الدولة الثيوقراطية ؟
يقسم الباحثون الدول وأنظمتها إلى: دول مدنية، وأخرى عسكرية، وأخرى ثيوقراطية.
ويخوّفون من الدولة الثيوقراطية؛ لأنها ترى في نفسها قداسة وعصمة تمنع من معارضتها؛ فهي متحدثة باسم الإله.
ويتهمون الإسلاميين الذين ينادون بقيام دولة تطبق الشريعة الإسلامية بأنهم يحاولون إقامة دولة ثيوقراطية.
والأصل “أن الثيوقراطية أو النظرية الثيوقراطية من المصطلحات السياسية الوافدة.
والأصل اللغوي للثيوقراطية مشتق من الكلمة اليونانية (
θεοκρατία)
Theokratia)، وقد جاءت كلمة ثيوقراطية من كلمتين يونانيتين: الأولى: كلمة (ثيو)، وتعني: إله، والثانية: كلمة (قراط)، وتعني: الحكم”
([sup][1])[/sup].
وعند الرجوع إلى التعريفات الغربية لهذا المصطلح وجدنا بعض هذه التعريفات:
1- “هو شكل من أشكال الحكومة المدنية الذي يتم فيه الاعتراف بالرب نفسه رأسًا للدولة. وتعد قوانين الأمة وصايا للرب، وهي قوانين سنها وفسرها ممثلون معتمدون عن الإله الخفي، يمثلون بشكل عام طبقة كهنوت فعلية أو مفترضة. وبهذا فإن الواجبات والوظائف المدنية الثيوقراطية تشكل جزءًا من الدين، وهو ما يعني استيعاب الكنيسة للدولة، أو على الأقل سيادتها على الدولة”
([sup][2])[/sup].
وهذا التعريف من الموسوعة الكاثوليكية، وهي ترى أنه لا غضاضة في النظام الثيوقراطي، بل هو “شكل من أشكال الحكومة المدنية”.
2- “شكل من أشكال الحكم، والتي يتم تعريف الله أو الإله على أنه الحاكم المدني المهيمن، وتعمل الكنيسة على تفسير أوامر الله طبقًا لهواها الشخصي”
([sup][3])[/sup].
وفي هذا التعريف نرى أن الإشكال يكمن في الهوى الذي تتبعه الكنيسة في تفسير القوانين الإلهية.
3- “نظام للحكم يعتمد على الكهنة الذين يدّعون أنهم موكّلون من قبل الإله”
([sup][4])[/sup].
وهذا هو موطن الداء؛ حيث تسلط الكهنة على الحاكم والمحكوم باسم التفويض الإلهي لهم، فـ “من تقرّه الكنيسة مِن الحكام فله الحكم المطلق [وهو] مؤيد بتوفيق مِن الرب وإلهام.
وعامة الشعب لا يتمتعون بكثير مِن الحريات؛ فهم منقادون مقلدون لـ”رجال الكنيسة”، خاضعون لحكامهم، لا يَسلمون مِن تعدي أصحاب النفوذ عليهم، واستبدادهم بهم”
([sup][5])[/sup].
ويزعم ديورانت أن المسيحية والتي هي ديانة روحية خالصة تغير فيها هذا الأمر نتيجة لرؤية أوغسطين، والذي حاول توسيع الكنيسة لتكون هي بعينها مدينة الله؛ “بأن تتسع عضويتها اتساعًا رمزيًّا للأرواح السماوية والأرواح الأرضية.
وقد احتضنت المسيحية -فيما بعد- هذه الفكرة القائلة بأنها هي مدينة الله، واتخذتها سلاحًا أدبيًّا استخدمته في شئون السياسية، كما أنها استنتجت استنتاجًا منطقيًّا من فلسفة أوغسطين أن عقيدة الدولة الدينية تخضع فيها السلطات الدنيوية المستمدة من البشر إلى السلطة الروحية الممثلة في الكنيسة والمستمدة من الله”
([sup][6])[/sup].
وبعد هذا التغول من الكنيسة على الدولة ارتبطت الثيوقراطية في الغرب بالتخلف والاستبداد والعبودية والقهر، وكان الطريق للتخلص من هذه الثيوقراطية أن يتم منع “الكنائس من التدخل في شئون الدولة، وكسر احتكارها للمعرفة.
ومصطلح الثيوقراطية يصف حالة تحالف الملك والكنيسة والإقطاع في التاريخ الأوروبي”
([sup][7])[/sup].
وهذه الحالة التي اتحد فيها الملك والكنيسة والإقطاع على المواطن الغربي أنتجت هذه الثورة الفرنسية التي كان شعارها: “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس”.
وهذه الحالة من الفساد المركّب لم تكن موجودة يومًا ما في العالم الإسلامي، ولذلك فإن العقلاء “يفرقون بين الحكومة الثيوقراطية التي قامت في أوربا في قرونها الوسطى المظلمة التي كان يحكم فيها “رجال الدين” بما شاءت لهم أهواؤهم من الجهالات والمفاسد، والحكومة الإسلامية التي يحكم فيها من يختاره المسلمون لحكمهم، ولكنه يتقيد في حكمه بما أنزل الله، وأنه ليس في الإسلام “رجال دين” يحكمون أو يشرّعون للناس بما يشاءون، إنما فيه “علماء” و”فقهاء” لا يلبسون مسوحًا خاصة، ولا يشكلون طبقة، وليس لهم سلطان ولا حصانة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، ويملك أي إنسان أوتي قدرًا صالحًا من العلم أن يناقشهم ويجادلهم ويخطئ اجتهادهم إن كان دليله أقوى من دليلهم! وإن الإسلام دين “مفتوح” أمام كل معتنقيه يملكون أن يتفقهوا فيه بقدر ما توصلهم مداركهم، وليس حكرًا على طبقة من الكهنوت تحتكر نصوصه وتحتكر تفسيره وتحتكر حق تبديله وتغييره حين تشاء!”
([sup][8])[/sup].
هذا إلى جانب أن “أكثر أحكام القرآن تشير إلى مقاصد التشريع وقواعده العامة بما يعطي للمجتهدين المجال للفهم والاستنباط؛ لذا كان مِن سمات المجتمع المسلم الاجتهاد المتواصل في استنباط الأحكام لما يستجد مِن الوقائع والأحوال”
([sup][9])[/sup].
وإذا كان العلمانيون يعترضون على مسمى الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية بدعوى أن هذه صورة من صور الدولة الدينية أو الثيوقراطية -حسب زعمهم، فإنهم بذلك جعلوا التشريع الإنساني أحكم وأعلم بأحوالهم من التشريع الإلهي، ومن المعلوم أن لكل أمة قانونًا يرجعون إليه في تشريعاتهم وتحاكمهم، والمسلم الحق لا ينفصل عن دينه الذي جاء شاملاً لكل مناحي الحياة.
ولقد لمس محمد أسد هذه النقطة واعتبرها فارقًا بين الإسلام والغرب؛ حيث رأى أن “الإسلام -بمعنى من المعاني- هو دين ثيوقراطي، لكنه بمعنى آخر ليس كذلك؛ إذ لو كان المقصود بالثيوقراطية أن يقوم رجال الدين بتسيير دفة الحكم والسياسة فهو غير ثيوقراطي، أما إذا كان المقصود بها استمداد القوانين من مصدر سماوي (هو فى حالة الإسلام: القرآن والحديث) فهو ثيوقراطي.
وهذا -أيضًا- مما يميز الإسلام عن الديمقراطيات الغربية التي ترفض الثيوقراطية رفضًا باتًّا بِكِلا المعنيين”
([sup][10])[/sup].
وإن كنا لا نوافق على التسمية أصلاً لما فيها من ظلال سيئة الإسلام منها براء.
والإسلام لم ير قدسية لأحد بعد رسول الله ﷺ، وكذلك لم ير العصمة لأحد بعد رسول الله ﷺ، وإنما العصمة للأمة؛ لذلك كانت “الأمة الإسلامية هي الحاكمة، وهي صاحبة السلطة، هي التي تختار حاكمها وهى التي تشير عليه، وهى التي تنصح له، وتعينه، وهي التي تعزله إذا انحرف أو جار، والخليفة في الإسلام ليس نائبًا عن الله، ولا وكيلاً له في الأرض، إنما هو وكيل الأمة، ونائب عنها”
([sup][11])[/sup].
حتى “إن (الحاكمية) التي قال بها المودودي وقطب، وجعلاها لله وحده، لا تعني أن الله -تعالى- هو الذي يولي الخلفاء والأمراء، يحكمون باسمه، بل المقصود بها الحاكمية التشريعية فحسب، أما سند السلطة السياسية فمرجعه إلى الأمة”
([sup][12])[/sup].
فالدولة في الإسلام بريئة من وصمة الثيوقراطية، ولم تقم هذه الدولة في أية مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي بطوله.
على العكس من الغرب الذي ظل قرونًا متطاولة تتبع السلطة الزمنية فيه السلطة الدينية، وكل من يخرج على الكنيسة والبابا من الأباطرة والملوك تناله اللعنات والحرمان مهما كانت قوته وسلطته.
([1]) لواء دكتور عادل عفيفي: مقال بعنوان: الإسلام لا يعرف الدولة الدينية الثيوقراطية، باختصار، موقع محيط.
([2]) انظر النص الأصلي باللغة الإنجليزية في:
([5]) د. علاء بكر: مقالة بعنوان: الفرقان بين الدولة الثيوقراطية والدولة المدنية ودولة الإسلام، باختصار، موقع صوت السلف.
([6]) ول ديورانت: قصة الحضارة، ص(4265-4266) باختصار.
([7]) عادل عفيفي: الإسلام لا يعرف الدولة الدينية الثيوقراطية.
([8]) محمد قطب: واقعنا المعاصر، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1418هـ – 1997م، ص(357).
([9]) د علاء بكر: مقالة الفرقان بين الدولة الثيوقراطية والدولة المدنية ودولة الإسلام، باختصار.
([10]) د. إبراهيم عوض: فكر محمد أسد (ليو بولد فايس) كما لا يعرفه الكثيرون، ص(139).
([11]) د. توفيق الواعي: أوهام العلمانية حول الرسالة والمنهج، ص(26) نقلاً عن: عيد الدويهيس: العلمانية في ميزان العقل، ص(85).
([12]) د. يوسف القرضاوي: بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1424هـ – 2003م، ص(164).