مفهوم البر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وسلَّم كثيرًا.
أما بعد:
مفهوم "البرِّ" في المنهج القرآني مفهومٌ كبير، وحقيقةٌ واسعة تسع بشموليَّتها كينونةَ الإنسان، وحقائقَ الكون، وأسرارَ الحياة، وتعاليمَ الشريعة.
إنَّ هذا المفهوم - كما سيتبيَّن لاحقًا إن شاء الله، عزَّ وجلَّ - في المنهج القرآنيِّ، هو منهجُ حياة إنسانيَّة فاضلة، تربط الإنسان "البارَّ" بروابطَ دقيقةٍ وعميقةٍ بكل كائنات الوجود، وأشيائه، وأحداثه، ومشاهده، ومن ثَمَّ يكون الإنسان "البارُّ" هو وحدَه الإنسان الذي استطاع - بتوفيق من الله، عزَّ وجلَّ - أن يرتقي بمشاعره النفسيَّة، ومداركه العقليَّة، وفاعليَّاته التطبيقيَّة إلى مستوى التكريم الإلهي، الذي أنعم به عليه يوم أَذِن له في دخول هذا الكون الفسيح، فلا جرمَ أنَّنا عندما نتحدث عن "مفهوم البِرِّ في القرآن"، فكأننا نتحدث عن مفهوم الإسلام.
ولقد يَجمُل بي - قبل الخوض في فلسفة مفهوم "البر" في الرؤية القرآنيَّة - الحديثُ عن مفهومه في العرف اللُّغوي؛ وما ذاك إلاَّ لأنَّ هذا القرآن نزل بلسان العرب، ومن ثَمَّ لا جرم كان لزامًا - لأجل الفهم السديد، أو على الأقل لأجل محاولة ذلك - العودةُ إلى لسان العرب لمعرفة مفردات القاموس القرآني.
مفهوم "البر" في العرف اللغوي:
إذا رجعت - أصلحك الله - إلى معاجم اللُّغة، ستجد أنَّ مفردة "البِرِّ" تحمل الكثير من المعاني، خلاصتُها: معنيان اثنان هما:
الأوَّل: الصدق.
الثاني: الإحسان.
والإحسان هنا لا يقتصر على إنفاق الدرهم والدينار؛ أي: على العطاء المادي فحسب، كما هو شائع في أذهان الكثير من الناس، وإن كان ذلك جزءًا مهمًّا في رسم حقيقته، بل هو مفهوم شامل واسع لكلِّ العَلاقات التي تربط الإنسان بغيره من الأشخاص والأشياء والأحداث، وكذا مفهوم الصدق لا يقتصر على القول المطابق للواقع؛ أي: على الفعل الخارجي فحسب، وإن كان هذا مظهرًا مهمًّا في ترجمة تلك الحقيقة، بل هو مفهوم يشمل فعاليات الحقيقة الإنسانيَّة كلِّها، وهي تتفاعل مع حقائق الوجود من أشخاص وأشياء وأحداث ومشاهد.
وإلى هنا نصل إلى النتيجة التالية:
الصدق والإحسان: هما ركنا مفهوم البر في العرف اللغوي.
وبعد هذا، دعْنَا - أكرمك الله - نُحلِّل ذينِك المعنيين؛ لنفهم الحقيقة العميقة التي يضمرها مفهوم "البر" من حيث الوضعُ اللُّغوي
1- تحمل مفردة "الصدق" من وضعها اللغوي المعنيَيْن التاليَيْن:
أ) القوة في الشيء: من حيث إنَّ صاحبَه لا يخشى أحدًا، وهو يتعامل مع هذا الشيء الذي هو قويٌّ فيه.
ب) الإخلاص في التزام الشيء: من حيث إنَّ صاحبه لا تخالطه أدنى شائبة من الشوائب المفسدة، وهو يمارس مظاهر الالتزام بهذا الشيء، وهذان المعنيان متلازمان، بمعنى أنَّ أحدَهما يُنتِج الآخر ضرورةً، وهما: المعنى الذي تسمعه من أنَّ الصدق ضدُّ الكذب
2- أما مفردة "الإحسان" فتحمل في وضعها اللغوي كذلك معنيين اثنين:
أ) الإتقان: من حيث إنَّ صاحبه يمارس الفعل بصورة مُحكَمة، ولا يدع أيَّ ثغرة في ممارسته لهذا الفعل لشدَّة حَذْقِه في ذلك.
ب) الجمال: من حيث إنَّ صاحبه يمارس الفعل بصورة جميلة، بكلِّ خصائصها ومقوِّماتها؛ أي: إنَّه يرتقي في ممارسة الفعل إلى مستوى الكمال؛ لأنَّ مفردة الجمال تحمل معنى الجمع والضم، ومعنى الحسن والبهاء، وذلك هو معنى الكمال، وهذان المعنيان متلازمان كذلك ضرورة، بمعنى أنَّ أحدهما ينتج الآخر.
إذن فهذه المعاني الأربعة - القوَّة، الإخلاص، الإتقان، الجمال - هي الحقائق الكبيرة التي تكتنِزُها مفردة "البر" في مفهومها العميق وتحليلها الأخير في وضعها اللغوي. وهي – ولا شك - معاني لها دلالاتها المعبِّرة، وإشاراتها الموحيَة، من حيث علاقتُها بمفردة "البر" الموضوعة في سياق النصوص القرآنيَّة.
وإلى هنا نستخرج النتيجة التالية:
القوَّة، الإخلاص، الإتقان، الجمال: هي أعمدة مفهوم البر في اللسان العربي.
ولك - أكرمك الله - أن تُحلِّل هذه المفردات الأربعة عسى أن تستنبط حقائق أُخَر لها عَلاقةٌ بمفهوم "البر"، ووشيجةُ ما بِبِنْيَتِه النفسيَّة والعقليَّة والحضاريَّة.
على أنِّي أودُّ أن أُنبِّهك - أيُّها الأخ الفاضل - إلى معنى آخر، تلك هي القواسم المشتركة بين مفردة "البر" في اللغة من حيث حركاتُها اللغويَّة، أعني مفردة "البِرِّ" بالكسر، وهي ما نتحدث عنه، وهي تفيد معنى الاستقامة النفسيَّة، ومفردة "البَرِّ" بالفتح، وهي الأرض، وتفيد معنى الثبات والاستقرار، ومفردة " البُرِّ" وهي المادة المأكولة - أي: القمح - وهي المفيدة معنى النمو والارتقاء، فانظر - أرشدك الله - كيف أن حقائق: الاستقامة، الثبات والاستقرار، النمو والارتقاء تشترك بينها جميعًا؛ من حيث إن الإنسان البارَّ مستقيمٌ في مشاعره النفسيَّة، ومداركِه العقليَّة، وفاعليَّته التاريخيَّة، ثابتٌ على حقائق المنهج الرَّباني لا يزيغ مع جواذب الانحراف وهواتف الجاهليَّة؛ لتكون النتيجة الدائمة هي النموَّ والارتقاء الدائم، سواء في مشاعره الباطنية، أم في تأملاته المعرفيَّة، أم في ممارساته في عالم الواقع، فهو في نمو وارتقاء أبدًا نحو الحقائق العليا، والآفاق الفسيحة، والعوالم المجهولة، فاعْجب - إنْ كنت تعجب - لهذه اللغة البديعة.
ويبدو لي أنَّ تلك المعاني الاستقامة، الثبات، الارتقاء هي حقيقة الكينونة الإنسانيَّة، كما فطرها الخالق - جلَّ وعزَّ - وكما يرضى بها الله - جلَّ جلاله - والله أعلم.
وهكذا تكون الخلاصة العامة لمعاني هذه المفردة الكبيرة هي: القوَّة، الإخلاص، الإتقان، الجمال، الاستقامة، الثبات، الارتقاء.
مفهوم "البر" في العرف القرآني:
مفردة "البر" في السور القرآنيَّة تحمل الكثير من المعاني والرموز والإشارات ذاتِ الدلالة الواضحة إلى حقيقة هذا الدين، دين الإسلام؛ فلقد وردت هذه المفردة "البر" في النص القرآني: عشرون مرَّة[1]، سبعَ مراتٍ بالعهد المكي، وثلاثَ عشرةَ مرةً في العهد المدني، وهو أمر ملفت للنظر، فتأمَّلْه. وقد وردت على الصورة التالية:
أوَّلاً: مفردة " البِر" وردت ثمان مرات:
1- خمس مرات في سورة البقرة: (أ) ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]، (ب) ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 189]، (ج) ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177]، وهذه سورة مدَنيَّة.
2- مرة واحدة في سورة آل عمران: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92]، وهذه سورة مدنية.
3- مرة واحدة في سورة المائدة: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2]، وهذه سورة مدنية.
4- مرة واحدة في سورة المجادلة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [المجادلة: 9]، وهذه سورة مدنية.
ثانيًا: مفردة "أبرار" وردت ست مرات:
1- مرتان في سورة آل عمران: (أ) ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 193]، (ب) ﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 198]، وهذه سورة مدنية.
2- مرة واحدة في سورة الإنسان: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ﴾ [الإنسان: 5]، وهذه سورة مدنية .
3- مرة واحدة في سورة الانفطار: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾ [الانفطار: 13]، وهذه سورة مكية.
4- مرتان في سورة المطففين: (أ) ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴾ [المطففين: 18]، (ب) ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾ [المطففين: 22]، وهذه سورة مكيَّة.
ثالثًا: مفردة "البر" وردت مرة واحدة:
في سورة الطور: كاسم من أسماء الله الحسنى: ﴿ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 28]، وهذه سورة مكية.
رابعًا: مفردة "بَرًّا" وردت مرتين:
في سورة مريم: (أ) ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴾ [مريم: 14]. (ب) ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾ [مريم: 32]، وهذه سورة مكية.
خامسًا: مفردة "تبرُّوهم" وردت مرة واحدة:
في سورة الممتحنة: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]، وهذه سورة مدنية.
سادسًا: مفردة "تبرُّوا" وردت مرة واحدة:
في سورة البقرة: ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 224]، وهذه سورة مدنية.
سابعًا: مفردة "بَرَرَة" وردت مرة واحدة:
في سورة "عبس" في حق الملائكة: ﴿ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 16]، وهذه سورة مكية.
والملفت للنظر في هذا التوزيع الهندسي لمفردة "البر" أنَّ في العهد المكيِّ وقعت مفردة "البر" في سياقين:
أولاً: سياق الحديث عن الصفة التي يتصف بها:
1- الله – جلَّ جلالُه - مرة واحدة: ﴿ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 28].
2- الملائكة - عليهم السلام - مرة واحدة: ﴿ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 16].
3- الإنسان المطيع لله - تعالى - مرتان: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴾، ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾ [مريم: 14/32].
ثانيًا: والسياق الثاني هو سياق الحديث عن:
1- مآل الإنسان البارِّ في الدار الآخرة، ثلاث مرات: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾ [الانفطار: 13]، ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴾، ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾ [المطففين: 18/22].
2- الأمر بالتزام المنهج، وردت مرة: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ والتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة:2].
وفي العهد المدنيِّ وقعت هذه المفردة في سياق الحديث عن:
1- المنهج الرباني، وردت تسع مرات:
(1) ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44].
(2) ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 189].
(3) ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
(4) ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [المجادلة: 9].
(5) ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2].
(6) ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].
(7) ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 224].
2- مآل الإنسان البارِّ في الدار الآخرة، وردت ثلاث مرات:
(1) ﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 198].
(2) ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ﴾ [الإنسان: 5].
(3) ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92].
3- الصفة التي يتحلَّى بها الإنسان، وردت مرة واحدة: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 193].
وبعد هذا التوضيح يمكنني القول:
إنه لمَّا كان العهد المكيُّ المقصود منه تربيةُ الإنسان المسلم، وإعادةُ صياغة شخصيَّته بما يتوافق مع أسس فطرته الأولى التي فطره الله عليها، وبما ينسجم مع معاني الحكمة الإلهيَّة في هذا الوجود، وكذا ما يناسب ثقل الرسالة الملقاة على عاتقه، كان لزامًا التركيزُ على الصفة التي يجب على الإنسان المسلم التحلي بها، والتأكيد على المقام الرفيع الذي يجب أن يرتقي إليه الإنسان المسلم، في مجالات حياته كافة، فالله - جلَّ جلاله - من صفاته الكريمة "البر"، إذًا معناه: أنَّ على الإنسان المسلم التخلُّقَ بأخلاق الله - تعالى - والملائكة الكرام "البررة"، إذًا على الإنسان المسلم التشبه بهم، والنبيُّ الكريم "بَرًّا"، إذًا على الإنسان المسلم الاقتداء به، كلُّ هذا يوحي للإنسان المسلم الذي يُريد المنهج الربانيَّ أن يرتقي بشخصيَّته إلى مستوى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ ﴾ [الإسراء: 70]، وأن يحاول المرة تلو الأخرى الارتقاء إلى منزلة "البِر" وهكذا إذا جاء العهد المدني، وهو عهد البناء الخارجي للدولة الإسلامية، والتشييد للحضارة الإسلامية، والذي يجب أن يكون التلقي المطلق فيه قاصرًا على المنهج الرباني "القرآن والسنة"، وهو ما يستلزم التضحية الكبيرة والمعاناة الطويلة؛ حتى تستقرَّ أسسُ الدول الإسلامية على الأرض، أقول: حتى إذا جاء عهد البناء والتلقي، كان الإنسان المسلم له القابلية للتعامل مع تعاليم المنهج الرباني، دون أدنى تلكؤ أو تردد، ولقد كان ذلك هو ما حدث بالفعل.
أما في العهد المدني، فبالإضافة إلى وحي مفردة "البر" التي اقتصَرتْ على الإشارة إلى صفة من صفات الله - تعالى - وكذا الملائكة - عليهم السلام - وكذا الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - إلى الإشارة إلى مآل الإنسان البارِّ في الدار الآخرة، بالإضافة إلى التنبيه على هاتين الإشارتين - جاء التأكيد على المنهج الربانيِّ الذي يجب على الإنسان المسلم التعامل معه، والأخذ منه دون غيره من المذاهب والفلسفات والعقائد، وبذلك يحدث في نفسيَّة الإنسان المسلم انفصالٌ عن واقع الجاهليَّة بكل عقائدها وقيمها، وقوانينها وعلاقاتها، رقيًّا إلى فضاء المنهج الربانيِّ الرَّحْب، ومن ثَمَّ ترسُخُ في ضميره عقيدة "الاستعلاء الرَّباني" وهو يتعامل مع الأشخاص، والأشياء، والأحداث، وهكذا يكون إنسانًا بارًّا حقيقة، والله أعلم.
بعد هذا، دَعْنا نستخلص كيفيَّة ورود مفردة "البر" في القاموس القرآني، من حيث معانيها الكليَّة.
لقد وردت مفردة "البر" في السياق القرآني حسب المعاني التالية:
1- بمعنى المنهج الديني، والعقيدة الربانية، والقوانين التشريعيَّة؛ وذلك مثل: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]، ففي هذه الآية - مثلاً - قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة؛ كان الرجل منهم يقول لصهره، ولذوي قرابته، ولمن بينه وبينهم رضاع من المسلمين: اثبُتْ على الدِّين الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل - يعنون به محمدًا، صلَّى الله عليه وسلَّم - فإن أمره حقٌّ، وكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه"[2]. 2- بمعنى الصفة الفاضلة التي يتحلَّى بها الكائن المطيع لربِّه، المبادر للاستجابة لأوامره وزواجره، وذلك مثل: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴾ [مريم: 14]، ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]، ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 193]، ﴿ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 16].
3- بمعنى صفة كريمة من صفات الله - جلَّ جلاله - واسم من أسمائه – سبحانه - وقد وردت مرة واحدة: ﴿ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 28].
يمكننا - بعد كلِّ هذا - أن نستخرج ثلاثةَ معاني من دلالة مفردة "البر" كما وردت في القرآن:
1- العطاء: فالإنسان البارُّهو الذي يُعطي ولا يأخذ؛ ﴿ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 28].
2- المبادرة: فالإنسان البار هو المبادر إلى الطاعة والمسارع إلى الاستجابة للمنهج الرباني؛ ﴿ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 16].
3- الاستعلاء: فالإنسان البار هو المعتزُّ بمنهجه الربانيِّ في الحياة، ومن ثَم يستعلي على مناهج الجاهلية أتتْ من حيث أتت؛ ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 193].
وإلى هنا نحصل على النتيجة التالية:
العطاء، المبادرة، الاستعلاء: هي أسس مفهوم البر في القاموس الاصطلاحي القرآني.
إذن؛ خلاصة المعاني التي يضمرها "مفهوم البر"، سواء في بِنْيَته اللغويَّة، أو في اصطلاحه القرآني، عشرة معاني يؤدي بعضها إلى بعض، وينتج بعضها بعضًا: القوَّة، الإخلاص، الإتقان، الجمال، الاستقامة، الثبات، الارتقاء، العطاء، المبادرة، الاستعلاء، والله أعلم.
ومعنى قولي: إنَّ بعضها ينتج بعضًا؛ فلأنَّك لا تكون مخلصًا حتى تكون قويًّا، ولا تكون متقنًا حتى تكون مخلصًا، ولا تكون جميلاً حتى تكون متقنًا، ولا تكون مستقيمًا حتى تكون جميلاً، ولا تكون ثابتًا حتى تكون مستقيمًا، ولا تكون مرتقيًا حتى تكون ثابتًا، ولا تكون مِعطاءً حتى تكون مرتقيًا، ولا تكون مبادرًا حتى تكون معطاءً، ولا تكون مستعليًا حتى تكون مبادرًا.
حقيقة ونتائج مفهوم "البر":
وإذا أردنا تفعيل هذه المعاني التي تُشير إليها دلالات مفردة "البر" - سواءٌ من حيث اللغة أم من حيث رمزيتها القرآنيَّة - في محاولة فهم دلالاتها وإشاراتها، وكذا معانيها ومضامينها، سنجدها ترسم لنا صورةً مكتملةَ الأجزاء، واضحةَ المعالم حول حقيقة هذا الدِّين الذي أنزله الله - تعالى - على محمَّد بن عبدالله القُرَشيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورسالته الكبيرة في الحياة.
إنَّ أوَّل حقيقة يجب أن تُرسَّخ معانيها في ضمير المتلقي: هي أنَّ هذا الدين لا يؤخذ أجزاءً وتفاريقًا، ولا يمكن أن يمارس في واقع النفس أو واقع التاريخ بفاعليَّات شكليَّة ومظاهر سطحيَّة، لا تنطوي على إحساس عميق بجماليَّة هذا الدين، وإنما تنبني على رؤية كليَّة لمنهج هذا الدين ومهمَّته في الحياة، تلك حقيقة تبدو لي واضحة بيِّنة لكلِّ مَن تأمل في منظومة هذا الدين وعلاقته بحياة الإنسان في هذا الوجود.
إنَّ هذا الدين لا يمكن للإنسان أن يُفعِّل مضامينه في الواقع - سواء الواقع النفسي والواقع التاريخي - إلاَّ إذا أخذه بكلِّ قوَّة، وإخلاص، وإتقان، وجمال، واستقامة، وثبات، وارتقاء، ومن ثَمَّ تكون النتيجة الضرورية هي: "العطاء، والمبادرة، والاستعلاء"، ومعنى هذا الكلام أنَّ الإنسان المسلم مطالب أن يكون:
1- قويًّا في ممارسة تعاليم هذا الدين، سواء في واقعه النفسي أو واقعه التاريخي، ولا يخشى شيئًا وهو يمارس تلك التعاليم؛ قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المؤمن القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف))[3]. 2- مخلصًا في تفعيل حقائق هذا الدين، سواءٌ في واقعه النفسي أو واقعه التاريخي، وألاَّ يشوبَ تفعيلَ تلك الحقائق بشيء من مفسدات العمل، بحسب ما تقتضيه قوانين الشريعة؛ قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قال - تعالى -: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معيَ فيه غيري تركتُه وشركَه))[4]. 3- مُتقِنًا لفاعليَّته في ممارسة تعاليم الشريعة، بحيث تكون ممارسته لتلك التعاليم، ممارسة محكمة، وليس فيها أيُّ ثغرة لشدَّة حذقه في تلك الممارسة؛ قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((رحم الله امرأً عمل عملاً فأتقنه)).
4- مستقيمًا على منهج الحق، وقوانين الشريعة، لا تأخذه في ذلك لومةُ لائم - وما أكثرهم في هذا الزمان - ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [هود: 112- 113].
5- ثابتًا على تعاليم المنهج الرَّباني، لا تُزعزعه الجواذب، ولا تُغريه الهواتف.
6- مرتقيًا نحو القمة السامقة التي يُتيحها له المنهج الإلهي.
7- مِعطاءً لا يخشى من ذي العرش إقلالاً، ولا تغرُّه مخابل زخرف الحياة الدنيا؛ فهو لذلك سمح كريم لا يضنُّ بالعطاء عن أخيه المسلم؛ ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 261-262].
8- مبادرًا إلى تفعيل تعاليم الشريعة، وممارسة حقائق الحكمة، ابتغاءَ مرضاة الله - تعالى؛ ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26].
9- مستعليًا على جواذب الأرض، ودوافع الهوى، ومغريات الفتنة؛ ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26].
وعندما يصل الإنسان المسلم إلى هذا المستوى في ممارسة التعاليم العمليَّة لهذا الدين، فإنَّه بذلك يصل إلى مستوى الممارسة الحقة؛ أي: الممارسة لتعاليم الشريعة في أفق الجمال؛ أي: ممارسةالفعل بصورة جميلة بكلِّ خصائصها ومقوِّماتها، وبتعبير الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - "الإحسان" الوارد في حديث جبريل - عليه السلام -: ((قال: وما الإحسان؟ قال: ((أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنَّه يراك))[5]. وهكذا يكون قد ارتقى في ممارسة الفعل إلى مستوى الكمال المقدور للإنسان، وتلك هي أقصى درجة مطلوبة لمنهج الإسلام كما نبَّه على ذلك الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حديث جبريل - عليه السلام - المحدد لمعاني الإسلام والإيمان والإحسان.
وهكذا نجد أنَّ الإنسان الجادَّ الذي يريد أن يرتقي إلى مستوى "البر" ويريد أن يكون من "الأبرار" وهو يمارس حياته وَفق تعاليم المنهج الرَّباني، إنَّ هذا الإنسان لا يمكنه بلوغ هذا الهدف وإدراك تلك المنزلة - وهو هدف نبيل، ومنزلة جليلة، ولا شك - إلاَّ إذا فهم فهمًا عميقًا أنَّ هذا الدين هو منهجٌ للحياة كافةً، ومن ثَم فهو يقتضي ممارسة تعاليمه في إطارها الكلِّي الشامل المتكامل، وليس أجزاءً وتفاريقًا؛ أي: إنَّه يجب عليه أن يمارس تعاليم هذا المنهج في مستوى "البر" حتى يكون مسلمًا حقًّا، وحتى يرتقي إلى مستوى "البر" في تفاعله مع هذا الدين.
ولقد شاءت الحكمة الإلهيَّة أن يكون هذا الإنسان وِحدةٌ كلِّية، وليس أجزاءً متفرِّقة، ومن ثَم لا يستطيع الإنسان أن يمارس حياته في الواقع المعاش - إنْ هو طلب التوازن والسعادة - إلاَّ بمجموع كينونته النفسيَّة؛ أي: بمجموع عقيدته الفكريَّة، وقِيَمه الأخلاقيَّة، ونُظُمه التشريعيَّة، ورؤيته الحضاريَّة، وهو بذلك ليس مبتدِعًا شيئًا غريبًا على فطرته التي فطره الله - تعالى - عليها، بل بالأحرى أنه يستجيب لحقائق تلك الفطرة المكنونة في أبعاد ضميره.
وهذه الحقيقة - حقيقة الوحدة الكليَّة التي تشكل إنسانيَّة الإنسان - نابعةٌ من أنَّ الإنسان فكرةٌ وتطبيق، تصوُّرٌ وحركة، عقيدةٌ وممارسة، رؤيةٌ وفاعليَّة، وتلك هي حقيقته التي فطره الله - تعالى - عليها، ولن تجد لفطرة الله تبديلاً، ولن تجد لفطرة تحويلاً.
والإسلام؛ لأنَّه دين الفطرة؛ فإنه يُساير هذه الحقيقة المبثوثة في ضمير الفطرة الإنسانيَّة، ولأنه مرآة الحقيقة الإنسانية؛ فإنه ينسجم مع تلك الحقيقة، ويُلبِّي هواتفَها ورغباتِها، ومن ثم كانت حقيقة الإسلام الكبيرة أنه عقيدةٌ وشريعة، قِيمٌ ونُظُم، أخلاقٌ وقوانين، تاريخٌ وحضارة؛ قال الله - تعالى -: ﴿ فأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ *مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الرُّوم: 30-31]، وقال - تعالى -: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162].
وتلك هي طبيعة هذا الدين الذي أنزله الله - تعالى - على رسوله الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذه هي الحقيقة الكبرى التي يجب أن تتَّضح في عقولنا وضمائرنا ونحن نتعامل مع آيات القرآن.
إنَّ هذه الحقيقة - حقيقة أن هذا الدين منهج شامل لحياة الإنسان الممتدة من الدنيا والتي لا تنتهي إلاَّ ببداية جديدة في عالم الآخرة - تُصوِّرُها الهندسة المعرفيَّة للآية تصويرًا دقيقًا وعميقًا له دلالاته المُوحِية، وإشاراته المعبرة، فهذه الآية قد اشتملت على جملة من المعارف الكبيرة، والأسس العميقة التي تُعَدُّ الأساس الأول في بناء إنسانية الإنسان الفاضلة.
تطبيق عملي على آية قرآنية:
وبعد كل هذا الذي قلْتُه آنفًا عن حقيقة مفهوم "البر"، أحببتُ أن أظهر تلك المعاني السالفة الذكر من خلال آية من آيات البر في القرآن، وهذه الآية هي قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
فهذه الآية الكريمة من الآيات الجوامع في القرآن الكريم، إنَّها آية تترجم حقيقة هذا الدين الذي جاء به الرسول الكريم محمد بن عبدالله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حقيقة أنَّ هذا الدين هو منهج للحياة الإنسانيَّة الفاضلة في مجالات حركتها في هذا الوجود كافة، كما أرادها الخالق - جلَّ وعزَّ - حقيقة أنَّ هذا الدين هو منظومة متكاملة متناسقة، سواء في أنساقها المعرفيَّة والعقديَّة، أم في مفاهيمها الأخلاقيَّة والقِيَمِيَّة، أم في نظمها التنظيميَّة والتشريعيَّة، أم في فاعليَّتها التاريخيَّة والحضاريَّة.
وبادئ ذي بدء أقول:
إنَّ تداخل تلك المجالات المتعددة في الآية، من العقيدة، إلى العَلاقات الاجتماعية، إلى الروح العباديَّة، إلى القيم الأخلاقيَّة، إلى التعليق على كل ذلك في ختام الآية، إنَّ هذا التداخل والتفاعل بين مختلف هذه العناصر والمكونات، والتي لا يربط بينها رابط، ولا يجمعها جامع بادئ الرأي - ليوحي بطبيعة هذا الدين، وطبيعة هذا المنهج الذي أنزله الله - تعالى - على رسوله الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحقيقة الرسالة التي أراد الله - تعالى - أن يبلِّغها لهذا المخلوق الضئيل المسمى "الإنسان".
إنَّ هذا التداخل، وهذا التشابك بين تلك المكونات للآية ليترجم تلك الحقيقة العميقة التي تضمرها النفس الإنسانيَّة، تلك هي حقيقة أنَّ هذه النفس لا تقبل الانفصام بين عناصرها المكونة لحقيقتها الفطريَّة، فهذا الإنسان عقيدةٌ في العقل، وتطبيقٌ في الواقع، فكرةٌ في الضمير، وإنشاءٌ في التاريخ، ولا يمكن أبدًا - مهما حاول الإنسان نفسه أو حاول ذلك غيره من الطواغيت - الفصم بين ذينِك المكونين الكبيرين في الفطرة البشريَّة؛ لا لشيء إلاَّ لأنَّهما عميقين في جذر الروح البشري عمق ذلك الروح نفسه.
وحينما نفهم منهج هذا الدين على النحو - حينها فقط - نستطيع أن نقوم بمثل تلك النقلة البعيدة التي قام بها الجيل الأول من المسلمين، فبَلَغوا بذلك مستوى الإنسانية الفاضلة كما خلقها الله - سبحانه وتعالى - وكما أرادها أن تكون في واقع التاريخ البشريِّ، فكان ما كان منهم في صناعة التاريخ وتشييد الحضارة، مما لو اجتمعتْ الجاهليةُ بكل خيلائها ما وجدت إلى ذلك من سبيل إلاَّ في الأجيال المتعاقبة والآماد المتتالية، ثم لا تبلغ إلاَّ عُشر معشار ما بلغ أولئك.
من أجل ذلك كان من مقاصد القرآن الكبرى إعادةُ الضمير الإنسانيِّ إلى فهم هذه الحقيقة، والتحقق بمصداقيتها وتطبيقاتها سواء في عالم النفس أم في عالم الواقع، ومن ثم شن حملة ضروس على أولئك الذين رضوا بأن يكون نصيبُهم من هذا الدين المظاهر فقط.
يتبع ........