مدينة الكاف التونسية موطن النسيم العليل والفن الأصيل
تونس ـ «القدس العربي»: تقع مدينة الكاف التونسية في الشمال الغربي للبلاد على مقربة من الحدود الجزائرية وتبعد عن العاصمة قرابة المئة وستين كيلومترا. بنيت الكاف على جبل مرتفع مشرف على سهول شاسعة ما جعلها موقعا حصينا للدفاع والمراقبة خاصة خلال الفترة التي أدخل فيها الإنكشارية العثمانيون من بايات ودايات وآغاوات وغيرهم، التونسيين والجزائريين في حروب لا فائدة ترجى منها، ولا علاقة لها بمصالح الشعبين الشقيقين والجارين.
ويجعل هذا الموقع المتميز، إضافة إلى الارتفاع، من المدينة مقصدا للزوار من مختلف أنحاء الجمهورية للتنعم بهوائها النقي ونسيمها العليل المعروف باسم «النسمة الكافية». كما يجعلها هذا الموقع، عالية وباردة في موسم التساقطات مع نزول للثلوج في أحيان كثيرة بكميات هامة ولافتة بالمقارنة مع باقي مدن البلاد.
ومدينة الكاف هي مركز لولاية تحمل اسمها، تضم مدنا أخرى وقرى وأرياف يمكن أن نذكر منها تاجروين والجريصة وساقية سيدي يوسف وقلعة سنان والسرس ونبر وغيرها. وتحد ولاية الكاف شمالا ولاية جندوبة وشرقا ولاية سليانة وجنوبا ولاية القصرين، وغربا الجزائر التي لها قنصلية في الكاف تعنى بشؤون مواطنيها الذين يتواجدون بأعداد لافتة.
أمازيغية أم فينيقية أم رومانية؟
وينسب البعض تأسيس مدينة الكاف إلى الفينيقيين فيما ينسبها البعض الآخر إلى أمازيغ شمال افريقيا باعتبار أن المدينة بعيدة عن البحر خلافا لما كان يبحث عنه الفينيقيون من مواقع لتأسيس المدن. والثابت أن هناك مدينة رومانية اسمها سِيكا فيِنِيرِيَا، بنيت على أنقاضها الكاف ولا يعرف إن كانت هي أيضا بنيت على أنقاض مدينة أخرى أم لا.
وكسائر مدن تونس، خضعت الكاف بعد سقوط قرطاج إلى الرومان ثم الواندال والبيزنطيين إلى أن جاء الإسلام إلى ربوع بلاد المغرب فدان به ساكنة القطر ودخل معه سكان الكاف إلى مرحلة جديدة. وتداولت على حكم تونس في العهد الإسلامي دول عديدة بعد الأمويين وإلى حدود خلافة هارون الرشيد في العهد العباسي، على غرار الأغالبة الذين استقلوا بحكم تونس أو افريقيا (بشد الياء الثانية وفتحها) عن عرش بني العباس ثم الفاطميون والصنهاجيون والموحدون بعد الغزو الهلالي والذين ورثهم الحفصيون، فالعثمانيون وأتباعهم المراديون والحسينيون.
ولعبت الكاف دورا بارزا في النضال ضد الاستعمار الفرنسي وقدمت شهداء من أجل الحرية والكرامة، وواصلت النضال مع الجزائريين بعد ان نال التونسيون استقلالهم. فقد أتخد عناصر جيش التحرير الجزائري من المدن التونسية الحدودية قواعد لهم وكانوا يتلقون من المواطنين التونسيين كل الدعم والمساندة باعتبار صلات القرابة والروابط الدموية التي تجمع السكان على طرفي الحدود.
وكنتيجة لهذا الدعم الأهلي التونسي للثورة الجزائرية قصفت فرنسا سنة 1958 قرية ساقية سيدي يوسف التابعة لولاية الكاف فاختلطت الدماء التونسية والجزائرية في ملحمة تاريخية فارقة. واستغل الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة هذا الاعتداء الغاشم أفضل استغلال لتحقيق المزيد من المكاسب تدعيما للاستقلال الذي لم يكن قد مضى عليه وقت طويل. ويحيي التونسيون والجزائريون سنويا هذه الذكرى التي بقيت عنوانا لوحدة الشعبين الشقيقين، في مدينة الساقية الحدودية التابعة لولاية الكاف.
مائدة يوغرطة
تضم الكاف العالية عددا من المعالم الأثرية التي تميزها عن غيرها من المدن التونسية، التي لا تشبه بعضها البعض، وهي معالم هامة وأساسية في الموروث الحضاري والثقافي التونسي وبعضها مصنف ضمن التراث العالمي الإنساني. ذلك أن حضارات عديدة تعاقبت على تلك الربوع تركت آثارها وما يدل على أنها مرت من هناك في حقبة ما، في عالم متغير لا يعرف الاستقرار وهو أبعد ما يكون عن الثبات.
ومن أهم معالم ولاية الكاف، مائدة يوغرطة، المنسوبة إلى القائد الأمازيغي يوغرطة الذي قاوم الرومان في شمال افريقيا بعد سقوط قرطاج على يد الغازي الروماني سيبيون. وكان يوغرطة مختلفا تمام الاختلاف عن جده ماسينيسا ملك نوميديا الذي جلب الرومان إلى شمال افريقيا بعد أن تآمر على قرطاج. وكان من أشد المعجبين بهذا القائد الفذ، الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة الذي أمر بوضع صورة المناضل الأمازيغي يوغرطة على الدينار التونسي.
وتقع الصخور التي تشبه المائدة، والتي يقال ان القائد يوغرطة كان يرتادها رفقة أتباعه من رجال المقاومة للراحة بعد القتال، وتخفيا من جند روما، على قمة جبل يقع بين قلعة سنان والقلعة الخصبة ويبلغ ارتفاعه 1271 مترا. ويتميز المكان بجمال فريد يزيده جمالا منظر السهول والهضاب والجبال المحيطة به والتي تزداد بهاء في فصل الربيع بعد أن يبرز بساط أخضر من نبات الأرض. ويصعب الوصول إلى هذا المكان نتيجة للمسالك الوعرة وهو ما يؤكد للبعض أنه فعلا المكان الذي كان يختفي فيه القائد يوغرطة ويخطط فيه رفقة أتباعه لتوجيه الضربات الموجعة لجند روما.
ويشار إلى أنه تم العثور أسفل هذه المائدة على آثار قديمة تعود إلى عهود وحقب مختلفة وهو ما يؤكد أهميتها ويفسر الإصرار على إدراجها ضمن التراث العالمي الإنساني. كما يفسر أيضا سبب تواجدها ضمن المسلك الثقافي والسياحي لولاية الكاف الأمر الذي جلب لها الاهتمام في السنوات الأخيرة وكذا الشهرة المحلية والعالمية.
معالم أخرى
وإضافة إلى مائدة يوغرطة، توجد في الكاف العالية معالم أخرى مثل القصبة الحسينية المنسوبة إلى العائلة الحسينية التي حكمت تونس منذ القرن الثامن عشر وحتى تاريخ إعلان الجمهورية سنة 1957. وهذه العائلة متصاهرة مع إحدى قبائل ولاية الكاف حيث تزوج الجد المؤسس، حسين بن علي، إحدى بنات هذه القبيلة الأمر الذي جعل الكاف تزدهر في تلك الفترة.
وقد كانت القصبة على الدوام الحامية للكاف من هجمات إنكشارية العثمانيين المرابطين في الجزائر من دايات وغيرهم، إذ يساهم مكانها المرتفع في أعلى الجبل في جعلها نقطة مراقبة للمدينة ومحيطها، وبرج استطلاع يمكن من رصد الغزاة القادمين من مختلف الاتجاهات. كما أنها مكان سياحي يمكن زائره من التمتع بجمال المدينة والسهول والهضاب المحيطة بها إلى حدود الجزائر.
ويعتبر البازيليك الروماني أحد المعالم الهامة أيضا في مدينة الكاف العالية، وكذا الخزانات الرومانية وكنيسة دار القوس الرومانية القديمة التي تعود إلى الأزمنة الأولى لظهور الديانة المسيحية. فالرومنة تمكنت من مدينة الكاف بعد سقوط قرطاج وهذا واضح وجلي في الآثار وفي تسمية المدينة وأيضا في الآثار الرومانية العديدة في المدن المجاورة لمدينة الكاف وخاصة مدن ولاية سليانة.
ومن معالم الكاف أيضا مقام الولي الصالح سيدي بومخلوف الذي بات رمزا من رموز المدينة واقترن اسمه باسمها، فمن يقول الكاف يتبادر إلى الذهن مباشرة سيدي بومخلوف. فللكاف موروث صوفي هام وهي ميزة تشترك فيها مع باقي المدن التونسية والمغاربية التي انتشر في ربوعها هذا الفكر انتشار النار في الهشيم وكان عاملا من عوامل وحدتها ومقاومتها للاستعمار.
مدينة الفن والفنانين
تشتهر الكاف العالية بموروثها الفني الهام وتراثها الموسيقي الملهم ماضيا وحاضرا والذي تغنى به أشهر الفنانين التونسيين والعرب. فالمدينة هي موطن الفنانة التونسية الكبيرة صليحة التي فاقت شهرتها المحلية كل الوصف رغم أن صيتها لم يكن كبيرا خارج الحدود باعتبارها عاشت في فترة زمنية لم تكن وسائل الإعلام والاتصال والتكنولوجيات الحديثة قد تطورت بعد.
كما يوجد في الكاف مركز للفنون الدرامية تنشط فيه فرقة مدينة الكاف للمسرح التي أنجبت ممثلين تونسيين احتلوا مواقع متقدمة في مختلف الأعمال السينمائية والتلفزيونية. وهي فرقة عريقة أنتجت عديد الأعمال الناجحة وتجاوزت شهرتها حدود الخضراء وساهمت على الدوام في تنشيط الحركة الثقافية في المدينة وفي احتضان مبدعيها.
وباعتبارها مدينة الفن، فإن الكاف تحتضن عددا من المهرجانات الثقافية على مدار السنة تضفي بهجة على المدينة الجبلية الآسرة لزائرها. ومن أهم المهرجانات التي تعرفها، مهرجان سيدي بومخلوف الثقافي المنسوب إلى الولي الصالح سيدي بومخلوف الذي تشتهر به الكاف.
كما يقام في الولاية مهرجان فريد من نوعه هو مهرجان الثقافة العمالية في الجريصة التي لا تبعد كثيرا عن مدينة الكاف وتنتمي إلى ولايتها. ولم يأت اختيار «الجريصة» من فراغ باعتبارها المدينة التي شكلها في الأساس عمال مناجم الحديد والزنك الذين نمت وازدهرت معهم.
ثروات طبيعية
ولاية الكاف فلاحية في الأساس، يتعاطى أغلب سكانها النشاط الزراعي، إلا أن ذلك لا يمنع وجود أنشطة أخرى يتعاطاها السكان مثل الصناعات الحرفية واستخراج الثروات المنجمية. كما يوجد نشاط سياحي لم يتطور بما فيه الكفاية مقارنة بمناطق سياحية تونسية أخرى خاصة وأن في الكاف من المناظر الطبيعية الخلابة والمعالم الأثرية الشيء الكثير رغم البعد عن البحر.
والكاف هي من أغنى مدن البلاد بالثروات الطبيعية، إذ توجد فيها المعادن من الحديد والزنك خاصة في جهة الجريصة. كما يوجد فيها الفوسفات بكميات كبيرة ولم يتم إنتاجه إلى اليوم ويمثل احتياطي الولاية مخزونا استراتيجيا للبلاد في حال نفاد مخزون الحوض المنجمي في جهة قفصة. ويخشى في عملية استغلال الفوسفات في جهة الكاف من تلويث المائدة المائية في ولاية تتميز بمائها الطبيعي العذب. ولعل أصدق مثال على ذلك هو منطقة الحوض المنجمي من ولاية قفصة وما لحقها من أضرار. كما توجد في الكاف مقاطع تنتج أجود أنواع الرخام الذي تذهب كميات كبيرة منه إلى التصدير نحو البلدان الأوروبية على وجه الخصوص. ويساهم تصدير الرخام في جلب العملة الصعبة إلى تونس التي تتنوع مواردها الأمر الذي جعل البلد لا يعرف الانهيار الاقتصادي رغم الصعوبات ويصمد وسط الأعاصير.
ويعتبر معاذ الشارني الباحث في علم الاجتماع وأصيل ولاية الكاف في حديثه لـ»القدس العربي» أن مدينته هي ركيزة من ركائز البلاد التونسية وواحدة من أهم مدنها من نواحي عدة. فهي من ناحية الثروات الطبيعية تتوفر على مخزون هام ومتنوع قل وجوده في مدينة أخرى، ومن ناحية الموقع الاستراتيجي هي حصن حصين وقاعدة متقدمة دفاعية في مواجهة المخاطر وخصوصا الإرهاب المتموقع في المناطق الحدودية، ومن الناحية الحضارية هي قطب فني للمسرح والغناء وسائر الفنون وموروثها ضارب في القدم يعود إلى عهود غابرة في زمن الإنسان البدائي.
ويضيف الباحث الاجتماعي التونسي قائلا: «لقد تراجع دور الكاف اليوم ولم تعد لها الأهمية نفسها التي كانت لها في السابق، ويعود ذلك إلى التهميش الذي عانت منه عديد الجهات الداخلية في تونس. لكن رغم ذلك فان في إمكان الكاف أن تصبح قطبا تنمويا للجهات الداخلية التونسية والجزائرية يساعدها موقعها الهام في شمال غرب البلاد وعلى الحدود مع الجزائر، شريطة توفر الإرادة والرغبة الحقيقية في تنمية المناطق الحدودية التي كثيرا ما كانت محور اهتمام اللقاءات الثنائية بين المسؤولين التونسيين والجزائريين».
ويعتبر معاذ الشارني أيضا أن للكاف إمكانيات سياحية هائلة لم يقع استغلالها الاستغلال الأمثل فالهواء النقي للمدينة أو ما يعرف بـ»النسمة الكافية» قد يجعل منها قطبا سياحيا استشفائيا يقصده المصابون بالأمراض الصدرية. فالعالية، في رأيه، ليست فقط مزارا للمعالم الأثرية مثل القصبة، أو للطبيعة الغناء، وإنما هناك ثروات وكنوز سياحية في الكاف لم يقع استغلالها الاستغلال الأمثل.