مع حدوث الفلسفة وعلم الكلام في الأمة اضطر أهل النظر إلى تحميل بعض الألفاظ العربية معان غير معانيها،
وقد ألفوا كتب تعرف بعض الألفاظ بتعريفات غير التي في لسان العرب،
كالكون والفساد والوجود والعدم والجوهر والشيء والعرض.
العرض
العرض عند جمهور العرب يقال على كلّ ما كان نافعا في هذه الحياة الدنيا فقط؛ أمّا ما كان نافعا في الحياة الآخرة فقط، أو نافعا مشتركا يُستعمَل لأجل الحياة في الدنيا ويُستعمَل لأجل الحياة في الآخرة، فإنّه لا يسمّى عرضا. وقد يقال أيضا على كلّ ما سوى الدراهم والدنانير وما قام مقامهما من فلوس ونحاس أو دراهم حديد ممّا استُعمل مكان الدراهم والدنانير. وقد يقال أيضا على كلّ ما توافت أسبابه كونه أو فساده القريبة - فإنّه يقال فيه إنّه يعرض كذا - أو أنّه قريب من أن يوجد أو يتلف لحضور سبب مّا له قريب لوجوده أو تلفه، أو لتخريب كثير لوجوده أو تلفه، أو لتخريب له كثير. وقد يقال أيضا على كلّ ما يقال عليه العارض، وهو كلّ حادث سريع الزوال.
وأمّا في الفلسفة فإنّ العرض يقال على كلّ صفة وُصف بها أمر مّا ولم تكن الصفة محمولا حُمل على الموضوع، أو لم يكن المحمول داخلا في ماهيّته. وهذان ضربان، أحدهما عرض ذاتيّ والثاني عرض غير ذاتيّ . والعرض الذاتيّ هو الذي يكون موضوعه ماهيّته أو جزء ماهيّته، أو توجب ماهيّة موضوعه أن يوجد له على النحو الذي توجب ماهيّة أمر مّا أن يوجد له عرض مّا. فإنّ ذلك العرض إذا حُدّ أُخذ ذلك الأمر في حدّ العرض. فما كان من الأعراض هكذا فإنّه يقال إنّه عرض ذاتيّ. وغير الذاتيّ هو الذي لا يدخل موضوعه في شيء من ماهيّته، وما هيّة موضوعه لا توجب أن يوجد له ذلك العرض. فهذا هو معنى العرض في الفلسفة.
الجوهر
الجوهر عند الجمهور:
والجوهر عند الجمهور يقال على الأشياء المعدنيّة والحجاريّة التي هي عندهم بالوضع والاعتبار نفيسة، وهي التي يتباهون في اقتنائها ويغالون في أثمانها، مثل اليواقيت واللؤلؤ وما أشبهها، فإنّ هذه ليس فيها بالطبع ولا بحسب رتبة الموجودات جلالة في الوجود ولا كمال تستأهل بها في الطبع الإجلال والصيانة. والإنسان أيضا يستفيد الجمال عند الناس والكرامة والجلالة والتعظيم في اقتنائها، لا الجمال الجسمانيّ ولا الجمال النفسانيّ، سوى الوضع والاعتبار فقط، وأنّ لها ألوانا يعجبون بها فقط ويستحسنون منظرها فقط، وأنّها قليلة الوجود. فلذلك يقولون في مَن عندهم من الناس نفيس ذو فضائل عندهم " إنّه جوهر من الجواهر ". وقد يقال أيضا الجواهر على الحجارة التي إذا سُبكت وعولجت بالنار حصل عنها ذهب وفضة أو حديد أو نحاس، فهي بوجه مّا من موادّ وهذه هيولاتها.
وقد يستعملون اسم الجوهر في مثل قولنا " زيد جيّد الجوهر "، ويعنون به جيّد الجنس وجيّد الآباء وجيّد الأمهّات. فالجوهر يعنون به الأمة والشعب والقبيلة التي منهم آباؤه وأمّهاته - وأكثر ذلك في الآباء -، والجودة يعنون بها الفضائل - فإنّهم إذاكانوا ذوي فضائل قيل فيهم إنّهم ذووا جودة . فإنّ آباءه وجنسه متى كانوا فاضلين قيل فيه إنّه جيّد الجوهر، ومتى كانوا ذوي نقص قيل فيه ردئ الجوهر. والجوهر ههنا إنّما يعنون به الجنس والآباء والأمّهات - فهم إمّا مادّته وإمّا فاعلوه. فإنّ الإنسان إنّما يُظَنّ به دائما أنّه شبيه مادّته وآبائه وجنسه. فإنّه يُظَنّ أوّلا أنّه يُفطَر في فطرته الإنسانيّة على فِطَر آبائه وجنسه النفسانيّة التي كانت لهم، وبحسب فطرته النفسانيّة تكون أفعالهالخلقيّة جيّدة أو رديّة. ثمّ أنّه بعد ذلك يتأدّب بما يراهم عليه من الآداب ويتخلّق بما يراهم عليه من الأخلاق ويقتفي بهم في كلّ ما يعملونه، إذ كان لا يعرف غيرهم من أوّل أمره. ولأنّه أيضا يثق بهم أ كثر من ثقته بغيرهم. ولأنّه أيضا يحتاج أن يسعى في حياته لما يسعى له جنسه. فمتى كان أولئك ذوي نقائص بالطبع والعادة تظَنّ به النقائص التي كانت فيهم، ومتي كانوا ذوي فضائل بالطبع والعادة تُظَنّ به أيضا تلك الفضائل التي كانت فيهم. فإنّما يُلتمَس بجودته ورداءته فضيلته ونقيصته لا غير، إمّا بالطبع وإمّا بالعادة.
وكثيرا مّا يقولون " فلان جيّد الجوهر "، يعنون به جيّد الفطرة التي بها يفعل الأفعال الخلقيّة أو الصناعيّة، وبالجملة الأفعال الإراديّة. فإنّ الإنسان إنّما يُفطَر على أن تكون بعض الأفعال الإراديّة أسهل عليه من بعض، فإذا خلاّ نفسَه منذ أوّل الأمر تفعل الأفعال التي هي عليه أسهل. فإن كانت تلك أفعال جيّدة قيل إنّه بفطرته وطبعه جيّد. فيحصل الأمر في هذا وفي ذلك الأوّل على الفِطَر التي يُفطَرالإنسان عليها من أن تكون الأفعال الجيّدة عليه أسهل أو الرديّة أسهل، إمّا فطرة آبائه وعاداتهم وإمّا فطرته هو في نفسه.
وبيّن أنّ فطرته التي بها يفعل هي التي منزلتها من الإنسان منزلة حِدّة السيف من السيف، وتلك هي التي تسمّى الصورة. فإنّ فعل كلّ شيء إنّما يصدر عن صورته إذا كانت في مادّة تعاضد الصورة في الفعل الكائن عنها ( عن الصورة ). وبيّن أنّ ماهيّة الشيء الكاملة إنّما هي بصورته إذا كانت في مادّة ملائمة معاضدة على الفعل الكائن عنها. فإذن للمادّة مدخل لا محالة في ماهيّته. فإذن ماهيّته بصورته في مادّته التي إنّما كُوّنت لأجل صورته الكائنة لغاية مّا. فإذا كان كذلك، فإنّ الفطرة التي كان الناس يعنون بقولهم " الجوهر " إنّما هي ماهيّة الإنسان، كان ذلك جوهر زيد أو آبائه أو جنسه. وأيضا فإنّهم يظنّون أنّ آباءه وأمّهاته وجنسه الأقدمين هم موادّه التي منها كُوّن، ويظنّون أنّ موادّ الشيء متى كانت جيّدة كان الشيء جيّدا، مثل موادّ الحائط وموادّ السرير. فإنّهم يظنّون أنّ الخشب إذا كان جيّدا كان السرير جيّدا، إذ تكون جودة الخشب سببا لجودة السرير، وإذا كان الحجارة واللبن والآجرّ والطين جيّدا كان الحائط المبني منها أيضا جيّدا، إذ كانت جودة تلك سببا لجودة الحائط. فعلى هذا المثال يرون في آباء الإنسان وأمّهاته وأجداده وقبيلته وأمّته وأهل بلده، فإنّ كثيرا من الناس يخيَّل إليهم أنّهم موادّ الإنسان الكائن عنهم أو فيهم. وموادّ الشيء هي إمّا ماهيّته وإمّا أجزاء ماهيّته، فهم إذن إنّما يعنون بالجوهر ههنا ماهيّته أو ما به ما هيّته. وقد يقولون " هذا الثوب جيّد الجوهر "، يعنون به سداه ولحمته من كتّان أو قطن أو صوف، وتلك كلّها موادّ. فهم يعنون بالجوهر ههن أيضا موادّ الثوب، وموادّ الشيء إمّا ماهيّته وإمّا أجزاء ماهيّته؛ فإنّ قوما يرون أنّ ماهيّة الشيء بمادّته فقط، وآخرون أنّها بأجزاء ماهيّته.
خلاصة:
فهذه هي المعاني التي يقال عليها الجوهر عند الجمهور. وهي كلّها تنحصر في شيئين، أحدهما الحجارة التي في غاية النفاسة عندهم، والثاني ماهيّة الشيء وما به ماهيّته وقوام ذاته - وما به قوام ذاته إمّا مادّته وإمّا صورته وإمّا هما معا. ويكون الجوهر عندهم إمّا جوهرا بإطلاق وإمّا جوهرشيء مّا.
"الجوهر" في الفلسفة:
وأمّا في الفلسفةفإنّ الجوهر يقال على المشار إليه الذي هو لا في موضوعأصلا. ويقال على كلّمحمول عرّف ما هو هذا المشار إليه من نوع أو جنس أو فصل، وعلىما عرّف ماهيّةنوع نوع من أنواع هذا المشار إليه وما به ماهيّته وقوامه- وظاهرأنّ ما عرّف ماهو نوع نوع من أنواع هذا المشار إليه فهو يعرّف ما هو هذا المشارإليه. وقديقال على العموم على ما عرّف ماهيّة أيّ شيء كان من أنواع جميع المقولات،وعلىما به قوام ذاته، وهو الذي بالتئام بعضها إلى بعض تحصل ذات الشيء، وهي التيإذاعُقلت يكون قد عُقل الشيء نفسه ملخَّصا بأجزائه التي بها قوام ذاته أو ملخَّصابالأشياء التي بها قوام ذاته، وهو الذي بالتئام بعضها إلى بعض يحصل ذلك الشيء -أيّ شيء كان. فلذلك تسمع المتفلسفين يقولون: " الحد " يعرّف جوهر الشيء، ويدلّ " قوام " علىجوهر الشيء. فإنّهم يعنون بالجوهر ههنا الأشياء التي بالتئام بعضها إلى بعض تحصلذات الشيء، وهي التي إذا عُقلت يكون قد عُقل الشيء نفسه ملخَّصا بأجزائه التي بهايقوم ذاته أو ملخَّصا بالأشياء التي بها قوام ذاته. فإنّ هذا المعنى الثالث منمعاني الجوهر جوهر مضاف ومقيَّد بشيء، وليس يقال إنّه جوهر على الإطلاق، وإنّمايقال إنّه جوهر لشيء مّا. وأمّا المعنى الأوّل فإنّه إنّه جوهر على الإطلاق.والمعنى الثاني يقال أيضا إنّه جوهر على الإطلاق، إذ كان معقول المشار إليه الذي لافي موضوع، ومعقول الشيء هو الشيء بعينه، إلاّ أنّ معقوله هو ذلك الشيء من حيث هو فيالنفس، والشيء هو ذلك المعقول من حيث هو خارج النفس.
الموجود
الموجود في لسان جمهور العرب:
الموجود في لسان جمهور العرب هو أوّلا اسم مشتقّ من الوجود والوجدان. وهو يُستعمَل عندهم مطلَقا ومقيَّدا، أمّا مطلَقا ففي مثل قولهم " وجدتُ الضالّة " و " طلبتُ كذا حتّى وجدتُه "، وأمّا مقيَّدا ففي مثل قولهم " وجدتُ زيدا كريما " أو " لئيما ". فالموجود المستعمَل عندهم على الإطلاق قد يعنون به أن يحصل الشيء معروف المكان وأن يُتمكَّن منه في ما يراد منه ويكون معرضا لما يُلتمَس منه. فإنّما يعنون بقولهم " وجدتُ الضالّة " و " وجدتُ ما كنت فقدتُه " أنّي علمتُ مكانه وتمكّنتُ ممّا ألتمسُ منه متى شئتُ. وقد يعنون به أن يصير الشيء معلوما. وأمّا الذي يُستعمَل مقيَّدا في مثل قولهم " وجدتُ زيدا كريما " أو " لئيما " فإنّما يعنون به عرفتُ زيدا كريما أو لئيما لاغير. وقد يستعمل العرب مكان هذه اللفظة في الدلالة على هذه المعاني " صادفتُ " و " لقيتُ "، ومكان الموجود " المصادَف " و " الملقى ".
اللفظ الذي يدل على المعنى العربي "للموجود" في باقي الألسنة:
وتُستعمَل في ألسنة سائر الأمم عند الدلالة على هذه المعاني التي تدلّ عليها هذه اللفظة في العربيّة وفي الأمكنة التي يستعمل فيها جمهور العرب هذه اللفظة لفظةٌ معروفة عند كلّ أمّة من أولئك الأمم يدلّون بها على هذه المعاني بأعيانها، وهي بالفارسيّة " يافت " وفي السغديّة " فيرد " – يعنون به الوجود والوجدان - و " يافته " و " فيردو " - يعنون به الموجود. وفي كلّ واحد من باقي الألسنة لفظة من نظير ما في الفارسيّة والسغديّة، مثل اليونانيّة والسريانيّة وغيرها.
اللفظ الموجود بمعناه الفلسفي في باقي الألسنة:
ثمّ في سائر الألسنة - مثل الفارسيّة والسريانيّة والسغديّة - لفظة يستعملونها في الدلالة على الأشياء كلّها، لا يخصّون بها شيئا دون شيء. ويستعملونها في الدلالة على رباط الخبر بالمخبَر عنه، وهو الذي يربط المحمول بالموضوع متى كان المحمول اسما أو أرادوا أن يكون المحمول مرتبطا بالموضوع ارتباطا بالإطلاق من غير ذكر زمان. وإذا أرادوا أن يجعله مرتبطا في زمان محصَّل ماض أو مستقبل استعملوا الكَلِم الوجوديّة، وهي كان أو يكون أوسيكون أو الآن. وإذا أرادوا أن يجعلوه مرتبطا به من غير تصريح بزمان أصلا نطقوا بتلك اللفظة، وهي بالفارسيّة " هست " وفي اليونانيّة " " استين " وفي السغديّة " استي " وفي سائر الألسنة ألفاظا أخر مكان هذه. وهذه الألفاظ كما قلنا تُستعمَل في مكانين كما قلنا. وهذه كلّها غير مشتقّة في شيء من هذه الألسنة. بل هي مثالات أول وليست لها مصادر ولا تصاريف. ولكن إذا أرادوا أن يعملوها مصادر اشتقّوا منها ألفاظا أخر مكان هذه، وهذه الألفاظ يستعملونها مصادر، مثل "الإنسان " الذي هو مثال أوّل في العربيّة ولا مصدر له ولا تصريف، ولكن إذا أرادوا أن يعملوا منها مصدرا قالوا "الإنسانيّة " مشتقّا من " الإنسان ". وكذلك تعمل سائر الألسنة بتلك اللفظة؛ مثل ما في الفارسيّة، فإنّهم إذا أرادوا أن يعملوا "هست " مصدرا قالوا "هستي"، فإنّ هذا الشكل يدلّ على مصادر ما ليس له تصاريف من الألفاظ عندهم، كما يقولون "مردم " - وهو الإنسان - و " مردمي " - وهوالإنسانيّة.
ليس في العربية لفظة تدل على معنى "الموجود" الفلسفي:
وليس في العربيّة منذ أوّل وضعها لفظة تقوم مقام " هست " في الفارسيّة ولا مقام " استين " في اليونانيّة ولا مقام نظائر هاتين اللفظتين في سائر الألسنة. وهذه يُحتاج إليها ضرورة في العلوم النظريّة وفي صناعة المنطق. فلمّا انتقلت الفلسفة إلى العرب واحتاجت الفلاسفة الذين يتكلّمون بالعربيّة ويجعلون عبارتهم عن المعاني التي في الفلسفة وفي المنطق بلسان العرب، ولم يجدون في لغة العرب منذ أوّل ما وُضعت لفظة ينقلوا بها الأمكنة التي تُستعمل فيها "استين "في اليونانيّة و " هست " بالفارسيّة فيجعلونها تقوم مقام هذه الألفاظ في الأمكنة التي يستعملها فيها سائر الأمم، فبعضهم رأى أن يستعمل لفظة "هو " مكان " هست " بالفارسيّة و " استين " باليونانيّة. فإنّ هذه اللفظة قد تُستعمَل في العربيّة كباية في مثل قولهم " هو يفعل " و "هو فَعَلَ". وربّما استعملوا " هو " في العربيّة في بعض الأمكنة التي يستعمل فيها سائر أهل الألسنة تلك اللفظة المذكورة. وذلك مثل قولنا "هذا هو زيد "، فإنّ لفظة " هو " بعيد جدّا في العربيّة أن يكونوا قد استعملوها ههنا كناية. كذلك " هذا هو ذاك الذي رأيتُه " و " هذا هو المتكلّم يوم كذا وكذا " و " هذا هو الشاعر "، وكذلك " زيد هو عادل "وأشباه ذلك. فاستعملوا "هو" في العربيّة مكان " هست " في الفارسيّة في جميع الأمكنة التي يستعمل الفرس فيها لفظة " هست ". وجعلوا المصدر منه " الهُويّة "، فإنّ هذا الشكل في العربيّة هوشكل مصدر كلّ اسم كان مثالا أوّلا ولم يكن له تصريف، مثل " الإنسانيّة " من "الإنسان " و " الحماريّة " من " الحمار " و" الرجوليّة "من " الرجل ".
ورأى آخرون أن يستعملوا مكان تلك الألفاظ بدل الهو لفظة الموجود،وهو لفظة مشتقّة ولها تصاريف. وجعلوا مكان الهويّة لفظة الوجود، واستعملوا الكَلِم الكائنة منهاكَلِما وجوديّة روابط في القضايا التي محمولاتها أسماء، مكان كان ويكون وسيكون. واستعملوا لفظة الموجود في المكانين، في الدلالة على الأشياء كلّها وفي أن يُربَط الاسم المحمول بالموضوع حيث يُقصَد أن لايُذكَر في القضيّة زمان، وهذان المكانان هما اللذان فيهما " هست " بالفارسيّة و " استين " باليونانيّة. واستعملوا الوجود في العربيّة حيث تُستعمَل " هستي " بالفارسيّة، واستعملوا وُجد ويوجَد وسيوجَد مكان كان ويكون وسيكون. ولأنّ لفظة الموجود وهي أوّلما وُضعت في العربيّة مشتقّة، وكلّ مشتقّ فإنّه يخيّل ببِنْيَته في مل يدلّ عليه موضوعا لم يصرَّح به ومعنى المصدر الذي منه اشتُقّ في ذلك الموضوع، فلذلك صارت لفظة الموجود تخيّل في كلّ شيء معنى في موضوع لم يصرَّح به - وذلك المعنى هو المدلول عليه بلفظة الوجود - حتّى تخيّل وجودا في موضوع لم يصرَّح به، وفُهم أنّ الوجود كالعرض في موضوع. أو تخيّل أيضا فيه أنّه كائن عن إنسان، إذ كانت هذه اللفظة منقولة من المعاني التي يوقع عليها الجمهور هذه اللفظة - وهي التي للدلالة عليها وُضعت من أوّل ما وُضعت - وكانت معاني كائنة عن الإنسان إلى شيءآخر، إمّا إنسان أو غيره،كقولنا " وجدتُ الضالّة " و " طلبتُ كذا " أو" وجدتُه " و " وجدتُ زيدا كريما " أو " لئيما "، فإنّ هذه كلّها تدلّ على معان كائنة عن إنسان إلى آخر. وينبغي أن تعلم أنّ هذه اللفظة إذا استُعملت في العلوم النظريّة التي بالعربيّة مكان " هست "بالفارسيّة فينبغي أن لا يخيَّل معنى الاشتقاق ولا أنّه كائن عن إنسان إلى آخر، بل تُستعمَل على أنّها لفظة شكلها شكل مشتقّ من غير أن تدلّ على ما يدلّ عليه المشتقّ، بل أنّ معناه معنى مثال أوّل غير دالّ على موضوع أصلا ولا على مفعول تعدّى إليه فعل فاعل، بل يُستعمَل في العربيّة دالاّ على ما تدلّ عليه " هست " في الفارسيّة و " استين " في اليونانيّة. وتُستعمَل على مثال ما نستعمل قولنا " شيء ". فإنّ لفظة الشيء إذا كانت مثالا أوّلا لم يُفهَم منه موضوع ولا فُهم أنّه كائن عن إنسان إلى آخر، بل إنّما يُفهَم منه ما يعمّ ما يدلّ عليه المشتقّ والمثال الأوّل، وما هو كائن عن إنسان إلى آخر أو غيركائن. وتُستعمَل لفظة الوجود مصدرا، لكن ينبغي أن يُتحرَّز من أن يُتخيَّل أنّ معناه هو كائن عن إنسان إلى آخر - وهو ما كان هذا المصدر يدلّ عليه عند جمهور العرب من أوّل ما وُضع - ولكن يُستعمَل على مثال ما نستعمل قولنا في العربيّة " الجمود " وأشباه ذلك ما بِنْيَته بنية الوجود في العربيّة ممّا ليس يدلّ على كونه عن إنسان إلى آخر. ولأنّ هذه اللفظة بحيث ما هي عربيّة وبِنْيَتها عندهم هذه البنية صارت مغلطة جدّا، رأى قوم أن يتجنّبوا استعمالها واستعملوا مكانها قولنا " هو " ومكان الوجودِ " الهُوّية ". ولأنّ لفظة " هو "ليست باسم ولا كلمة في العربيّة. ولذلك لا يمكن فيها أن نعمل منها مصدرا أصلا، وكان يُحتاج في الدلالة على هذه المعاني التي يُلتمَس أن يُدَلّ عليها في العلوم النظريّة إلى اسم، وكان يُحتاج إلى أن يُعمَل منه مثل " الرجل " و "الرجوليّة " و " الإنسان " و " الإنسانيّة "، رأى قوم أن يتجنّبوها ويستعملوا الموجود مكان " هو " والوجود مكان الهُويّة. و إذا استُعملت لفظة الموجود استُعملت على أنّها مثال أوّل وإن كان شكلها شكل مشتقّ ولا يُفهَم منها ماتخيّله نظائرها من المشتقّات ولا من التي تُفهمها هذه اللفظة إذا استُعملت في الأمكنة التي يستعملها فيها جمهور العرب وعلى وضعها الأوّل، لا موضوعا ولا معنى في موضوع ولا أنّه كائن عن الإنسان إلى آخر، بل على العموم وكيف اتّفق، بل تُستعمَل منقولة عن تلك المعاني مجرَّدة عن التي توهمها هناك .