ابراهيم الغزي الشاعر
أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى بن عثمان بن محمد الكلبي الأشهبي، وقال ابن النجار في تاريخ بغداد: هو إبراهيم بن عثمان بن عباس بن محمدابن عمر بن عبد الله الأشهبي، الكلبي، الغزي الشاعر المشهور.
شاعر محسن، ذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، فقال: دخل دمشق وسمع بها من الفقيه نصر المقدسي، سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، ورحل إلى بغداد وأقام بالمدرسة النظامية سنين كثيرة، ومدح ورثى غير واحد من المدرسين بها وغيرهم، ثم رحل إلى خراسان وامتدح بها جماعة من رؤسائها، وانتشر شعره هناك، وذكر له عدة مقاطيع من الشعر، وأثنى عليه. انتهى كلام الحافظ.
وله ديوان شعر اختاره لنفسه، وذكر في خطبته أنه ألف بيت.
وذكره العماد الكاتب في الخريدة، وأثنى عليه، وقال: إنه جاب البلاد وتغرب، وأكثر النقل والحركات، وتغلغل في أقطار خراسان وكرمان، ولقي الناس، ومدح ناصر الدين مكرم بن العلاء وزير كرمان بقصيدته البائية التي يقول فيها، ولقد أبدع فيه:
حملنا من الأيام ما لا نـطـيقـه
كما حمل العظم الكسير العصائبا
ومنها في قصر الليل، وهو معنى لطيف:
وليل رجـونـا أن يدب عـذاره
فما اختط حتى صار بالفجر شائبا
وهي قصيدة طويلة.
ومن جيد شعره المشهور:
قالوا هجرت الشعر، قلت ضرورة
باب الدواعي والبواعث مغـلـق
خلت الديار فلا كـريم يرتـجـى
منه النوال ولا مـلـيح يعـشـق
ومن العجائب أنـه لا يشـتـرى
ويخان فيه مع الكسـاد ويسـرق
ومن شعره، وفيه صناعة مليحة:
وخز الأسنة والخضوع لناقص
أمران في ذوق النهى مران
والرأي أن يختار فيما دونه ال
مران وخز أسنة الـمـران
ومن شعره أيضاً:
من آلة الدست لم يعط الوزير سوى
تحريك لحيته فـي حـال إيمـاء
إن الـوزير ولا أزر يشـد بــه
مثل العروض له بحر بـلا مـاء
وله أيضاً:
وجف الناس حتى لو بكينا
تعذر ما يبل به الجفون
فما يندى لممدوح بنـان
ولا يندى لمهجو جبـين
وله في القصائد المطولات كل بديع.
ومن شعره أيضاً وهو مما تستملحه الأدباء وتستظرفه قوله من جملة قصيدة:
إشارة منك تغنيني وأحسن ما
رد السلام غداة البين بالعنم
حتى إذا طاح عنها المرط من دهش
وانحل بالضم سلك العقد في الظلم
تبسمت فأضاء الليل فالتـقـطـت
حبات منتثر في ضوء منـتـظـم
والبيت الأخير منها ينظر إلى قول الشريف الرضي، من جملة قصيدة:
وبات بارق ذاك الثغر يوضح لي
مواقع اللثم في داج من الظلـم
وقد ألم به بعض البغاددة في مواليا على اصطلاحهم، فإنهم ما يتقيدون بالإعراب فيه، بل يأتون به كيفما اتفق، وهو:
ظفرت ليلة بليلى ظفرة الـمـجـنـون
وقلت وافى لحظي طالـع مـيمـون
تبسمت فأضاء اللؤلـؤ الـمـكـنـون
صار الدجى كالضحى فاستيقظ الواشون
والأصل في هذا المعنى بيت أبي الطمحان القيني، وهو قوله:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههـم
دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وهذا البيت من جملة أبيات، وهي:
وإني من القوم الـذين هـم هـم
إذا مات منهم سيد قام صاحبـه
نجوم سماء كلما غاب كـوكـب
بدا كوكب تأوي إليه كواكـبـه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههـم
دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
ويقال: إن هذا البيت أمدح بيت قيل في الجاهلية، وقيل: هو أكذب بيت قيل.
وما زال منهم حيث كانوا مسود
تسير المنايا حيث سارت كتائبه
وهذا أبو الطمحان هو: حنظلة بن الشرقي، من شعراء الجاهلية.
ولد الغزي المذكور بغزة، وبها قبر هاشم جد النبي صل الله عليه وسلم، سنة إحدى وأربعين وأربعمائة وتوفي سنة أربع وعشرين وخمسمائة مابين مرو وبلخ، من بلاد خراسان، ونقل إلى بلخ ودفن بها، ونقل عنه أنه كان يقول لما حضرته الوفاة: أرجو أن يغفر الله لي لثلاثة أشياء: كوني من بلد الإمام الشافعي، وأني شيخ كبير، وأني غريب، رحمه الله تعالى وحقق رجاءه.
وغزة - بفتح الغين وتشديد الزاء المعجمتين وبعدها هاء - وهي البليدة المعروفة في الساحل الشامي، وقد يقع هذا الكتاب في يد من يكون بعيداعن بلادنا، ولا يعرف أين تقع هذه البليدة، ويتشوق إلى معرفة ذلك، فأقول: هي من أعمال فلسطين، على البحر الشامي، بالقرب من عسقلان، وهي في أوائل بلاد الشام من جهة الديار المصرية، وهي إحدى الرحلتين المذكورتين في كتاب الله العزيز في قوله تعالى: رحلة الشتاء والصيف وأتفق أرباب التفسير أن رحلة الصيف بلاد الشام، ورحلة الشتاء بلاد اليمن، وقد كانت قريش في متاجرها تأتي إلى الشام في فصل الصيف لأجل طيبة بلادها في هذا الفصل، وتأتي اليمن في فصل الشتاء، لأنها بلاد حارة لاتستطيع الدخول إليها في فصل الصيف، وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام، في أوائل سيرة رسول الله، صل الله عليه وسلم: أول من سن الرحلتين لقريش رحلة الشتاء والصيف هاشم جد النبي، صل الله عليه وسلم، ثم ذكر بعد هذا بقليل: قال ابن إسحاق: ثم هلك هاشم بن عبد مناف بغزة، من أرض الشام، تاجراً ثم قال بعد هذا بقليل: وقال مطرود بن كعب الخزاعي يبكي بني عبد مناف جميعا، وذكر القصيدة، ومن جملتها:
وهاشم في ضريح وسط بلقعةٍ
تسفي الرياح عليه بين غزات
قال أهل العلم باللغة: إنما قال غزات، وهي غزة واحدة، كأنه سمى كل ناحية منها باسم البلدة، وجمعها على غزات، وصارت من ذلك الوقت تعرف بغزة هاشم، لأن قبره بها، لكنه غير ظاهر ولا يعرف، ولقد سألت عنه لما اجتزت بها، فلم يكن عندهم منه علم. ولما توجه أبو نواس الشاعر المشهور من بغداد إلى مصر ليمدح الخصيب بن عبد الحميد، صاحب ديوان الخراج بمصر، ذكر المنازل التي في طريقه، فقال:
طوالب بالركبان غزة هاشمٍ
وبالفرما من حاجهن شعور
وفي بيت أبي نواس لفظتان تحتاجان إلى التفسير، إحداهما: الفرما وهي - بفتح الفاء والراء - المدينة العظمى التي كانت كرسي الديار المصرية في زمن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ومن قراها أم العرب التي منها هاجر أم إسماعيل بن الخليل عليهما السلام، والفرما في اول الرمل: بين السائح والقصير، المنزلة المعروفة على يسار المتوجه إلى الشام من مصر، على ساحل البحر، رأيتها وقد خربت، ولم يبق منها سوى الآثار، وموضعها تل عال.
ومن الاتفاق الغريب: أن إسماعيل أبو العرب، وأمه من أم العرب: القرية المذكورة؛ واللفظ الثاني قوله في آخر البيت شقور بضم الشين المعجمة والقاف - ويقال بفتح الشين أيضاً، والضم أصح - لأن الشقور بالضم بمعنى الأمور اللاصقة بالقلب المهمة، الواحد شقر، والله أعلم.