أربكان.. صانع قادة تركيا الحديثة
هو المعلم الأول وأستاذ تقريب تركيا من محيطها العربي والرجل الذي حمل هم فلسطين واعتبر محامي الدفاع عنها في بلاد الأناضول وكان يقول دوما "إن فلسطين ليست للفلسطينيين وحدهم، و لا للعرب وحدهم، و إنما للمسلمين جميعاً".
الرجل الذي وقف في وجه الدولة العميقة بتركيا وعلى رأسها الجيش الذي لم يرحم من سبقوه ونصب لهم المشانق، عمل بقاعدة "من كان له حية فليحتال" فأخذ يحاول ويجتهد لإنهاء عهد اللائكية التي أرستها الحقبة الأتاتوركية فجعلت رموز الاسلام محاربة في الحياة العامة في بلاد فناله مقابل ذلك الكثير من الأذى.
اختلف مع تلاميذه الذين اجترحوا الحلول الفعالة لاستعادة زمام الدولة وتخليصها من الحقبة الأمنية والعسكرية بالتدريج ولكنهم لم ينسوا فضله عليهم فوقفوا جميعهم في يوم وفاته التي تصادف اليوم ولا يزالون يذكرونه بكثير من الثناء.
ولد نجم الدين أربكان عام 1926م في مدينة سينوب بأقصى الشمال التركي وتلقى علومه الأساسية فيها، ثم أنهى دراسته الثانوية في عام 1943 ودرس الهندسة الميكانيكية في جامعة الهندسة باسطنبول ثم حصل على بعثة لاكمال دراساته العليا في ألمانيا فعاد بشهادة الدكتوراه بهندسة المحركات عام 1953.
بعد عودته من ألمانيا بدأ أربكان العمل في الحقل الأكاديمي وفي ذات التخصص والجامعة التي أوفدته لألمانيا وبدأ نشاطه السياسي حيث أصبح رئيساً لاتحاد النقابات التجارية ثم انتخب عضوا في مجلس النواب عقب تشكيله لحزب النظام الوطني الذي تم حله بعد ذلك بفترة قصيرة " لمخالفته النظام العلماني"، ولم تفتر همته حيث أسس بعد ذلك حزب السلامة الوطني عام 1972م، مستغلا صدور عفو عام عن الجرائم السياسية التي كانت منعت أعضاء حزبه من ممارسة السياسة لخمس سنوات، حيث حصل حزبه على خمسين مقعدا أهلته لدخول الحكومة مع حزب الشعب الجمهوري، حصل منها على 7 حقائب هامة من بينها الداخلية وكان أربكان نائبا لرئيس الوزراء.
لم تدم الحكومة الائتلافية أكثر من تسعة أشهر ولكن ذلك لم يفت من عضد أربكان وشباب حزبه الذين قدموا مشروع قانون إلى مجلس النواب يدعو الحكومة التركية إلى قطع علاقاتها مع "إسرائيل"، ثم عادوا وانضموا للحكومة الجديدة، ليأتي الرد من الجيش هذه المرة وعبر قائده كنعان إيفرين الذي قاد انقلاباً عسكرياً أطاح بالائتلاف الحاكم .
وجد أربكان نفسه ينتقل من الوزارة إلى السجن بفعل الانقلاب ليخرج بعد 3 سنوات كان الرئيس فيها قد تغير، فعاد من جديد وأعلن عام 1983 عن تاسيس حزب الرفاه، الذي بقي يحاول تجذير خطاه في الحياة السياسية التركية حتى نجح عام 1996 بالوصول قيادة الحكومة بزعامة أربكان.
قبل الجيش على مضض وجود أربكان على رأس الحكومة إلا أنه أراد تكييف وجوده بشكل يخدم توجهات العسكر المهيمنين على الحياة السياسية في البلاد ففرضوا عليه عليه قرارات لـ" محاربة الرجعية" وهو تعبير يهدف لمحاصرة أي خطوات تصب في خدمة برنامجه السياسي، فاضطر الرجل لتقديم استقالته من منصبه قبل أن يودعه "حراس المعبد" في السجن مرة أخرى.
ورغم تجنب أربكان لاستفزاز الجيش إلا أن الجنرالات قاموا عام 1998م بحظر حزب الرفاه وإحالته إلى القضاء مجددا ومنعه من ممارسة السياسة لخمس سنوات، فأسس حزباً جديداً باسم الفضيلة وتعرض الحزب للحظر عام 2000م ليتم تشكيل حزب من تلامذة أربكان المنشقين من حزبه وأعلنوا تشكيل حزب الحرية والعدالة.
وصل حزب الحرية والعدالة للسلطة عام 2002 بنتيجة كبيرة إلا أن أربكان مضى في طريقه منفصلا عن الحزب الجديد فأسس حزب السعادة عام 2003، فتم سجنه هذه المرة بهمة اختلاس أموال من حزبه القديم "الرفاه" وكان عمره آنذاك 77 عاما، ليعود تلامذته ويقرروا الإفراج عنه عام 2008 نظرا لتدهور حالته الصحية، وكان طلابه قد نجحوا بتحييد الجيش جزئيا إلا أن خطواتهم ظلت محفوفة بالخطر وهو ما منعهم من الإفراج عن معلمهم في ظل مشيهم على الجمر للاستقرار في حكم البلاد.
رحل أربكان وشهدت جنازته حضورا لافتا من شخصيات إسلامية عدة قدرت له جهوده لبناء تركيا المدنية وإبعاد العسكر عن السياسة وإنهاء نفوذ اللوبيت الأمريكية والإسرائيلية في بلاده ورع في نفوس قادة تركيا الحديثة النزاهة والمسؤولية لبناء تركيا التي كان يحلم أن تصبح نموذجا في الشرق يعيد له ألقه من جديد.