سوق اليمنية : باشوات عمان مروا من هنا
يتذكر زبائن سوق اليمنية وتجاره القدامى ذلك الحريق الهائل الذي شب في السوق عام 1956 وآتى على المحلات بما فيها من بضائع ، الحريق الذي صار حديث العاصمة في تلك الايام ، استدعى حضور الملك الراحل الحسين واشرافه بشكل مباشر على عمليات الاطفاء التي شاركت فيها سيارات الاطفاء التابعة للجيش البريطاني.
الروايات التي تحدثت عن الحريق قالت ان خطأ غير مقصود ارتكبه عامل هندي كان يعمل"مكوجيا"في احد المحلات المتخصصة ببيع الملابس المستعملة ، هو الذي ادى الى اشتعال النيران في ذلك السوق الذي يعد واحدا من اقدم اسواق عمان التي ما تزال تحتفظ بوظيفتها حتى اليوم.
التسمية الشعبية في توصيف السوق والتعريف به ، فرضت نفسها على العمانيين وضيوف المدينة وزوارها ، فصار اسم"سوق اليمنية" ملتصقا بالمكان ، حيث تؤكد الروايات ان عددا من الاشقاء اليمنيين الذين رافقوا طلائع جيش الثورة العربية الكبرى بقيادة الملك المؤسس الى عمان مطلع عشرينيات القرن الماضي ، هم وابناؤهم اول من اتخذ من ذلك المكان الواقع بين جسر الحمام والمسجد الحسيني بموازاة سيل عمان وبمواجهة "البخارية" ، سوقا لبيع بضاعتهم من الملابس والاحذية المستعملة ، التي كان يتم الحصول عليها بالقنطار من الجيش البريطاني ، ولاقت رواجا لافتا في تلك الفترة ، وهذا ما دفع صاحب الارض التي احتضنت ذلك السوق وصفي باشا ميرزا للتفكير بتنظيم العمل من خلال بناء سوق يكون مركزا تجاريا مهما في عمان التي بدأت تتوسع في وظيفتها السياسية والاقتصادية والجتماعية في تلك المرحلة ، فتم ذلك عام 1948 العام الذي شهد هجرة اعداد كبيرة من الفلسطينيين اثر النكبة ، كما تشير الروايات المتداولة ، وضم السوق محلات عديدة لبيع الملابس والاحذية المستعملة ، ومحلات اخرى لبيع دخان"الهيشي" ومحلات غيرها للحلاقة وهكذا ، وقد تميزت تلك المحلات بطريقة بنائها البدائية التي كانت عبارة عن "براكيات" خشبية مسقوفة بجذوع الاشجار ، الامر الذي جعل منها مادة سهلة الاشتعال في ذلك الحريق الذي تحدثت عن هول نتائجه المدينة بكاملها.
وتضيف الرواية ان تجار السوق الذين لحقت بهم خسائر كبيرة ، وبعد ان خمدت نيران الحريق ، اجتمعوا مع صاحب الارض وصفي باشا ميرزا وتفاوضوا حول الطريقة الافضل لاعادة بناء السوق الشعبي ، وتوصلوا مع الباشا ان يقوم كل تاجر منهم ببناء محله على حسابه الخاص في وقت يلتزم فيه الباشا بالمحافظة على الاجرة القديمة التي لم تكن تتجاوز في الغالب الدينار ونصف الدينار شهرياً ، وهكذا عادت تلك المحلات لاستقبال زبائنها القادمين من اطراف العاصمة وخارجها ، بحثا عن حاجتهم من تلك البضاعة التي لا تتوفر الا في سوق اليمنية.
باشوات وشيوخ عشائر ووجهاء وموظفون كبار في اجهزة الدولة ومؤسساتها ، كانوا يترددون على السوق ، وصاروا زبائن دائمين لمحلات بيع الملابس او دخان الهيشي او صالونات الحلاقة المعروفة بكراسي القش الصغيرة التي غالبا ما كان الحلاق فيها يمارس وظيفة الطبيب الشعبي الى جانب مهنته .
ليس مهما اذا كان اصحاب المحلات الكثيرة في السوق الذي احتفظ بمكانه ووظيفته الاجتماعية والاقتصادية ، ينتسبون الى أولئك الاباء والاجداد الذين فرشوا بضاعتهم الاولى هناك على حافة السيل الذي كان سمة بارزة من سمات عمان ، قريبا من نداء الله اكبر وهو يتردد من الجامع الذي منح المنطقة مبررات حركتها ونشاطها ، لكن المهم ان بصمات أولئك الرواد ما تزال حاضرة في نشاط السوق الذي حمل اسمهم ، في صورة واضحة لعمان العتيقة التي ظلت حاضنة للاشقاء العرب من كل المنابت والاصول.
المنطقة المحيطة بسوق اليمنية ، هي اليوم قلب العاصمة النابض بالحركة والنشاط ، وفي رؤية الشعراء وفلسفتهم هي المنطقة الوحيدة المختلفة ، بالمقارنة مع مناطق عمان الاخرى التي تتشابه الى حد كبير بشوارعها وطرق معمار بيوتها ، ليظل وسط البلد ، والاسواق التي تفتح ابوابها للشمس كل صباح على علاقة وثيقة بالعمانيين من مختلف الشرائح الاجتماعية ، ففي هذا الوسط المتحرك يسير الوزير والخفير ، ويتردد على اسواقه الاغنياء والفقراء ، ابناء المدينة وضيوفها ، من الرجال والنساء والفتيان ، وكل يبحث عن ضالته في محلات لم تكسر اقفالها السنين المتراكمة والارث الذي صار واحدا من علاماتها الفارقة .
تبدلت وجوه الزبائن واصحاب المحلات ، لكن وظيفة السوق لم تتغير ، وهي تكاد تكون متخصصة ببيع الملابس المستعملة ، لكن محلات اخرى فتحت ابوابها لمهن مغايرة ، لا تتقاطع مع مهنة السوق المعروفة بل تقدمه للزبائن بصورة جديدة ، فيها من التنوع الذي يفتح فضاء المحلات على اهتمامات الزبائن الذين يبحثون عن بضاعة مختلفة.