القومية اليهودية
يفترض مصطلح " القومية اليهودية " أن اليهود يشكلون جماعة قومية, أو شعباً يهودياً, حيث أن المنظومة الدينية اليهودية، تحتوي بداخلها تياراً قومياً قوياً جداً، إذ يرى اليهود أنفسهم, كياناً دينياً متماسكاً يُسمى "بنو يسرائيل", يتمتع بعلاقة خاصة مع الرب, الذي يتجسد فيهم, ويمنحهم درجة عالية من القداسة, ويتولى قيادتهم, وتوجيه تاريخهم القومي, المقدس الفريد, الذي بدأ بخروجهم من مصر, وقد أرسل الرب التوراة إليهم, باعتبارهم شعبه المختار, ولذا فإن اليهودية، من هذا المنظور، قومية دينية، وهي بذلك لا تختلف كثيراً عن الأديان الوثنية, حيث يقتصر الدين والإله على شعب واحد, دون غيره من الشعوب, وتتلخص مهمة هذا الشعب اليهودي المقدس, في أنه يقف شاهداً على التاريخ, وعلى وجود الرب أمام الشعوب الأخرى.
من هذا المنظورتصبح اليهودية, دين قومي عرقي، أو قومية دينية مقدسة, تمزج بين الوجود التاريخي, والتصور الديني المثالي, ولذلك فهي ديانة تعتمد على ثنوية الأنا والآخر .
ولذا فاليهودية لا تفرق بين الإله والتاريخ, أو بين الأرض والسماء, ولذلك فإننا نجد أن الملكوت السماوي, وآخر الأيام, يكتسبان في اليهودية طابعاً قومياً، فهما مرتبطان بمجئ "الماشيح", الذي يأتي ليعود بشعبه, إلى أرض الميعاد,
وقد عرفت الشريعة اليهودية اليهودي, بأنه من ولد لأم يهودية أو من تهود، وقد اعتمدت بذلك تعريفاً قومياً دينياً للهوية.
هذا من ناحية رؤية اليهودية لنفسها,
أما من ناحية الواقع التاريخي، فنحن نرى أنه لا توجد "قومية يهودية" أو "شعب يهودي", وإنما "جماعات يهودية" منتشرة في العالم, تحكم في صياغتها محددان أساسيان :
1 ـ الجماعات اليهودية لم تكن قط, تشكل كتلة بشرية متماسكة, على بقعة واحدة من الأرض, ولم تتبع مركزاً ثقافياً أودينيا واحدا, ولم تمتلك سوقا موحدة , تساهم في صياغة رؤية أعضاء هذه الجماعات لأنفسهم, وأسلوب حياتهم تبعاً لذلك، بل لم يكن لديهم ميراث ثقافي أو ديني واحد, فالجماعات اليهودية, كانت منتشرة في كثير من بقاع الأرض, داخل معظم التشكيلات الحضارية المعروفة, وداخل البنى التاريخية والقومية المختلفة، تتفاعل معها, وتساهم فيها, وترقى برقيها, وتتخلف بتخلفها, فاليهودي في الأندلس كان عربياً، واليهودي في روسيا كان روسياً، وفي اليمن كان يمنياً، وهو أمريكي في الولايات المتحدة, وقد أدى هذا إلى تحول أعضاء "الجماعات اليهودية" إلى تركيب غير متناسق.
2 ـ كان معظم "الجماعات اليهودية" تشكل جماعات وظيفية، وهي جماعات تحافظ على عزلتها وانفصالها، ويساعدها المجتمع على ذلك, حتى يتيسر لها أن تلعب دورها الوظيفي, فهي ذات سمات إثنية خاصة تميز كل واحدة منها, عن المجتمعات التي يعيش اليهود بين ظهرانيها, ولكن هذه السمات الإثنية, لم تكن قط صفات قومية عامة, تصف كل اليهود أينما كانوا, فرغم أن كل جماعة يهودية كانت منفصلة عن محيطها، فإنها كانت تحدد هويتها من خلاله، كما أن انفصالها عن محيطها, لا يعني بالضرورة اتصالها بأعضاء الجماعات اليهودية الأخرى. فاليديشية الجرمانية كانت تعزل أعضاء الجماعة اليهودية, عن محيطهم الثقافي السلافي في بولندا, ولكنها مع هذا لم تكن لها أية علاقة باللادينو (اللاتينية), التي كانت تعزل يهود "السفارد" عن محيطهم العربي و الإسلامي في الدولة العثمانية, أما العبرية (وهي اللغة الوحيدة المشتركة)، فقد ظلت لغة الصلاة, واللغة التي كتبت بها النصوص الدينية فقط ، أي أن العنصر المشترك, لم يتعد في جوهره الصلوات والعبادات وبعض المؤلفات, وظلت العلاقة بين أعضاء الجماعات اليهودية, علاقة دينية, أو وظيفية, باعتبارهم من الجماعة الدينية نفسها, أو من جماعات تضطلع بالوظيفة نفسها, في كثير من المجتمعات .
وبإستغناء المجتمعات الغربية عن الجماعات الوظيفية، بدأت بمساعدة أعضاء هذه الجماعات (ومن ضمنهم اليهود) على التخلص من خصوصيتهم الإثنية، وبدمجهم في المجتمع, أو تشجيعهم على الاندماج, واستجابة لذلك، ظهرت حركة التنوير اليهودية " الهسكالاة ", والحركة اليهودية الإصلاحية, اللتان قامتا بتعريف ما يُسمى "الهوية اليهودية" تعريفاً دينياً فقط.
عارضت الصهيونية هاتين الحركتين، وراحت تعمل على تحويل كل من الإحساس بالانتماء الديني, إلى جماعة دينية واحدة, والارتباط العاطفي بأرض الميعاد, إلى شعور قومي, وبرنامج سياسي, كما قامت الصهيونية بعلمنة المفاهيم الدينية, فبعد أن كانت كلمة "الشعب", تعني أن اليهود جماعة دينية قومية، أصبحت الكلمة في المعجم الصهيوني تعني "الشعب" بالمعنى القومي والعرقي, الذي كان سائداً في أوربا في القرن التاسع عشر.
وتأثرت الأفكار الصهيونية بفكرة "الشعب العضوي"، أي "الفولك"، فنظر الصهاينة إلى اليهود كشعب عضوي قوميته عضوية ,وعناصره كافة (الأرض والتراث والشخصية واللغة... إلخ) مترابطة عضويا, وقد تعمقت هذه الفكرة في كتابات دعاة الصهيونية من العلمانيين, الذين نادوا بأن الانتماء القومي لليهود, يستند إلى ما يسمى "التاريخ اليهودي" و"التراث اليهودي"، وما العقيدة اليهودية سوى جزء عضوي من هذا التراث .
أما دعاة الصهيونية من المتدينين، فإنهم يرون أن اليهودية دين قومي, أو قومية دينية، وأن ما يربط اليهود كشعب, هو دينهم القومي, أو قوميتهم الدينية.
وقد انطلق المشروع الصهيوني, من هذا الافتراض، وأُسست الدولة الصهيونية, تحقيقاً لفكرة "القومية اليهودية", ولكن من الواضح أن "القومية اليهودية" هي رؤية غير واقعية, وبرنامج سياسي, ليس له ما يسنده في الواقع التاريخي، فقد كان اليهود في القرن التاسع عشر، عند ظهور الصهيونية، خليطاً هائلاً غير متجانس, بينهم يهود اليديشية من "الإشكناز"، ويهود العالم العربي، ويهود العالم الإسلامي من "السفارد", كما كان هناك القراءون والحاخاميون, الذين انقسموا بدورهم إلى أرثوذكس ومحافظين وإصلاحيين، هذا غير عشرات الانقسامات الدينية والإثنية والعرقية الأخرى, وقد أطلق الصهاينة على كل هؤلاء اسم "الشعب الواحد" أو "أين فولك", حسب تعبير "هرتزل" .
طرحوا شعارهم، ونجحوا في تهجير نسبة مئوية محدودة وحسب إلى إسرائيل, بل إن الهجرة في كثير من الأحيان، لم تكن تتم لأسباب قومية, فمنها لأسباب نفعية محضة أو إجبارية, وتواجه الصهيونية أزمة في المصادر البشرية, نتيجة لأن سلوك أعضاء الجماعات اليهودية في العالم, لا يَصدر عن إيمانهم بمقولة "القومية اليهودية", حيث أن الهجرة اليهودية, ما زالت متجهة إلي الولايات المتحدة, من ناحية الأساس, وهكذا، فإننا نجد أن أغلبية أتباع القومية اليهودية, لا يزالون في المنفى يرفضون العودة إلى وطنهم القومي, ويتضح زيف مقولة "القومية اليهودية" في فشل الدولة الصهيونية في تعريف اليهودي، أي في تعريف ما يسمى "الهوية اليهودية", وعندما يهاجر أعضاء الجماعات اليهودية المختلفة, إلى أمريكا اللاتينية، فإنهم يكتشفون عدم تجانسهم، إذ أن اليهودي الألماني, يكتشف أن الصفات الإثنية المشتركة, بينه وبين المهاجر الألماني غير اليهودي, أكثر من السمات المشتركة, بينه وبين أعضاء الجماعات اليهودية الآخرىن.
وقد ظهرت هذه القضية في أمريكا اللاتينية, أكثر من أية منطقة أخرى في العالم, وفي الولايات المتحدة، وفي دول الهجرة الأخرى مثل كندا وأستراليا، تُطرح على المهاجرين هوية قومية جديدة عليهم تبنيها, وقد فعل المهاجرون اليهود ذلك بكفاءة شديدة، مع الإحتفاظ بشيء من يهوديتهم، ولكن هذه الملامح اتضح أنها مجرد ملامح يهودية, داخل شخصية أمريكية واضحة, أما في أمريكا اللاتينية، فلا توجد هوية قومية جديدة، وإن وجدت فهي كاثوليكية, أي استمرار للموروث الأوربي للقارة, وقد امتثل المهاجرون اليهود لهذا النمط، فأكدت كل جماعة يهودية مهاجرة ميراثها الإثني السابق، الأمر الذي أدى إلى تبعثر اليهود تماماً, وانقسـامهم إلى عشـرات الجـماعات, وإلى ظهـور انعدام تجانسهم بحدة, ويوجد في المكسيك، على سبيل المثال، عشرات الجماعات اليهودية, من بينها جماعتان سوريتان، أي من أصل سوري، إحداهما دمشقية والأخرى حلبية, لكل منهما مؤسساتها, وفي الآونة الأخيرة، بدأت الحواجز تسقط ، ولكن هذا يتم داخل إطار أمريكي لاتيني, لا داخل إطار يهودي.
وتحاول الدولة الصهيونية, بذل محاولات جاهدة لدمج المهاجرين الوافدين إليها, ولكن مع هذا يتضح عدم تجانسهم في انقسامهم الحاد, وحتى لو قدر النجاح لمحاولة إسرائيل مزج أعضاء الجماعات اليهودية، فإن ثمرة هذه المحاولة لن تكون "الشعب اليهودي" وتحقيق "القومية اليهودية", وإنما ستكون كياناً جديداً يمكن تسميته "الشعب الإسرائيلي" و"القومية الإسرائيلية", وهي قومية متعددة الثقافات والاديان والأعراق , حيث ستكون من ضمنها الجماهير العربية (أي عرب 48) واليهود العرب وغيرهم من اصول قومية أخرى مثل القومية الروسية والأثيوبية.
ويرفض كـثير من المفكـرين اليهود، وكذلك التنظيمات اليهودية، فكرة القومية اليهودية، إما من منظور ديني, أو من منظور ليبرالي أو اشتراكي، فيرون أن اليهود ليسوا شعباً, وإنما أقلية دينية، كما يرون أنهم ينتمون إلى الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها, ويرفض دعاة قومية الجماعات (الدياسبورا), فكرة القومية اليهودية العالمية المجردة, والمرتبطة بفلسطين، ويرون أنه إذا كان ثمة انتماء قومي يهودي, فهو عبارة عن انتماءات قومية مختلفة متنوعة, مرتبطة بمجتمعات, سواء أكانت هذه المجتمعات في شرق أوربا, أم كانت في الولايات المتحدة, ومن ثم يمكننا أن نتحدث عن "الجماعة اليهودية القـومية في شــرق أوربا", التي لا تختلف عن الأقليات القومية الأخرى، ولكن لا يمكننا أن نتحدث عن "الشعب اليهودي" بشكل عام, وثمة تيار فكري داخل إسرائيل يسمى "الحركة الكنعانية", (نسبة إلى أرض كنعان), يرفض فكرة القومية اليهودية, ويطرح بدلاً منها فكرة "القومية الإسرائيلية".
وتتواتر كلمة "الشعب" في الكتابات الدينية عند اليهود، ولكن المقصود بهذه الكلمة, هو جماعة دينية ذات عقيدة دينية وانتماء ديني واحد, كما نجد مصطلحات دينية مماثلة، مثل "الشعب المختار" و"أمة الروح" و"الشعب المقدَس"، وهي مصطلحات تهدف إلى الإشارة إلى تجمع ديني أو أخلاقي وحسب.
ولكن الصهيونية تستخدم التشابه بين المصطلح الديني, والمصطلح القومي الشائع, كدليل على أن اليهود, أول شعب ظهر على الأرض, وأول قومية في التاريخ .
ومن ثم فلابد للباحث العربي أن يبتعد, عن استخدام مصطلحات مثل "الشعب اليهودي" و "القومية اليهودية" أو حتى "الصراع العربي اليهودي", لأنه لا يوجد بين القومية العربية أو الفلسطينية من ناحية, والدين اليهودي من ناحية أخرى, أي صراع سياسي مسلح, أو غير مسلح، وإنما "الصراع عربي إسرائيلي"، أي صراع بين العرب والمسـتوطنين الصهاينة, الذين اسـتوطنوا فلسـطين عن طريق العنـف.