المبحث الخامس عشر
سليمان u
هو سليمان بن داود بن إيشا بن عوبد، بن بوعز، بن سلمون بن نخشون، بن عمينا داب، بن آرام، بن حصرون، بن فارص، بن يهوذا، بن يعقوب، بن إسحاق، بن إبراهيم الخليل u (كما في إنجيل متى).
ورد اسم سليمانu في القرآن الكريم 16 مرة، بل جاء في القرآن الكريم أيضاً، عرض لنعم الله العظيمة التي حلت عليه وعلى أبيه داود عليهما السلام في بعض الآيات ضمن مواقف أنعم الله عليه فيها وأظهر فضله (اُنظر خريطة بعثة سليمان u).
كما أعطى الله تعالى داود وسليمان عليهما السلام، وهو منهج الدين، وعلم سليمان منطق الطير، أي ما كان يعرف بما تتخاطب به الطيور بلغتها، ويعبر للناس عن مقاصدها وإرادتها، وآتاه الله مُلكاً عظيماً، حيث ملّكه الحق سبحانه وتعالى على الإنس والجن والطير وغيرها من المخلوقات، فسليمانu رسول وملِك من نوع خاص، فالملوك يملكون ما يدخل تحت قدرتهم بالإمكانات المادية، لكن الله أعطى سليمانu مُلكا لا ينبغي لأحد من العالمين، فسخر له القوى التي لا يمكن أن تسخر لبشر عادي، وقد بلغت مملكة سليمان وداود عليهما السلام من خليج أيلة وفلسطين وشرق الأردن ولبنان وسورية إلى شط الفرات، قال تعالى: )وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا داود وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي فَضّلَنَا عَلَىَ كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ( (سورة النمل: الآية 15).
فما كان من داود وسليمان عليهما السلام إلا أن حمدا الله على فضله عليهما بالعلم، وهذا تواضع عظيم منهما حيث يقران بأن هناك من الناس من هو أفضل منهما.
ولما بقيت النبوة في بيت داود وورثها سليمان عليهما السلام، والأنبياء عامة لا تورث وإنما تكون أموالهم صدقة من بعدهم للفقراء والمحتاجين لا يخصون بها أقرباءهم، وقد قال رسول اللهr: )إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْتُ بَعْدَ مَئُونَةِ عَامِلِي وَنَفَقَةِ نِسَائِي صَدَقَةٌ( (أحمد: 9593)، ولكن سليمان ورث داود عليهما السلام في الدعوة إلى الله وتطبيق منهجه، فلقد كان كثير النعم، منها تعليمه كلاماً لا يعلمه سواه، وهذه المنحة لم تُذكر في كتب أهل الكتاب، وإنما يذكرون أن سليمان عليه السلام كان عظيم الحكمة، ولذلك يسمونه سليمان الحكيم، ولا يلقبونه بالنبي أصلاً، وهي لغة التفاهم بين الطيور، لأن لكل خلق الله لغة يتفاهم بها، كما جاء ذلك في قوله تعالى: )وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ داود وَقَالَ يَأَيّهَا النّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَيْءٍ إِنّ هَـَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ( (سورة النمل: الآية 16)، أي أن الله آتانا كثيراً مما نحتاج إليه في سلطاننا، وهذا فضل عظيم من الله خصنا به.
ولم يكتف سليمانu بما ورثه من أبيه، ولكنه طمع في أكثر من ذلك، فدعا ربه قائلاً: ) رَبّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاّ يَنبَغِي لأحَدٍ مّن بَعْدِيَ( (سورة ص: الآية 35)، فهو لا يريد أن يأخذ هذه النعم أحد من بعده، ولكنه سخر مُلكه ومجده للدعوة إلى الله ونشر الإسلام.
كان سليمان u أعظم مُلكاً من أبيه داودu وأقضى منه، بينما كان داودu أشد تعبداً من ابنه سليمانu.
كان سليمانu أبيض جسيماً وضيئاً، جميلاً، كثير الشعر، يلبس من الثياب البيض، وكان خاشعاً متواضعاً يخالط المساكين ويجالسهم، ويقول مسكين جالس مساكين، وكان أبوه في أيام ملكه يشاوره في كثير من أموره مع صغر سنه، فكمال العقل، من النعم التي أعطاها الله لسليمانu:
أولاً: تسخير الشياطين لسليمانu
سخر الحق سبحانه وتعالى الشياطين لسليمانu فكانوا يغوصون في البحر ليخرجوا له كنوز البحر ونفائسه، ويعملون كل ما يطلبه منهم، وهي أعمال شاقة لا يستطيع الإنسان أن يؤديها، قال تعالى: )وَمِنَ الشّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنّا لَهُمْ حَافِظِينَ( (سورة الأنبياء: 82)، حيث كانوا يعملون في صناعة المحاريب والتماثيل والجفان (القصعة التي يأكل الناس فيها)، وكانت هذه الجفان واسعة كبيرة تتسع لإطعام عشرات الرجال، ويصنعون له القدور الراسيات (وهي القدور الضخمة التي لا يمكن نقلها من مكانها، فهي تكفي لطهي طعام المئات من الناس).
وقد أخفى الله هذه الشياطين، بحيث لا يُراهم الناس وهم يعملون هذه الأعمال، ولا يحسون بهم، كما قال القرآن الكريم: )وَمِنَ الْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاَءُ مِن مّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رّاسِيَاتٍ اعْمَلُوَاْ ءَالَ داود شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِيَ الشّكُورُ((سورة سبأ: الآيتان 12، 13).
هكذا كانت الجن تطيعه، وتنفذ أمره فيهم، وتخاف منه، ويعملون له من ضخم المباني والعمائر والتماثيل (كانت التماثيل يجوز صنعها عندهم) والقدور الراسيات والجفان التي كأنها الحياض لسعتها، وبنوا له مدينة تدمر بسورية، والهيكل، وما معه في سبع سنوات فقط.
أما قوله تعالى: ) وَالشّيَاطِينَ كُلّ بَنّاءٍ وَغَوّاصٍ (37) وَءَاخَرِينَ مُقَرّنِينَ فِي الأصْفَادِ((سورة النمل: الآيتان 37، 38)، أي يقيد من عصوه اثنين اثنين، وهذا من تمام المُلك الذي لا ينبغي لأحد من بعده. قال أبو هريرة عن النبيr قال: )إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلاَتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ ) رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأََحَدٍ مِنْ بَعْدِي( فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا( (البخاري: 3170) (مسلم في المساجد: 842). وكان مستقر سليمان مدينة تدمر حيث بناها له الجن بالصفائح والعمد الرخام الأبيض والأصفر.
ثانياً: جنود سليمانu
وجُمع لسليمانu جنوده من كل مكان، فتزيد فرصة الانتقاء وحسن الاختيار لهم، ولم يكن جنوده من الإنس فقط، ولكن من الجن والإنس والطير، فكانوا يتبعونه من كل جنس وهذه ميزة عظيمة أعطاها الله لداود وسليمان عليهما السلام، لأنهما كانا أنبياء وملوكاً، فلا يستطيع أن يعارضهم أحد، لأن السلطان والنبوة كانت في أيديهما. ما يؤكد مقولة إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، لأن السلطان يمكنه أن يمنع الفساد سلطته وقوته أكثر مما يمنعه الدعاة بخطبهم ومواعظهم، لأن الناس يستبطئون عذاب الله وعقابه، لأنه آجل في الآخرة، ولكنهم يخشون عقاب السلطان العاجل، بل كانوا يمنعون من يريد السباق إلى لقائه، حتى يأتي الباقون ليكونوا سواسية في الدخول على سليمانu، قال تعالى: )وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنّ وَالإِنْس وَالطّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ( (سورة النمل: الآية 17).
هكذا كان جيش سليمان من البشر والجن، ومن الطير وعليك أن تتصور جيشاً جنوده غير ظاهرين (الجن) ويقاتل في الأرض والبحر والجو؟!
ثالثاً: تسخير الرياح لسليمان u
أعطى الله تعالى سليمان u الريح العاصفة (القوية شديدة الهبوب) لتسير بأمره، وينتقل بها من مكان إلى آخر في الأرض التي بارك الله فيها من صحراء فلسطين حتى العراق، فهي أرض فيها زرع وثمار وخصب، كما أن فيها النبوة وآثار النبوة، فكانت الريح تمثل المواصلات الداخلية لمملكته، قال تعالى: )وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنّا بِكُلّ شَيْءٍ عَالِمِينَ( (سورة الأنبياء: الآية 81)، كما أعطاه الله الريح ذات الرخاء (وهي الريح اللينة التي تعطي راحة) كقوله تعالى )فَسَخّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ( (سورة ص: الآية 36).
ومن الآيتين السابقتين نجد أن الحق سبحانه وتعالى جمع له ما يعطيه السرعة إلى غايته، وبين ما يجعلها مريحة ناعمة هادئة، لا تؤذي جسده، وطبقاً لمراده، ويستخدمها للتنقل داخل مملكته وخارجها، فكان لسليمان u بساط من الخشب يحمل عليه جنده بحاجاتهم تحمله الرياح وتسير به في الجو إلى حيث يشاء، وذلك قوله تعالى: )وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ غُدُوّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ( (سورة سبأ: الآية 12)، وكانت هذه الريح يُقدر مسيرها في المرة بمسير الشهر. قال الحسن البصري: كان يغدو من دمشق فينزل باصطخر فيتغدى بها ويذهب رائحاً بها، فيبيت في كابول، وبين كل من هذه المدن مسيرة شهر.
قال الله تعالى )وَكُنّا بِكُلّ شَيْءٍ عَالِمِينَ( (سورة الأنبياء: الآية 81)، أي عندنا العلم الكافي لترتيب الأمور، ونعد ما نشاء، بل ونجعلها تخرق القانون، وتخالف طبيعتها فلا تغيب عنا كبيرة ولا صغيرة.
رابعاً: سليمان u في وادي النمل
لما مر سليمانu بوادي النمل، وهو موجود بظاهر عسقلان بالشام، سمع تحذير النملة لقومها بأن يدخلوا مساكنهم خشية أن يحطمهم سليمان u وجنوده دون أن يشعروا بهم، قال تعالى: )حَتّىَ إِذَا أَتَوْا عَلَىَ وَادِي النّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَأَيّهَا النّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ( (سورة النمل: الآية 18)، وهذا يعني وجود نملة للمراقبة حتى تحذر قومها، ولا بد أنها رأته قبل وصوله الوادي، حتى تستطيع تحذير قومها للتصرف، ولا بد أنها تعرف سليمانu حتى حددته بالاسم وأنه نبي الله. فما كان من سليمانu إلا أن تبسم من هذا القول، وشعر بفضل الله الذي أنعم عليه بهذه النعمة، وطلب من الله أن يعينه على شكره، وألا ينسى هذا الفضل العظيم الذي أعطاه الله له من دون سائر الأنبياء الذين سبقوه، وذلك قوله تعالى: )فَتَبَسّمَ ضَاحِكاً مّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِيَ أَنْعَمْتَ عَلَيّ وَعَلَىَ وَالِدَيّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصّالِحِينَ( (سورة النمل: الآية 19)، فلماذا ضحك سليمانu؟!
1. لأنه سمعها عن بُعد، والنملة عرفت أنه سُليمانu.
2. لعدالة حكمها لأنها قالت لقومها إن سليمانu ليس متجبراً حتى يحطمكم هو وجنوده، ولكنهم لن يروكم لدقة أجسامكم.
3. لأنها شهدت بحق، فهذه النملة رأت عن بُعد، وقطعت بحق، وحكمت بعدل.
كما كان تصرف سليمانu بعدما رأى نعمة الله عليه بأن حمد الله عليها، وطلب من الله الرحمة والفضل، فهما اللذان يفرح بهما الإنسان، لأنهما اللذان سيدخلانه في عباد الله الصالحين، قال أبو هُريرة: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ: )لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ( قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: )لاَ وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ( (البخاري: 5241) (مسلم: 5036)، وذلك قول الله سبحانه وتعالى: )قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمّا يَجْمَعُونَ( (سورة يونس: الآية 58)، فإياك أن تغتر أو تفرح بعملك، ولكن افرح بفضل الله، وارجُ رحمته.
خامساً: سليمانu والصافنات الجياد
ذُكر هذا الموقف في قوله تعالى: )وَوَهَبْنَا لِداود سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيّ الصّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنّيَ أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبّي حَتّىَ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدّوهَا عَلَيّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسّوقِ وَالأعْنَاقِ( (سورة ص: الآيات 30-33)، حيث أتى سليمانu في هذه القصة بالأعمال الفاضلة، والأخلاق الحميدة، والصبر على طاعة الله، وإعراضه عن الشهوات، وذلك لكون رباط الخيل كان مندوباً لهم في دينهم، كما أنه مندوب لنا في الإسلام، فقد احتاج سليمانu إلى الغزو، فأمر بإحضار الخيل واستعراضها، ذاكراً أنه لا يحبها لأمر الدنيا، وإنما يحبها لأمر الله تعالى، وطلبه تقوية دينه، وذلك المراد من قوله )عَن ذِكْرِ رَبّي((سورة ص: الآية 32).
أمر سليمانu بإعدادها وتسييرها حتى توارت بالحجاب (أي غابت عن بصره)، ثم أمرهم أن يردوا عليه الخيل، فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها، وكان هذا المسح بغرض أنه لن يُعذب حيواناً بلا سبب ولا ذنب، وتشريفاً للخيل، وإظهاراً لعزتها، لكونها من أعظم الأعوان لدفع الأعداء، وليظهر أيضاً أنه متواضع حتى إنه يباشر أكثر الأمور بنفسه، وليظهر أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها، فهو بهذا المسح لسوقها وأعناقها يستطيع معرفة إن كان بها مرض.
سادساً: فتنة سليمانu وإلقاء الجسد على كرسيه
قال تعالى: )وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىَ كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاّ يَنبَغِي لأحَدٍ مّن بَعْدِيَ إِنّكَ أَنتَ الْوَهّابُ( (سورة ص: الآيتان 34، 35). فقد ذكر فخر الرازي في تفسيره أن سليمانu ابتُلي بمرض شديد، حار فيه أطباء الإنس والجن، حتى صار لشدة المرض إذا جلس على كرسيه كأنه جسد أو جسم بلا روح، بينما كان سليمانu لا يتوقف عن ذكر الله وطلب الشفاء، ثم أناب، أي رجع إلى حالة الصحة.
وشفي سليمانu بعد أن علم أن كل مجده وملكه لا يستطيع أن يحمل إليه الشفاء إلا بإرادة الله سبحانه وتعالى، وأمر بتجديد المسجد الأقصى، وكان ذلك بعد أربع سنوات من حكمه الذي استمر مدة أربعين سنة.
قال رسول الله r )إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ داودu سَأَلَ اللَّهَ ثَلاَثًا أَعْطَاهُ اثْنَتَيْنِ وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ تَكُونَ لَهُ الثَّالِثَةُ فَسَأَلَهُ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ وَسَأَلَهُ مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَسَأَلَهُ أَيُّمَا رَجُلٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلاَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ مِثْلَ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ فَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ( (أحمد: 6357).
أما الحكم الذي يوافق حكم الله فقوله: )وَداود وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً((سورة الأنبياء: الآيتان 78، 79)، وذلك لحكمهما في الحرث، كما عرضنا في نبي الله داودu. وما ثبت أيضاً في الصحيحين، قال أبو هُريرة: قال رسول الله r: )كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ فَتَحَاكَمَتَا إِلَى داودu فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ داود عَلَيْهِمَا السَّلاَم فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا فَقَالَتِ الصُّغْرَى لاَ تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى( (البخاري: 6271) (مسلم: 3245)، وذلك ما قاله تعالى: )وَكُلاّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ((سورة الأنبياء: الآية 79).
سابعاً: إسالة عين القطر لسليمانu
مَنَّ الله تعالى على سليمان u وهداه إلى ما لم يهتد إليه أحد قبله، وهو إسالة عين القطر، والقطر هو النحاس المُذاب، مثلما أنعم الله على والده داودu بأن ألان له الحديد، وعلمه كيف يصهره، وقد استفاد سليمانu من ذلك في السلم والحرب، وذلك قوله تعالى: )وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ( (سورة سبأ: الآية 12)، وكان ذلك لأن سليمانu رجل عمارة وبناء للمصانع العظيمة، ويكفيه فخراً أنه بنى الهيكل وما حوله من المباني العظيمة، حيث كان يستخدم القطر في معالجة توثيق المباني، وبناء القباب والأبواب والأسقف، حيث أسال الله له عين نحاس تقذفه مُذاباً سائلاً. وقد صنع منه سليمانu القدور الراسيات، والجفان، كما كان يخلط الحديد بالنحاس ويصنع البرونز الذي يُصنع منه معدات الحرب كالسيوف والدروع والخناجر.
ثامناً: سليمانu وملكة سبأ
1. هدهد سليمانu
دلت الآيات في القرآن الكريم على أن سليمانu كان يفهم ما تريده الطير بأصواتها إذا صوتت، ويفهم ما في نفسها ويحاورها، وكانت مسخرة بأمره يأمرها فتأتمر، ويستعملها في بعض مهماته. فمن ذلك أنه تفقد الطير يوماً فلم يجد الهدهد فقد يكون من الغائبين، وذلك قوله تعالى: )وَتَفَقّدَ الطّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ( (سورة النمل: الآية 20)، فعد سليمان ذلك جريمة اقترفها وتهدده بالذبح أو التعذيب، إلا إذا أتاه بعذر مقبول، فقال سليمان: )لاُعَذّبَنّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأذْبَحَنّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّي بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ( (سورة النمل: الآية 21)، فلما جاء الهدهد سأله عن غيبته فقال له: )أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ((سورة النمل: الآية 22)، يقول الهدهد على الرغم من ضعفه أمام هذا الملك العظيم: إني علمت أشياء لا تعلمها، عن أُناس لا يعبدون الله، وهو نبأُ مهم وعجيب، )إِنّي وَجَدتّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ( (سورة النمل: الآية 23)، إني وجدت امرأة تحكمهم، وأُوتيت من كل خيرات الملوك، ولها عرش عظيم، وكان المُلك قد آل في ذلك الزمان إلى امرأة منهم، ابنة ملكهم وهي بلقيس بنت السيرح بن قيس بن سيف بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وكان أبوها من أكابر الملوك، وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث عوف عن أبي بكر، أن رسول الله r لما بلغه أن أهل فارس ملّكوا عليهم ابنة كسرى، قال: )لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً( (البخاري: 4073) (الترمذي: 2188) (النسائي: 5293).
ولكن الهدهد أتى بما يهتم له نبي الله سليمانu، وهو أنها وقومها يسجدون للشمس من دون الله! فكأن الهدهد يعرف قضية العقيدة والتوحيد، وأن الخلق يجب عليهم ألا يعبدوا إلا الله، ولا يصح منهم عبادة غيره! ولذلك يقول إنه وجدها وقومها يعبدون الشمس من دون الله، ولماذا لا يعبدون الله الذي يخرج الخبء في الأرض؟ كيف لا يعبدون من أنعم عليهم بكل النعم؟ ألا يسجدوا لله الخالق الرازق الذي يخرج لهم رزقهم، ويعلم سرهم وجهرهم، هنا يكشف لنا سر الحق في قوله تعالى: )وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـَكِن لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ( (سورة الإسراء: الآية 44)، وهذه المعرفة بالتسبيح والحمد هي التي أهّلت الهدهد فأظهر كلامه وعقيدته ووعظه الجميل في قوله تعالى: )وَجَدتّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشّمْسِ مِن دُونِ اللّهِ وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدّهُمْ عَنِ السّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ( (سورة النمل: الآية 24)، بل واستنكر الهدهد عليهم فعلهم )أَلاّ يَسْجُدُواْ للّهِ الّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ( (سورة النمل: الآية 25)، كيف لا يسجدون لله الخالق الرازق الذي يخرج لهم رزقهم، ويعلم سرهم وجهرهم. وكان الهدهد خلال طيرانه فوق قصر بلقيس رأى طاقة تدخل منها الشمس، وهي مبنية بأسلوب هندسي بحيث تدخل منها الشمس كل يوم بعد شروقها، حتى تنتبه بلقيس، وتستقبلها بالسجود، ولذلك حينما ذهب الهدهد بكتاب سليمانu إليهم، وقف في الطاقة وسدها بجناحيه، فانتظرت بلقيس دخول شعاع الشمس وارتفاعها، وصعدت إلى الطاقة لترى ما بها، فطار الهدهد، وألقى كتاب سليمانu فأخذته بلقيس.
ثم يقول سبحانه وتعالى: )اللّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ( (سورة النمل: الآية 26)، فالله هو المستحق العبادة وحده، وهو رب العرش العظيم، لأن قدرة عروش ملوك الدنيا على قدر عظمة البشر وقدرتهم، ولكن عظمة عرش الله على قدر عظمته وقدرته سبحانه وتعالى.
قال سليمانu للهدهد: )قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ( (سورة النمل: الآية 27)، وفي هذا لطف وترفق من الحاكم برعيته، وخاصة أن إلهامات سليمانu، وهو النبي، جعلته يعرف أنه صادق، ولكنه أراد التأكد. ذلك أن سليمانu فكر في الأمر وقال نكتب لها كتاباً ونرسله مع الهدهد حتى يتأكد من الرد، ويعرف أبعاد الموقف، فأرسله بالكتاب، وأمره بعد أن يلقيه إليهم أن يبتعد قليلاً، وينظر ماذا يفعلون، لأنهم سيراجع بعضهم بعضاً وذلك قوله تعالى: )اذْهَب بّكِتَابِي هَـَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمّ تَوَلّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ( (سورة النمل: الآية 28).
2. رسالة سليمانu إلى ملكة سبأ
بعدما ألقى الهدهد رسالة سليمانu إليهم فلما قرأتها الملكة: )قَالَتْ يَأَيّهَا الْمَلاُ إِنّيَ أُلْقِيَ إِلَيّ كِتَابٌ كَرِيمٌ( (سورة النمل: الآية 29)، حيث جمعت مَلأَها من أعيان القوم وأشرافهم ومستشاريهم، وأبلغتهم بالكتاب الذي وصفته بأنه كتاب كريم، وقالت لهم: )إِنّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنّهُ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَـَنِ الرّحِيمِ (30) أَلاّ تَعْلُواْ عَلَيّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ( (سورة النمل: الآيتان 30، 31)، وهذا يوضح أنها كانت تعرف أن سليمان u ملكٌ ونبي... إلخ، ولو نظرنا للكتاب نجد فيه الإعجاز في البيان، حيث يقول ألا تتغطرسوا علي وتظنوا أنفسكم ملوكاً، وإياكم والتعالي والتكبر، ثم بعد عرضها للكتاب ومعناه طلبت مشورتهم، وأن يشيروا عليها بما تفعل، فقالت: )قَالَتْ يَأَيّهَا الْمَلاُ أَفْتُونِي فِيَ أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتّىَ تَشْهَدُونِ( (سورة النمل: الآية 32) فالأمر ليس أمرها وحدها، ولكنه أمرهم جميعاً، ما يدل على أنها على الرغم مما لها من سيطرة وهيبة وسلطان، إلا أنها شاورت الملأ وأرادت أن تسمع رأيهم في هذا الأمر. فردوا عليها بأنهم أصحاب قوة، ولهم بأس وشجاعة، ولهم جيش عظيم، وهم مستعدون لو طلب منهم الحرب، ولا نقول ذلك لندفعِك للحرب، ولكن الأمر والرأي الأخير لك، قال تعالى: )قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ( (سورة النمل: الآية 33)، ولكن المرأة كانت عاقلة، فلم تغتر بالقوة، وحذرت قومها من دمار الحرب وآثارها، وردت عليهم )قَالَتْ إِنّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوَاْ أَعِزّةَ أَهْلِهَا أَذِلّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ( (سورة النمل: الآية 34)، لأن الملك الذي جاء ليأخذ المُلك يريد أن يأخذ المالكين، وينهب ما عندهم، وهو يخرب ما يستطيع تخريبه ولا يحافظ على شيء إلا بعد استقرار الأمور له، ويكون الانتقام من الحكام السابقين، وإلصاق التهم بهم، وتلك هي الحقيقة.
ولما ترك الملأ القرار الأخير للملكة لتفعل ما تراه مناسباً، بدأ عقلها وفطنتها تعملان، وقالت إن كان يريد مُلكاً سيطمع في خيرنا، وإن كان نبياً فلن يأبه بهذا الخير، وحدثت بذلك قومها، وأخبرتهم أنها سترسل إليه بهدية، فإن كان من أهل المُلك والدنيا فسيقبلها، أما إذا ردها فهو نبي، لا يطمع في شيء مما في أيدينا، وذلك قوله تعالى: )وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ( (سورة النمل: الآية 35). وهذا دليل على حصافتها وذكائها، ما جعل القوم يولونها أمورهم.
3. إجراءات سليمان u مع ملكة سبأ واستخدامه سراً من علم الكتاب
بعدما وصل وفد الملكة بهديتهم إلى نبي الله سليمانu رفضها قائلاً إن الله أعطاه خيراً مما عندهم، وردها إليهم لعلهم يفرحون برجوعها إليهم، وذلك لقوله تعالى: )فَلَمّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءَاتَانِ اللّهُ خَيْرٌ مّمّا ءَاتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيّتِكُمْ تَفْرَحُونَ( (سورة النمل: الآية 36). وخاطب رئيس الوفد بلهجة حاسمة قائلاً: )ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنّهُم بِجُنُودٍ لاّ قِبَلَ لَهُمْ0 بِهَا وَلَنُخْرِجَنّهُم مّنْهَا أَذِلّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ( (سورة النمل: الآية 37) وتعني أذلة وهم صاغرون، أي يخرجهم من المُلك أذلة، يسلبهم إياه، فيصيبهم الصغار بالقتل أو الأسر.
ولما كان سليمانu يعلم أن عرش الملكة بلقيس هو أنفس وأعظم ما في هذه المملكة، قرر أن يحضر عرشها عنده قبل أن تأتيه ليبهرها بقدرته التي استمدها من إسلامه حتى تُسلم معه لله. فالتفت إلى من حوله وقال: )قَالَ يَأَيّهَا الْمَلاُ أَيّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ( (سورة النمل: الآية 38)، وهذا من إلهامات النبوة له من ربه، وكأن الله أخبره أن القوم بعد أن رد إليهم هديتهم سيحضرون إليه مسلمين طائعين، ولن يحاربوه، فأراد سليمانu أن يرسل من يذهب إلى سبأ ويأتيه بعرش بلقيس قبل أن يصل القوم إليه.
ولكون هذا الأمر يتطلب قدرات خاصة لصعوبته، قيل أن عفريت من الجن عرض على نبي الله سليمانu أن يأتيه بالعرش قبل أن يترك مجلسه هذا قائلاً: )أَنَاْ ءاَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مّقَامِكَ وَإِنّي عَلَيْهِ لَقَوِيّ أَمِينٌ( (سورة النمل: الآية 39) بينما قام رجل آخر عنده علم من الكتاب قيل أنه أصف بن برخيا بن شميصا بن مليكا، وكان صديقاً يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وهو ابن خالة سليمانu، فكان رجلاً صالحاً أعطاه الله من أسرار قوته أن يأتي سليمانu بالعرش قبل أن يرتد إليه طرفه، أي قبل أن يطبق جفنه، وهذه سرعة خارقة لا يستطيعها أحد، وهذا ما وضحه لنا القرآن بخبر هذا )قَالَ الّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَءَاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَـَذَا مِن فَضْلِ رَبّي( (سورة النمل: الآية 40). وتبرز هذه الواقعة عظمة سليمانu لأنه فوق من يعرف هذا العلم، ولأن الله سخر هذا الرجل لخدمة نبي الله، قال تعالى: )فَلَمّا رَءَاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَـَذَا مِن فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِيَ ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنّ رَبّي غَنِيّ كَرِيمٌ( (سورة النمل: الآية 40)، فهذه النعمة العظيمة، وهي نقل عرش من مأرب إلى الشام، قدر ارتداد الطرف عدّها سليمانu اختباراً له من ربه، وكان سليمانu شاكراً عظيماً لربه جل جلاله.
4. سليمان u يختبر ذكاء بلقيس
لما أكرم الله سليمانu بمن يعمل معه، وبإحضار العرش عنده، أمر بنصبه وتجهيزه على قصر قد بناه على سطح الماء خصيصاً، وذي أرض من الزجاج البلوري، لأن بلقيس قادمة إليه في الطريق وهو يريد أن يختبرها اختباراً عقلياً ودينياً، فأمرهم بتنكير عرشها، وذلك بتغيير معالمه، لكي يعرف مدى ذكائها، واهتدائها لمعرفة إن كان عرشها أم لا، وإذا كان هو فإن الذي فعل ذلك لا بد أن يكون مؤيداً من الله بأسرار الكتاب، فنقل العرش بهذه السرعة فتؤمن، فسألها قائلاً: ) أَهَكَذَا عَرْشُكِ( (سورة النمل: الآية 42)، فنظرت إلى العرش فوجدته مثل عرشها ولكن التنكير الذي تم يدل على أنه ليس عرشها لكمال التشابه، فقالت: )كَأَنّهُ هُوَ( (سورة النمل: الآية 42) وهذا يوضح أنها ذكية حصيفة عاقلة بالنسبة لهداية الإيمان، لأنها تعلم أنها تركت عرشها خلفها في بلادها، وجاءت سليمانu فكيف جاء بالعرش بهذه السرعة ؟! فلا بد أن هذه قدرة فوق مستوى البشر، وذلك قوله تعالى: )قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِيَ أَمْ تَكُونُ مِنَ الّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ (41) فَلَمّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنّا مُسْلِمِينَ( (سورة النمل: الآيتان 41، 42).
وما أجمل قول سليمانu ومن معه: أوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة ما جاء من عنده مثل علمنا بأنها ستؤمن بالله وكنا قوماً منقادين لله مخلصين العبادة له.
5. إسلام بلقيس مع سليمان u لله رب العالمين
كانت تصرفات سليمانu مع بلقيس مما يمنعها من عبادة الشمس وغيرها من دون الله، على الرغم من أنها كانت من قوم كافرين، ولما جاءت لتدخل الصرح وجدت أمامها ماءً، فظنته لُجَة ماء، ورفعت ثيابها، وكشفت عن ساقيها حتى لا تبتل ثيابها، بينما هو مبني من الزجاج النقي مثل الكريستال، كما قال لها نبي الله سليمانu بأنه صرح ممرد من الزجاج، فكان ردها بإنها ظلمت نفسها بأنها كانت كافرة قبل اليوم، وذلك قوله تعالى: )وَصَدّهَا مَا كَانَت تّعْبُدُ مِن دُونِ اللّهِ إِنّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصّرْحَ فَلَمّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنّهُ صَرْحٌ مّمَرّدٌ مّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ((سورة النمل: الآيتان 43، 44).
لم تُذكر قصة ملكة سبأ في التوراة بهذا الوصف، وإنما يذكرون أنها سمعت بحكمة سليمانu فأتت إليه وشاهدت بنفسها تلك الحكمة العظيمة. وقد نتج عن اتصال سليمانu بملكة سبأ في وجود الديانة الموسوية في بلاد اليمن، وأن ذلك هو الأساس الذي بنى عليه ذو نواس الحميري دخوله في اليهودية نكاية بالدولة الرومانية الشرقية، التي أرسلت إلى اليمن القُسس مقدمة لاستعمار اليمن، فلم ير أنكى لهم من اعتناق اليهودية والتعصب لها، حتى قتل أهل نجران وخد لهم الأخدود وحرقهم بالنار، وكان هذا سبباً في غزو الأحباش لليمن كما هو معروف تاريخياً، ولم يزل بصنعاء الآلاف من اليهود حتى اليوم.
تاسعاً: السحر ومملكة سليمان u
لم يكن نبي الله سليمان u يعلم السحر، بل إن ملكه واستتباب الأمر له لم يكن قضية سحر، ولكنها مشيئة الحق سبحانه وتعالى، بل ويدلنا الحق سبحانه على أن الكفر كان من الشياطين الذين يعلمون الناس السحر، ولتصديق بني إسرائيل بما تتقوله الشياطين على مُلك سليمان u، إذ زعموا أن سليمان u لم يكن نبياً ولا رسولاً ينزل عليه الوحي من الله، بل كان ساحراً يستمد العون من سحره، وأن سحره هذا هو الذي وطد له المُلك، وجعله يسيطر على الجن والطير والرياح، فنسبوا بذلك الكفر لسليمان u وما كفر سليمان u كما يخبرنا الحق سبحانه في القرآن الكريم، ولكن هؤلاء الشياطين الفجرة هم الذين كفروا إذ تقولوا عليه الأقاويل، وأخذوا يعلمون الناس السحر من عندهم، ومن آثار ما أُنزل ببابل على الملكين هاروت وماروت، مع أن هذين الملكين ما كانا يُعلمان أحداً حتى يقولا له إنما نُعلمك ما يؤدي إلى الفتنة والكفر فاعرفه، واحذره، وتوق العمل به، ولكن الناس لم ينتصحوا بهذه النصيحة، فاستخدموا ما تعلموه منهما في التفريق بين المرء وزوجه، نعم، كفر هؤلاء الشياطين الفجرة، إذ تقولوا هذه الأقاويل والأساطير ليضلوا اليهود ويتخذوها ذريعة لتعلم السحر، وما هم بضارين بسحرهم هذا من أحد، ولكن الله هو الذي يأذن بالضرر إن شاء، وأن ما يؤخذ عنهم من سحر ليضر من تعلمه في دينه ودنياه ولا يفيده شيئاً، وهم أنفسهم يعلمون حق العلم أن من اتجه هذا الاتجاه لن يكون له حظ في نعيم الآخر، ولبئس ما اختاروه لأنفسهم لو كانت بهم بقية من علم، وذلك قوله تعالى: )وَاتّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشّيَاطِينُ عَلَىَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـَكِنّ الشّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّىَ يَقُولاَ إِنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلّمُونَ مَا يَضُرّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ((سورة البقرة: الآية 102).
وهذه عادة اليهود دائماً، فعندما جاءهم رسولُ من عند الله مطابقة أوصافه لما في أسفارهم، وهو محمد r، نبذ فريق منهم ما ذُكر في كتبهم عن هذا الرسول r، كأنه لم يرد فيها، ولم يعلموا شيئاً منه، وذلك قوله تعالى: )وَلَمّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ( (سورة البقرة: الآية 101)، كفروا برسول اللهr عناداً وحسداً، لأنه قد جاء من غير شعبهم بني إسرائيل، بل إنهم قد كفروا كفراً صريحاً بكتبهم، ورجعوا إلى الشرك في عهد نبي الله موسىu فقد جاءهم بالبينات والمعجزات الناطقة بصدقه، لكنه لم يلبث أن تغيب لمناجاة ربه حتى عبدوا العجل، ورجعوا إلى سابق وثنيتهم، فهم قومُ ظالمون مبطلون، لا يؤمنون بحرمة عهد، ولا بقداسة ميثاق.
عاشراً: زواج سليمان u
تزوج سليمان ألف امرأة، سبعمائة بمهور، وثلاثمائةٍ سراري، وقد كان يطيق من التمتع بالنساء أمراً عظيماً جداً. عن أبي هُريرة قال: قال رسول الله r )قال سُلَيْمَانُ بْنُ داود عَلَيْهِمَا السَّلاَم لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلاَمًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ فَأَطَافَ بِهِنَّ وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ( قَالَ النَّبِيُّ r )لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ( (البخاري: 4841).
حادي عشر: موت سليمان u
هكذا أعطى الله سليمان u عطاء جماً، وأنعم عليه من النعم العظيمة الكاملة، قال تعالى: )هَـَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ( (سورة ص: الآية 39)، أي أعط من شئت، واحرم من شئت، فلا حساب عليك، وهذا شأن النبي الملك بخلاف العبد الرسول، فإن من شأنه ألا يعطي أحداً إلا بإذن الله له في ذلك. وقد خُير نبينا محمدr بين هذين المقامين، فاختار أن يكون عبداً رسولاًr.
ومثلما كانت حياة سليمانu قمة في المجد الذي يمتلئ بالعجائب والخوارق، كان موته آية من آيات الله تمتلئ بالعجائب والخوارق، لما كان تسخير الجن لسليمانu، واستخدامه لهم، واتصاله بهم، ورؤية الناس لهذا كان سبباً في فتنة الناس باعتقادهم أن الجن تعلم الغيب، حيث انتشرت هذه الفتنة. فعلى الرغم من غفلة الناس عن أن مسألة الغيب تستحيل على كل ما خلق الله من إنس ونبي وجن، وغير ذلك ولا يعلم الغيب إلا الله. كان سليمان u قد دعا ربه؟ اللهم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، أما عن ظروف وفاته u أنه كان يعتكف في بيت المقدس بمدد طويلة، ويأخذ معه شرابه وطعامه، وفي هذه المرة دخل سليمان u محرابه للاعتكاف والعبادة لله، وكان هذا المحراب مصنوعاً من الزجاج الشفاف الذي يكشف ما وراءه، وبينما كان سليمان جالساً متكئاً على عصاه مستقراً في تفكيره إذ بملك الموت يقبض روحه عن عمر يبلغ ثلاثة وخمسين سنة، كانت مدة ملكه منها أربعين سنة، وذلك أنه مُلك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وظل سليمان u على هيئته، متكئاً على عصاه، والجن تنظر إليه، وتعمل بين يديه، يحسبون أنه حي، وبقوا على ذلك خوفاً من أن يخرج إليهم فيعاقبهم، ومرت فترة طويلة ثم جاءت دابة الأرض (أَرَضة تأكل الخشب) وبدأت تأكل عصا سليمان u حتى إذا ما اختلت العصا، سقطت من يد سليمانu، فاختل توازن الجسد فهوى إلى الأرض. فهرع إليه الناس، فلما رأت الجن ذلك انفضوا وذهبوا، وتيقن للناس أن الجن لا يعلموه الغيب وتأكد الناس من ذلك، لأن الجن لو علموا الغيب ما لبثوا يعملون لخدمة سليمانu تحت عذابه المهين لهم، وذلك قوله سبحانه وتعالى: )فَلَمّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلّهُمْ عَلَىَ مَوْتِهِ إِلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الْجِنّ أَن لّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ( (سورة سبأ: الآية 14).
كما نبهنا الحق سبحانه لما أعده لسليمان u في الآخرة من الثواب الجزيل، والقربة إليه، والإكرام بين يديه، وذلك يوم الحساب لقوله تعالى: )وَإِنّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىَ وَحُسْنَ مَآَبٍ( (سورة ص: الآية 40)، وقد ملك بعده ابنه رحبعام مدة سبع عشرة سنة، ثم تفرقت بعده مملكة إسرائيل.(اُنظر خريطة أوضاع اليهود بعد وفاة سليمان u)
ثاني عشر: هيكل سليمان u
شيد الملك سليمان u في حياته هيكله في أورشليم، ليكون مركزاً لعبادة الله سبحانه وتعالى، ومسجداً للموحدين المؤمنين، ورمزاً لتاريخ اليهود، موضع فخر وزهو لهم. وذلك في السنة الرابعة من مُلكه، أنفق كثيراً في بناء هذا الهيكل الذي استغرق إنشاؤه سبع سنوات من العمل المتواصل، فكان آية من آيات الله في ذلك الزمان، كما كانت هذه الفطنة رمزاً لقوة الدولة وعظمة عقيدتها. (اُنظر صورة مجسم لهيكل سليمان u)
ولكن بعد وفاة سليمانu أصبح الهيكل مطمعاً للغزاة لينهبوا ثرواته، ثم يشيعون فيه الدمار، وقد قام أحد الملوك بتجديد بنائه حُباً في اليهود حيث استغرق ذلك 46 سنة، أصبح بعدها صرحاً ضخماً، يذخر بالكنوز الثمينة، ولكن امتدت إليه يد التدمير والخراب، كما يحدث دائماً لغيره من أماكن العبادة، ولكن المفزع هنا هو أن اليهود أنفسهم هم الذين اعتدوا على قدسية الهيكل، وأحالوه إلى سوق للبيع والشراء، فتزاحم في ساحته بائعو الثيران والكباش والحمام ومكاتب الصرافة، لما للنقود من وزن كبير في حياتهم، وأصبحت العبادة اليهودية تقتصر على تقديم القرابين وشرائها في الهيكل جاعلين منه طريق الغفران الوحيد.
ولما فقد الهيكل حقيقة جوهرة وصار سوقاً تجارية بعث الله عليهم من دمر الديار والهيكل معاً، وفي ذلك قال الحق سبحانه وتعالى في شأن خراب بيت المقدس وهدم الهيكل )وَقَضَيْنَا إِلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوّاً كَبِيراً (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مّفْعُولاً (5) ثُمّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوّلَ مَرّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً (7) عَسَىَ رَبّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً((سورة الإسراء: الآيات 4-
.
وهذا هو القانون الإلهي الأزلي، إن الأمم تظل قوية ما ظلت صلتها بالله صحيحة وقوية، فإذا هجر الناس جوهر القوة، وهو الاستمداد من الله، وتاجروا بالديانة بدأ عصر انحدارهم، وساق الله إليهم من يذلهم.
فلقد أوحى الله تعالى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يُقال له إيليا بعدما استشرت فيهم المعاصي أن قم بين قومك فأخبرهم أن لهم قلوباً لا يفقهون بها، وأعيناً لا يبصرون بها، وآذاناً لا يسمعون بها، ويمضي الوحي إلى النبي أن يحدث قومه بأن الله تعالى يعطيهم فرصة أخيرة لليقظة والعودة لدينه وتوحيده، وإلا بعث الله عليهم ملكاً جباراً يسومهم سوء العذاب، وأبلغهم إيليا بذلك، ولكنهم عصوه، واتهموه بالكذب، بل سجنوه.
هكذا عبد ملوك بني إسرائيل الأصنام من دون الله، فغضب الله عليهم لكفرهم ومعصيتهم، وسلط عليهم جنوده، حيث بدأ العذاب من الله بأن أرسل عليهم جيش بختنصر، الذي حاصرهم ودمر مدنهم، وبطش بهم كما يشاء، فقتل منهم الثلث، وأسر الثلث، وترك العجائز والشيوخ بعد أن هدم بيت المقدس، ودمر الهيكل، وهدم دور العبادة، وحرَّق التوراة، وقتل العلماء، وأشعل النار فيما بقي، وتفرق قوم بني إسرائيل في البلاد في ذلك الزمان، وأقفرت حتى أذن الله لِبعض أحفادهم فعادوا وبقي بيت المقدس خراباً إلى أن بناه المسلمون في زمن الخليفة عمر بن الخطابt.