ساسة إسرائيل يعنون ما يقولون
علي الصالح
الساسة الإسرائيليون لا ينطقون عبثا ولا يقولون الشيء لمجرد القول، إنما يعنون ما يقولون، بل ما هو أبعد وأعمق. يختلفون في الرأي خدمة للمصالح الحزبية والشخصية ولكنهم يتناغمون حول ما يخدم الأهداف العامة والمصلحة الوطنية، ويكملون بعضهم بعضا. وهم ايضا يطالبون بشيء وعيونهم على شيء آخر، وهم بالتأكيد غير معنيين بالسلام بل بالمماطلة والتسويف.
في الايام القليلة الماضية «لحس» نتنياهو في مؤتمر صحافي في استراليا، كما عودنا، كل ادعاءاته بشأن السلام، وكشف عن أقصى ما يمكن أن يمنحه للفلسطينيين، وهو حكم ذاتي لا أكثر، بشرط اعترافهم بيهودية إسرائيل.. زعيم المعارضة يتسحاق هيرتزوغ يقترح في مقال لصحيفة «هآرتس» شيئا غير بعيد يعطي الفلسطينيين مزيدا من الصلاحيات، مع وعد ببدء المفاوضات بعد عشر سنوات، إذا «ما التزموا الأدب واوقفوا العنف والتحريض».. وافيغدور ليبرمان دعا مجددا إلى التخلص من فلسطينيي الداخل عبر التبادل السكاني، وهذا طبعا هدفهم الأسمى.
ما تقدم لا يخرج عن نطاق السياسات الاسرائيلية ماضيها وحاضرها، التي لم نحاول أبدا ان نقرأها بعمق ونستوعبها ونتعلم منها، قبل فوات الأوان، وتجد السلطة نفسها في ورطة أمام واقع يقبل فيه الرئيس السيسي والملك عبد الله الثاني، من وراء ظهرها، بيهودية اسرائيل، في قمة رباعية جمعتهما في خليج العقبة مع نتنياهو برعاية وزير الخارجية الامريكي السابق جون كيري.
ولربط الاشياء بعضها ببعض سأحاول إلقاء الضوء على السياسات الاسرائيلية للتذكير، وحتى لا نزعم ان ما يصدر عن ساسة اسرائيل اليوم هو مواقف جديدة وتصريحات مفاجئة..
ـ في عام1973 طرح الوزير إيغال ألون مشروعا يقضي بمنح الحكم الذاتي للتجمعات السكانية الفلسطينية في الضفة الغربية.. بمعنى تخلص الاحتلال من كل الأعباء الإدارية وتبعاتها المالية، وتحقق ما ارادوه بعد نحو عشرين عاما باتفاق اوسلو.
ـ في نهاية اكتوبر1991 دعت امريكا الى مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الاوسط دعما لشركائها من الحكام العرب في حرب الكويت، وبينما هرولت الوفود العربية إلى مدريد، «تمنعت» إسرائيل وشاركت بعد تعرضها ظاهريا في حينها لضغوط من وزير الخارجية الامريكية جيمس بيكر، الذي اطلق مقولته الشهيرة، هذا هو رقم هاتفي ومن اراد السلام فليتصل بي على هذا الرقم». وربطت الولايات المتحدة في حينها بين ضمانات مالية بنحو عشرة مليارات، ومشاركة تل ابيب في مؤتمر مدريد، وانتهى العرس دون نتائج تذكر، باستثناء التطبيع العربي مع دولة الاحتلال. ومقولة رئيس وزراء اسرائيل الليكودي في حينها اسحق شامير، سنتفاوض لعشرات السنوات.
وبعد مرور نحو27 سنة على مؤتمر مدريد لا نزال نراوح مكاننا، ولا تزال اسرائيل تطالب بالتفاوض دون شروط مسبقة من الجانب الفلسطيني، وتضع شرطين للقبول بالتفاوض، الاعتراف بهويتها اليهودية، والقبول بسيطرتها الامنية على فلسطين من النهر إلى البحر.
ـ في13 سبتمبر1993 وقع الفلسطينيون ونتيجة مفاوضات سرية في العاصمة النرويجية أوسلو، في البيت الابيض إعلان مبادئ، أو ما أصبح يعرف باتفاق اوسلو.. واشترط الاسرائيليون قبل توقيع الاتفاق اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة اسرائيل دون مقابل، اللهم إلا اعتراف اسرائيل بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا ووحيدا للفلسطينيين. وبقراءة بنود الاتفاق المرحلي وما تبعه من بروتوكولات.
ـ في عام 1996، وبعد ان جردت اسرائيل منظمة التحرير من ورقة الاعتراف، عملت على تجريدها من ورقة اخرى لا تقل اهمية وهي ورقة الكفاح المسلح. وبناء على طلب اسرائيلي اجتمع المجلس الوطني الفلسطيني في غزة بحضور الرئيس الامريكي بيل كلينتون، ومرة اخر ودون مقابل اسقطت المنظمة خيار الكفاح المسلح، لتحل محله شعار «السلام هو خيارنا الاستراتيجي الوحيد»، دون أن تكون هناك خيارات اخرى.
ومر عام 1999 وهو العام الذي كان يفترض ان ينتهي فيه اعلان المبادئ والاتفاق المؤقت، دون ان تعلن فيه الدولة الفلسطينية كما كان متفقا.
ـ عام 2000 وهو عام فشل مفاوضات كامب ديفيد بين الرئيس عرفات ورئيس وزراء اسرائيل بارك برعاية كلينتون، وهو أيضا عام انتفاضة الاقصى، وضع الساسة الاسرائيليون نصب أعينهم تصفية الرئيس عرفات، فخرجوا علينا بمقولة «عرفات ليس ذا صلة وليس شريكا في عملية السلام. وراحوا يتحدثون عن ضرورة إزالة عقبة عرفات، وإيجاد قائد فلسطيني بديل يكون مقبولا وقابلا للسلام.
ـ في 2004، نجحوا في مخططهم وازيحت عقبة عرفات، بتصفيته في عملية لا تزال السلطة الفلسطينية بعد13 عاما، تعدنا بالكشف عن ملابساتها ورفع الغطاء عن فاعليها من الفلسطينيين الذين تمكنت اجهزة القتل الاسرائيلية من توظيفهم للعمل معها. وقتل عرفات والسلام لا يزال ابعد ما يكون.
ـ في2005 جاء ابو مازن خلفا لعرفات، وكان الاسرائيليون يزعمون بانه يمكن تحقيق السلام معه. ولم يحرز اي تقدم.
ـ 2006 طلعوا علينا بمساعدة المبعوث الخاص للجنة الرباعية توني بلير بشروط التعامل مع حكومة حماس التي شكلت بعد فوزها بالانتخابات، واهمها الاعتراف باسرائيل والقبول بالاتفاقات الموقعة معها ونبذ الارهاب. رفضت حماس الشروط واصبحت العقبة بعد عرفات.
ودخل ارييل شارون في غيبوبة وجاء ايهود اولمرت من بعده.. وتواصلت المفاوضات وجرى التوصل الى تفاهمات وتأكيد مبدأ تبادلية الاراضي.. ولم يدم اولمرت طويلا حتى اسقط في مستنقع الفساد.. وسقطت معه كل التفاهمات التي توصل اليها مع ابو مازن..
ـ 2009 يتولى نتنياهو السلطة ويبدأ مسلسل الاكاذيب، القبول بحل الدولتين، مفاوضات غير مشروطة.. لا تجميد للاستيطان.. مفاوضات تبدأ من الصفر وليس مما انتهت اليه سابقا، ضغوط امريكية ومفاوضات بضمانات امريكية تنتهي في ابريل 2014، كما بدأت.. تواصل البناء الاستيطاني.
ـ 2015 يعاد انتخاب نتنياهو.. يزداد تشددا مع ارتفاع نسبة التطرف والعنصرية في الحكومة الجديدة.. يستغل عملية الاستقطاب الطائفي في المنطقة ويلعب على هذا الوتر الحساس. يصعد من شروطه التعجيزية بالمطالبة بالاعتراف بدولة يهودية وحل اقليمي تشارك فيه الدول العربية السنية، دون ان يعد بأي شيء. يعلن انه لن تقوم دولة فلسطينية في زمنه، ومع رحيل ادارة اوباما، يزيد من شروطه التعجيزية وعاد بمجمل عملية التسوية الى نقطة الصفر، فلم تعد شروطه التعجيزية لقبول دولة فلسطينية، بل لقبول التفاوض مع الفلسطينيين حول حكم ذاتي فحسب..
ويتغول حلفاؤه في الإئتلاف فمنهم من يطالب بضم الضفة.. ومنهم من يطالب باجزاء منها وابقاء الفلسطينيين في معازل وكانتونات.. ومنهم من عاود الحديث عن الخيار الاردني..
وفي قمة العقبة يكافأ نتنياهو على تعنته وتصلبه بقبول عربي لما يسمى بالدولة اليهودية والسلام الاقليمي.. ولم يكن ذلك كافيا، فاشترط استئناف المفاوضات من خلال مؤتمر يشارك فيه السعوديون والإماراتيون ودول سنية أخرى. ورغم القبول بشروطه رفض العرض ليطرح فكرة الحكم الذاتي القائمة منذ حوالي 44 عاما.. ولن تكون اخر الشروط الاسرائيلية.. فهناك الترانسفير وترحيل الفلسطينيين.. والله وحده يعلم بما قد يطالبون به بعد.
اما نحن فبقينا كما كنا.. لم نحاول قراءة التطورات والمتقلبات.. لم نحاول أن نتطور مع تسارع الاحداث والتغيرات.. لم نغير من مواقفنا.. ولم نحدث اساليبنا.. ولم نفتح امامنا آفاقا وخيارات جديدة.. ورضينا كما من قبل ان تبقى مواقفنا مجرد ردود افعال، لا افعالا والى ان نبادر فسيبقى حالنا هو هذا الحال.
هذه الصورة التشاؤمية لا تأخذ طبعا في الحسبان الشعب الفلسطيني.. وهو الذي عودنا على الرد في اللحظة الحاسمة وقول كلمته التي هي كلمة الفصل.. والشواهد كثيرة.
كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»