لماذا تتجاهل واشنطن تحدّيات موسكو؟
رأي القدس
تشبه القرارات والتصريحات الروسية الأخيرة ضربات خاطفة تعلن تحديات متصاعدة ضد سياسة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في العالم فأثناء إرسالها المدمرتين سيربوخوف وزيليوني عبر تركيا نحو الساحل السوري وإلحاقها بالسفينة الصاروخية ميراج، ونشرها منظومة صواريخ متطوّرة واستقدامها طائرات مقاتلة جديدة، ألغت موسكو اتفاقيتها مع واشنطن حول التخلص من البلوتونيوم الصالح لصناعة الأسلحة وبعدها ألغت اتفاقية أخرى حول البحث النووي، وحذرت واشنطن من أن أي هجوم على المناطق الخاضعة للنظام السوري سيعتبر هجوما على قواتها وأن طواقمها لن يكون لديها الوقت الكافي لرصد مسارات الصواريخ ومن أي اتجاه تم إطلاقها.
في الوقت نفسه كان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو يتفاخر أن الحملة في سوريا أثبتت فاعلية الأسلحة الروسية وبأن الكرملين ساعد في استقرار الوضع في البلد، من دون أن يذكر، دليلاً على كلامه طبعاً، أن عدد القتلى الذين حصدتهم آلته العسكرية خلال سنة من التدخل الروسي كان أكثر من عشرة آلاف سوري بينهم مئات الأطفال.
على جبهة واشنطن التي يفترض أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتحدّاها شهدنا اتصالا من وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بنظيره الروسي سيرغي لافروف أمس (وذلك بعد إعلان واشنطن تعليق المباحثات بشأن سوريا)، كما قرأنا خبرا عن أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما يدرس فرض عقوبات جديدة على النظام السوري، وأنه اجتمع مع مجلس الأمن القومي الأمريكي لبحث خياراته، فيما استلم الأوروبيون راية المفاوضات العقيمة فاجتمعت مدراء الخارجية لفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا مع نظيرهم الأمريكي في برلين للقيام بـ»عصف ذهني لبحث الموضوع السوري»، واجتمع وزير الخارجية الفرنسي جان مارك ايرولت مع نظيره الروسي لافروف وأنّبه قائلا: «لا شيء يبرر حمم النار».
الأمم المتحدة انتحت جانباً عملياً وطالبت بانسحاب مقاتلي «جبهة فتح الشام» من شرق حلب وعرض مبعوثها ستافان دي ميستورا مرافقة المقاتلين شخصيّاً، وهو ما عنونته إحدى وكالات الأنباء «مبعوث الأمم المتحدة يجازف بحياته من أجل السلام في حلب»، والحقيقة أن دي ميستورا يجازف بحياته لتحقيق شرط روسيا بإخراج المقاتلين من شرق حلب لتسهيل احتلالها (وهو أمر طالب به النظام في اليوم السابق على العرض «البطوليّ» لمبعوث الأمم المتحدة)!
التفسير الحقيقي لما يحصل هو أن روسيا تفهم الولايات المتحدة الأمريكية جيّداً وتعرف أن الخلاف بينهما شكليّ وهي غير معنيّة أبداً بإنقاذ وجه البيت الأبيض الذي لا يفصله عن الكرملين خلاف حقيقي حول الوضع السوريّ والخلاف فقط هو على تفاصيل إخراج المجزرة.
بل إن الرطانة الأمريكية حول الوحشية التي تمارسها موسكو في حلب في قصفها للمستشفيات والمخابز ومحطات المياه والمدنيين لا تتناسب مع قصف واشنطن لمشفى في الموصل قبل أيام وقتلها العشرات من المدنيين في تموز/يوليو الماضي قرب منبج في ريف حلب الشمالي في غارات جوّية واعتبارهم «خسائر جانبية» لحربها على تنظيم «الدولة الإسلامية» من اعتذار لأهاليهم بينما قامت بالاعتذار عن قتلى جيش النظام واقترحت دفع تعويضات لهم، وبالتالي فإن «الوحشية» و»تجاهل حقوق الإنسان» أمور نسبيّة بالنسبة لواشنطن، واختلافها مع موسكو هو بالدرجة لا بالمبدأ.
وإذا أردنا الحقيقة فإن ما يحصل في سوريا والمنطقة العربيّة يعكس اتفاقاً بين النخب الغربيّة الحاكمة وروسيا على السرديّة التي اشتغل عليها النظام السوري منذ بدء حربه الإجرامية ضد شعبه عام 2011 وهي أن البديل الوحيد لنظام الاستبداد هو الإسلاميون، وأن الإسلاميين هم أكثر خطراً على أوروبا من أنظمة الاستبداد وبالتالي فالأولى إبقاء هذه الأنظمة مع إجراء تحسينات شكلية عليها.
… أما موسكو فلا يهمّها هذه الشكليات.