فلسطين التي رأيت
سألني الكثير من الناس عن أسباب هذه الزيارة: "لماذا كل هذا الشغف تجاه فلسطين وأنت لا تعرفها ولم تُولد فيها؟!"، وجوابي عن هذا السؤال وغيره.. أنه منذ الصغر كان والدي -رحمه الله- يزرع في قلبي وعقلي حب فلسطين، حتى تأصَّل ذلك الحب في وجداني وأصبح جزءاً لا يتجزأ من شخصيتي وكياني، وعندما هاجرت إلى كندا تأثرت كثيراً بثقافة شعبها فيما يخص الأعمال التطوعية، حيث كان بمقدوري مشاركة أبناء وطني في كندا رحلاتهم التطوعية إلى القارة الأفريقية أو شبه القارة الهندية وغيرها من دول العالم الفقيرة، ولكن خطرت لي فكرة.. إن كان ولا بد من التطوع، فلماذا لا أقوم بهذا العمل في فلسطين؟ لماذا لا أشاركهم خبراتي العلمية والعملية لينتفعوا بها؟ أولاد بلدي أولى.. ومن هنا بدأت!
طبعاً هناك من فهم واستوعب واقتنع، وهناك من بقي يحمل في نفسه تجاهي شكوك الخيانة والتطبيع مع العدو الإسرائيلي، المهم بالنسبة لي ولمَن تشرفت بلقائهم في فلسطين، أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أتم لي هذا الأمر، وسعدت جداً بلقاءاتي هناك وأتمنى ألاَّ تكون الأخيرة، والتي كانت في المدن التالية:
١) مدينة الخليل: برعاية مركز حاضنات الأعمال في بلدية الخليل، ألقيت محاضرة بعنوان (كيف تبني خطة ناجحة؟)
٢) مدينة رام الله: برعاية المجلس الأعلى للإبداع والتميز، ألقيت محاضرتين بعنوان (كيف تختار رؤية ناجحة؟) و (كيف تقوم بعرض فعَّال؟)
٣) مدينة تل أبيب: برعاية مبادرة حاسوب، ألقيت محاضرة بعنوان (كيف تفاوض بنجاح؟)
تشرفت خلال هذه الزيارات بلقاء شخصيات فلسطينية مرموقة، على رأسها المهندس عدنان سمارة، رئيس المجلس الأعلى للإبداع والتميز ومستشار الرئيس الفلسطيني محمود عباس، والذي استضافني في مكتبه الخاص وتجاذبنا أطراف الحديث على أمل تنسيق لقاءات مستقبلية بإذن الله.
من الجدير بالذكر أني طيلة حياتي أتابع الشأن الفلسطيني عن بُعد، بحكم أني خُلقت في المهجر ولم أزر فلسطين في حياتي، وتبيَّن لي عندما زرتها أني أجهل الشأن الفلسطيني، وأني غارق في شعارات غير واقعية كبرت وأنا أرددها مثل غيري في الخارج، فكل ما يربطني بها هو شاشة التلفاز التي اكتشفتُ أيضاً أنها هي الأخرى لا تنقل حقيقة التحديات التي تواجهها المجتمعات الفلسطينية على أرض الواقع، لأصل بعدها إلى قناعة فحواها أنَّ مَن لم يزر فلسطين ويختلط بأهلها عن قرب، لا يمكنه أن يتكلم في الشأن الفلسطيني على الإطلاق، ذلك الشأن المعقد والمتداخل جداً وقد يكون من المستحيل حلحلة عُقَده مع الأسف الشديد!
لم يكن سهلاً عليَّ استيعاب المشهد الفلسطيني من أول مرة، وأعتقد أني سأحتاج إلى الكثير من الزيارات لأتمكن من بلورة فهمي له بعمق، فهذا الفهم سيساعدني على تصميم منهجيات عملية فيما يخص تنمية الفرد الفلسطيني وتطويره، فقد لاحظت أنَّ المشكلات الاجتماعية في فلسطين أعوص بكثير من المشكلات السياسية، فهي تحتاج بطبيعة الحال إلى بحث مُركَّز لإيجاد حلول ناجعة لها، أهم تلك المشكلات الفوارق الاجتماعية والثقافية التي نشأت بين أطياف الشعب الواحد؛ بسبب سياسة العزل بين المناطق والمحافظات التي مارسها الاحتلال الإسرائيلي خلال عقود طويلة، وما زال يمارسها حتى أصبحت المجتمعات منفصلة عن بعضها بعضاً، واتسعت فجوة تلك الفوارق والاختلافات بشكل كبير، الأمر الذي أدى إلى بروز شعوب فلسطينية منفصلة عن بعضها فكرياً وثقافياً، والسبب في اعتقادي يعود إلى الظروف التي تعيشها كل منطقة على حدة، ولا شك من أنَّ هناك معاناة عامة على الجميع، ولكن المعاناة متفاوتة بين تلك المجتمعات، فكل معاناة أفرزت ثقافتها الخاصة والتي تميزها عن غيرها، فهناك اختلافات ظاهرة بين:
1) سكان الضفة الغربية تحت إدارة السلطة الفلسطينية.
2) عرب مدينة القدس الشرقية تحت إدارة إسرائيل.
3) عرب الداخل أو ما يُعرف أيضاً بـ"عرب إسرائيل" أو "عرب 48" تحت إدارة إسرائيل.
4) سكان قطاع غزة تحت إدارة حكومة حماس، ومع الأسف لم يتسنَّ لي دخول القطاع بسبب الحصار، ولكن أهلنا هناك -بطبيعة الحال- لهم ما يميزهم عن غيرهم مما سبق؛ بسبب الظروف التي فُرضت عليهم منذ عقود.
طبعاً ناهيك عن فلسطينيي المهجر بشتى أنواعهم، من حملة الوثائق في مخيمات الشتات، والذين لهم معاناتهم الخاصة أيضاً، وغيرهم من حملة الجنسيات الأخرى والذين غالباً ما تنحسر معاناتهم كثيراً إن لم تكن معدومة.
السؤال اليوم، هل هذه الفجوات والفوارق الاجتماعية أصبحت سبباً في تغيير المطالب السياسية؟
بالتأكيد، فبينما بعض أطياف الشعب الفلسطيني يحلم بالتحرير، هنالك مَن انخفضت لديه تلك المطالب، فنجد من يحلم بزوال السلطة الفلسطينية ليعود لحكم إسرائيل، فقد أفلحت في إدارة الدولة إبَّان احتلالها العام لفلسطين قبل الانتفاضة الأولى من ثمانينات القرن الماضي، وهذا لا ينفي إجرامهم المُنظَّم والخبيث طيلة تلك السنين، ولكن الوضع العام كان أفضل من الوضع الحالي بكثير.
المشكلة أنَّ العرب خارج فلسطين غارقون في شعارات وهتافات أنستهم تماماً أنَّ في الداخل يوجد شعب يريد أن يعيش! شعب يحلم بحياة كريمة ومستقرة بغض النظر مَن الذي يحكمه، شعب مُنهك تخلَّى عنه العرب والعجم ولم يبقَ له سوى وجه الكريم، وهذا أقل حقوقهم كبشر على وجه هذه الأرض بعد كل هذه السنين من التضحية والمعاناة.
من ناحية أخرى، وجدت أنَّ الشعب الفلسطيني في الداخل كأي شعب على وجه الأرض، فيه الغث والسمين.. فيه الصالح والطالح والمؤمن والكافر والوطني والخائن.. فيه كل أنواع المخلوقات التي نراها خارج فلسطين، ومن المهم جداً استيعاب هذه الحقيقة حتى لا ننصدم إذا ما سمعنا عن خيانة أو ردَّة.. فيبدأ الجهلاء بتعميم هذه الحالة على كل فلسطين ليُدير الناس ظهورهم للقضية، مُرددين الجملة الشهيرة: "هم باعوا أرضهم!".. وقد يكون، ولكن لم يُكلِّف نفسه هذا الأحمق في فهم حيثيات البيع، أو الأسباب التي دعت هذا الشخص لبيع بيته أو أرضه.
خلال زيارتي للقدس الشرقية، مررت بأحياء فلسطينية مُعدمة يسكنها أراذل البشر فيهم كل خصل الفساد من بذاءة اللسان والمخدرات والفجور، بالمقابل التقيت بعائلات كريمة تسكن تلك الأحياء، وأعربوا لي عن معاناتهم اليومية بكل صدق وشفافية، وكلهم أمل أن يُغادروا تلك الأحياء المُنحطَّة ليُنقذوا مستقبلهم ومستقبل أسرهم، فإذا كنَّا نحن القادمين من الخارج لا نُزيل أعيننا عن المسجد الأقصى أو قبة الصخرة، هؤلاء الناس أنستهم معاناتهم اليومية تلك المقدسات، بل أصبحوا لا يرونها خلال تنقلاتهم اليومية من شدة الإنهاك والتعب، ولا ألومهم.. حياتهم صعبة جداً وفي نهاية المطاف أهل فلسطين بشر، لهم قدراتهم المحدودة والمتفاوتة، ولا يمكن أن نتوقع منهم جميعاً أن يكون لهم نفس المطالب أو يكونوا على قلب رجل واحد، فإذا كان العرب في الخارج ليسوا على قلب رجل واحد.. ما بالكم بمَن مزَّقهم الاحتلال وجعل منهم شعوباً وطوائف؟ هل نتوقع منهم ذلك؟ مستحيل!
طبعاً الكلام في هذا الموضوع يطول ولن يكون سهلاً، والمشاهد والأفكار كثيرة، ولا أدعي أني أملك حلاً، ولكن تسليط الضوء على حقائق لن ينشرها لك الإعلام مهم جداً، فقليل مَن يأبه لحقيقة الوضع هناك، فعلى سبيل المثال في فلسطين توجد مقدسات كثيرة، مثل المسجد الأقصى، وعلى الرغم من قدسيته الكبيرة، إلاَّ أنه توجد هناك مقدسات أكبر منه، هنالك الشعب.. الذي هو أقدس عند الله من المسجد الأقصى.