الحداثة والإله والنبوة.. الأنسنة (5)
في هذه المقالة نريد أن نبحث في مفهوم الإله عند الحداثيين، وهل الحداثيون يؤمنون بوجود الله؟ وما مفهوم النبوة عندهم بناء على مفهوم الإله؟ هذه القضية تبين لنا بوضوح من هم الحداثيون وكيف أنهم يتبعون الغرب والمفاهيم الغربية ويحاولون اسقاطها على الإسلام.
وأنهم لا ينتمون إلى هذه الأمة ولا إلى تراثها وماضيها فهم مجرد مقلدة للفكر الغربي، حيث يعملون على إسقاط المفاهيم والأفكار الغربية على مجتمعاتنا الإسلامية، متناسين ما لنا من حضارة وتاريخ وغاضين الطرف عن كل أفكار الأمة ومعتقداتها والعلة في ذلك كله التقليد والإسقاط.
يرى الحداثيون أن النقص البشري هو الذي أوجد مفهوم الإله؛ فالإنسان فيه الضعف والألم ثم ينتقل أحياناً إلى الفرح وهو في هذه الحالات يشعر بضعف فيعلل هذه الحالات بعلة خفية هي من تسبب له كل هذا الشعور وهي التي ينشأ عنها هذ الشعور ويطلق عليها لفظ الله!
فالإله عند الحداثيين هو فكرة في ذهن الإنسان لا وجود لها في الواقع، حيث يقول الدكتور حسن حنفي:"إن الله لفظ نعبر بها عن صرخات الألم وصيحات الفرح، أي أنه تعبير أدبي أكثر منه وصفا لواقع، وتعبير إنشائي أكثر منه وصفا خبريا.. إنه لا يعبر عن معنى معين، إنه صرخة وجودية أكثر منه معنى يمكن التعبير عنه بلفظ من اللغة، أو بتصور من اللغة، إنه رد فعل على حالة نفسية، أو تعبير عن إحساس أكثر منه تعبيرا عن قصد أو إيصالا لمعنى معين، فكل ما نعتقده ثم نعظمه تعويضا عن فقد يكون في الحس الشعبي هو الله، وكل ما نصبوا إليه ولا نستطيع تحقيقه فهو أيضا في الشهود الجماهيري هو الله".
إذن من منظور حسن حنفي؛ الله هو حالة نفسية تصيب الشعور الشعبي فقط، أما المثقفون والمفكرون والفلاسفة فهم على وعي أكبر بهذه الحالة النفسية التي تعبر عن الألم والأشواق والطموحات، فكلمة (الله) لا وجود لها بل هي لفظ أدبي لغوي لا وجود له في الواقع!
وإذا تغلب الإنسان على ضعفه وصمد في مواجهة المتاعب وثابر من أجل تحقيق أحلامه وطموحاته فلا داعي وقتئذ بأن يكون الإله موجودا؛ أي أن علينا أن نصنع الإنسان المتعالى "الرجل السوبرمان" كما في فلسفة نتشيه، فهذا الإنسان وهذا الرجل هو الذي سيحل محل الإله وسيموت الإله بعد ذلك في الضمير الإنساني وتنتهي الفكرة في الحس الشعبي، كما يقولون.
هذا هو ما يطمح له حسن حنفي، فقد جاء بفكرة نتشيه ويريد إسقاطها على عالمنا الإسلامي حتى أنه لم يكلف نفسه بأن يأتي بأفكار جديدة تبين عمق فكره، حيث يقول الدكتور حنفي:"والإلهيات في الحقيقة وإن بدت نظرية في الله ذاتا وصفات وأفعالا هي وصف للإنسان الكامل ذاتا وصفات وأفعالا .. فالإنسان يخلق جزءا من ذاته ويؤلهه أي إنه يخلق المؤله على صورته ومثاله، فهو يؤله أحلامه ورغباته ثم يشخصها ويعبدها، فالمعبود دليل على العجز والمقدس قرينة على عدم القدرة. القادر لا يعبد ولا يقدس بل يعمل ويحقق خططه وأهدافه".
إذن فهكذا (القادر لا يَعبد ولا يقدس) إنه الإنسان الكامل الرجل السوبرمان، وهكذا يضيف الدكتور حنفي:"الصفات السبع هي في حقيقة الأمر صفات إنسانية خالصة، فالإنسان هو العالم القادر الحي السميع البصير المريد المتكلم، وهذه الصفات في الإنسان ومنه على الحقيقة، وفي الله وإليه على المجاز".
وهكذا يعلن الدكتور حنفي موت الإله الذي نادى بها نتشيه في "هكذا تكلم زاردشت"، ولكن هذه المرة على طريقة حسن حنفي في مجتمع ليس فيه الملابسات التي حصلت في المجتمع الغربي والتي دعت نتشيه إلى المناداة بموت الإله، ولكن هل سيقول الدكتور حسن حنفي كما قال نتشيه عندما أصيب بمرض شديد وشارف على الموت، طلب من أخته أن لا تدعوا قسيسا ليقول التراهات على قبره وقال لها:"أريد أن أموت وثنيا شريفا".
بل إن بعض الحداثيين يصرح بإلحاده ويرى أن الدين والإيمان بوجود إله لهذا الكون لا يتوافق مع العقل والمنطق ولا يتوافق مع الفلسفة والفهم الفلسفي للأمور.
وانطلاقا من هذا المفهوم عن الإله؛ يرى الحداثيون أن النبوة هي مستوى من مستويات الترقي البشري وسعة المخيلة عند الإنسان، وهي كمال إنساني مكتسب، فالأمر عندهم ليس اصطفاء من الله وليست معارف وعلوم جاءت من عند إله، ولكن غاية الأمر أن النبي شخصية متفوقة حسيا وروحيا فقط.
وهذه الفكرة موجودة منذ القديم عند بعض الفلاسفة القائلين بأن النبوة أمر مكتسب يتحصل عليه الإنسان عن طريق رياضات روحية؛ فالصوفي والكاهن والشاعر والعراف والنبي مراتب للنفس الإنسانية تترقى فيها النفس عن طريق الرياضات الروحية.
ويقول البرفسور محمد عمارة بأن النبوة عند الحداثيين:"حالة من حالات الفعالية الخلاقة للمخيلة الإنسانية وليست ظاهرة فوقية مفارقة للواقع وقوانينه المادية، والفارق بين النبي وبين الشاعر والصوفي والكاهن هو فقط في الدرجة ـــــ درجة قوة المخيلة ــــــ وليس في الكيف والنوع".
يقول الدكتور حنفي في هذه الفكرة بأن "النبوة ليست غيبية بل حسية تؤكد على رعاية مصالح العباد والغيبيات اغتراب عنها والمعارف النبوية دنيوية حسية".
أما الدكتور نصر حامد أبو زيد فيقول:" إذا كانت فاعلية الخيال عند البشر العاديين لا تتبدى إلا في حالة النوم وسكون الحواس عن الانشغال بنقل الانطباعات من العالم الخارجي إلى الداخل، فإن الأنبياء والشعراء والعارفين قادرون دون غيرهم على استخدام فاعلية المخيلة في اليقظة والنوم على السواء".
ويضيف "وليس معنى ذلك التسوية بين هذه المستويات من حيث قدرة المخيلة وفاعليتها فالنبي يأتي على رأس قمة الترتيب ويليه الصوفي العارف ثم يأتي الشاعر في نهاية الترتيب".
وعلى هذا التفسير لا تكون النبوة اصطفاء من الله ولا تكون وحيا ولكن هي قوة داخل النفس البشرية إما عن طريق الرياضات الروحية يقوم بتحصيلها أو هي قوة مغروسة في النفس عند بعض البشر.
وهذا كله ما يسمى عند الحداثيين بالأنسنة؛ فالإله غير موجود وإنما هي أحوال نفسية للإنسان ومشاعر وطموحات يخلع عليها العقل الشعبي صفة القداسة ويجعلها في عقله "الله"، والنبوة أمر بشري بحت فهي أيضا صفات بشرية لأناس غير عاديين وصلوا لدرجة من الكمال الإنساني عالية بالنسبة لغيرهم.
والهدف من وراء كل هذا إلغاء مفهوم الدين الذي يقول به المتكلمون من علماء المسلمين، والعمل على دفع الشعوب الإسلامية إلى الإلحاد وجعل الدين مجرد تراث يُطلع عليه ويدرس فقط لا غير بحيث لا يصبح للدين أي تأثير واقعي في الحياة العملية للمجتعات المسلمة.
ويقول أبو زيد:"إن مهمتنا أن ننتقل بحضارتنا من الطور الإلهي القديم إلى طور إنساني جديد، فبدلا من أن تكون حضارتنا متمركزة على الله تكون متمركزة على الإنسان، وتحويل قطبها من علم الله إلى علم الإنسان، وإن تقدم البشرية مرهون بتطورها من الدين إلى الفلسفة ومن الإيمان إلى العقل ومن مركزية الله إلى مركزية الإنسان؛ حتى تصل الإنسانية إلى طور الكمال وينشأ المجتمع العقلي المستنير".
إذن هذا ما تريده الحداثة إنهاء الدين تماما من الوجود البشري، ونحن سعينا في هذه المقالات إلى تبيين حقيقة الحداثة وأهم الأفكار المطروحة فيها وأهم رجالاتها من أجل أن يصبح العقل المسلم على وعي مما يراد به ولكي يفهم ما يراد به.
ثم إن بعض هذه الأفكار تطرح بصيغة جذابه غير مخالفة في ظاهرها للإسلام وتتستر وراء من يتسمى بالمفكرين، ومن أمثال ذلك فكرة الدعوة إلى تفسير القرآن بما يتوافق مع العصر دون ضوابط وقيود وضعها الأوائل، وهل علي التقيد بتفسير الطبري والقرطبي وغيره، فعصره مخالف لعصرنا والقيود الموضعة على التفسير والمفسر هي قيود لا داعي لها أو فكرة الدعوة إلى الاجتهاد في كل شيء حتى مسلمات الدين ودون قيود علم أصول الفقه.
فعلينا الحذر من هذه الأفكار وغيرها لأنها ستؤدي إلى الحداثة (الإلحاد) وإن كان المنادي بها صالح النية وليس لديه أي خبث تجاه الدين بل ربما كان من المتحمسين للدين ولكن خانته الفكرة.