المبحث الثالث
أهلية وولاية الزواج
أولاً: أهلية الزواج
تعرف الأهلية بأنها: صلاحية الإنسان لما يجب عليه من الحقوق، وما يلزمه من الواجبات، بعد توفر الشروط اللازمة في المكلف، لصحة ثبوت الحقوق له، والواجبات عليه.
1. شروط الأهلية
أ. العقل وفقه الخطاب؛
فمن لا عقل له وهو المجنون يكون فاقد الأهلية؛ لأن القوة المميزة بين الأمور الحسنة والقبيحة المدركة للعواقب غير موجودة عنده، وعلى هذا لا تكون لأفعاله وأقواله حاكم يحكمها.
وكذلك فقه الخطاب؛ فالصبي غير المميز قلما يفقه، فإن كان مميزاً ففقهه قاصر، يقول الزركشي: ( الصبي ليس مكلفاً لقصور فهمه عن إدراك معاني الخطاب، ولذا جاء في الحديث عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: ]رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُر[ (سنن أبو داود، الحديث الرقم 3822).
والقول بعدم جواز مباشرة من ليس بأهل للنكاح ـ لصغره أو جنونه ـ الزواج بنفسه متفق عليه، ولا خلاف فيه، لكن الذي يحتاج إلى بحث هو تزويج الصغير والمجنون من قبل وليهما.
ب. البلوغ
عرف الفقهاء البلوغ بأنه: (قوة تحدث في الصغير يخرج بها من حالة الطفولة إلى حالة الرجولة).
أي هو: بلوغ الحد الذي يصبح فيه الصغير مكلفاً، بحيث يجب عليه القيام بالتكاليف التي كلفه الله بها، وبالبلوغ تصح تصرفات البالغ بيعاً وشراءً وهبة ووصية، وزواجاً وطلاقاً، ونحو ذلك.
2. علامات البلوغ
بلوغ الصغير والصغيرة له علامات تدل عليه، وهي:
أ. الاحتلام وهو: خروج المني المتدفق بلذة في حال النوم.
وقد جاء في الحديث: ]أُتِيَ عُمَرُ بِمَجْنُونَةٍ قَدْ زَنَتْ فَاسْتَشَارَ فِيهَا أُنَاسًا فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ أَنْ تُرْجَمَ مُرَّ بِهَا عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ t فَقَالَ مَا شَأْنُ هَذِهِ قَالُوا مَجْنُونَةُ بَنِي فُلانٍ زَنَتْ فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ أَنْ تُرْجَمَ فَقَالَ ارْجِعُوا بِهَا ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقَلَمَ قَدْ رُفِعَ عَنْ ثَلاثَةٍ عَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَبْرَأَ وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَعْقِلَ قَالَ بَلَى قَالَ فَمَا بَالُ هَذِهِ تُرْجَمُ قَالَ لاَ شَيْءَ قَالَ فَأَرْسِلْهَا قَالَ فَأَرْسَلَهَا قَالَ فَجَعَلَ يُكَبِّرُ. وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مُرَّ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ t بِمَعْنَى عُثْمَانَ قَالَ أَوَ مَا تَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ عَنْ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يَفِيقَ وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ قَالَ صَدَقْتَ قَالَ فَخَلَّى عَنْهَا[ (سنن أبو داود، الحديث الرقم 3823).
ب. ظهور شعر العانة، وهو الشعر الخشن الذي ينبت حول الفرج الذي يحتاج في إزالته إلى حلق، دون الشعر الزغب الضعيف الذي ينبت للصغير.
ج. البلوغ بالسن، وقد اختلف أهل العلم في تحديده، وقيل إنه ما بين العاشرة والثامنة عشرة. ولكن المرجح عند كثير من العلماء تحديد سن البلوغ بخمس عشرة سنة، لما صح ]عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ عَرَضَنِي رَسُولُ اللَّهِ r يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقِتَالِ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي وَعَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 3497).
ولا خلاف بين أهل العلم في أن حيض الأنثى وحملها علامتان دالتان على بلوغها، وهاتان العلامتان تنفرد بهما البنت عن الصبي، والثلاثة الأولى مشتركة بينهما. وعند الحنفية سن بلوغ البنت هو سبع عشرة بكل حال.
ثانياً: الولاية في الزواج
1. تعريف الولاية لغة واصطلاحاً
الولي لغةً: كل من ولي أمراً أو قام به، وولي اليتيم هو الذي يلي أمره ويقوم بكفايته.
والولاية: (قدرة الشخص شرعاً على إنشاء التصرف الصحيح النافذ، على نفسه أو ماله، أو على نفس الغير وماله).
2. الحكمة من اشتراط الولاية
شرعت الولاية على الصغار والمجانين؛ لأنهم ليسوا بأهل للتصرف في أمورهم، فيحتاجون إلى من يقوم بمصالحهم. أما الحكمة من الولاية على المرأة البالغة العاقلة فتكمن في:
أ. صيانة المرأة عما يشعر بميلها إلى الرجال، فالمرأة تستحي من مباشرة ذلك، وقد طبعت على الحياء.
ب. الرجال أقدر من النساء على البحث عن أحوال الخاطب، ولو تُركت المرأة وحدها تقرر مصيرها، بلا معونة من أهلها وأقاربها، فقد لا توفق إلى اختيار الرجل المناسب.
ج. اشتراط الولي فيه مزيد من الإعلان عن النكاح، والشريعة تدعو إلى إعلان النكاح وإشهاره.
د. ارتباط المرأة بالرجل الذي تختاره ليس شأناً خاصاً بالمرأة دون سواها، فالزواج يربط بين الأسر، ويوجد شبكة من العلاقات؛ فالآباء والأخوة ونحوهم يهمهم أن تكون الأسرة، التي يرتبطون بها، على مستوى من الفضل والخلق، وارتباط المرأة بالزوج الصالح يريح أسرتها، مثلما يقلقهم ويتعبهم تعثرها في حياتها الزوجية. وسيقعون في بلاء أعظم وأشد إذا وصل الشقاق بين المرأة وزوجها إلى الطلاق، فتعود إليهم، وفي يدها أولادها، أفلا يشاركون في قرار له انعكاساته على حياتهم جميعا؟!.
3. الذين تشترط لهم الولاية
أ. الولاية على الصغير
لا يجوز أن يباشر الصغير عقد زواجه بنفسه؛ لأنه ليس بأهل لمثل هذه التصرفات.
ذهب بعض الفقهاء من المتقدمين والمعاصرين إلى المنع من تزويج الأولياء الصغار، كما ذهب إلى ذلك قوانين الأحوال الشخصية في كثير من البلاد الإسلامية. ولكن نقل جمع من العلماء إجماع أهل العلم على جواز تزويج الولي للصغير والصغيرة، ومن هؤلاء ابن المنذر، وابن قدامة، وابن حجر. وخالف في ذلك ابن شبرمة القاضي، والأصم من متكلمي المعتزلة، أما ابن حزم من الظاهرية فذهب إلى منع تزويج الصغير دون الصغيرة.
(1) أدلة الذين أجازوا تزويج الصغار
احتج العلماء الذين يرون جواز تزويج الأولياء الصغار، بأدلة منها. قوله تعالى: ]وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ[ (سورة الطلاق: الآية 4).
ووجه الدلالة من الآية، عندهم، أنها جعلت عدة المطلقات اللاتي لم يحضن، كعدة اليائسات، ثلاثة أشهر، والمطلقة التي لم تحض هي الصغيرة، فعدم حيضها لصغرها، ولا يكون طلاق إلا بعد زواج.
وقد عقد البخاري بابا قال فيه: (باب إنكاح الرجل ولده الصغار) وذكر تحته الآية السابقة. ثم قال: (فجعل عدتها ثلاثة أشهر قبل البلوغ) وساق البخاري في هذا الباب حديث عائشة أن النبي r تزوجها وهي بنت ست سنين، وأُدخلت عليه وهي بنت تسع، فإن قيل لهم: هذه الآية في النساء اللواتي بلغن سن الرشد ولم يحضن قالوا: إن الآية شاملة للنوعين للبالغة التي لم تحض، وللصغيرة التي لم تحض.
أما القائلون بعدم جواز تزويج الصغار، فقد احتجوا بالأدلة التالية: قوله تعالى: ]وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ ءاَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ[ (سورة النساء: الآية 6).
ووجه الدلالة أن الآية جعلت النكاح بعد البلوغ[1].
وقالوا: الأصل في الأبضاع التحريم إلا ما دل عليه الدليل، فلما ردَّ عليهم المجيزون بحديث تزوج الرسول r عائشة، وهي في السنة السادسة، ودخوله بها في سن التاسعة، قالوا تلك خصوصية للرسول r [2].
وقالوا: إن ثبوت الولاية على الصغير إنما تكون لحاجته للولاية، فإن لم يكن بحاجة للولاية فإن الولاية لا تثبت كالتبرعات، ولا حاجة بالصغار إلى النكاح، أضف إلى هذا أن عقد النكاح عقد خطير، يستمر بعد البلوغ، ويكون له خيار بعد بلوغه، وقد لا يرضى الصغير به عند كبره[3].
(2) ترجيح بعض علماء المسلمين في تزويج الصغار
ويرى بعض علماء المسلمين أن النصوص الصريحة الواضحة التي تجيز تزويج الصغار لا يجوز لأحد مخالفتها، ولكنهم يرون أن يؤخذ بالشروط، التي تضيق هذا النوع من الزواج، وتحصره في أضيق الحدود، فلا يجوز لأحد من الأولياء، غير الأب، تزويج الصغار، إلا بشرط أن يكون الزوج كفأ، ويكون للصغير مصلحة بينة واضحة في هذا الزواج، وفي حال الدخول، يشترط أن تكون الصغيرة صالحة للمعاشرة الجنسية.
ويرون أنه على القول بأن تزويج الصغار ممنوع قانوناً؛ فلا يجوز أن يعد هذا المنع حكماً شرعياً، يدخل في دائرة الأحكام الباطلة شرعاً، وكل ما يمكن قوله إن من يفعل هذا من الأولياء، يعاقب قانونا، ولا يحكم على فعله بالبطلان، كما هو الحال في اشتراط عقد الزواج على يد المأذون، واشتراط توثيق عقد النكاح، وهذه الشروط تسمى الشروط القانونية، لا الشرعية، فالزواج الذي يستوفي الشروط، التي جاءت بها الشريعة، يعد صحيحا لازما شرعاً وقانونا، والشروط القانونية لا تنشئ حكماً شرعياً دينيا، يحل حراماً، أو يحرم حلالاً، بل هو شرط قانوني لا دخل له في الحكم الشرعي الديني .
(3) جواز أن يكون ولي الصغير غير الأب
وذهب آخرون منهم الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وعطاء بن أبي رباح وطاووس بن كيسان وقتادة بن دعامة، وابن شبرمة والأوزاعي، إلى أنه يجوز لغير الأب تزويج الصغيرة ولها الخيار إذا بلغت.
وذهب أبو حنيفة إلى جواز تزويج الأولياء الصغار، وليس لهم الخيار عند البلوغ.
وقد احتج بعض الشافعية على منع غير الأب والجـد من تزويج الصغيرة، فيمـا نقله ابن حجر عنهم، بحديث: لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر. وأورد عليهم: أن الصغيرة لا تستأمر.
فأجابوا: إن الحديث يشير إلى تأخير زواجها حتى تبلغ فتصير أهلاً للاستئمار.
وإذا قيل لهم: بأن المرأة بعد البلوغ لا تكون يتيمة.
أجابوا: إن في الحديث محذوفا تقديره: ]لا تنكح اليتيمة حتى تبلغ فتستأمر[، جمعا بين الأدلة.
واحتج الذين أجازوا للولي تزويج الصغيرة وان لم يكن أبا بقوله تعالى: ]وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ[ (سورة النساء: الآية 3).
وقد بوب البخاري على هذه الآية بقوله: (باب تزويج اليتيمة) وأورد فيه الآية، وساق فيه حديث عائشة المبين لسبب نزولها[4].
ب. الولاية على المجنون والمعتوه[5] في زواجهما
من أهل العلم من لا يفرق بين العته والجنون. وبعض علماء المسلمين يجيزون للولي تزويج المجنون والمعتوه، وبعضهم يشترط إذن القاضي. وينبغي إطلاع الطرف السليم على ما بالزوج المجنون أو المعتوه من بلاء، كما ينبغي أن يشترط أن لا يكون جنونه من النوع الذي يلحق الضرر بالآخرين[6].
ج. الولاية على السفيه
والمراد بالسفيه هنا: المبذر لماله المضيع له على خلاف ما يقتضيه العقل والشرع، كأن يشتري الشيء التافه بالمال الكثير، أو يبيع السلعة الثمينة بالثمن القليل .
والسفيه ليس كالمجنون والصغير، فالمجنون مختل العقل، والصغير غير كامل الأهلية، أما السفيه فإن لديه خفة في عقله تعود إلى اختياره، فهو يبذر المال عالماً بذلك راضياً به، يدفعه إلى ذلك طيش وسوء تصرف، ولكنه أهل للخطاب والتكليف ومحاسب على أفعاله[7].
د. الولاية على المرأة البالغة العاقلة
ذهب جمهور علماء المسلمين إلى اشتراط الولي في تزويج المرأة البالغة العاقلة لا فرق في ذلك بين البكر والثيب[8]. واستدلوا بأدلة كثيرة منها:
قوله تعالى ]الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ[ (سورة النساء: الآية 34).
واستدلوا بالنصوص الآمرة للرجال بتزويج النساء أو الناهية عن تزويجهم كقوله تعالى: ]وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُم[ْ (سورة النور: الآية 32 )، وقوله تعالى: ]وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا[ (سورة البقرة: الآية 221).
واستدلوا بقوله عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: ]أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِل[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 1021).
ويتبين هنا أن النصوص خاطبت الرجال آمرة بالإنكاح أو ناهية عنه، ولو كان أمر تزويج النساء عائداً إليهن لما وجه الخطاب إلى الرجال.
واستدل الشافعي: بقوله تعالى في الإماء ]فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ[ (سورة النساء: الآية 25).
ووجه الاستدلال بالآية أنه اشترط لصحة النكاح إذن ولي الأمة، وهذا يدل على أنه لا يكفي عقدها النكاح لنفسها.
واستدلوا بالنصوص الناهية للأولياء عن عضل النساء كقوله تعالى: ]وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوف[ (سورة البقرة: الآية 232).
فالمخاطب بالنهي عن العضل هم الأولياء، نهوا عن عضل النساء اللاتي طلقن وأتممن عدتهن عن العودة إلى أزواجهن إذا جاء الزوج خاطباً، ورضيت المرأة بالعودة إليه[9].
هـ. انعقاد النكاح بعبارة النساء
قال الجمهور: إن النكاح لا ينعقد بعبارة النساء، بينما قال الحنفية: يجوز للمرأة أن تعقد النكاح بعبارتها. بتزويج عائشة ابنة أخيها عبدالرحمن بن أبي بكر -عندما كان غائباً في الشام- زَوَّجَتْها بالمنذر بن الزبير، فلما قدم عتب عليها في تزويجها بناته، إلا أنه أمضى نكاحها[10].
وذهب الإمام محمد بن الحسن في ظاهر الرواية إلى اشتراط الولي، ومع ذلك أجاز للمرأة أن تعقد النكاح بعبارتها. واستدل لمنع المرأة من تولي عقد النكاح والتوكل فيه، بحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: ]لا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 1872)[11].
و. حكم إجبار الولي للمرأة الثيب
اتفق علماء المسلمين، إلا من شذ منهم، على منع الولي من إكراه المرأة الثيب البالغة العاقلة على الزواج. واستدلوا على عدم صحة ذلك بما ورد في الحديث ]عَنْ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ الأَنْصَارِيَّةِ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ فَكَرِهَتْ ذَلِكَ فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ نِكَاحَهَا[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 6432).
وحديث عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: ]لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ وَصَمْتُهَا إِقْرَارُهَا[ (سنن أبوداود، الحديث الرقم 1796). وحديث عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: ]الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا[ (رواه مالك، الحديث الرقم 967).
ز. حكم إجبار البكر البالغة العاقلة
الأصل عند كثير من علماء المسلمين أنه لا يجوز إجبار المرأة البكر العاقلة على الزواج، بينما يرى البعض أنه يجوز بضوابط وشروط، واختلفوا في تحديد الأولياء الذين يحق لهم الإجبار.
قال ابن قدامة مبينا الاختلاف في هذه المسألة: عن أحمد في إجبار البكر البالغة العاقلة على الزواج روايتان:
· إحداهما: له إجبارها على النكاح وتزويجها بغير إذنها كالصغيرة، وهو مذهب مالك وابن أبي ليلى والشافعي وإسحاق بن راهويه.
· والثانية: ليس له ذلك، وهو مذهب الأوزاعي والثوري وأبي عبيد وأبي ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر.
وقد رجح أحمد ابن تيمية الرواية الثانية، وفي ذلك يقول: (واختلف العلماء في استئذان الولي البكر البالغة هل هو واجب أو مستحب، والصحيح واجب).
واستدل الذين لم يجيزوا للولي إجبار المرأة البالغة العاقلة على الزواج بأدلة منها:
(1) النصوص المشترطة استئذان البكر في نكاحها، ومن هذه الأحاديث والبكر تستأذن في نفسها ، وفي رواية: والبكر يستأذنها أبوها . وفي رواية واليتيمة تستأمر وصمتها إقرارها وفي حديث عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ: ]لاَ تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ وَلاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ إِذْنُهَا قَالَ أَنْ تَسْكُت[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 4741).
(2) النصوص المصرحة برد الرسول r نكاح من زوجها وليها من غير إذنها. روي جَاءَتْ فَتَاةٌ إِلَى النَّبِيِّ r: ]فَقَالَتْ إِنَّ أَبِي زَوَّجَنِي ابْنَ أَخِيهِ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ قَالَ فَجَعَلَ الأَمْرَ إِلَيْهَا فَقَالَتْ قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ تَعْلَمَ النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ إِلَى الآبَاءِ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 1264) وحَدَّثَنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ]أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتْ النَّبِيَّ r فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ r.[ (رواه أبي داود، الحديث الرقم 1794).
تزويج الفتاة مع كراهيتها مخالف للأصول والعقول، والله لم يسوغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده، فكيف يكرهها على مباضعة ومعاشرة من تكره مباضعته ومعاشرته، والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له، ونفورها منه، فأي مودة ورحمة في ذلك.
وقد تتابع أهل العلم على النص على بطلان العقود التي تتم بالإكراه، كالبيع والشراء والإجارة، فالقول بجواز إنكاح المرأة من غير رضاها مخالف للقاعدة العامة التي قررتها الشريعة الإسلامية، وأخذ بها أهل العلم.
إذا وقع شقاق بين الزوجين فإن الشريعة جعلت للمرأة سبيلا للخلاص من زوج لا تريده، سواء عن طريق الحَكمين أو الخلع.
فكيف يجوز تزويجها إياه ابتداءً، ومقتضى ما سبق ذكره أنه لا يجوز تزويجها من غير إذنها، ولا يعني اشتراط إذنها أن الولي غير لازم في نكاحها، ولكن لا بد من اتفاق إرادتها وإرادة وليها في التزويج على أقل تقدير.
ح. عضل الولي (منع موليته من الزواج)
كما لا يجوز للولي إجبار المرأة على الزواج فلا يجوز له عضلها كذلك، والعضل هو منع الولي موليته من الزواج، وفي ذلك يقول الله تعالى: ]وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ[ (سورة البقرة: الآية 232)، فإذا ارتضت المرأة رجلاً وكان كفأً فليس لوليها منعها من التزوج به، فإن منعها في هذه الحالة من فعل أهل الجاهلية.
وإذا عضل الولي موليته فإن الولاية تنتقل عنه إلى غيره، وقد ذهب الشافعي وأحمد، في رواية، إلى أن الولاية تنتقل في حالة العضل إلى الحاكم، وذهب أبو حنيفة، في المشهور عنه، إلى أنها تنتقل إلى الأبعد بشرط أن يكون كفأ، فإن منع الأولياء جميعا تزويجها وعضلوها، فإن الولاية تنتقل إلى الحاكم قولاً وأحداً.
ط. ولاية الحاكم
تبين فيما سبق أن المرأة التي لا ولي لها، أو لها أولياء اتفقوا على عضلها فإن الولاية تنتقل إلى السلطان، كما سبق عن بعض أهل العلم أن الولاية تنتقل إلى السلطان في حال عضل الولي الأقرب، ولا تنتقل إلى الولي الأبعد. ويرى بعض من أهل العلـم أن الولاية تنتقل إلى السلطان في حال غيبة الولي بأن يكون مسافراً، أو يكون هو في بلد وهي في بلد آخر، وهذا صحيح، إذا كان الوصول إلى الولي متعذراً أو متعسراً، أما إذا أمكن حضوره من غير تفويت المصلحة في زواج المرأة؛ فلا يجوز الافتيات عليه، وقد كانت الاتصالات في الماضي فيها صعوبة، ولكنها تيسرت اليوم في كثير من الأحيان[12].
ي. زواج المرأة التي لا ولي لها ولا حاكم للمسلمين في بلدها
إذا زال حكم المسلمين عن البلد، أو كانت المرأة في موضع لا يوجد فيه للمسلمين حاكم، ولا ولي لها مطلقاً كالمسلمين في ديار الغرب ونحوها، فإن كان يوجد في تلك الديار مؤسسات إسلامية تقوم على رعاية شؤون المسلمين فإنها تتولى تزويجها، وكذلك إن وجد للمسلمين أميرٌ مطاع أو مسؤول يرعى شؤونهم ، قال ابن قدامة: (فإن لم يوجد للمرأة ولي ولا سلطان فعن أحمد ما يدل على أنه يزوجها رجل عدل بإذنها).
وهذا القول أحد ثلاثة أوجه في مذهب الشافعية، والوجه الثاني: تزوج نفسها للضرورة. والثالث: لا تتزوج مطلقا، والمختار عند الشيخ ابن تيمية هو القول الأول[13].
ك. أولياء المرأة الذين لهم حق تزويجها والأولى منهم بالتزويج
أولى الناس بتزويج المرأة عصبتها، والمراد بالعصبة أقارب الرجل من جهة أبيه من الذكور فقط، سموا عصبة لأنهم يحيطون به، وكل شيء استدار بشيء فقد عصب به، ومنه العصابة التي يضمد بها الجرح، وسمت العرب العمائم بالعصائب؛ لأنها تحيط بالرأس.
وجمهور أهل العلم على أنه لا ولاية لغير العصبة، فإن عدموا انتقلت الولاية إلى السلطان، وذهب أبو حنيفة إلى أن الولاية تنتقل إلى بقية الأقارب حسب قوة قرابتهم، فتنقل عنده بعد الذكور إلى الأم والبنات وبنات الابن والأخوات وسائر ذوى الأرحام.
والأولى بتزويج المرأة أقربهم إليها، لأنه أحرى أن يراعي مصلحة موليته، وهذا مشهود منظور، فكلما كان المرء أقرب كانت مراعاته لموليته أقوى، وحرصه عليها أعظم.
قال الشوكاني: (كان يعقد نكاح النساء في زمن النبوة قرابتهن، وكان يقدم الأقرب فالأقرب، فإذا كان الأب موجوداً كان ذلك إليه، كما كان من أبي بكر وعمر في تزويجهما عائشة وحفصة من رسول الله r، وكما كان منه r في تزويج بناته، وهكذا كان عمل سائر الصحابة، ثم إذا عدم الأب تولى ذلك الأقرب فالأقرب إلى المرأة ).
وقال ابن حزم محتجاً على الأولوية في الولاية: (لا يجوز إنكاح الأبعد من الأولياء مع وجود الأقرب، لأن الناس كلهم يلتقون في أب بعد أب إلى آدم عليه السلام بلا شك، فلو جاز إنكاح الأبعد مع وجود الأقرب لجاز إنكاح كل من على وجه الأرض، لأنه يلقاها لا شك في بعض آبائها، فصح يقينا أنه لا حق مع الأقرب للأبعد).
ولا توجد نصوص تدل على الأولى بالولاية، ولذا فإن الفقهاء، في ترتيبهم للأولى والأقرب، قد يتفقون وقد يختلفون، لعدم علمهم بالأقرب، وفي ذلك يقول الله تعالى: ]ءاَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا[ (سورة النساء: الآية 11).
ومن اتفاقهم في هذا الموضوع تقديمهم الأب على الجد والأخوة والأعمام، ولكنهم اختلفوا في أيهم المقدم الأب أو الابن، والجد أو الأخوة[14]، حسب التالي:
المرتبة | الحنفية | المالكية | الشافعية | الحنابلة |
الأولى | الأبناء ثم أبناؤهم | الأبناء ثم أبناؤهم | الأب ثم الجد | الأب ثم الجد |
الثانية | الأب ثم الجد | الأب | الإخوة ثم أبناؤهم | الأبناء ثم أبناؤهم |
الثالثة | الإخوة ثم أبناؤهم | الإخوة ثم أبناؤهم | الأعمام ثم أبناؤهم | الإخوة ثم أبناؤهم |
الرابعة | الأعمام ثم أبناؤهم | الجد | ـ | الأعمام ثم أبناؤهم |
(1) الأولى بالتزويج عند اتحاد الرتبة
إذا كان للمرأة أكثر من ولي، وكانوا في درجة واحدة في قربهم من المرأة، كالإخوة فانه يصح أن يبرم عقد النكاح أي واحد منهم، إذا تحققت فيه شروط الولي، ولم يختلف في ذلك علماء المسلمين، وإنما اختلافهم في الأولى بالولاية، هل هو الأتقى أو الأكبر.
فإذا اتفق الأولياء على واحد منهم، أو تقدم أحدهم ولم يعترض الآخرون فالنكاح صحيح سواء أكان المتقدم لإبرام العقد هو الأكبر أو الأصغر، العالم أو الجاهل، التقي أو غيره.
والإشكال إنما يكون عند اختلافهم وتنازعهم فقط في تحديد الذي يبرم عقد النكاح منهم، فأي واحد سبق بإبرامه منهم صح تزويجه، وسقط اعتراض الآخرين. أمّا إذا كان تنازعهم واختلافهم على الرجل، الذي يريد كل ولي أن يزوجه، فإن المشكلة هنا تتعمق وتشتد؛ لأن اختلافهم يضير المرأة، ويضر بها[15].
(2) تزويج الأبعد في حال غيبة الأقرب
المقصود بالأبعد هنا الذي يلي الأقرب وليس أبعد الأولياء، فإذا لم يكن في انتظار الولي الأقرب تفويت لمصلحة المخطوبة، بأن كان الخاطب موافقاً على الانتظار لحين حضوره، أو كانت الغيبة قصيرة، أو أمكن الاتصال، بالولي الغائب بالهاتف أو غيره من وسائل الاتصال فإن حق الولاية لا ينتقل إلى غيره.
فإن تعسر أخذ رأي الولي الذي يلي الولي الغائب أو لم يكن للمرأة ولي غيره انتقلت الولاية إلى القاضي[16].
(3) توكيل الولي بالتزويج وتوصيته به
يجوز للولي أن يوكل غيره في تزويج من يلي أمرها من النساء؛ لأن وكيله نائب عنه، وقائم مقامه، ويثبت للوكيل ما يثبت للموكل.
4. الشروط التي يجب توافرها في الولي
اشترط أهل العلم في الولي شروطاً عدة، بعضها متفق عليه تقريباً، وبعضها مختلف فيه، المتفق عليه: الذكورة والعقل، والبلوغ، والإسلام.
أما الإسلام فهو شرط لا بد من تحققه في من تجوز له الولاية؛ فلا ولاية لكافر على مسلمة، وسئل ابن تيمية عن رجل أسلم، هل يبقى له ولاية على أولاده الكتابيين، فأجاب: (لا ولاية له عليهم في النكاح، كما لا ولاية له عليهم في الميراث، فلا يزوج المسلم كافرة، سواء كانت بنته أو غيرها، ولا يرث كافر مسلما ولا مسلم كافرا، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وأصحابهم من السلف والخلف، والله سبحانه قد قطع الولاية في كتابه بين المؤمنين والكافرين، وأوجب البراءة منهم من الطرفين، وأثبت الولاية بين المؤمنين). وساق كثيراً من النصوص الدالة على ثبوت الولاية بين المؤمنين وانقطاعها بينهم وبين الكافرين، فمن ذلك قوله تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ[ (سورة الأنفال: الآية 72). وقوله تعالى: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض[ (سورة المائدة: الآية 51).
واختلف أهل العلم فيمن تزوج كتابية ذمية هل يجوز أن يلي أمرها وليها الكافر، فذهب أبو حنيفة والشافعي وهو قول عند الحنابلة إلى جوازه، وهناك قول عند الحنابلة أن الحاكم هو الذي يزوجها، ولا يجوز عندهم أن يعقد عقد المسلم كافر .
واشترط بعض أهل العلم شروطاً أخرى في الولي منها: الحرية، العدالة، والنطق، والبصر، وكونه وارثاً. واشتراط الحرية هو قول أكثر أهل العلم، كما يقول ابن رشد، فلا يجيزون للعبد أن يكون وليا في النكاح، وعللوا لقولهم بأن العبد لا ولاية له على نفسه؛ فعدم ولايته على غيره أولى. والحنفية يجيزون تزويج العبد بإذن المرأة، لأنهم يجيزون لها أن تزوج نفسها من غير ولي.
أما العدالة فإن أهل العلم اختلفوا في اشتراطها في الولي، فذهب أكثرهم إلى عدم اشتراطها، وهو قول أبي حنيفة والمشهور من مذهب مالك، وهو رواية عن الشافعي والإمام أحمد. وذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد في الرواية الأخرى إلى اشتراط العدالة والولاية.
والذين اشترطوا العدالة نظروا للمعنى، فقالوا: لا يؤمن مع عدم العدالة أن لا يختار لها الكفء. والذين لم يشترطوها قالوا: إن الحالة التي يختار الولي الكفء لموليته غير حالة العدالة، وهي خوف لحوق العار بهم، وهذه هي موجودة بالطبع.
استدل الحنفية على عدم اشتراط العدالة في الولي بعموم قوله تعالى: ]وَأَنكِحوا الأَيامَى مِنْكُمْ[ (سورة النور: الآية 32). واستدلوا بإجماع الأمة، فإن الناس عن آخرهم خاصهم وعامهم من لدن رسول الله r إلى اليوم يزوجون بناتهم من غير نكير، من أحد. واحتجوا بأن هذه ولاية نظر، والفسق لا يقدح في القدرة على تحصيل النظر، ولا في الداعي إليه، وهو الشفقة، وكذا لا يقدح في الوراثة؛ فلا يقدح في الولاية على غيره كالعدل.
وجمهور العلماء على أنه لا يشترط في الولي أن يكون بصيرا، ولا ناطقا، فتصح ولاية الأعمى وولاية الأبكم. يقول ابن قدامة: (لا يشترط أن يكون الولي بصيرا؛ لأن شعيباً u زوج ابنته وهو أعمى، ولأن المقصود في النكاح يعرف بالسماع والاستفاضة، فلا يفتقر إلى النظر).
ولا يشترط كونه ناطقا، بل يجوز أن يلي الأخرس إذا كان مفهوم الإشارة، لأن إشارته تقوم مقام نطقه في سائر العقود والأحكام، فكذلك في النكاح. أما اشتراط كونه وارثاً فهو مذهب الحنفية، واستدلوا لمذهبهم بأن سبب الولاية والوراثة واحد وهو القرابة، وكل من يرثه يلي عليه، ومن لا يرثه لا يلي عليه، فلا ولاية للمرتد، لأنه لا يرث، وذهب جمهور المسلمين إلى عدم اشتراط كونه وارثاً.
[1] ويرد على استدلالهم بأن المراد بالنكاح هنا القدرة على الوطء، وليس المراد منها منع الولي من عقد النكاح للصغير، فكما يجوز للولي التصرف في مال الصغير إن كان في ذلك مصلحة له، فكذلك التزويج.
[2] رد َّعليهم هؤلاء بأن الخصوصية لا تثبت من غير دليل، ولا دليل يدل على أنها خصوصية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهناك أدلة أخرى تدل على ما دل عليه هذا الدليل.
[3] ويعتذر المجيزون: أن التزويج مشروط بتحقيق المصلحة، ومن المصلحة أن يزوج الصغير بالكفء.
[4] وقال ابن حجر في شرحه للحديث: (فيه دلالة على تزويج الولي غير الأب التي دون البلوغ بكرا كانت أو ثيبا، لأن حقيقة اليتيمة من كانت دون البلوغ، ولا أب لها، وقد أذن في تزويجها بشرط أن لا يبخس من صداقها). ولعل الملحظ الأقوى لمن منع غير الأب من الأولياء تزويج الصغار أن الأب تام الشفقة على أولاده، ونظره في مصالحهم في غاية القوة، ولا يطعن في شفقته ولا في نظره، وليس ذلك لغير الأب، وان كان الجد قريبا منه.
[5] الجنون: زوال العقل، ومظهره جريان التصرفات القولية والفعلية على غير نهج العقلاء، أما العته: آفة توجب خللاً في العقل، فيصير صاحبه مختلط الكلام يشبه بعض كلامه كلام العقلاء، وبعضه بكلام المجانين، وكذا سائر أموره.
[6] وموافقة القاضي مشروطة بوجود مصلحة للمجنون أو المعتوه في الزواج، فالوالي قد يزوج من به جنون أو عته لا لمصلحة لهما، إنما للعاطفة غير المحكومة بميزان العقل، وقد يزوج الولي المجنون لمصلحة نفسه مراعياً اعتبارات خاصة به.
[7] والشافعية لا يجيزون للسفيه الزواج من غير إذن وليه، كبيعه وشرائه وهبته، ومذهب الحنفية صحة نكاح السفيه من غير إذن الولي؛ لأنه ليس بعقد مالي، والسفيه محجور عليه في تصرفاته المالية، وقد ذهب: أبو يوسف ومحمد، صاحبا أبي حنيفة، إلى أن من حق الولي أن يتدخل لمنع الزيادة في المهر عن مهر المثل (ومهر المثل هو: ما اعتاد الناس أن يدفعوه مهراً لأمثال هذه المرأة من قريباتها). والمالكية يصححون زواج المحجور عليه لسفه، ويكون النكاح موقوفاً على إجازة الولي. ويرى الحنابلة أنه إذا تزوج بغير إذن وليه يصح نكاحه إذا كان محتاجاً إلى النكاح، فإن عدمت الحاجة لم يجز.
[8] وذهب أبو حنيفة وزفر والشعبي والزهري وقول الإمام مالك إلى عدم اشتراطه، والولي في النكاح عندهم مندوب إليه، وليس بشرط. والقول بالاستحباب وأنه يجوز للمرأة غير الشريفة أن تستخلف رجلا من المسلمين على إنكاحها. وقال داود الظاهري باشتراطه في البكر دون الثيب. وذهب ابن سيرين والقاسم بن محمد، والحسن بن صالح، وأبو يوسف إلى أن المرأة إن زوجت نفسها من غير ولي كان زواجها موقوفا على إجازة الولي فإن أجازه صح، وإن لم يجزه لم يصح.
[9] يقول الطبري في هذه الآية: إن الله تعالى ذكره أنزلها دلالة على تحريمه على أولياء النساء مضارة من كانوا له أولياء من النساء، بعضلهن عمن أردن نكاحه من أزواج كانوا لهن، فبن منهم بما تبين به المرأة من زوجها، من طلاق أو فسخ أو نكاح ) ووافقه ابن كثير، وقال: وهذا هو قول جمهور علماء المسلمين.. وقد ورد في الحديث أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار عندما منع أخته من الرجوع إلى زوجها بعد طلاقه إياها وخروجها من عدتها، ثم عاد إليها خاطبا، فلما نزلت الآية ناهية له عن عضلها، دعاه الرسول r وقرأ الآية عليه، فزوجها إياه.
[10] ومنع الماوردي حمل هذا الأثر عن عائشة على ظاهره؛ لأنها هي الراوية للحديث الذي يبطل نكاح المرأة المتزوجة بغير إذن وليها، ونصه (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطـل). ولأن لبنت أخيها أخوة وأعمام هم أحق بالولاية من عائشة، ولأن عائشة في الأثر الذي نقل عنها كانت تفتتح النكاح بالتشهد، فـإذا بلغت العقد أمرت الولي بالإنكاح، والذي يظهر أن عائشة أشارت على الفتاة والولي الحاضر بقبول المنذر زوجاً، وقد تكون هي ابتدأت النكاح بخطبة النكاح فيه، ثم عقد الولي دونها، وعتب عـليها أخوها دون غيرها؛ لأنها كانت العامل المؤثر في التزويج، وإن لم تعقد هـي، فكانت هي المزوجة بالاعتبار الذي ذُكِر.
[11] وعلق الماوردي على هذا قائلا: (وهذا إجماع منتشر في الصحابة، لا يعرف له مخالف). واستدل بقياس الأولى، فإذا كانت المرأة لا ولاية لها في عقد نكاحها، فأولى أن لا يكون لها ولاية في حق غيرها، وكل عقد لم يصح أن تعقده المرأة لنفسها لم يجز أن تعقده لغيرها.
[12] ولا يد أهل العلم بالسلطان أو الحاكم إمام المسلمين وحده، وإنما يريدون به إمام المسلمين وولاته ونوابه وقضاته.
[13] وقد تكلم الإمام الجويني عن هذه المسألة، ورد قول الذين منعوا النكاح عند انعدام الولي وانعدام السلطان، فقال: (إذا لم يكن لها ولي حاضر، وشغر الزمان عن السلطان، فنعلم قطعا أن حسم باب النكاح محال في الشريعة، ومن أبدى في ذلك تشككاً، فليس على بصيرة بوضع الشرع. ويرى أن الذي يتولى أمر النكاح في هذه الحالة هم العلماء الذين يتعين الرجوع إليهم في تفاصيل النقض والإبرام ومآخذ الأحكام.
[14] وليس لغير العصبة ولاية كالأخ من الأم والخال وعم الأم والجد والد الأم، هذا هو قول أحمد والشافعي وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، والثانية عنه أن كل من يرث بفرض أو تعصيب يلي لأنه من أهل ميراثها، والأول هو المشهور.
[15] لا إشكال في حال رضى المرأة بأي رجل يوافق عليه أي واحد منهم في حال تساويهم في الدرجة، ويكون سبق أي منهم بالتزويج مسقطاً لاعتراض الآخرين، أما إذا رفضت المرأة الرجل الذي رضى به من سبق من أوليائها فلا يجوز، في هذه الحالة، أن يقال: إن الزواج لازم، فرضى المرأة البالغة لا بد منه، فإن كانت ثيبا لا يجوز تزويجها إلا إذا صرحت بالموافقة، فإذا كانت بكرا فلا يجوز تزويجها إلا إذا استشيرت فسكتت أو صرحت بالرضا، فإذا اعترضت فلا سبيل عليها، ولذا فإن تنازع الأولياء المستوون في الدرجة وسبق أحدهم بالموافقة أو التزويج لا يعتبر تزويجه إذا لم ترض المرأة بذلك، ويصح تزويج الولي الذي رضيت المرأة باختياره. فإن تمادى التنازع وتعمق، فمن حق المرأة أن ترفع الأمر إلى القضاء، وللقاضي حق التزويج في حال اختلاف الأولياء وتنازعهم، وفي ذلك يقول الرسول r: (فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له).
[16] وفي حال قبول الولي الأبعد بالتزويج، في حال غيبة الولي الأقرب، فليس من حق الولي الأقرب بعد ذلك الاعتراض على الزواج والمطالبة بفسخ العقد. وانتقال الولاية من الأقرب إلى الأبعد عند غيبة الأقرب هـو مذهب أبي حنيفة وأحمد، وقد اختلف العلماء في الغيبة التي تنتقل الولاية بها إلى الأبعد، فبعضهم حددها بالزمن، وبعضهم بالمسافة، وآخرون نظروا إلى الغيبة التي تنقطع بها أخبار الغائب، وآخرون يرون أنها تحصر في الغيبة التي تفوت بها مصلحة المخطوبة.