فلسطين يطعنها الأقربون وينتصر لها الأبعدون
محمد عبد الحكم دياب
اعتاد جل المسؤولين والساسة العرب على تقديم أوراق اعتمادهم لواشنطن وتل أبيب طلبا للاستمرار والاستقرار حتى لو كان ذلك على حساب المستقبل الفلسطيني والوجود العربي، ودورهم غائب دوما، وإذا حضر فهو لإيذاء النفس والتقليل من شأن الأمة، ومصر حازت على مقعدها في مجلس الأمن باسم المجموعة العربية، ونالت دعمها، ولما جد الجد أدارت ظهرها للفلسطينيين، وانسحب الرئيس السيسي من المشهد كاملا ملبيا طلب الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب. المعروف بحرصه وانحيازه الشديد للدولة الصهيونية، ومعاداته لفلسطين والعرب والمسلمين..
جاء في صحيفة «هآرتس» الصهيونية، في عدد الجمعة قبل الماضية (23/12/2016)؛ أنه منذ صباح الخميس قبل الماضي ومكتب رئيس الحكومة يضغط على المسؤولين في القاهرة لتأجيل التصويت على مشروع قرار وقف الاستيطان، ولم يتحدث نتنياهو نفسه إلى الرئيس المصري. وترك الأمر للمستوى الأقل، مع تحذيره من تقديم المشروع؛ «لأنه لا يتناسب مع العلاقات الحميمة بين الاثنين وتعاونهما الامني والاستراتيجي»!!.
أصدر السيسي تعليماته بسحب مشروعه، وعلى الفور قدمت نيوزيلندا وماليزيا وفنزويلا والسنغال مشروعا بديلا في الساعات الأخيرة قبيل عطلات أعياد الميلاد؛ مطالبين بالوقف الفوري وعلى نحو كامل لجميع أنشطة الاستيطان في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية. وخرج قرار مجلس الأمن بموافقة 14 عضوا من أصل 15، وامتناع الولايات المتحدة الأمريكية عن التصويت، وحمل القرار رقم 2334، وكان مجرد صدوره على ذلك النحو وبتلك السرعة إنتصارا دبلوماسيا ومعنويا بالغا للسلطة الفلسطينية وللدول المتقدمة بالمشروع وإحراجا بالغا للرئيس المصري!!..
ولم يكن بين من قدموا المشروع دولة عربية واحدة، وهذا يقتضينا التعرف على دول تحملت مسؤولية التصدي للغوغائية الصهيونية، وكلها تبعد فراسخ وأميالا عن فلسطين، وفيها من يقع في أقصى جنوب غرب المحيط الهادي كنيوزيلندا؛ وهي جزر تابعة للتاج البريطاني، ويمثلها «حاكم عام» تعينه الملكة إليزابيث الثانية. ويتولى السلطة التنفيذية فيها حكومة تدير شؤون البلاد بأجناسهم المتنوعة وأصولهم المتعددة، وتبعد عن استراليا بألف ومئتي ميل إلى الجنوب الشرقي.
وماليزيا تقع في جنوب شرق آسيا؛ وعاصمتها كوالامبور، ولغتها الرسمية الانكليزية؛ تغلبت بها على تعدد وتنوع اللغات واللهجات، وتحدّها تايلند وإندونيسيا، وسنغافورة وسلطنة بروناي؛ بالقرب من خط الإستواء، وتنقسم إلى جزءين هما شبه الجزيرة الماليزية، وبورنيو الماليزية أو ماليزيا الشرقية، ويفصل بينهما بحر الصين الجنوبي.
والدولة الثالثة هي جمهورية فنزويلا البوليفارية، وعاصمتها كراكاس ولغتها الأسبانية، واستقلت سنة 1811، وتقع على الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية وذات تنوع بشري كبير، واختلاف في بيئاتها المناخية؛ وتبدأ من جبال الإنديز غربا إلى حوض الأمازون جنوبا؛ مرورا بسهول يانوس وساحل الكاريبي في الوسط، ودلتا نهر أورينوكو إلى الشرق..
وجمهورية السنغال تقع جنوب نهر السنغال وقد حملت اسمه، ويمتد في غرب أفريقيا ويحيطها من الشرق والشمال وينبع من غينيا، ويمر على شاطئ غامبيا القصير المطل على المحيط الأطلسي، وعاصمتها داكار.
والانتصار الدبلوماسي والأدبي هو أقصى ما يمكن الخروج به في ظروف الاعتماد المطلق على «الشرعية الدولية»، وعلى الأمم المتحدة، وتجاهل دورها في إخراج الدولة الصهيونية إلى الوجود، وفي ضمان بقائها وتفوقها على كامل «القارة العربية»، واستمرت على انحيازها وغض الطرف عن قضم أرض فلسطين قطعة قطعة، وتغيير طبيعتها، وكأنها تسلم بادعاء ملكيتها للأرض المقدسة، واستمر تعاملها مع الفلسطينيين بعيدا عن كونهم شعبا له الحق في العيش حرا، وفي استرداد أرضه، والعودة إلى دياره، وتعَويضه عما اغتصب من حقوقه وممتلكاته.
واختلفت النظرة هذه المرة؛ لا لأن الأمم المتحدة غيرت من طبيعتها، ولا تبدلت وظيفة مجلس الأمن، والتغيير الذي حدث طال التفكير والوجدان الغربي، وهو الذي تحمس في الماضي للمشروع الصهيوني وقدم كل ما يستطيع حتى خرج إلى النور، وبدت هذه الحماسة ملموسة ومرئية مع وصول نابليون بونابرت بحملته إلى مصر والشام؛ نهاية القرن الثامن عشر.. ثم تسابقت الامبراطوريتان البريطانية والفرنسية في إيجاد الرحم الذي يضمه.. وأضحى جنينا في المؤتمر الصهيوني الأول بسويسرا سنة 1897، وبعده تكثفت جهودهما لولادة الدولة الصهيونية بقرار التقسيم سنة 1947.
والتغيير الذي حدث في العقود الأخيرة طال الرأي العام، الذي مل الحروب ورفض بشاعات العدوانية الصهيونية؛ وشعر المراقبون والمهتمون بذلك خلال إعداد المسرح السياسي والعسكري والنفسي والدعائي لغزو «القارة العربية» إنطلاقا من العراق، وعلى المستوى الشخصي شعرت بذلك حين شاركت في أول مظاهرة «مليونية» بلندن نهاية عام 2002؛ لتعلن البراءة وعدم تحمـل مسؤولية الحرب؛ رافعة شعار؛ «ليست باسمنا not in our name»، يومها سارت بجانبي سيدة في الثمانين من العمر؛ قالت إنها المرة الأولى في حياتها التي تشارك في مظاهرة، وتحملت مشقة السفر من ويلز وقطع عشرات الأميال لترفع صوتها الرافض للحرب، وكانت واحدة من بين مليوني نسمة في ذلك اليوم المشهود، وخرجت صحيفة «الديلي ميرور» في اليوم التالي، ووضعت صورة ذلك الطوفان البشري على كامل الصفحة الأولى، ووسطها صورة صغيرة لرأس توني بلير وهو يسد أذنيه بأصابعه، وتعليق تقول ترجمته «هل أنت أصم يا سيد بلير؟!».
منذ تلك اللحظة وأنا أتابع وتيرة التغيير وتطوراته، وبدت جلية في شارع بريطاني؛ محافظ بطبعه، ويعيش في جزر متباعدة عن باقي أوروبا، ولا ترتبط معها بحدود مشتركة أو طرق برية، وإذا اعتبرنا الأنفاق طرقا برية فهي بالنسبة للمملكة المتحدة حديثة للغاية، وتم حفر نفق تحت مياه «القنال الانكليزي»؛ المعروف ببحر المانش؛ مخصص لنقل الركاب والبضائع بالسكك الحديدية، بطول تجاوز الخمسين كيلو مترا (أكثر من 31 ميلا)، وهو ثاني أطول أنفاق العالم بعد نفق سيكان الياباني، ويربط بين لندن وباريس وبروكسل، وبدأ العمل سنة 1994.
والتغيير البادي من عقود في الرأي العام البريطاني امتد إلى أوروبا، وأثار ذلك قلق الصهيونية العالمية والدول والمنظمات والمؤسسات والعناصر العنصرية المؤيدة لها؛ وهذا بجانب النجاح المتواصل للحركة الدولية (بي دي إس)؛ اختصار لكلمات؛ المقاطعة.. سحب الاستثمارات.. توقيع العقوبات. ومؤخرا صدر قرار الاتحاد الوطني لطلبة بريطانيا، الذي يمثل ملايين طلاب التعليم العالي والجامعي. ويدين الاستيطان والاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة
وإذا أحسن الرئيس السيسي صنعا فعليه ترك القضية الفلسطينية لحالها، ما دام يجد حرجا في الدفاع عنها أمام ترامب، والشعب المصري ما زال يقاوم التطبيع، ويتحدى أباطرته في مناصبهم ومواقعهم التي يشغلونها في الدولة بقرارات ومراسيم جمهورية؛ ويعرف كيف يتعامل مع فلسطين، ويعي أن اغتصابها هدد كيانه ووجوده وما زال، وليترك الرئيس أمرها للشعب، وهو لن يتخلى عنها أو يدير لها ظهره.
ونعتقد أن ذلك التغيير مؤشر لبداية العد التنازلي لقرب انهيار الهياكل العنصرية التي أقيمت عليها الدولة الصهيونية، بشرط التحرر من أسر الطائفية والمذهبية والقبلية والتعصب، وهم يتعاملون مع هذا الظرف الجديد فيعتدل الميزان؛ ويدفع بالعلماء والمفكرين والكتاب وقادة الرأي لمد جسورهم مع الشرق الناهض، ومع الجماعات المناهضة للعنصرية والحروب والمنخرطة في المقاطعة الدولية، التي صار نموها وانتشارها من معالم الوعي في العالم. وفي النهاية علينا أن نتوقع أن يمارس ترامب وإدارته الجديدة أقصى الضغوط لإفشال قرار مجلس الأمن، بما له؛ هو وبنيامين نتنياهو من تأثير على الرئيس عبد الفتاح السيسي!.
٭ كاتب من مصر