطوة نضالية رافدة للإبداع الذي انشغل بالقضية الفلسطينية. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني الثلاثاء 15 مارس 2016, 9:54 pm | |
| اليوميات والمقاومة الفلسطينية بقلم الكاتب: السيد نجم يرجع فن كتابة السير والتراجم الى مدونات الانسان فى كل الحضارات القديمة ، منذ أن نقش الانسان اسمه على جدران المعابد بل و المقابر قبلها. ربما سعيا الى الخلود و مواجهة النسيان . التراث النثرى العربى زاخر بالعديد من تلك السير التى تتسم بما هو ذاتى الطابع /عامى الاهتمام , بل مزيجا بينهما. لعل أهم و أكثر تلك السير .. هى أصدقها , والمعبرة عن خصوصية صاحبها بما يكشف عن تجربة/تجارب يمكن أن تعد اضافة الى القارىء عموما..وربما اضافة الى التاريخ نفيا أو اثباتا لوقائع ما.تكشف تلك السير العربية عموما عن الملامح الثقافة التى قد نسعى للبحث عنها ولا نعثر عليها بسهولة بين سطور الكتابات النثرية الأخرى. فعلى تنوع تلك السير وكثرتها , تكشف عن وحدة ثقافية حقيقية وبلا افتعال بين ارجاء العالم العربى/الاسلامى.. ما من كاتب الا و له محطات و خبرات و عروض و تجارب بين ارجاء الاقطار المختلفة على اختلاف مسمياتها من الشام والاندلس ومصر والجزيرة عربية وغيرها . كما تبرز تلك السير ذاك الازدهار الفكرى و التفاعل الثقافى مع الآخر, سواء فى الشرق البعيد أو الغرب الاوروبى. كذلك تعكس هذه السير قدر هائل من انماط التفكير وغريب التجارب ليس فقط على المستوى الشخصى أو الاقليمى بل والانسانى .. خصوصا تلك التى كتبت و صنفت على أنها من أدب الرحلات فى بلاد آسيا البعيدة . قد يدهش القارىء من الوهلة الأولى اذا ما تأمل أغلب تلك السير.. تكاد لا تخلو من ملامح انسانية نعيها حتى اليوم .فالقضايا الانسانية والفكرية تكاد تشترك فى العديد منها, مثل صراع الاجيال بين القديم والجديد, والاعتراف (فى بعضها على درجة عالية) و الصراع بين العلماء و التكالب على المراكز المرموقة, ثم الحلول الفردية باعتزال المجتمع والاحساس بالغربة .. و غيرها من الظواهر الانسانية التى قد يعانى منها المثقف حتى أيامنا تلك . لعل أشهر تلك السير , ما كتبه "ابن سينا" , " لسان الدين الخطيب", " الغزالى" و غيرهم. أما "أسامة بن منقذ" (488 – 548 هجرية) فله وقفة خاصة. فهو فارس من فرسان الاسلام و خاض غمار الحروب الصليبية , وقد عاش عهود الحكام الثلاثة ( عماد الدين, نور الدين و صلاح الدين ) و لكل منهم مواقفة البطولية فى مواجهة الفرنج الصليبيين ..ربما أغلب ما عرف عنه وعن مواقفه كمفكر وكاتب الى جانب القائد صلاح الين الأيوبى, لما لتلك الفترة من أهمية تاريخية. أهم خصائص سيرة أسامة بن منقذ أن كتبها على شكل اليوميات فى كتابه الهام "الاعتبار", وهو بذلك دون أن يدرى أضاف شكلا غير مسبوق الى النثر العربى .. خصوصا عندما تناول فترة الصراع مع الصليبيين . فقد عمد فى عرضه على تسجيل اليوم و أحداثه تفصيليا , فأصبح رائدا فى فن كتابة اليوميات فى العربية , وقد شاع هذا الشكل من بعده , وان عرف فى النثر الغربى من قبل "اسامة" . هناك اعتقاد بأن الكاتب اطلع على هذا الشكل , خصوصا بعد احتكاكه مع بعض الفرنجة (هناك الكثير من الاشارات و الاحداث داخل الكتاب تشى بأنه كان على علآقة و احتكاك معهم , كما ذكر أنه سافر وهو فى مطلع شبابه الى "انطاكية" فقط من (أجل التعرف على حياتهم, و التعرف على مصدر و مسببات قوتهم كما ذكر فى كتابه) . يرجح أنه فضل الكتابة على شكل اليوميات يرجع الى حرصه على التسجيل السريع و المباشر و اليومى لكل الأحداث الهامة و الخطيرة التى مرت به وبالمنطقة, وهو حس تاريخى فكرى يضاف الى خصائص الكاتب أثناء تناول كتاباته. فقد شارك فى أحداثها, وخلال المعارك , ربما يمكن أن نطلق عليه أنه قام بوظيفة المستشار العسكرى لصلاح الدين الايوبى قبل و أثناء و بعد المعارك المتجددة دوما . وربما هناك أسباب أخرى , الا أننا نصل بعدها الى حقيقة يقينية .. أنه أضاف الى النثر العربى شكلا لم تعرفه العربية من قبل فى كتابة التراجم و السير. يمكننا اليوم القول بأنه الشكل الذى أصبح منفصلا و له خصوصيته حتى بالنسبة للسير و التراجم. هل لنا أن نشير الى الكاتب وكتابه على جانب آخر؟ فقد كان "الكاتب" مقيما على الأرض الفلسطينية, أثناء كتابة كتابه الرائد "الاعتبار", وكل ما تضمنه هو تعبيرا عن الصراع القديم/الجديد على تلك المنطقة المحورية من العالم. لم نبتعد كثيرا ونحن نتناول موضوع ريادة "أسامة" فى فن "اليوميات" التى هى وليدة "أدب المقاومة" على الأرض الفلسطينية. تعرض "أسامه" فى كتابه الى مرحلة طفولته , حيث تحدث طويلا عن أبيه و عن شجاعته و أنه من المقاتلين و محترفى الصيد ولا يترك المصحف من بين يديه حتى أثناء فترات الراحة خلال رحلات الصيد . اما الجانب الحربى و رصده للصراع العسكرى مع الفرنجة , يلاحظ القارىء أنه لم يتحدث عن نفسه . كل ما جمع عن بسالته و بطولاته العسكرية يمكن ان يعرفها القارىء من كتابات الاخرين عنه . ففى كتاب " الروضتين" لكاتبه "أبوشامه" قدم وصفا و سرد احداثا هامة حول شجاعة " أسامة" أثناء حصار قلعة "حارم" وغيرها من الوقائع. الا أنه وضح من كتاب "الاعتبار" قدر اعزاز و تقدير "أسامة" لصلاح الدين. يتحدث عن أفضاله فيقول: " نادانى اليه مكاتبة مولانا ناصر الدنيا و الدين , سلطان الاسلام و المسلمين , جامع كلمة الايمان , رافع علم العدل و الاحسان , محى دولة أمير المؤمنين.. فاستنقذنى من أنياب النوائب برأيه الجميل , و حملنى الى بابه العالى الغامر الجزيل , وجبر ما هاضه الزمان منى , ونفق على كرمه ما كسد عنه سواه". لعل مجمل ما يمكن الاشارة اليه اجمالا حول تلك اليوميات .. أن الكاتب استخدم الشعر أحيانا تعبيرا عن ارائه و أفكاره .كما أن اليوميات تخلو من النرجسية و تفضيل الذات عكس الكثير من السير و اليوميات . سمة الصدق و الشجاعة و قول الحق يغلب أى اعتبار غير الموضوعى, حتى أنه وعلى ما فى تجربته من قسوة مع الفرنج الا انه لم يرى فيهم آبالسة و شياطين كما قال البعض من معاصريه .. بل ناقش أفكارهم و سلوكهم دون انفعال . ولا يبدو منفعلا شديد البأس الا عندما يسرد المعارك و أحداثها. ..... ...... ..... رأيت رام الله"..بين السيرة والقص "مريد البرغوثى"..يبدأ بقوله: "الطقس شديد الحرارة على الجسر. قطرة العرق تنحدر من جبيني الى إطار نظارتي..غبش شامل يغلل ما أراه, وما أتوقعه, وما أتذكره" . عندما انتهى من أداء امتحان ليسانس الآداب بالقاهرة, كانت حرب يونيو 67,واحتلال "رام الله", حيث منعت السلطات الإسرائيلية عودة الشباب الى مدينتهم. وكانت بداية المنافي .فكانت الغربة الأولى حيث منفى الشباب وهم داخل أوطانهم, وحيث كانت قصيدته الشعرية الأولى منشورة بعنوان"اعتذار الى جندي بعيد" وكأنها النبؤة, فقد نشرت بمجلة المسرح فى الخامس من يونيو 67!!فلما عبر الجسر ..بعد ثلاثين سنة من الغربة وطول انتظار.."الآن أمر من غربتي الى..وطنهم؟ الضفة وغزة؟ الأراضي المحتلة؟ المناطق؟ يهودا والسامرة؟ الحكم الذاتي؟ إسرائيل؟ فلسطين؟". وبعد طول انتظار وإجراءات طالت عبر بوابة الصالة الحدودية والمبنى كله إلى الشارع: " بوابة الأبواب/لا مفتاح فى يدنا. ولكنا دخلنا/لاجئين إلى ولادتنا من الموت الغريب/ولاجئين الى منازلنا التى كانت منازلنا وجئنا",وبعد طول سؤال "مريد" على عنوان الدار التى يبحث عنها, اتصل بأحبابه فى عمان والقاهرة, أخبرهم:" أنا فى رام الله"!! .." الصباح الأول فى رام الله.أستيقظ وأسارع بفتح النافذة:" شو هالبيوت الأنيقة؟" ..سألت وأنا أشير بيدي الى "جبل الطويل" المطل على رام الله والبيرة.."مستوطنة"."وكانت ذكريات الطفولة والمراهقة.. ثم كانت التيارات السياسية الداخلية والخارجية , العربية منها بالذات..حرب 56 والوحدة بين مصر وسوريا ثم الانفصال والبكاء.وفى العودة تعرف "مريد" على وجوه عرب48:"أسميناهم لاجئين! أسميناهم مهاجرين!"."من يعتذر لهم؟" "من يعتذر لنا؟".لكن الاحتلال يمنعك من تدبير أمورك على طريقتك, إسرائيل تغلق أية منطقة تريدها فى أي وقت تشاء.. انه موجز ما يقال عن حالة الكاتب فى "هنا رام الله". .. "لكل بيت فى دير غسانة اسم".. وحيث التعرف على الأشياء والبحث فى قاع الذاكرة البعيدة, ربما الأبعد من المتذكر "مريد" نفسه. البحث عن/فى الجذور وان بدت بحثا فى أصول ألقاب العائلات !..لكن هناك الفتى الشهيد بسبب المظاهرات, وحنقه الأهالي من سلوك المحتل بمنع التوسع والبناء خارج حدود القرى...ولكنه فى النهاية الإحساس السخيف:"سخيف أن تطرح فى مسقط رأسك أسئلة السياح:من هذا وما هذا..".ومع هذا كله شعر الكاتب أنه عندما شاهد ماضيه ككلب ملقى على الأرض, تمنى لو يقبض عليه ليقذف به الى أيامه التالية. .. "لم أنبذ الرومانسية لأن نبذها موضة فنية, بل الحياة ذاتها هي التى لا شغل لها إلا إسقاط رومانسية البشر..". أخيرا عاد مريد الى القاهرة وأسرته بعد ممانعة من السلطات لمدة سبعة عشر عاما. لكن البهجة لا تأتى بمجرد أن تضغط الحياة زرا يدير دولاب الأحداث لصالحك, لأن السنوات محمولة على أكتاف المرء. وفى القاهرة تبدل كل شئ ..الأشخاص والأماكن والحالات , لكن:"شهوة اللصوصية الطفل فينا/نغافل بخل العجوز التى وجهها/مثل كعك تبلل بالماء,/كي نسرق اللوز من حقلها./متعة العمر أن لا ترانا".."اقتادوني إلى دائرة الجوازات فى مجمع التحرير.ثم أعادوني فى المساء الى البيت لإحضار حقيبة السفر وثمن تذكرة الطائرة..في الطائرة قلت:"وداعا أفريقيا"..لم أقم بأي فعل لمعارضة زيارة السادات لإسرائيل..لكنها وشاية لفقها زميل معنا فى اتحاد الكتاب الفلسطينيين"..يبدو أنه من المستحيل التشبث بمكان, انتقل "مريد" من عمان الى بغداد الى بودابست الى القاهرة ثانية.فكان التخلي عن نباتات الشرفة التى يرعاها بنفسه, وعن مقتنيات الغربة بشكل خال من المشاعر, ودخل سلوك حياة الفنادق عنوة الى حياته.. ففيه الخلود القصير الى النفس مع التخلص من الالتزامات الاجتماعية ثم التخلص من سطوة الجار على جاره!!. لكنه فى الحقيقة مازال يقيم فى رام الله..فقط يتذكر ماكان بالقاهرة. وفى زيارة لمبنى الإذاعة والتليفزيون سأله المذيع: "ألسنا شعبا معجزة؟ شعبا مختلفا؟"..فقال له:"كل الشعوب تحارب في سبيلها إذا اقتضى الأمر,المعتقلات والسجون مكتظة بمناضلى العالم الثالث." .." الغربة لا تكون واحدة. إنها دائما غربات" كما يتعود المرء العتمة شيئا فشيئا, هكذا يكون حال السجين والمهجر والغريب والمنفى, يعتاد الكل مدنهم وأماكنهم الجديدة. وعزاء"مريد" أنه لا توجد أسرة فلسطينية لا تشكو من الشتات بين أفرادها.فكانت الغربة فى بودابست, والقاهرة, وعمان, وغيرها. لكنه قابل صديقه "أبو وائل" فى حديقة رام الله وأعرب عن عدم اعتراضه على اتفاقية "أسلو" بين السلطة الفلسطينية والإسرائيلية. لكنه المنفى الذي يحمل الأوطان مع المنفى فى كل مكان:" السمكة,/حتى وهى فى شباك الصيادين,/تظل تحمل/ رائحة البحر!" ونجح "مريد" في اعتماد شهادة ميلاد ابنه بالمكتب الرسمي الفلسطيني.."تميم سيعيش هنا ذات يوم". كانت فترة الثمانينات أسوأ فترة , حيث حرب المخيمات الفلسطينية فى لبنان, حرب الفصائل داخل المنظمة الفلسطينية, شهداء صبرا وشتيلا...وغيرها.أما وقد جاءت الليلة الأخيرة له فى رام الله..قدم طلبا للم الشمل مع زوجته وابنه. لكنه سمع من قبل بموت منيف شقيقه, وأكد أن أمه لن تبقى على الحياة من بعده.. وتذكر كل الفرقات التى ألمت به وبأهله . .." مستلقيا على ظهري فى السرير, أصابع يدي تتشابك تحت رأسي على المخدة, لم أعرف ما الذي أبقى عيني مفتوحتين باتجاه السقف..هذه ليلتي الأخيرة فى رام الله...الليلة اسأل سؤلا: " ما الذي يسلب الروح ألوانها؟" ..... ....... ..... "فلسطين حبيبتى"..رسالة الى كل أم عربية "ساما عويضة" كاتبة فلسطينية, تكتب القصة, لكنها كتبت حكايات فى كتاب صدر بعنوان "فلسطين حبيبتي..لو عرفوها كما عرفتها". لم تكن حكايات قبل النوم, مسلية وطريفة. لو سمعها الصغار لفقدوا القدرة على النوم, ولما قرأها الكبار امتلأت المآقي وبكت القلوب. لكنها فى النهاية رسالة سردية ويوميات غير متتالية من أم فلسطينية الى كل الأمهات العرب. تقول "د.شيرين أبوالنجا" فى المفتتح: "الكتابة كالحجارة, أحيانا أقوى من الأسلحة. فاذا كان الضغط يولد الانفجار فان القصف ,فى حالة ساما عويضة ..ولد الكتابة. كتبت هذه النصوص فى الفترة ما بين عام 2000 وعام 2002م.ودأبت (الكاتبة) على ارسالها الى عدة أطراف , ما بين أفراد وهيئات ومؤسسات, عبر البريد الالكترونى" انها اذن كتابات ساخنة حية خلال فترة الانتقاضة, حيث يتعرض الأطفال قبل الكبار الى مهالك عدوانية تتجدد كل يوم, وكما يردد المثل الشعبي نقول:"كثرة البكا يعلم النواح"! بداية توجه الكاتبة رسالة الى ملكة السويد (وقد حملت الملكة مسئولية الانتفاضة وما يصنعه الإسرائيليين فى الأطفال على عاتق الأمهات الفلسطينيات!). فقالت لها ضمن قالت: "أمهات نحن نصحوا مع الفجر ولا ننام إلا بعد أن ينام جميع أفراد العائلة...أمهات نحن لا تقدر أي أم فى العالم ما نقاسيه حين يخرج أطفالنا من البيت الى المدرسة فى أجواء غير آمنة...أمهات نحن لم نكن من الغباء حتى نفهم بأن المستقبل الكريم لا يمكن أن يتحقق فى ظل الاستعمار العنصري, حرم أطفالنا من أبسط حقوق الإنسان..الحق فى الحياة, الحق فى العيش فى ظل أب وأم, الحق فى التعلم...الحق...الحق فى التعبير عن أنفسهم فى وطن ..." ثم كانت حكاية "أحمد" الطفل الصغير الذي فقد القدرة على النوم, وإذا غفلت جفونه يصرخ وهو نائم :"أبعدوهم..أبعدوهم"!. ولا تنتهي الحكاية, عندما يستيقظ وينتبه لا ينفك يتحدث عن حلم يراوده كل ليلة يرى فيه البحر مياهه حمراء , وهو يسبح فيه ويصرخ مستنجدا؟ ولا من مجيب إلا صدر أمه وكلماتها العاجزة! وهذه حكاية ابن الكاتبة, وقد قررت القوات المسلحة الإسرائيلية معاقبة مدينة رام الله كلها على عملية عسكرية فلسطينية نفذت منذ قليل. كان عليها اصطحاب ولديها من المدرسة قبل نهاية اليوم الدراسي, حتى يجتمع شمل كل الأسرة أثناء العملية الانتقامية بطائرات الأباتشى والدبابات بعد قليل..الموت معا أو الحياة معا. نجحت..عادت الى البيت, ولكن أحد طفليها لم ينتبه لكل حسابات وأفكار أمه, تسلل الى الشارع كي يلعب. لحظات واصبح يركض فى الهواء ويقفز باكيا وقد بات لونه أسود تماما ويصيح بأعلى صوته "ماما..ماما"... وكان عليه وعلى أهله البقاء فى المستشفى لأكثر من شهرين حتى استعاد الصغير عافيته. ربما لارادة داخل الصغير الذي كان يقول لسائق سيارة الإسعاف حين نقله :"أسعفني..لا أريد أن أموت..حرام عليكم..أنا صغير"..ثم يردد كلمات أغنية لماجدة الرومي تقول:"قوم تحدى الظلم تمرد..كسر هالصمت اللى فيك"..! كما أن "رحمة" البالغة من العمر 52سنة, قضت أيامها القليلة الأخيرة فى وداع الأحبة والأقارب, ولكن بطريقتها وبفعل العدوان. هاهي ذي ابنة عمها تتعرض لغارة وقذف مباشر, فيتحطم منزلها. تنتقل رحمة اليها باكية. ولم تمض أيام قليلة أخرى ويتكرر المشهد نفسه لبيت أحد أقربائها أيضا. ولا تتردد فى مشاركته وأهل بيته المصيبة . لكنها وفى طريقها لبيتها تسقط مدرجة فى دمائها وتتمزق ملابسها عنها..ولا تقول إلا جملة وحيدة لأحدهم (مصابا الى جوارها على الأرض":"أستر على يستر عليك". ولا عزاء للجميع إلا لأنها استشهدت مع المناضل "حسين عبيات" الذي تصادف مروره بالشارع فى تلك اللحظة , وكان مرصودا من قوات الأعداء. رحمها الله "رحمة" فقد كانت أما للجميع ! بقرار من جيش الاحتلال الإسرائيلي يطلب من العروس "مريم" (17عاما) إزالة المكياج, وإغلاق خزينتها على كل ما اشترته من ملابس جديدة احتفاء بعرسها وارتداء اللباس الأسود وحتى إشعار آخر . "محمود" (22عاما) الزوج الشاب الصغير, عريس "مريم" , قتلوه بعد حفلة عرسه بأيام قليلة, لأنه تجرأ وكان من شباب المقاومة أثناء إحدى عمليات الاقتحام لقوات الأعداء لقريتهم, تجرأ وقاوم, فقرروا قتله..ونجحوا أن تلبس مريم الحداد! لكن الكاتبة تقول: " أن محمود اغتيل أكثر من مرة من قبل..اغتالوه عندما حرموه طفلا من الحياة الطبيعية التى يجب أن يعيشها الأطفال..اغتالوه عندما حول الأعداء ساحات اللعب والنزهة فى القرية الى ثكنات عسكرية.. اغتالوه عندما أغلقوا مدرسته ..اغتالوه عندما أطلقوا عليه رصاصة مطاطية لم تمته فى حينه وهو فى العاشرة من عمره.. اغتالوه عندما اعتقلوه وهو فى الثانية عشرة من عمره....اغتالوه الف مرة من قبل! عندما كانت "منى" مع بقية أفراد العائلة تقلم وتهذب وترعى شجر الزيتون قدم الجنود الإسرائيليين إليهم فى حوار حول الزيتون وزراعته. كان الحوار ممتدا ومتكررا, ومع ذلك تعرض بيت العائلة للقذف المباشر من هؤلاء الجنود ومن سكان المستوطنة القريبة . الحادثة أن "منى" تركت رضيعها بالطابق السفلي, بينما الرصاص موجه الى المنزل مباشرة بحيث يصعب اختراق درجات السلم للوصول الى الصغير الباكي. ولم يهدأ القذف إلا بعد ربع الساعة. إلا أنه لم يهدأ من بعد أن ليلا أو نهارا..كيف لهؤلاء الجنود والمستوطنين أن يقيموا حوارا ذات يوم وفى نفس اليوم يقذفون بالموت الى محدثيهم بلا سبب واضح؟؟ فتركت منى منزلها مع بقية أفراد العائلة الى شقة فى مكان آخر بعيد, لكنها لا تعرف متى ستعود الى بيتها..بيت العائلة فى القرية التى نشأت وعاشت وتتمنى أن تموت فيها مهما تعرضت من مهالك و أهوال! وتتعددت الحكايات والأهوال, والرسالة صادقة وأليمة من أم وامرأة فلسطينية الى كل الأمهات والمرأة العربية . ..... ...... ...... خاتمة مشتركة: لقد تعددت الكتابات النثرية الراصدة للحياة اليومية خلال فترات ساخنة لرحلة صراع الفلسطينى على أرضه. الا أن النماذج السابقة لها وقفة خاصة..أن نشأة كتابة فن "اليوميات" فى النثرية العربية يسجل على الأرض الفلسطينية. وان راج فى العربية من بعد, الا أن ما كتب بأقلام المحدثين , جاء مزيجا بين السردية الفنية فى القص والتقريرية فى اليوميات. كما ارتبط كاتب هذا الشكل بتوافر المناخ المعيشى الشرس فى مواجهة فظاظة الحياة اليومية تحت وطأة الاحتلال والعدوان اليومى..ليس على المسلحين أو هى مواجهة بين جيشين..بل مواجهة بين جندى مدجج وأعزل لا يملك سوى جسده, وربما حجرا!! ثم اختلاف كاتبا النصين..من حيث الجنس , والتجربة المعاشة داخل العمل , وموطن كليهما حيث "البرغوثى" وصل فلسطين زائرا , بعد غياب ثلاثين سنة..و"ساما" امرأة تعيش داخل فلسطين, وأما ترعى أولادها, وكل أولاد الجيران والوطن, جعل النموذجين يكملان بعضهما البعض..لتكشف لنا الصورة التى قد نغفلها, أو تنسينا اياها الأيام. |
| | | | نماذج لأعمال قصصية في الأدب الفلسطيني | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |