أ. د. محمد خازر المجالي
بفضل الله تعالى، ورغم سوداوية المشهد عموما فيما وصل إليه كثير من الناس في تصرفاتهم الغريبة عن الدين والأخلاق، إلا أننا نرى النماذج الراقية والبيوت الملتزمة والأهل الحريصين على تربية أبنائهم وبناتهم على الفضيلة؛ ينشِئون أجيالا قرآنية واعية ملتزمة، ربما هم سبب رحمة الله بنا جميعا، وصمام أمان أن يحل بنا ما حل ويحل بغيرنا. فعذاب الله ونقمته مدفوعان بوجود من يستغفر الله تعالى كما قال: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" (الأنفال، الآية 33)، وبوجود المصلحين كما قال سبحانه: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ" (هود، الآية 117)، ووجود أهل ولايته سبحانه كما قال: "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" (يونس، الآية 62)، ولوجود الضعفاء عموما الذين يُستهان بهم، كما قال صل الله عليه وسلم: "رُب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرَّه"، وقوله: "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟".
أقامت جمعية المحافظة على القرآن الكريم مشروعا سمته "الحافظ الصغير"، تشجيعا للبيوت عموما، لمن هم دون العاشرة من العمر أن يحفظوا كتاب الله تعالى. وكان الملتقى الأول لهم، حيث شارك وحفظ سبعة وأربعون ما حفظوا، منهم من حفظ القرآن كله وسنه لما تتجاوز الثمانية أعوام؛ ومنهم من حفظ معظمه أو نصفه أو ربعه، وهكذا. والمهم الانطلاقة، وبث روح التنافس والحماس بين هذا الجيل، وأن تنتشر ثقافة الحفظ والفهم في الصغر. وفي هذا من الفوائد ما فيه، ثقافيا وسلوكيا وتفوّقا ومجالا للإصلاح العام.
يقول بعض الناس إنّ هذا شاق على الصغار، وربما تيئيس لهم من أن يستوعبوا شؤون الحياة ويحيطوا بمجالات الدراسة الأخرى المطلوبة لهم في مناهجهم الدراسية. وينظر آخرون إلى ضرورة أن يستشعر هؤلاء طفولتهم ولعبهم وهي أمور مطلوبة لعمرهم. وهكذا نظريات قد تصح وقد لا تصح، وننسى أن النماذج موجودة ومتفوّقة ورائعة، الآن وفي الماضي، كما هي سير أعلام كثيرين من النابغين.
حين تنظر في سيرة أي علم من أعلام الأمة قديما، لا تسمع ولا تقرأ أنه حفظ القرآن، لسبب رئيس أن هذه أمور مفروغ منها، فلا يبلغ الستة أعوام أو الثمانية إلا وهو حافظ لكتاب الله. وبعدها ينتقل إلى حفظ المتون في النحو والصرف، فيقوّم لسانه وينبغ في تأسيس نفسه التزاما وسلوكا وفصاحة. ثم ينطلق بعدها في التخصص الذي يريد حسب ميله ورغبته، فكانت أمتنا أمة العلماء والحضارة، وقدمت الشيء الكثير للإنسانية.
إن رعاية الجيل من البداية توجيها وحفظا لأعز شيء من الكلام حيث القرآن، لهو من أهم الأمور التي تحفظ الأجيال من الانحراف واللهو والبحث عن كل ما يسد به فراغه ولو من المنكرات، كما هي الحال في أيامنا هذه. وهي أمور ينبغي علينا جميعا أن ندركها ونعي خطورتها، ونحاول ما استطعنا أن نعالجها، بعيدا عن الهوى أو العاطفة أو حتى المثالية.
لقد كان النص القرآني صريحا: "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ" (القمر، 17). ويهمني في النص أنه ميسّر، حفظته عبر التاريخ أجيال بأكملها، وليس بالضرورة أن يكونوا متخصصين في الشريعة، بل هو ديدن الأمة كلها، فينشط العقل، وترتقي المسؤولية، وتُصقل الشخصية، ويهَذّب السلوك، وتتركز الاهتمامات لتكون نافعة راقية، ويبدأ أحدهم حياته بثقة، ويرتقي بأخلاق، وينتج ما ينفع أمته، ويكون سعيدا دنيا وآخرة.
لن يحرم حفظُ القرآن الأطفال من حقوق الطفولة ومتعة اللعب واكتساب المهارات، فهو مهيّأ لأكثر من ذلك. والمقصد هو الجيل الذي افتقدناه عبر قرن من الزمن وأكثر؛ جيل القرآن النابغ في العلوم كلها، وفي الحياة كلها، صاحب المسؤولية والغيرة على الأمة، الجيل الذي يعِزّ الله به هذه الأمة المنكوبة، بفعل أيديها لا بسطوة أعدائها: "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ" (الشورى، الآية 30).
لِمَ لا نعترف جميعا أن أجيال الضياع وفساد الأخلاق والجرائم والمخدرات والعصبيات والاقتتال، الذين هم وقود العنف المجتمعي عموما، والذين هم وسائل أمراض المجتمع التي تفتك به يوما بعد يوم، كل هؤلاء لا نجد القيم الإيمانية فيهم، وإن وُجدت فهي الصور لا الجوهر، وهو التقليد لا الرسوخ والفهم؟ وعلينا واجب التثقيف والتهيئة وإبراء الذمة أمام الله تعالى.
آلمنا وما نزال نتألم لهذا المستوى الهابط في أخلاق الجيل. وهذه ليست نتيجة التربية الدينية، كما يزعم البعض، بل العكس، حيث تأخير الدين عن التأثير في الشخصية. أما ادعاء أن الدين يقود للتعصب والعنف، فهذه أيضا جريمة أخرى، وهو طُعم تجرعناه جميعا، حين نكتشف أن أعداءنا هم من أنشأ ودعم هذه التوجهات التي أساءت للإسلام.
ولا يعني هذا عدم وجود تعصب أو انغلاق عند بعض الملتزمين، ولكن لا يمكن أن ننعت كل متدين بأنه متعصب، أو أن الدين معيق لتقدمه وتقدم المجتمع، فلا بد من فطنة وفهم وحسن توجيه، وإلا فسنندم جميعا على مستقبلنا، حين نعلم الصحيح والأفضل، ونحيد عنه ونتبع مسالك أخرى بحجة أن غيرنا تقدم بها، فلا مشكلة في القضايا العلمية عموما وتطوير المناهج والوسائل، ولكن لا بد من التركيز على القيم، وأهمها القيم الدينية التي تربي الإنسان على الصلاح والمسؤولية والاستقامة.