قيام المجتمعات والحضارات.. كيف تنشأ الدولة "المدينة"
سعيد الناصر
يقول ابن خلدون في مقدمته عن طبيعة البشر المتجه نحو التجمع والتكتل على شكل مجتمعات :"ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدني بالطبع)؛ أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معنى العمران". إن طبيعة خلق الإنسان تجعله محتاجا في كل شؤون حياته إلى من يعاونه على العيش؛ فهو بحاجة إلى طعام وشراب وبحاجة إلى لباس ومسكن وبحاجة إلى إشباع غريزته الجنسية مما تجعله يرتبط بأشخاص آخرين وتجعل لديه شبكة من العلاقات "الأسرة والأصهار وغيرهم"، وحاجة الإنسان إلى الأمور الأساسية في حياته ليبقى على قيد الحياة الطعام واللباس .. إلخ؛ تجعله أيضا يقيم شبكة من العلاقات الاجتماعية لأن الإنسان لا يستطيع القيام بجميع هذه الأمور بمفرده.
ثم هناك جانب آخر في الإنسان وهو الجانب الفكري والروحي؛ وهذا يحتاج إلى تغذية ويدفع الإنسان إلى حب الاستكشاف والمغامرة والبحث عن العلم والحقيقة فيحتاج في حياته إلى معلم وإلى من يعينه على فهم بعض الظواهر، وهذا الجانب أيضا ينشئ شبكة علاقات اجتماعية لدى النوع الإنساني.
والمجتمعات نوعان مجتمعات بدائية تبحث فقط عن أسباب استمرارها على قيد الحياة؛ أي أنها مجتمعات تنظر إلى الجانب الجسماني من الإنسان الذي هو "الحيوان الناطق"، فهي تبحث عن جانب الحيوانية وتغذية هذا الجانب، وإن كان لديها بعض الأمور الروحية والفكرية والنفسية "الناطقية في حقيقة الإنسان" فيكون ذلك فقط لتكميل اللذة الجسمانية لديه.
ومثال هذه المجتمعات هي المجتمعات العربية البدوية التي كانت تقطن الجزيرة العربية، وكذلك المجتمعات المغولية القديمة والمجتمعات الإفريقية قبل وصول الحضارات إليها.
وهناك مجتمعات متطورة أو متحضرة وإن كنت لا أريد استخدام مصطلح الحضارة للتعبير عن هذه المجتمعات لأن كثيرا منها متمدن ولديه تطور ولكنه غير متحضر فنريد البحث عن مصطلح الحضارة ولكن لنرجئه إلى وقته.
والذي نريد أن نبحثه هنا كيف تتشكل المجتمعات المتمدنة أو "المدنية" بصطلاح الحكماء (الفلاسفة)، إن المجتمعات تتشكل بطريقتين إما أن تتشكل عن طريق ظروف طبيعية (جغرافية) كما حصل في أمريكا؛ فإن هجرة السكان الأوربيين إلى أمريكا دفعتهم إلى إنشاء مجتمع (أي مدينة)؛ مع أنهم كانوا مختلفن في طباعهم وأفكارهم وتوجهاتهم الاجتماعية والدينية ولكن الظروف التي مروا بها والهجرة إلى بلد جديد جعلتهم يقيمون مدينة.
وكذلك الحال في مجتمع الأسكيمو الذي تكون بسبب هجرة المجتمعات المغولية الصينية في الشرق الأقصى.
وهناك مجتمعات تشكلت بسبب فكرة؛ أي أنها مجتمعات ومدن أيديولوجية، فكان المقوم الرئيس لهذه المدينة هي فكرة ورسالة يريد أصحابها إيصالها إلى البشرية وتطبيقها في واقع حياتهم وهذه الفكرة وهذه الأيديولوجية هي المكون الرئيس لهذه المجتمعات، بحيث إذا فُقدت هذه الفكرة يَفقِد المجتمع مبرر وجوده وينخرط في مجتمعات أخرى بل يصبح مجتمعاً متخلفاً بلا أية قيمة ولا إنجاز ولا هدف.
والمثال على هذه المدينة هي المجتمعات المسلمة فقد قامت هذه المدينة على أساس فكري عقدي أيديولوجي وكانت هذه المدينة صاحبة رسالة ومبشرة للعالم كله وفاتحة للمجتمعات الأخرى، لقد قام المجتمع الإسلامي (المدينة الإسلامية) على أسس أيديولوجية بحتة لم يكن الهدف من قيام هذه المدينة أي أمر يخص الجانب الحيواني من مفهوم الإنسان بل كان قيام هذه المجتمعات من أجل الجانب الفكري الروحي "الناطق" من حقيقة الإنسان.
ولا يعني ذلك أن هذا المجتمع أهمل الجانب الجسدي أو الحيواني بل قام بتنظيمه وتقنينة بشكل يضمن استمرار هذا المجتمع وقام بترقية هذا الجانب فجعل له آداب تميزه عن الحيوان، ولكن لم يكن هذا الجانب هو الأساس في نشوء هذه المدينة.
ونخالف هنا بعض المفكرين الذين لهم مكانة في عالمنا الإسلامي وفي عالمنا الروحاني أن هناك مجتمعات أخرى أيديولوجية كالمجتمع المسلم، فالمجتمع النصراني عندما تشكل لم يكن الهدف الرئيس منه هو الفكرة والروح والجانب الناطقي من الإنسان ولم يكن صاحب فكرة بل جعل النصرانية وسيلة لتجميع الشعوب المختلفة حول مملكة واحدة وتخفيف النزاعات القائمة.
إن قسطنطين وما فعله في مجمع نيقية ما كان يهدف من ورائه أية أهداف فكرية بل كان الهدف ـــ من وراء إقرار الدين المسيحي للحاضرة الأوروبية وحتى الشرق ــــ هو تثبيت ملكه وبسط نفوذ مملكته على بقاع كبيرة من الأرض؛ فهو لم يكن صاحب رسالة أو فكرة أيديولوجية.
وحتى عندما استُخدم الدين المسيحي لإلهاب مشاعر الشعوب وقامت الحروب كان كل شيء يسير من أجل بقاء المجتمع الطبقي متماسكا، وكانت الكنيسة نفسها طبقية صاحبة إقطاع، فالجانب الروحي الفكري بعيد كل البعد عن المجتمعات "الصليبية" في ذلك الوقت، وهذا ظاهر جلي في طبيعة المجتمع الصليبي وفي طبيعة الحروب الصليبية وتعامل هذا المجتمع مع غيره من المجتمعات.
أما المجتمع الإسلامي فقد كان صاحب فكرة لم يكن مجتمعاً طبقياً حيث كانت حروبه تمثل فكرته؛ فلم يقطعوا شجرة ولم يقتلوا طفلا ولا امرأة ولم يعتدوا على صاحب صومعة في صومعته، فعندما دخل عمر بن الخطاب لبيت المقدس وعندما دخل صلاح الدين الأيوبي إلى بيت المقدس مرة أخرى لم يفعل ما فعله الصليبيون عندما دخلوا بيت المقدس، فعندما دخل المدينة المسلمون حل فيها السلام، وعندما دخلها الصليبيون حل فيها الدمار والقتل حتى قال مؤرخوهم إن الدماء وصلت إلى الركب من شدة القتل في الرجال المسلمين والنساء والأطفال.
وكذلك الحال عندما دخل المسلمون باقي البلدان كانوا يسعون في تطوير البلاد من الناحية الصناعية والاقتصادية والفكرية ويتركون للمواطنين حرية اختيار الدين فينشرون الحريات على نطاق واسع لا يستخدمون القوة والقتل والتعذيب على العكس من الصليبيين أو المغول فبشاعة ما فعله النصارى في القدس والأندلس وبشاعة ما فعله المغول في بغداد وكثير من حواضر العالم الإسلامي وما فعله المستعمر الحديث في كثير من دول العالم الإسلامي يدلل على عدم وجود حضارة لدى هؤلاء أو رسالة أو فكر، فهم يعيشون على التخريب لا الإعمار والبناء ونشر الأفكار والحريات كما فعل المسلمون.
إذن فنحن نزعم أنه لا يوجد مجتمع ومدينة فكرية وأيديولوجية غير المجتمع الإسلامي والمدينة الإسلامية، ولا يوجد أصحاب رسالة يريدون نشرها واقناع الناس بها بالحجة والبرهان والتطبيق غير "مدينة" المسلمين.
وأما باقي المجتمعات والمدن هي مدن جغرافية وتشكلت بسبب عوامل طبيعية وانتخاب طبيعي لا أكثر، وإن كانت تحمل في بعض الأحيان مجموعة من الأفكار التي تريد تطبيقها على نفس مدينتها ولكنها في ذات الوقت تطبق على باقي المجتمعات البشرية أفكاراً وسياسات مختلفة، والاستعمار الغربي الأوروبي خير مثال على ذلك ومن قبله الصليبيون وحروبهم ومن قبلهم المغول وحروبهم.
ونحن نرى كثيراً من الشعوب تأثرت بالحضارة الإسلامية، تأثرت إلى مدى بعيد بالمدينة الإسلامية حتى أن كثيرا من الشعوب تركت لغتها الأم وأصبحت تؤلف وتكتب باللغة العربية لغة مدينة الإسلام، وكثيراً من الشعوب أصبحت تكتب لغاتها بالأحرف العربية وهذا يدل على مدى التأثير الفكري، فاللغة هي أساس الفكر والحضارة وانتشار اللغة بهذه الطريقة وهذا الاتساع ودون إجبار يدل على مدى التأثر بالأيديولوجية الإسلامية والأفكار والرسالة التي كانت تبثها المدينة الإسلامية في شعوب الأرض.
والذي نتوصل إليه من خلال هذا العرض السريع أن المجتمع المسلم هو مجتمع أيديولوجي فكري قام بإنشاء حضارة ممتدة شملت أغلب أصقاع الأرض أو العالم القديم وأثّرت إلى مدى بعيد في جميع المجتمعات والمدنيات.
ونحن نهدف في هذه السلسلة من المقالات أن نلتمس الطريق والمقومات التي تصنع الأمم وتنشئ المجتمعات الأيديولوجية لنرسم طريق الحضارة للجيل وكيف يمكن أن نعيد للأمة الإسلامية مجدها وتاريخها العريق المليء بالإنجازات.