ثامناً: أسلحة وحقوق المرأة
1. أسلحة المرأة
من طبيعة الكائنات الحية الحفاظ على نفسها، وللمرأة وسائل متعددة وأسلحة غريزية ومكتسبة، تعينها في المحافظة على ذاتها وكينونتها؛ منها الغَيْرَةَ والدموع، والجمال، والذكاء، والمكر، والأبناء، واللسان، والعلم.
وأمضى هذه الأسلحة، هو العِلْم، الذي به تبني المرأة شخصية قوية، تَصْمد أمام كل التّحديات. أما الجمال فهو سلاح مؤثر وفتاك، ولكنه سلاح معرض للزوال. ومع ذلك فنصف ديوان الشّعر العربي يكاد يكون غزلاً. وقد مضى الحديث عن الغيرة وأثرها الفعّال، وفاعليتها التي لا تُنكر، إن كانت في حدود المعقول، ولم تكن جنوناً وطيشاً. والدّموع سلاح ذو قيمة إلاّ أنه ينبئ غالباً عن ضعف الشخصية. وأمّا الأبناء فهم سلاح المرأة، الذي تُعَوّل عليه كثيراً، فهم الذين ينفعونها إذا تأزمت الأمور، ويسكّنون الثورة، ويدفعون الطرفين للمحافظة، على بيت الزّوجية، وكيان الأسرة.
ومن أسلحة المرأة الفعّالة أيضاً استغلال الذكاء والمكر والكيد، في الحفاظ على الذات وتحقيق الأغراض. والمكر في النساء لا يُدفْع وقد شهد به القرآن، في قصة يوسف u والخبر الذي يقوم شاهداً عليه هو ما رواه ابن الجوزي في كتاب أخبار النساء: قال: كانت لرجل من الأهواز ضيعة بالبصرة، وكان يتعاهدها (أي يذهب إليها) في حين الانتفاع بالثمار. فتزوج بالبصرة امرأة، وانتهى الخبر إلى امرأته الأهوازية، فأرسلت كتاباً على لسان بعض إخوانه بالبْصرة، يعزيه في زوجته البصرية ويقول: الحق المال الذي خلَّفت ولا تتأخر. وأعطت الكتاب لبعض الملاحين، وجعلت له جُعْلاً (أي مكافأة). فلمّا وصل الكتاب إلى زوجها وَجَد (تألم وحزن) لموتها وَجْداً عظيماً، وقال للأهوازية: أصلحي لي سُفْرتي، فإني راكب إلى البصرة. ففعلت، فلما أصبح من الغد ركب فرسه، وأعطته السُّفْرة، ثم قبضت على عنان فرسه، وقالت له: ما تكثر اختلافك إلى البصرة إلا ولك بها امرأة تزوجتها؟ فقال لها: والله مالي بالبصرة امرأة. للذي وقف عليه من الكتاب. فقالت له. لا أدري ما تقول؛ ولكن تحلف وتقول كل امرأة لي غيرك طالق ثلاثاً بقول جميع المسلمين؟ فللذي وقف عليه الرجل من موت البصرية قال في نفسه: تلك ماتت، فلم أُغِير صَدْر هذه: فقال لها: كل امرأة لي غيرك في جميع الأقاليم فهي طالق ثلاثاً بقول جميع المسلمين. فقالت له: لا تتعبن فقد طلقت الحبيبة فندم الرجل، وأسقط ما في يديه.
وأخبار المكر والكيد، لا يأتي عليها الإحصاء، فكم زُلزلت عروش وهُدت ممالك، وخُربت بيوت بالحق أو التلفيق. وربما كان نصيب الرجال من ذلك مثل نصيب النساء. ولكن تبقى المرأة، في أغلب الحالات، هي مصدر الفتنة المحرك للأحداث.
ربما عمدت المرأة إلى السلاح المشترك، وهو اللسان، وهو سلاح ذو حدين، أحد وجهيه موافق لطبيعة المرأة وهو رسول عقلها، وسفير مشاعرها، وآية دلِّها ووسيلة جذبها، فرُبَّ كلمة من امرأة أمالت قلب رجل لا يميل. وحديث المرأة أحد فنون سحرها ومنه قول الشاعر:
وكأن تحت لسانها هاروت ينفث فيه سحرا
وأمّا الوجه الثاني فلا يوافق طبيعة المرأة ولا هو منها، وهو سلاطة اللسان والبذاءة، وهما يقبّحان صورة المرأة ويُنفرِّان منها.
2. حقوق المرأة
المرأة في الإسلام مساوية للرجل فيما يحقق كرامتها وإنسانيتها، لها من الحق ما له وعليها ما عليه. ولا فضل لرجل على أُنْثى إلاّ أن يقوم بما أوتي من القوة، والجلد، وبسطة اليد، واتساع الحيلة، فيتولى قِوامتها، ويحوطها بقوته، ويدافع عنها بدمه، وينفق عليها من كسبه. أمّا ما سوى ذلك فهما في السّراء والبأساء سواء، ذلك ما أجمله الله وضم أطرافه، وجمع حواشيه، بقوله تباركت آياته: ]وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[ (سورة البقرة: الآية 228)
وأول حقوق المرأة في البيئة العربية، أن الإسلام احترم حقها في الحياة، فحرّم وأدها، واستبشعه، ونعى على مرتكبيه في قوله تعالى: ]وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (
بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ[(سورة التكوير: الآيتان 8، 9) بل حاول الإسلام اقتلاع كراهية البنت من النّفوس، حين وجه اللَوم لنَفَرٍ من الآباء يجزعون من ولادة البنات في قوله تعالى: ]وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)[(سورة النحل: الآية 58) فبدأ حرص الإسلام على المرأة، وهي وليدة فحرّم وأدها، ثم صان بعد ذلك كرامتها زوجة وحفظ حقوقها، ثم أوصى بالرفق بها أُماً، وجعل حسن معاملتها حافزاً لنيل الدرجات العلى في الجنة.
ومن أمثلة إكرام المرأة وتنفيذ رغبتها، وإمضاء عزيمتها، ما كان من خبر أم هانئ بنت أبي طالب حين أجارت رجلين من أحمائها، كُتب عليهما القتل يوم فتح مكة. قالت أم هانئ: لمّا نزل رسول الله r بأعلى مكة فرّ إليّ رجلان من أحمائي، من بني مخزوم. فدخل عليّ عليٌّ بن أبي طالب، أخي فقال: والله لأقتلنّهما، فأغلقتُ عليهما باب بيتي، ثم جئت رسول الله r فقال: مرحباً بك يا أم هانئ ما جاء بك، فأخبرته خبر الرّجلين، وخبر عليّ، فقال: قد أجرنا من أجرت، يا أم هانئ وأمنّا من أمَّنت فلا يقتلهما.
وأطلقت زينب، بنت رسول الله r، إسار زوجها عندما أُسر مع المشركين في بدر، بعد أن فَصَمَ الإسلام عروة زواجهما.
ومن مظاهر حفظ الكرامة، أن الإسلام يُسْقط شهادة من يقذف محصنة، بعد أن يُعاقب بالجلد. ولعن الإسلام الذين يرمون المحصنات الغافلات، وشدد في النكير، وبالغ في الاحتياط من ذلك.
وساوى الإسلام بين المرأة والرجل، في الحساب، ثواباً وعقاباً، قال عزّ من قائل: ]كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ[.(سورة المدثر: الآية 38) وقال تعالى: ]مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَة[ (سورة النحل: الآية 97).
وفي الزّواج، نالت المرأة بالإسلام، ما لم تنله نساء الجّاهليات، ولا نساء هذا العصر من غير المسلمات، من الحرية. فقد أعطاها الإسلام، الحق في القبول والرفض، لشريك الحياة. والزواج شَرِكة قوامها المودة والتفاهم، ولا تقوم شّركة إلاّ على المساواة بين أطرافها في الحقوق والواجبات، بعد اعتراف كل طرف بالآخر، وإعطاء كل طرف ما يستحقه، حسب رأس المال والجهد المبذول.
فالمرأة في الإسلام لا تُكره على الزواج، وفي الحديث الذي رواه الستة: ]لاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَن[ (رواه البخاري، الحديث الرقم 6453) فهذه قريبة أخت أبي سفيان خطبها أربعة عشر خاطباً، فردّتهم وتزوجت من أرادت. والخنساء بنت حذيم الأنصارية، التي ذكرت للرسول r أن أباها زوجها من ابن أخيه ليرفع بها خسيسته، فجعل الرسول أمرها بيدها، فقالت الآن أجيز ما أجاز أبي ولكني أردت أن يعلم الناس أن ليس للآباء من أمور بناتهن شيء (تعني في التزويج) فما أنكر الرسول كلامها.
ومع ذلك فلا يُترك الحَبْلُ للمرأة على الغَارِب، فربما كانت صغيرة فَيُغَرَّر بها، وهنا يأتي دور وليّها، في مساعدتها على معرفة الزوج الصالح الجاد. وقد روى أحمد، وأبوداود، قول الرسول r ]أَيُّمَا امْرَأَةٍ لَمْ يُنْكِحْهَا الْوَلِيُّ فَنِكَاحُهَا بَاطِل[ (رواه ابن ماجه، الحديث الرقم 1869)
كما أعطى الإسلام المرأة الحق، في مفارقة الزوج، الذي تستحيل الحياة معه لأسباب وجيهة مقبولة، في حين يبقى الزواج غُلاً في أعناق النساء في الغرب، وهن دعاة التمدن والحضارة، لا يَقْوَيْنَ على الفكاك من الزّواج إلاّ بالمحاكم والقضايا التي تستغرق سنوات طِوال؛ بينما في الإسلام الأمرٌ خلاف ذلك، وقصة بريرة جارية عائشة ـ رضي الله عنها ـ خير دليل على ذلك. فقد زوّجها سيّدها عتبة بن أبي لهب، من أحد العبيد، مكرهةً على ذلك، فاشترتها ـ عائشة رضي الله عنها ـ وأعتقتها. فقال لها رسول الله r ملكت نفسك فاختاري. وكان زوجها يمشي خلفها ويبكي وهي تأباه. فقال النبي r لأصحابه: ألاّ تعجبون من شدة حبه لها، وبغضها له، ثم قال لها: اتقي الله فإنه زوجك وأبو ولدك. فقالت للرسول r: أتأمرني، فقال: لا، إنما أنا شافع. قالت: إذن فلا حاجة لي إليه.
وقد كانت المرأة قبل الإسلام، ربما أكرهت على الزواج من شيخ، أو رجل من بني قرابتها، فلا تقوى على الفكاك منه، حتى قالت إحداهن:
أيا عجباً للخود يجري وشاحها تزف إلى شيخ من القوم تَنْبال
دعاها إليه أنـه ذو قرابـة فويل الغواني من بني العم والخال
ولكنها بالإسلام تتزوج من ترضى، إلاّ أن يكون في وليّها طمع أو ضعف دين، فيرغمها على من لا تريد.
ومن إكرام الإسلام للمرأة إبطاله الزنا، وزواج المتعة، وكان معروفاً في الجاهلية، واستمر شيء منه في صدر الإسلام. فليست المرأة سلعة يُحتاج إليها في وقت دون وقت. فقد روى مسلم وابن ماجة والنسائي، عن علي ابن أبي طالب أن النبي r: ]نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَر[.(رواه البخاري، الحديث الرقم 3894)
وقد كفل الإسلام للمرأة حق التعلُّم، لا فرق بينها وبين الرجل، تتعلم أمور دينها، وتتعلم العلم النافع، الموافق لتكوينها الأنثوي، فتفيد نفسها، وبنات جنسها، وأبناءها، وزوجها، والمجتمع.
وأباح الإسلام، تبعاً لذلك، حق الاكتساب والعمل للمرأة ]لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْن[ (سورة النساء: الآية 32) شريطة أن يكون عملها في المجال، الذي تصلح له وتفيد فيه وأن يكون ذلك بين بنات جنسها، منعاً للاختلاط والفتنة. وفي الحياة وظائف كثيرة هي أقرب إلى اختصاص المرأة وقد مارستها النساء منذ القدم. ومن ذلك مهنة الطب، التي برزت فيها نساء، كانت لهن شهرة وسمعة طيبة، منهن أخت الحفيد بن زهر الأندلسي وابنتها. فقد حدّث صاحب طبقات الأطباء، عن نفاذهن في فروع الطب جميعاً وفي أمراض النساء خاصة، حتى كان المنصور بن أبي عامر، وارث الخلافة الأموية بالأندلس، لا يدعو لنسائه وعامة أهله غيرهن. ومنهن أيضاً زينب طبيبة بني أود، وكانت بارعة في علاج العين بالجراحة.
ومجال التعليم، أيضاً، من أوسع المجالات، التي تستطيع استيعاب كوادر النساء، تعليماً وإدارة. وهو مضمار المرأة المفتوح، الذي تستطيع المنافسة فيه، والإفادة منه. وفي وسعها أن تأتي فيه بمثل ما يأتيه الرجال وأكثر خاصة في الأمور التي تتعلق بكيان المرأة وشؤونها وشخصيتها.
وهكذا يصل البحث إلى ختامه، عَقب هذه السياحة العلمية الطريفة حول المرأة العربية، التي هي ولا شك قسيم الرجل وشريكه، زهرة حياته ونور بيته، وعماد أمره ومخبأ سره. هي عينه الثانية التي يرى بها مالا يراه بالأولى، ويده الثانية التي تعينه على نوائب الدهر وشدائده، فليس عنها غِنى، وليس لرجل عنها بديل؛ لا تحلو الحياة إلاّ بها، ولا حياة للرجل إلاّ بها؛ هي مدار الكون، ومركز ثِقَلِه، ومنبت سلالاته، وشمس ضيائه. وقد حررها الإسلام، ودفع عنها المهانة، وسوّي بينها وبين الرجل في كل شئ، إلاّ أنه جعل للرجل القَوَامة، بإنفاقه وتحمل مسؤوليات بيته، فهي صِنوه (مِثْله) في العبادة، وقرينه في الأجر، وشقيقه في المسؤولية والمعاشرة، ومستشاره في المهمات، ووزيره في الإنفاق، وحارس ماله في الغياب، ومحط سروره إذ نظر، والمطيعة إذ أمر، ولمسة الحب والحنان إذا غضب، والخليفة في السفر، وراعية لأولاده إذا قُبِر.
هي الأم حناناً والزوجة مودة، والأخت عطفاً، والابنة، شفقةً، أرضه إذا زرع، ونهره إذا ربى، وملاذه إذا قُهِر، وممرضته إذا مرض، وحبيبته إذا أنفض الناس عنه، وصديقته في الملمات وغطاؤه إذا نام، وملهمته إذا كتب، ومُلْهِبته إذا خنع (أي خضع لأِمرها)، جميلة في الهناء، لذيذة في السرور، شديدة الهبوب، قريبة المأخذ سهلة إذا أحبت، قوية إذا بغضت، منها الصالح ومنها الطالح، وليس بدعاً في ذلك، فالرجل أيضاً كذلك.
والناس يقولون: المرأة الجميلة دمية، والمرأة المتعلمة فاكهة، والمرأة الفاضلة غذاء. فهذه الصفات إذا اجتمعت ثلاثتها في المرأة فهي الغاية التي ليست بعدها غاية؛ وهي المرأة الصالحة، متاع الدنيا بل هي الدنيا بتمامها. ولكن تبقى الفضيلة هي سيدة خصال المرأة، لأن الجمال، وإن كان مرغوباً فيه، فإنه إلى زوال. وأمّا التعليم فإنّه يفتح آفاق المرأة فتفيد نفسها وزوجها وأطفالها والمجتمع من حولها. غير أن التعليم إذا لم يُوَظْف في وجهته الصحيحة أو تعالت به الزوجة على زوجها ومن حولها تعطلت وظيفتها وفقد التعليم دوره. فصلاح المرأة إذن في فضيلتها. وعلى كُلٍ فالعالم مُكَونٌ من رجل وامرأة، وهما معاً أساس الأسرة ونواتها، وإذا صلحت الأسر صلحت المجتمعات، وصلح العالم.