(الانتحار)..
الفلسفة العدمية من قرون غابرة تعود لمجتمعاتنا من جديد
محمد قاسم
تتسلل العدمية إلى مجتمعاتنا الإسلامية وهذه المجتمعات في حالة يرثى لها من ضيق العيش وكبت للحريات فترى العدمية مجالا خصبا للنماء والانتشار وتغيير الأفكار، إن ضعف الوازع الديني بل موت هذا الوازع وموت فكرة العود الأبدي هي من تنشر العدمية داخل المجتمعات، ثم إن لعبة العبثية التي تمارسها الدكتاتوريات العربية هي أيضا تغذي العدمية وتمكّن لها في المجتمات العربية والإسلامية.
والنتيجة الحتمية لهذه العبثية ولهذه العدمية هي الانتحار المنتشر في بلادنا كانتشار النار في الهشيم يبدأ صغيرا ثم تكبر شيئا فشيئا، ثم هناك مغذ آخر للعدمية وهي تلك الفتاوي العبثية أيضاً التي تصور الانتحار استشهادا وبطولة وكأن المفتي هو "نيتشه" أو "دوستويفسكي"، لا غرابة فيما أقول فإن هذه الفتوى تمثل العدمية في صورة كنسية دينية غير عادلة.
يقول الفيلسوف صاحب كتاب "على ذرى اليأس" إميل سيوران: "كل شيء سيبقى كما كان وسيظل بالتأكيد مستقبلا كما هو إلى أن يأتي الزمن الذي يتوقف فيه عن الوجود"، وأضاف "بغض النظر عمّا يقوم به الإنسان فسيأتي اليوم الذي يندم فيه على ما قام به عاجلا أم آجلا" من كتاب "مساوئ أن تُولَد".
يقول أستاذ الجيل والمعلم الأول! سيرجي نيكاييف :"يجب أن يؤمن الثوري بالفناء الكامل في الثورة ولا يستطيع ذلك إلا من استهتر بالمشاعر والعواطف والعلاقات البشرية، يجب أن يؤمن الثوري في أعماقه إيمانا نهائيا بأنه قد قطع كافة علاقاته بالمجتمع قولا وعملا، وألغى ارتباطاته بالحضارة الإنسانية وقوانينها وأخلاقياتها، ووقف منها جميعا موقف العداء الحاسم، وأن العلاقة الوحيدة التي تقوم بينه وبين المجتمع هي تدمير ذلك المجتمع، الثوري يحتقر منجزات العلم ولكنه يستعملها في التدمير والهدم، وهو يكره كل شيء، ولكنه يدرس نفسية المجتمع وطبائع الناس للتعجيل في تدمير الأنظمة القذرة"!
ثم يضيف نيكاييف :"الثوري يحتقر الرأي العام ويدوس المبادئ الأخلاقية ويعرّف الخلق بأنه وسيلة التدمير، كما يعرف اللاخلق بأنه كل ما يقف في وجه تلك الغاية".
يقول نيتشه حين يصف الحضارة رابطا إياها بالعدمية بأنها :"التخلي الجذري عن القيم، وعن المعنى وعما يرغب فيه"، ويقول مؤلفوا أطلس الفلسفة [بيتر كونزمان، وفرانزــــــــ بيتر بوركارد، واكسل فايس] عن نيتشه والعدمية :"لا قيمة تعزى إلى القيم السامية، لقد تهاوت على ذاتها ... لقد حمل العالم بذور العدم ولم يفعل نيتشه أكثر من استشعارها"، لقد مات الإله لدى نيتشه هكذا تكلم زراداشت وماتت مع الإله كل القيم وكل الأخلاق وكل شيء لا معنى لهذا العالم سوى العدم!
إن حركة العبثية التي تقوم بها الدكتاتوريات العربية تأخذ بالإنسان فجأة وتضعه تجاه الغربة وتجاه العدمية؛ وذلك حين تنهار كواليس الحياة اليومية ويشعر المواطن داخل وطنه بالغربة حين يستجدي المواطن حقوقه ممن يسرقها ويسلبها منه خلسة أو أمام ناظريه، ومع ذلك لا يستطيع المواطن الحراك ولا الكلام ولا التنفس حتى، هناك وفي أعماق ذلك الشعور يصطدم بالعدم بالموت المحتم بالانتحار، وهو ينشد في عدمه المستحيل، وهو يقول كما قالت فارتر في آلامها :"إنك لحالم إذ تنشد في هذه الحياة ما لن تجده في هذه الدنيا".
حين تصنع الدكتاتوريات هوة طبقية سحيقة بين المواطنين، بين الغني والفقير، فالفقير يزداد فقرا والغني يزداد غنا، وتسحق الطبقة الفقير وتنهار الطبقة المتوسطة، حينها لا يجد الإنسان ملجأ ولا مفرا من العدم، وعندما يجد الإنسان المبرر للدخول في وحدة العدم من فتاوى عبثية لا أظن أنها تصدر من عمائم ولحى بل تصدر من قبعات وَيْكأنها تصدر من فيلسوف الشعوب ومفتيها "ألبرت كامو".
فكأن هذا المنتحر هو رمز التحرر وهو في الحقيقة رمز العدمية، كأن هذا المنتحر هو هو بروميثيوس الذي سرق النار من الآلهة ليهديها إلى الإنسان وهذا المنتحر يسرق البسمة من وجوه الدكتاتوريات ليهديها إلى الفقراء، يسرق لهم الحرية من القوانين الجائرة ليهديها إلى المعذبين في كل مكان ولكنه في الحقيقة لا يسرق إلا حياته ليهديها إلى العدم ويسرق الابتسامة من وجوه محبيه وأقربائه ليبعثها إلى العدم، فكما يقول الرجل العجوز في رواية البيت المائل :"الناس في الغالب يقتلون من يحبون أكثر من قتلهم من يكرهون؛ لأن الذين تحبهم هم وحدهم الذين يستطيعون أن يجعلوا حياتك لا تطاق".
نتصور هذا المنتحر وكأنه الرجل السوبرمان الإنسان الأسمى الذي تحرر من كل قيود المجتمع وتحرر من كل الأغلال التي تكبله، إنه ذلك الإنسان المتمرد على القوانين وكل القيود وعلى كل الأنظمة والحكومات متمرد على العادات والتقاليد إنه الرجل البطل الذي سيصنع الحرية للملايين البائسة، إنه الرجل الذي يخلق لنفسه الحرية ولا مقدس عنده حتى تجاه الواجب، بل هو الطفل الذي أشار إليه نيتشه؛ الطفل الذي يخلق قيما جديدة في المجتمع، ولكنه في الحقيقة الرجل الذي تحرر من الحياة إلى العدم ودفعته سياسة العبث إلى التحول بروحه من الوجود إلى العدم.
هو الرجل الذي لم يتحرر إلا من هذه الحياة لم يتحرر إلا من دينه وأخلاقه، هو في الحقيقة لم يتحرر إلا من المسؤوليات الملقات على عاتقه، فالتحرر هو أن تعيش في هذه الحياة وتحاول أن تقاوم كل عدو لك والبطولة أن تُقدِم على التغيير في نفسك أولا ثم في المجتمع ثانيا حتى تصل إلى قمة حقوقك التي ستنتزع انتزاعا من العبثيين، وهؤلاء العبثيون سيأتيهم يومهم، يقول "دمبلدور" مدير مدرسة "هوجورتس" للسحر والشعوذة وهو أعظم ساحر في العالم :"لقد أوجد (فولدمورت) سيد الظلام ألد أعدائه بنفسه، كما يفعل الطغاة في كل مكان!
هل تعلم مدى خوف الطغاة من الناس الذين يقهرونهم؟ كلهم يدركون أن اليوم سيأتي ليظهر شخص من بين ضحاياهم الكثيرين ليثور ويثأر"[رواية مقدسات الموت السبعة]، إن هذه الحياة هي عبارة عن صراع بين ملائكة وشياطين وعلينا جميعا أن ننظم إلى هذا الصراع وأن نقف في أحد الصفيين.
إن ابتعادنا عن الدين وأخلاقه وقيمه هو من صنع العبثية فكما تكونوا يولّ عليكم، إن ابتعادنا عن إسلامنا هو من صنع لنا العدمية، إن نسيان ماضينا والتنكر لحضارتنا وشتم الماضي والركض وراء الحداثة الزائفة، واللهث وراء الأمم التي تريد دمارنا وعدمنا هو من يصنع لنا العبثية والعدم، فعلينا أن نعود لحضارتنا ولتاريخنا ونصنع مستقبلنا ونقاوم كل الأشواك التي في الطريق وننظر إلى النور الأبدي الذي سنصنعه بأيدينا لنا وللأجيال القادمة.
نعم أنت إن لم تقدّم في الحياة لن تجد في عدمك شيئا، الإنسان ما يصنع لا ما يأمل ويحلم، إن بروميثيوس هو من اختار هذا القدر وسرق النار ولكنه سيغنّي يوما ما لأنه قدم شيئا للبشرية إن بروميثيوس ليس عدميا بل هو صاحب هدف وعلى الإنسان في هذه الحياة أن يغني أغنية الجبار "بروميثيوس" لــ"أبو القاسم الشابي"..
سَأعيشُ رَغْمَ الدَّاءِ والأَعداءِ****كالنَّسْر فوقَ القِمَّةِ الشَّمَّـاءِ
أرْنُو إلى الشَّمْسِ المُضِيئةِ هازِئاً****بالسُّحْبِ والأَمطار والأَنـواءِ
لا أرْمقُ الظِّلَّ الكئيبَ ولا أرَى****مَا في قَـرارِ الهُوَّةِ السَّوداءِ
وأَسيرُ في دُنيا المَشَاعرِ حالِماً****غَرِداً وتلكَ سَعادةُ الشعَراءِ
أُصْغي لمُوسيقى الحَياةِ وَوَحْيِها****وأذيبُ روحَ الكَوْنِ في إنْشَائي
وأُصيخُ للصَّوتِ الإِلهيِّ الَّذي****يُحْيي بقلبي مَيِّتَ الأَصْـداءِ
وأقولُ للقَدَرِ الَّذي لا ينثني****عَنْ حَرْبِ آمـالي بكلِّ بَلاءِ:
لا يُطْفِئُ اللَّهبَ المؤجَّجَ في دمي****موجُ الأسى وعواصفُ الأَرزاءِ
فاهدمْ فؤادي ما استطعتَ فإنَّهُ****سيكون مثلَ الصَّخرة الصَّمَّاءِ
لا يعرفُ الشَّكوى الذليلَة والبكا****وضراعَة الأَطفالِ والضّعفاءِ
ويعيشُ جبَّاراً يُحدِّق دائماً****بالفجر .. بالفجرِ الجميلِ النَّائي
واملأ طريقي بالمخاوفِ والدُّجى****وزوابعِ الأَشـواكِ والحصباءِ
وانْشر عليه الرُّعب وانثر فوقه****رُجُمَ الرَّدى وصواعقَ البأساءِ
سَأَظلُّ أمشي رغمَ ذلك عازفاً**** قيثـارتي مترنِّمـاً بغنـائي
أَمشي بروحٍ حـالمٍ متوهج****في ظُـلمةِ الآلامِ والأَدواءِ
النُّور في قلبي وبينَ جوانحي****فَعَلامَ أخشى السَّيرَ في الظلماءِ
إنِّي أنا النَّايُ الَّذي لا تنتهي**** أنغامُهُ مـا دام في الأَحيـاءِ
وأنا الخِضَمُّ الرحْبُ ليس تزيدُهُ**** إلاَّ حياةً سَطْـوةُ الأَنـواءِ
أمَّا إِذا خمدت حياتي وانقضى****عُمري وأخرسَـتِ المنيَّةُ نائي
وخبا لهيبُ الكون في قلبي الَّذي**** قد عاش مِثْلَ الشُّعْلَةِ الحمـراءِ
فأنا السَّعيد بأنَّـني مُتحـوِّلٌ**** عن عـالمِ الآثـامِ والبغضاءِ
لأذوبَ في فجر الجمال السرمديِّ****وأرتوي من مَنْهَلِ الأَضـواءِ
وأَقولُ للجَمْعِ الَّذين تجشَّموا**** هَدْمي وودُّوا لو يخرُّ بنـائي
ورأوْا على الأَشواكِ ظلِّيَ هامِداً**** فتخيَّلوا أَنِّي قضيْتُ ذَمـائي
وغدوْا يَشُبُّون اللَّهيبَ بكلِّ ما**** وجدوا ليشوُوا فوقَهُ أشلائي
ومضَوْا يَمُدُّونَ الخُوَانَ ليأكلوا**** لحمي ويرتشفوا عليه دِمائي
إنِّي أقولُ لهمْ ووجهي مُشرقٌ****وعلى شفاهي بَسْمَةُ استهزاءِ
إنَّ المعـاوِلَ لا تَهُدُّ مناكبي****والنَّارَ لا تأتي عل أعضائي
فارموا إلى النَّار الحشائشَ والعبوا**** يا مَعْشَرَ الأَطفالِ تحتَ سَمائي
وإذا تمرَّدتِ العَواصفُ وانتشى****بالهولِ قلْبُ القبَّةِ الزَّرقـاءِ
ورأيتمـوني طائـراً مترنِّمـاً**** فوقَ الزَّوابعِ في الفَضاءِ النَّائي
فارموا على ظلِّي الحجارةَ واختفوا****خَوْفَ الرِّياحِ الْهوجِ والأَنواءِ
وهناكَ في أمنِ البيوتِ تطارحوا****غَثَّ الحـديثِ وميِّتَ الآراءِ
وترنَّموا مـا شئتمُ بِشَتَائمي****وتجاهَروا مـا شئتمُ بعِدائي
أمَّا أنا فأُجيبكمْ مِنْ فوقـكمْ**** والشَّمسُ والشَّفقُ الجميل إزائي
مَنْ جَاشَ بالوحي المقدَّسِ قلبُه**** لم يحتفل بحِجَـارةِ الفلتاءِ