الفصل الأول
المبحث الثاني: جذور الصهيونية وبعث القومية اليهودية
جذور الصهيونية وبعث القومية اليهودية
كل ما سبق أظهر أزمة اليهودية التلمودية، وعدم قدرتها على مسايرة الواقع الجديد ما أدى إلى ضرورة ظهور الحركات الإصلاحية في اليهودية، حتى تتكيف مع الأوضاع الجديدة في المجتمع الغربي لمواجهة المتغيرات الجديدة مثل متطلبات الثورة الصناعية من تغيير في نمط وسلوك اليهودي في حياته اليومية، حتى يمكن إن تتلاءم حياته مع الواقع الجديد وكذلك تصاعد وانتشار العلمنة الحديثة في تلك المجتمعات بالإضافة إلى مطالب الدولة المضيفة لهم للعمل السياسي فيها شريطة إن يكون الانتماء الكامل للدولة وحدها وحتى يندمجوا في المجتمع سياسياً واقتصادياً وثقافياً ولغوياً، وهو ما كان يتعارض مع اليهودية الحاخامية التي عرفت الهوية اليهودية سابقا تعريفاً دينياً واثنياً وأحياناً عرقياً، وقد استجاب اليهود لنداء الدولة القومية الحديثة وظهرت بينهم حركات الإصلاح مثال: حركة التنوير اليهودية بقيادة موسى مندلسون وحركة اليهودية الإصلاحية بالإضافة لحركة يهود المارانو التجارية وتمويلهم ومشاركتهم في تأسيس الشركات التجارية والاستيطانية الكبرى للحركة الاستعمارية وراء البحار والتي كانت عاملاً قوياً في نشر العلمانية وتعميمها في أوروبا وتأثر كثير من اليهود بأفكارها.
إن الإصلاحات التي قدمها القس الألماني مارتن لوثر وإصداره لكتابه "عيسى ولد يهوديا" أحدث دويا هائلا وأثرا كبيرا في المجتمع الأوروبي وساعد على الأتي:
أ. إعادة اكتشاف العهد القديم وما به من الفكر اليهودي القديم والذي أصبح أكثر للآثار الأدبية والدينية شيوعا بين عامة البروتستانت.
ب. أصبح العهد القديم أهم مصدر للمعلومات التاريخية الدينية عامة، باحتوائه على النبوءات لرؤيا النبي يوحنا الهامة لليهود والمسيحيين.
ج. إعطاء اللغة العبرية قيمة دينية كبرى (لسان الكتاب المقدس).
د. إدانته لاضطهاد الكنيسة الكاثوليكية لليهود (وهم منحدرون من أصل واحد).
هـ. شجع على ظهور المفكرين الأوروبيين واليهود أمثال توماس بيتمان عالم اللاهوت البريطاني حيث أعلن أن عودة اليهود مرة أخرى إلى فلسطين ليس لعبادة الله ولكن لمكافحة الغرباء.
إن ما أحدثته الحركات التنويرية وظهور العلمانية والتطورات الخاصة بالثورات الصناعية والتجارية أحدث حراكا دينيا وسياسيا واجتماعيا في حياة اليهود بجميع طوائفهم، ما ساعد على حصول اليهود على كثير من الامتيازات مثل السماح لهم ببناء معابد يهودية وزيادة في طبعات الكتب العبرية سواء دينية أو أدبية ,وصدور براءة التسامح وإلغاء انعزالهم، إضافة إلى إلغاء الشارة المميزة لهم عند خروجهم من الجيتو، حتى يكونا كالمواطنين أبناء بلد الإقامة, كل ﺫلك ساعد على ظهور الكتاب والمفكرين اليهود المؤمنين الحداثة والتطوير ونعرض لبعض منهم في الآتي:
أ. من حركة التنوير أهم روادها
(1) موسى مندلسون اليهودي الألماني، زعيم حركة التنوير ومترجم أسفار موسى الخمسة إلى اللغة الألمانية.
(2) جبريل رايسر يهودي ألماني، كان يعتقد أن الدين غير القومية وأن الاندماج في الشعوب الأخرى سينهى الانعزل اليهودي في أوروبا ويقضي عليه، وكان يدعو إلى ذلك.
ب. من يهود جماعة المارانو
(1) أورييل داكوستا.
(2) إسبينوزا.
ج. من معارضي حركة التنوير
بيرتس سمولنسكين، وهو مفكر صهيوني يهودي، وعقيدته التي يؤمن بها إيماناً راسخاً ويدعو إليها هي أن جوهر اليهودية دين وقومية في آن واحد.
د. المفكرون الصهيونيون خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وسنعرض لأسمائهم ولأفكارهم بالتفصيل لاحقاً، وأهمهم:
(1) الحاخام يهودا القلعى، وكتاباه "اسمعي يا إسرائيل" و"الخلاص الثالث".
(2) الحاخام اليهودي البولندي تسيفى هيرش كاليشر وكتابه "البحث عن صهيون".
(3) موسى هيس يهودي صهيوني علماني ألماني المولد، وكتابه "بعث إسرائيل"، وعرف فيما بعد باسم "روما والقدس".
(4) الطبيب اليهودي الروسي بنسكر، وكان اندماجياً حتى إصداره كتابه "التحرر الذاتي".
(5) بيرتز سمولنسكن.
(6) موشى ليلينبلوم، وكتابه "حول بعث اليهود على أرض آبائهم".
(7) العيزر بن يهودا.
(
تيودور هرتزل اليهودي النمساوي، وكتابه "الدولة اليهودية".
إن الكتابات والدعوات بحق اليهود في العودة إلى أرض الميعاد، والتي تبناها وأطلقها الساسة الأوربيون من غير اليهود (صهيونية غير اليهود) سواء بدوافع استعمارية أو للتخلص من الفائض البشرى اليهودي في أوروبا لم تجد صدى بين يهود أوروبا، الذين كانوا آنذاك بصدد حصولهم على حقوق المواطنة الكاملة في دولهم الأوروبية، إضافة إلى سيل هجرة اليهود من روسيا إلى أوروبا بعد المذابح الروسية لهم. لذا فإن الأوروبيين بدأوا في التفكير في تنفيذ الإبعاد والترحيل عن أوروبا بتوجيه تلك الهجرات إلى أي بلد ما في العالم بعد تجميعهم مثلاً في فلسطين، وذلك في إطار المصالح الأوربية فكانت أول محاولة جدية قام بها نابليون بونابرت الإمبراطور الفرنسي الشهير، وهو واحد من أهم المعادين لليهود في العالم الغربي (سجله في فرنسا يشهد على ذلك) وهو أيضا من أهم دعاة العلمانية الشاملة؛ إذ دعا الصهاينة إلى الاستيطان في بلاد أجدادهم واستحثهم على الانضمام تحت لوائه في حملته الشهيرة على مصر والشام في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الميلادي؛ لإعادة بناء مجد إسرائيل الضائع في القدس والأراضي المقدسة ومن أيدي العرب والمسلمين، ويصف اليهود بأنهم الورثة الشرعيون لفلسطين وذلك في ندائه إلى يهود العالم , وكان الهدف هو استخدام اليهود ومساعداتهم له في تحقيق غايته الاستعمارية ومراميه الخاصة بالشرق، ولكن محاولته فشلت أثر هزيمة جيوشه أمام حصن عكا الحصين، وبذلك يكون أول زعيم دولة وسياسي ينادى بإقامة دولة يهودية في فلسطين.
أصبح مفهوم الصهيونية مفهوما أساسيا في الخطاب السياسي الغربي عام 1841م، مع نجاح أوروبا في بلورة مشروعها الاستعماري ضد العالم العربي والإسلامي، والذي حقق أول نجاح له في القضاء على مشروع والى مصر محمد على الكبير لتحديث مصر والدولة العثمانية، واكتملت بلورة المفاهيم الصهيونية وملامح المشروع الصهيوني تماماً في الفترة ما بين منتصف القرن التاسع عشر وعام1880م على يد المفكرين الصهيونيين غير اليهود ومنهم لورد (شافتسبرى) و(لورنس أوليفانت) وقد لخص شافتسبرى التعريف الغربي لمفهوم الصهيونية في عبارة "أرض دون شعب لشعب بدون أرض"وهى كلمات تقترب كثيرا من الشعار الصهيوني، وقد حاول أوليفانت إن يضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ.
عبرت النزعة الصهيونية في شرق أوروبا عن نفسها من خلال جماعات أحباء صهيون، التي حاولت التسلل إلى فلسطين للاستيطان فيها، وأصبح الصهيوني هو من يؤمن بالتسلل للعودة إلى فلسطين، بعكس المفهوم الذي عرفه المفكر اليهودي النمساوي نيثان بيرنباوم في 1980م في مجلة "الانعتاق الذاتي" وشرح معناه قائلاً: إن الصهيونية هي إقامة منظمة تضم الحزب القومي السياسي، بالإضافة إلى الحزب ذي التوجه العملي (أحباء صهيون)؛ كما صرح بأن الصهيونية تري القومية والعرق والشعب شيئاً واحداً وهكذا أعاد بيرنباوم تعريف دلالة مصطلح الشعب اليهودي الذي كان يشير فيما مضي إلى جماعة دينية أثنية، فأصبح يشير إلى جماعة عرقية بالمعني السائد في ذلك الزمن، واستبعد الجانب الديني منه تماماً، وأصبحت الصهيونية هي الدعوة للقومية اليهودية التي جعلت السمات العرقية اليهودية قيمة نهائية مطلقة بدلا من الدين اليهودي، وخلصت اليهودية من المعتقدات المشيحانية والعناصر الأخروية. وهي الحركة التي تحاول أن تصل إلى أهدافها من خلال العمل السياسي المنظم، لا من خلال الدعم والصدقات من الأغنياء ولكن بعد مؤتمر بازل1897م وهو المؤتمر الصهيوني الأول (الكونجرس الأول/الكنيست الأول) حيث تحدد المصطلح وأصبح يشير إلى الدعوة التي تبشر بها المنظمة الصهيونية، والي الجهود التي تبذلها وأصبح الصهيوني هو من يؤمن ببرنامج مؤتمر بازل الأول.
لم يكن الاعتقاد بوعد التوراة للشعب المختار وانتشار هذا الإيمان به في أوروبا كافيا لقيام الدولة اليهودية على أرض الواقع، ولم تعد اليهودية موضوعا للبحث الأكاديمي، بل أصبحت صيغة واقعية مرتبطة بالأزمة السياسية السائدة في أوروبا، وكان لابد من وجود عدة عوامل سياسية واقتصادية تكون هي الفاعلة المباشرة، ولم يكن مقبولا من الناحية الشكلية وحتى الموضوعية أن يتولي الغرب من طريق مباشر طرد السكان الأصليين في فلسطين علناً وتوطين اليهود بدلا منهم بل لابد أن ينسب إلى الشعب المختار جهاد وعمل شاق لاستعادة أرضه وأرض أبائه الأوائل، ولذا نشطت الصهيونية ومفكروها في تجميع الأفكار القابلة للتنفيذ بعد ما أحكم الربط بين الأفكار الدينية والأطماع السياسية الواقعية الأوروبية في كل محاولة للحصول على نفوذ في منطقة الشرق الأوسط، أو تدعيمه وتقويته كما أصبحت الأفكار الصهيونية مادة خصبة يتجار فيها كل من يريد موطِئ قدم في الشرق؛ ما جعل فلسطين في وحي السياسة الأوروبية وفكرها تقع تحت قوي النفوذ المتصارعة الرئيسية في أوروبا، وهي بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا، وذلك في إطار تعامل أوروبا مع أملاك الدولة العثمانية، والتي كانت فلسطين من ضمنها لذا كان لابد من استغلال الدعم المعنوي الأوروبي لليهود، واستغلال الظروف السياسية الاقتصادية والأطماع الاستعمارية لهذه الدول، وربطها مع بعضها في رؤى ومقترحات للتنفيذ، فكانت هذه المقترحات لأهم مفكري الصهيونية.
1. أفكار الحاخام يهودا القلعى
كانت أفكار الحاخام يهودا القلعى (1798 -1878م) هي التي أدت إلى بعث الصهيونية الدينية في العصر الحديث، لما احتوته من دعوة إلى خلاص الشعب اليهودي بالعودة إلى التلمود والقبالاه، وكذا بالعودة إلى الأرض المقدسة، أرض فلسطين، أرض الآباء تحت زعامة وقيادة بشرية يهودية دون انتظار قدوم الماشيح المخلص كما حدث في العودة من بابل، وبناء الهيكل للمرة الثانية، وإعادة بناء أسوار أورشاليم , ويجب أن تكون العودة مصحوبة بإقامة المستعمرات والمستوطنات اليهودية في فلسطين، حتى تكون مقدمة لظهور الماشيح المخلص ومستقبلة وحامية له من الأغيار , وأيضا بقصد تعمير أرض الميعاد أرض الآباء, وقد سجل هذه الأفكار في كتابيه "الخلاص الثالث" و"اسمعي يا إسرائيل" ودعا إلى الخلاص الذاتي التدريجي، وهو العودة إلى فلسطين حيث يعد ﺬلك فرضاً على كل اليهود في التوراة والتلمود ولخص خطوات العودة في البنود الآتية:
أ. الدعوة إلى عقد (كنيست)جمعية يهودية عمومية تحت قيادة مجموعة من حكماء اليهود (السهندرين) لتنظيم عملية استعادة فلسطين وإنشاء المستوطنات اليهودية بها.
ب. إنشاء صندوق يهودي قومي لجمع التبرعات والمساعدات المالية من أثرياء اليهود لإنشاء المستعمرات والمستوطنات وإجراءات عملية تهجير اليهود وشراء الأراضي لهم.
ج. إنشاء صندوق لجمع الضرائب من المستفيدين من الاستيطان كذا من يهود الشتات.
د. اشتراك كل فئات اليهود في استثمار قرض قومي لإقامة المشروعات الخدمية لليهود في فلسطين.
هـ. إحياء اللغة العبرية ووضع بنفسه كراسة لتدريسها.
2. أفكار الحاخام تسيفى هيرش كاليشر
كان الحاخام كاليشر (1795 -1874 م) متأثرا بالحاخام يهودا القلعى تأثراً كبيراً، حتى تلاقت أفكارهما تماما ,وهو قد ولد في بولندا، وعاش وعاصر توتر اليهود واضطرابهم واضطهادهم في روسيا القيصرية، كما كان قريباً من الحركة اليهودية الإصلاحية، ورفض دعوتها إلى الاستنارة بالمفهوم الغربي حيث جوهرها الاندماج في المجتمع الغربي (أي الأغيار) و لذا كانت دعوته دائما تبنى على ضرورة العودة إلى أرض الميعاد (فلسطين) أرض الآباء والاستيلاء عليها بالقوة، دون الانتظار لمجيء الماشيح المخلص حيث إن مجيئه مرتبط بتجمعهم أولا في الأرض المقدسة (فلسطين)، مثل العودة القديمة من الأسر البابلي إلى أورشاليم، وإصداره لكتابه "البحث عن صهيون " حيث ركز في القسم الأكبر منه على الحديث عن العمل الحرفي اليدوي وخاصة العمل الزراعي، لأنه مهم من الناحيتين الآتيتين:
أ. إن العمل الزراعي وثيق الصلة بالاستيطان وتوفير الغذاء.
ب. محو صورة اليهودي القديمة، والتي تصوره غير قادر على العمل إلا في التجارة والنشاط الربوي، وتصويره الآن قادراً على العمل اليدوي المنتج والمعتمد على الذات.
3. أفكار الحاخام/ الرابي افراهام يتسحاق كوك
هو أشهر حاخام/ رابي في العصر الحديث (1865 -1935م) علما ودراية وتبحرا في فقه القبالاة، حيث سخر ﺬلك العلم في خدمة الأهداف الصهيونية وأسس مدرسة "مركاز هراف "الدينية. وقد جمعت أفكاره وكتاباته كل الاتجاهات الصهيونية في الدين والسياسة وأعلن عن فتوى كبيرة لها تأثير عظيم، وهى أن جيل المستوطنين الأوائل في فلسطين ينتمون إلى جيل الماشيح المخلص، على الرغم من عدم تدينهم لأنهم حققوا تعاليم التوراة باستيطانهم أرض فلسطين، وهى أرض الميعاد ولأنها هي مركز التقاليد الدينية اليهودية والقومية على حد سواء، ولهذا كان ملخص أفكاره محددة في الآتي:
أ. إعطاء معنى ديني حقيقي لمركزية أرض إسرائيل في الحياة اليهودية.
ب. تنمية الإدراك الحسي للعلاقة بين الدين اليهودي ونشاط الصهيونية العلمانية.
ج. إعطاء أهمية عالمية للنهضة اليهودية من خلال نظام نابع من الفكر الديني.
4. المشروع الاستيطاني لموسى هس
أ. إن الأوروبيين القوميين يقولون بنقاء العرق الأوروبي، فلِمَ لا يقول اليهود بنقاء العرق اليهودي؟ وإن الرابطة القومية لا الطبقية هي التي يجب أن تسود بين اليهود، وأنها هي الأرض المشتركة للشعب اليهودي من فقراء وأغنياء، وأن مفهوم الأرض القومية يمثل القاعدة التي يرتكز عليها البناء اليهودي في دولتهم بفلسطين.
ب. يجب حث يهود أوروبا الشرقية على التوجه إلى فلسطين؛ حيث أنهم أفقر فئات اليهود، ويمثلون أعلى نسبة من اليهود في العالم، وذلك تحت شعار "لم لا يحق للشعب اليهودي التجمع لتحرير وطنه مثلما فعل الشعب الايطالي".
ج. استيطان اليهود لفلسطين بزعم نشر الحضارة الغربية ومدنيتها، مثلما تزعم الدول الاستعمارية عند احتلالها لراضي ليست ملكاً لها أنها تفعل ذلك من أجل تحديثها وتنميتها ورقيها، ومن ثم سيجعل اليهود فلسطين مراكز لتمدين ورقي شعوب آسيا وأفريقيا المجاورة لها، ومن القدس مركزا للإشعاع الحضاري، وهذا لن يتحقق إلا عن طريق إقامة الدول الصهيونية في فلسطين.
د. الاستعانة بفرنسا الدولة الاستعمارية الكبرى لدعم هذا المشروع؛ لأنها هي صاحبة النفوذ الأقوى في المشرق العربي (شق قناة السويس ـ نفوذها من خلال المارون في سورية).
5. خطة ليوبنسكر في كتابه التحرير الذاتي واشتملت على الآتي
أ. إن حل المشكلة اليهودية لن يتم إلا إذا تحققت المساواة الكاملة لليهود مع مواطني الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيهم، ولأنهم لا يملكون وطنا خاصاً بهم رغم كثرة الأوطان التي يعيشون فيها كما لا توجد حكومة وطنية تمثلهم، ولذا لزم البحث عن حل بإيجاد وطن قومي يجمعهم، وكذلك رابطة قومية يعملون تحت لوائها والمقصود بالوطن القومي أرض تعيد لليهود كرامتهم المفقودة، لا يستوجب أن تكون أرض يهودا القديمة، ولكن أي أرض يملكها اليهود ويعيشون فيها، مع أنه لا يرفض الأرض المقدسة بفلسطين إذا تيسر ذلك.
ب. تحفيز الجماهير اليهودية على الإيمان بأهمية الوجود القومي المستقل وهذا واجب على الصهيونية السياسية وعليها إثارة الدافع لممارستهم لحقوقهم السياسية القومية.
ج. إن الوقت الحالي (1862م) هو أنسب الأوقات لتحقيق التضامن القومي لليهود، وأن يكونوا جميعا مستعدين للتضحية من أجل تحقيق الهدف القومي.
د. الإثارة الدائمة لحركة معاداة اليهود (اللاسامية)، والضرب على ذلك الوتر أبداً، لإقلاق الأغيار، وجعلهم يشعرون بعقدة الذنب الدائمة حيال اليهود، حيث عرفها بأنها مرض موروث منذ أكثر من ألفي عام وهو مرض غير قابل للشفاء.
هـ. استغلال مشكلة الانفجار السكاني بالقارة الأوروبية لمصلحة الصهيونية، حتى يصبح هدف توطين اليهود في بلد يستقرون فيه خارج أوروبا هدفا مشتركا لكل الأوروبيين الذين يرغبون في التخلص من اليهود.
و. تكوين قوة يهودية مادية فاعلة بالتنسيق مع القوي الأوروبية العظمي، خاصة إنجلترا لإقامة التنظيمات السياسية والإدارية والمالية اللازمة لإقامة الوطن القومي لليهود.
ز. التركيز على الفائدة التي ستعود على الدول الاستعمارية؛ لأن المهاجرين الأوائل من المستوطنين اليهود سيقومون بدور العمالة السياسية والاقتصادية للاستعمار الغربي في المناطق المحيطة بدولتهم في حالة إنشائها.
ح. حدد ليوبنسكر فلسطين وطناً قومياً لليهود بعد إصدار هذا الكتاب بعامين.
6. خطة بيرتزسمولنسكن (1842- 1885م)
أ. مناهضة الحركة الإصلاحية اليهودية(الهسكالاه) بزعامة مندلسون، رغم ما قدمته هذه الحركة لليهود في أوروبا الشرقية والغربية على السواء من مساعدة ودعم، بل هي المحرك الأساسي للتحرر من الجيتو والخروج منه لمواكبة التقدم والتطور العالمي ولكنه رفضها وناهضها للأسباب الآتية:
(1) تمسك مندلسون بالتنوير جعل الشخصية اليهودية تذوب في الشخصية الأوروبية.
(2) تخلي عن أهم قوة محركة للقومية اليهودية المتمثلة في اللغة العبرية وعاء التوراة.
(3) تخلي عن فكرة الخلاص الجماعي للشعب اليهودي.
ب. إبراز العداء لليهود(اللاسامية) لتوجيه الرأي العام اليهودي والتذكير الدائم بمذابح اليهود في روسيا.
ج. دعوة فقراء اليهود في روسيا للهجرة إلى فلسطين بهدف الاستيطان وإقامة كيان يهودي بها.
د. إن العمل الرئيسي للمستوطنين يكون في الزراعة، لأنها تؤدي إلى التفاعل مع الأرض والارتباط والتعلق بها والدفاع عنها إذا لزم الأمر.
هـ. قيام أغنياء اليهود في أوروبا والعالم بدعم عمليات الاستيطان، وشراء الأراضي وإقامة المستعمرات والمستوطنات، وتمويل عمليات التهجير إلى فلسطين، وما تتطلبه من نفقات في مراحلها الأولي.
7. خطة وتصور موشي ليلينيلوم (1843- 1910م)
قام بنشر دعوته من خلال كراسة كتبها بعنوان"حول بعث اليهود على أرض أبائهم" التي احتوت أفكاره على الأسس الآتية:
أ. تصوير حالة الذل والمهانة التي يعيشها يهود روسيا، وضرورة الخلاص من حياة الغربة والمهانة، وهذا لا يكون إلا بالفرار إلى وطن يستقر فيه اليهود.
ب. تأكيد الاعتقاد بأنه لا منقذ لليهود من حياة الذل والمهانة التي يعيشونها في بلاد الشتات إلا ببعث قومي بينهم بإقامة وطن قومي على أرض آبائهم الأوائل.
ج. أن تقتصر هجرات اليهود الأولي إلى فلسطين على المزارعين والحرفيين وصغار الرأسماليين لما لهم من دور في التمسك بالأرض والدفاع عنها، على أن يكونوا هم نواة الدولة القومية اليهودية التي تضم سوريا الكبرى (فلسطين جزء منها) أي أرض الشام القديمة.
د. قيام يهود أوروبا بدعم النفقات اللازمة للهجرة والاستيطان في المرحلة الأولي، ثم الهجرة الشاملة إلى فلسطين في المرحلة الثانية.
8. أفكار العيزر بن يهودا (1858-1925م) وقامت على الأسس التالية
أ. قيام قومية يهودية على غرار القومية الروسية (السلافية) على أساس سياسي علماني.
ب. أن يظل اليهود محافظين على الوحدة القومية اليهودية بفضل ديانتهم وعزلتهم عن الأغيار وبلورة هذا المفهوم على ثلاثة ركائز هي:
(1) الأرض (أرض الآباء الأوائل).
(2) اللغة القومية.
(3) الثقافة القومية والتراث الديني.
ج. إحياء اللغة العبرية لغة تعامل بين اليهود في الشتات وليست للصلاة فقط.
د. الإصرار على أن تحقيق الهدف الصهيوني بإنشاء الدولة القومية إنما يكون بالعمل السياسي الايجابي وليس بترقب الماشيح المخلص.
9. أفكار وخطوات تيودور هرتزل (1860- 1904م)
يعتمد كثير من المحللين السياسيين والمفكرين الإستراتيجيين أن الطبيب الروسي اليهودي ليوبنسكر هو الواضع الأساسي لبذور الصهيونية السياسية بوجهتيها النظرية والعملية، وهو الذي مهد الطريق أمام تيودور هرتزل الذي استطاع بعد ذلك أن يجمع ويفند كل الآراء السابقة للمفكرين اليهود بما فيهم ليوبنسكر، ويضع الصهيونية السياسية في حيز التنفيذ ويعد كتاب ليوبنسكر التحرر الذاتي هو المرجع الأساسي لتيودور هرتزل عند تأليف كتابه "الدولة اليهودية" والذي ناقش فيه المشكلة اليهودية ووسائل علاجها حتى قيام الدولة الصهيونية، ولذا كان الفرق بين ليوبنسكر وبين تيودور هرتزل، حيث إن هرتزل كانت له المقدرة على أن يجعل المشكلة اليهودية مشكلة دولية\يهودية لا يهودية فحسب، كما أنه خطا بكتابه الدول اليهودية في سنة 1896م خطوات جادة لتفعيل الصهيونية السياسية وتطويرها في المجال السياسي العملي (الصهيونية الدبلوماسية) لا النظري كسابقيه من المفكرين والباحثين اليهود وغير اليهود (صهيونية غير اليهود) لذا يعد دور تيودور هرتزل هو الدور الأكثر فاعلية حقيقية على أرض الواقع من بين كل الأدوار التي اضطلع بها الزعماء الصهاينة المفكرون منهم والسياسيون، وقد سارت خطواته على الأسس التالية:
أ. إن أرض اليهود التاريخية موجودة ولا تزال فارغة من السكان (علي حد زعمه) وأنه يطلب من اليهود العودة إلى أراضيهم القديمة أرض الآباء وإعادة بناء دولتهم عليها وذلك لتوفر متطلبات الدولة كالآتي:
(1) شعب مميز (الشعب المختار) وهم اليهود وهم المادة البشرية المنتشرة في العالم.
(2) أرض يقيم عليها الشعب وهي فلسطين في الواقع الملموس وليست في الخيال.
(3) القوة الدافعة لإقامة الدولة موجودة في واقع المأساة التي يعانيها اليهود المضطهدون من كل شعوب العالم.
ب. إن العالم الغربي في حاجة إلى قيام الدولة اليهودية، ومن ثم فعليه أن يساعد في إقامتها، واليهود قادرون على نشر الحضارة الغربية والتبشير بها خارج أوروبا.
ج. التضخيم من مسألة عداء اليهود (اللاسامية) وهو قدرهم الأزلي ويجب على اليهود بساميتهم؛ لأن إحساسهم بالاضطهاد يجعلهم يجتمعون ويتضافرون بعكس الشعور بالأمان الذي يمزق الكيان اليهودي الموحد ويدمجهم في الشعوب الأخرى ويضعف الشعور القومي اليهودي والانتماء اليهودي.
د. قيام الدولة اليهودية لن يكون ضارا باليهود المندمجين (صهيوني التوطين) والذين سيبقون في دول المهجر والشتات بل سيكون في مصلحة كل اليهود سواء داخل الدولة أو خارجها، ولأن إحساسهم بأن لهم دولة يلجأون إليها في حالة اضطهادهم يشعرهم بالثقة والاطمئنان والأمان ولذا عليهم أن يقدموا العون المادي للدولة الوليدة طواعية مع تنظيم الهجرة إليها (أي إلى الدولة اليهودية).
هـ. محاولات الاستيطان الأولي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لا يمكن أن تحقق قيام الدولة اليهودية، ولكن يمكن دراستها للاستفادة بسلبياتها حتى يمكن تجاوزها وتصحيحها، وأن الاستيطان غير المنظم (الصهيونية الاستيطانية) وغير المرتبط بسياسة محددة لا يقيم دولة.
و. يجب تدريب اليهود (المستوطنين) على العمل اليدوي الشاق حتى يساعد على الاستيطان والاستقرار في ظل دولة معترف بها من دول العالم.
ز. إن فكرة الدولة موجودة في عقول اليهود وقلوبهم في طول تاريخهم وتراثهم الديني والشعبي، ويحملون حلم الدولة، ودليل ذلك ترديدهم الشعار الأرثوذكسي " العام القادم في أورشليم" عند التقائهم مع بعض أو افتراقهم عن بعض، يجب عندهم التمسك بهذا الشعار حتى تحقيق الهدف منه رغم أنه شعار معنوي.
ح. تبدأ الهجرة بفقراء اليهود الذين يريدون تحسين أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية وخاصة الذين يجيدون الأعمال اليدوية مثل الزراعة والصناعات الصغيرة، وأيضاً الحرف التي تحتاج إليها البنية التحتية في المجتمعات الناشئة والحديثة.
ط. إن هجرة اليهود من المجتمعات الأوروبية سينعش اقتصاديات هذه المجتمعات بعد مغادرة اليهود لها لأن أهل البلاد سيأخذون مميزات السوق التجارية والأعمال الاقتصادية التي كانت في حوزة اليهود المهاجرين وتحت سيطرتهم. فضلاً عن أن الاضطرابات والقلاقل الداخلية التي كان يسببها اليهود سوف تنتهي برحيلهم.
ي. ضرورة أن يتحول اليهود إلى قوة مؤثرة في المجتمع الدولي ويقصد هرتزل القوة بمعناها الألماني في شعار" إن الأمة التي لا تملك القوة أمة بلا روح".
ك. ضرورة إنشاء مؤسستين لتنفيذ هذه الأفكار هما:
(1) تجميع وإنشاء مجتمع اليهود.
(2) الشركة اليهودية التي توفر الموارد المالية اللازمة لإنشاء مجتمع يهودي على غرار الشركة البريطانية التي مكنت انجلترا من الاستيلاء على جنوب أفريقيا واستعمارها.
ل. أن يقبل اليهود أي أرض تمنح لهم (الأرجنتين أو فلسطين) مع انه أي هرتزل كان يفضل أرض فلسطين حيث يمكن لدولتهم العمل في وظيفة القوى العظمى، ما سيجعل من الدولة اليهودية حائطا للدفاع عن أوﺠروبا في آسيا والمنطقة العربية وبالتالي ستضمن أوروبا وجودها وبقائها.
م. يمكن وضع الأماكن المسيحية المقدسة تحت إشراف يتفق عليه سواء من الحماية الدولية أو الإشراف الدولي.