يهود أمريكا ومعضلة إسرائيل بين نصيحة دايان وسر جولدا مائير
د. عبدالله يوسف الزعبي
ثمة تحولات كبرى تشهدها الساحة السياسية الأمريكية، وما زالت، خصوصاً في الأشهر التي سبقت اعتداء الكيان الصهيوني على القدس وغزة، أدت إلى إزاحة الرأي العام باتجاه تعاطف أعظم وأوضح مع القضية الفلسطينية باعتبارها مسألة إنسانية بحتة تجسد أبسط حقوق البشر التي يجب حمايتها بشتى السبل والأسباب. اليوم، تجد أمريكا نفسها تائهة بعد أربع سنوات من الخراب الذي خلفه دونالد ترمب، ليس فيها فحسب وإنما على الساحة الدولية عموماً، إذ نكش عش دبابير اليمين المتطرف في بلاده وحول العالم، خصوصاً أوروبا، وفضح النظام السياسي الأمريكي، وعرى حلفاءه في الناتو، وابتز اتباعه في الشرق الأوسط بالمنشار وإيران، واتبع نهجاً سياسياً فجاً ووقحاً انتهى بخسارته الانتخابات الرئاسية واقتحام مبنى الكونجرس في الكابيتول هل، رمز النفوذ الأمريكي والجبروت الامبريالي والحضارة الغربية، ما مس كبرياء الغطرسة وهتك مكانة تلك العجرفة وذاك الخيلاء. وربما كانت فظاعة مشهد قتل جورج فلويد، ذاك الأسود الوديع المسكين في ولاية مينسوتا، هي الشرارة التي أيقظت ضمير المواطن الأمريكي الغارق في ملذات الاستهلاك، إذ يدفن رأسه كالنعامة في رمال الذات، فلا يدري ما تفعله آلة حربه من دمار للإنسان في شتى البقاع، حتى وصلت عتبة الدار، فما من يوم إلا وجريمة جماعية أو مظاهرة مسلحة أو اعتداء على كل ألوان الطيف، ما عدى الأبيض صاحب الوعد المقدس. اليوم، تجد أمريكا نفسها أمام التاريخ يحاكمها، على الاستعباد، على الإبادة، على الغزو والحرب ووقوف ساستها على جثة الإنسان والبنيان في كل الأرجاء والبلدان، من اليابان إلى فيتنام، ثم العراق وافغانستان، مروراً بكل ديار عدنان، ثم تأتي لتجثم على روح كنعان.
تدرك إسرائيل أنها تخوض الآن حرباً على جبهتين، الأولى على الأرض في فلسطين مع أهلها العزل الصامدين من حيفا إلى غزة، ومن أريحا إلى عسقلان، والثانية مع الرأي العام الأمريكي التي غسلت دماغه على مر السنين ونومته مغناطيسياً بفعل آلة الاعلام وهوليوود والدعاية والإعلان وماكنة الابتزاز والإذعان. ولا شك أن الجماعات اليهودية في أمريكا قد فعلت فعلتها وساهمت في دعم إسرائيل وحمايتها ورعايتها، لكن تلك الجماعات تعي أكثر من غيرها أن هكذا وضع لن يدوم، فلطالما كان الجهل سلاح الطغاة بينما التنوير الذي يولد من رحم الألم هو خلاص الأحرار. كما يدرك يهود أمريكا أن تواطؤ المنظومة السياسية الأمريكية مع إسرائيل يخدم أهداف الامبرالية والاستعمار ويحقق أغراضهما في استعباد الشعوب واذلالهم واحتقارهم وسلب خيراتهم وكرامتهم وحقوقهم، ومن أعظم ألماً منهم حيث عانوا عبر قرون الزمان من آفات الظلم والإقصاء.
يشكل يهود أمريكا جزءً أساسياً من النسيج الاجتماعي الأمريكي، إذ بدأ تواجدهم فيها على هيئة افراد في نهايات القرن السادس عشر، بعدها وصلت أول جماعة يهودية مدينة نيويورك كانت مكونة من شخصاً 23 عام 1654، هاجرت قصراً من البرازيل التي كانت تحت حكم البرتغاليين، ثم توالت هجراتهم في فترة الاستعمار البريطاني حيث تجاوز عددهم 2000 شخص، من أصل 2.5 مليون نسمة، عند الاستقلال عام 1776. أصبح اليهود بعدها يشكلون أقلية من 15000 من أصل 17 مليون أمريكي، حسب إحصاء عام 1840، ارتفع عددها إلى 50000 بحلول عام 1848. تتابعت هجرات اليهود الإشكناز المتعلمين من ألمانيا، وتشكلت الجاليات اليهودية في مدن ولايات الساحل الشرقي من مثل بوسطن ونيوهيفن وبالتيمور وبتسيورج وبيترسون وهارسبيرج وويلمنغتون وريتشموند.
شارك اليهود كذلك في الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865)، حيث قاتل 3000 جندي على الجانب الكونفدرالي، منهم عشرات الضباط، احدهم كان مديراً عاماً للجيش، في حين عمل يهوذا بنيامين وزيراً للخارجية الكونفدرالية. كما اصطف 7000 مقاتل في صفوف الاتحاد، معظمهم من المهاجرين اليهود الألمان، منهم قائد فوج، 9 جنرالات، 21 كولونيلاً. كما لعب المصرفيون اليهود أدواراً رئيسة في توفير التمويل لكلا الجانبين، خصوصاً عائلة شباير وسيليجمان للإتحاد، وإميل إيرلانجر وشركاه للكونفدرالية. وبحلول القرن العشرين، تجاوز عدد اليهود في أمريكا المليون مواطن بفعل الهجرات المتتالية من روسيا وأوروبا، إذ تحرروا من القوانين المعادية للسامية والعنف الذي ابتلوا به هناك على مدار ألف عام، وبذلك أصبحت أمريكا لهم وطناً حراً أصيلاً وفر لهم، ولأول مرة في تاريخهم، كل فرص الحياة الكريمة دونما تمييز أو إقصاء، بل منحتهم السيادة وصعود منصة القيادة والتحكم بمصير الأمم والشعوب بما فيها الشعب الأمريكي نفسه.
اليوم، يبلغ عدد اليهود في أمريكا 5.8 مليون نسمة يتوزعون على جاليات عدة، أكبرها في نيويورك (1,100,000) نسمة، تليها لوس انجلوس (519200)، ثم سان فرانسيسكو (391,550)، شيكاغو (291,800)، بوسطن (248,000)، واشنطن العاصمة (215,600)، فيلادلفيا (214,600)، اتلانتا (119,000)، ميامي (119,000)، سان دييجو (100,00)، كليفلاند (86,600)، دنفر (83,900)، فينكس (82,900) ولاس فيجاس (80,000).
أهمية يهود أمريكا تكمن في تأثيرهم لا في عددهم، فهم يتحكمون في القطاع المصرفي (جولدمان ساكس 1869، بنك المزارعين والتجار 1871، سنترست 1934، سيتي ناشيونال 1954)، والبورصات المالية (ستوك اكسجينج 1953، ناسداك 1971)، كما يمتلكون أو يديرون كافة قنوات الأخبار (1926 NBC،CBS 1927، 1943 ABC، 1980 CNN، 1980 Fox)، وكذلك الصحافة والنشر (نيويورك تايمز 1851، وول ستريت جورنال 1889، سايمون اند سوتشر 1924 يو اس نيوز 1948، أمازون ببليشينج 2009)، مثلما يمتلكون كل استديوهات هوليوود التي بلغ حجم إراداتها من الأفلام عام 2018 حوالي 41.7 مليار دولار (باراماونت 1912، يونيفيرسال 1912، كولومبيا 1918، وورنر برذرز 1923، ميترو جولدين ماير 1924، وولت ديزني 1933، فوكس 1933). وأنشأ يهود أمريكا كذلك قنوات (شوتايم 1976، تيدتوك 1984، ديسكفاري 1985، نيتفلكس 1997، يو سي بي 2008)، وشركات (ليفايس 1853، ماكس فاكتور 1909، بورش 1931، تويز آر أس 1948، دنكن دونتز 1950، رالف لورين 1967، كالفن كلاين 1967، جاب 1969، ستاربكس 1971، إي واي 1968، كرافت 2012) وغيرها الكثير. وفي مجال التكنولوجيا ومنصات التواصل الاجتماعي، فيسيطر يهود أمريكا عليها بالكامل، إما بالإنشاء أو الملكية أو الإدارة، وتحديداً فيسبوك (مارك زوكربيرج)، جوجل (سيرجي برين)، واتساب (جان كوم)، يوتيوب (سوزان ووجيكي)، ياهو (تيري سيميل)، لينكدان (جيف وينر)، فايبر (تالمون ماركو)، ريل بليير (روب جليزر)، انتل (أندرو غروف)، سيسكو (ساندي ليرنر)، اوريكل (صفرا كاتز)، بي بال (دانيال شولمان)، أي بي (ديفين وينيج)، بلوم بيرج (تشارلز زيجار)، إف أم (ستيفن كيرش)، بولورويد (إدوين لاند)، اندرويد (أندي روبن).
إن إسرائيل تدين بوجودها لأصوات يهود أمريكا وتأثيرهم المهيمن على المشهد الأمريكي، لذلك لن يحتملوا بعد الآن رعونتها، وتحديداً حين يقول قادتها، من مثل يائير لابيد، مؤسس حزب يش عتيد (هناك مستقبل)، أن المعنى الوحيد للنصر في إسرائيل هو رؤية جثة خصمك ملقاة أرضاً. وعندما عارض إدوارد ستيتينيوس جونيو، وزير خارجية أمريكا (1944-1945) دعم بلاده لإنشاء دولة إسرائيل لتعارضها مع مصالح أمريكا، فقد كان مدركاً تماماً لحجم الضرر والإحراج الذي سيسببه ذلك الدعم لبلاده، ولربما لليهود منهم خاصة لأنهم أمريكيون أولاً، ولأن مصالحهم هي الأكثر تضرراً بالضرورة. لذلك، يسارع يهود أمريكا الآن إلى تدارك مخاطر الانزلاق في صراع مع الرأي العام الأمريكي، بل بعضهم يقود ذلك الصراع في كشف زيف إسرائيل وأكاذيبها، حيث 10% من يهود أمريكا يدعم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات من إسرائيل ومعاقبتها BDS، حسب استطلاع مركز بيو للأبحاث نشره في 11 مايو 2021، وحيث ثلثاهم لا يعتقدون أن إسرائيل تبذل جهوداً صادقة تجاه السلام مع الفلسطينيين. كما تلعب جماعتا ناطوري كارتا والصوت اليهودي من أجل السلام دوراً مهماً في كشف خطورة سياسات إسرائيل على يهود أمريكا وعلى السلم العالمي، بينما شارك الآلاف من اليهود في الاحتجاجات الأخيرة ضد الحرب على غزة والقدس في مدن أمريكية في جميع أنحاء البلاد. ومنذ عدة عقود تقود شخصيات يهودية أمريكية حملة رأي عام ضد ممارسات إسرائيل العنصرية منهم الاستاذ الفذ نعوم تشومسكي والسناتور بيرني ساندرز وأستاذ العلوم السياسية نورمان فينكلشتاين والممثلة ناتالي بورتمان، وغيرهم كثر.
لقد كشف العدوان الأخير على القدس وغزة الغطاء عن إسرائيل وظهرت أمام الرأي العام العالمي، وخصوصاً الأمريكي، وتحديداً اليهودي منه، على حقيقتها العنصرية المتغطرسة؛ إذ تعاني من جنون السلاح ورهاب الدم. وربما لعبت النخبة اليهودية، وبالذات في الحزب الديمقراطي، دوراً محورياً في دفع الإدارة الحالية إلى اتخاذ موقف حازم من إسرائيل وذلك بغض الطرف، وربما تشجيع وسائل الاعلام والتواصل، وحتى الضغط عليها، من أجل إحراج اليمين المتطرف في دولة الكيان عبر عرض الحقيقة كما هي على شاشاتها وصحفها.
ذات يوم أسود، قال موشيه ديان، وزير دفاع دولة الكيان أثناء نكسة حزيران عام 1967: “يقدم لنا أصدقاؤنا الأمريكان المال والسلاح والنصيحة، فنأخذ المال، ونأخذ السلاح، ونرفض النصيحة”. وربما كانت جولدا مئير، رئيسة ورزاء إسرائيل السابقة، قد همست سراً حين قالت: “دعني أخبركم شيئاً عن موقف الإسرائيليين من موسى، فلقد جاب الصحراء بنا مدة 40 عاماً حتى أوصلنا إلى البقعة الوحيدة في الشرق الأوسط التي لا يوجد بها نفط”. فما بين النصيحة والنفط، يجد يهود أمريكا أنفسهم حيرى ما بين حياة الحرية والكرامة في بلاد منحتهم فرصة السلام الأخير بعد قرون الشتات والعداء، وبين ارتباط وجداني بدولة تسبب لهم الإحراج وتذكرهم بذات القرون من الشتات والعداء في عقر الصحراء، وذاك الحلم والسلام.