بروفة سوداء لحق العودة!
حلمي الأسمر
ذلك الغسق.. أدرك الفتى ان المخيم لا ينتهي عند الجبل.. وان الحكايات التي نبتت في غرفة الزينكو تمتد جذورها إلى شاطئ البحر، حيث عاشت الأسرة الصغيرة في قرية جميلة على شاطئ نهر بديع على بعد ابتسامة من عروس البحر يافا!
لكم كانت مهيبة تلك اللحظات حين وقفنا جميعا: انا وابي وأمي واخوتي واخواتي على باب بيتنا، بيتنا الأول - والأخير - نطرق الباب برفق، حتى إذا أطلت امراة غريبة هالها»زوارها»؟!.. فارتدت إلى الداخل مذعورة، لكأن احساسها اجاب عن سؤال لم تقله عن هؤلاء القادمين بعد نحو ثمانية عشر عاما يطلبون الإذن بدخول منزلهم ضيوفا هذه المرة!!
ويطرق أبي الباب مرة أخرى، فيما لم تعد قدما أمي تحملانها، فتهبط على الأرض، وتعود المرأة الغريبة تطل برأسها لتتأكد إنها لا تعيش كابوسا ليليا، فيستعين أبي بما وقر في ذاكرته من بضع كلام عبري غير فصيح مستأذنا في الدخول لهنيهات، وتدرك المرأة الغريبة أي كارثة حلت على رأسها.. فتنظر الينا نظرة من رأى أمواتا قتلهم ودفنهم بنفسه يعودون إليه سعيا على اقدامهم وقد ظن أن كل شيء انتهى!
فتعود مرة آخرى إلى الداخل مغلقة الباب في وجوهنا.. وتمر لحظات قبل أن يُفتح الباب للمرة الأخيرة بعد ان أبلغها زوجها «شلومو» ان هؤلاء مجرد زوار بلا انياب أو حتى اسنان يجرجرون وراءهم هزيمة أمة صمدت ست ساعات كاملة، في حرب كان من المفروض أن تحرر ما احتُل من فلسطين، وإذ بما بقي من فلسطين 67 يلحق للتوحد مع فلسطين 48 وفوقها أراض عربية أخرى!
وندلف إلى البيت الجميل الوادع بعد الإذن بالدخول!
تجهش والدتي بالبكاء، ويكابر أبي - أو ربما هكذا بدا لي – ويبدأ بتعريفنا على معالمه، وهو لا يكاد يتمالك نفسه! «هذه الغرفة كانت... « لم أكمل سماع بقية جملة أبي، أنسحب بهدوء، وأمضي إلى غرفة قصية، كان ثمة طفل يلهو.. نظر الي.. وابتسم، وحرت ماذا افعل!
هل يعلم هذا الطفل إنه يجلس مكاني مستقلا بغرفة باذخة، فيما انا انام على حشية مصنوعة من بقايا ملابس «البقج» التي تجمعها وكالة غوث اللاجئين من أغنياء أوروبا وتوزعها علينا نحن «اللاجئين»؟
هل يعلم ماذا حل بي كي تتاح له فرصة اللهو في هذا المكان فيما تلهو بي أيام لا أعلم ماذا تحمل بعد؟!
مرت لحظة، شعرت بغثيان، ودوار، كان يبتسم.. لكأنه يبتسم مني لا لي..
ولم أشعر إلا وابتسامة بلهاء - غير إرادية - لم أستطع منعها ترتسم على وجهي!!
كانت تلك بروفة سوداء ساخرة لممارسة حق العودة!
كان ثمة ذكريات رواها الوالدان «بتقطع» ونحن نتنقل من قرية إلى أخرى ومن مدينة إلى أطلال..
أتممنا رحلتنا التي بدأت من بيتنا الأول في الشيخ مونس، وانتهت إلى بيت اللجوء، في المخيم، وحينما اجتمعنا حول كانون الجفت ذلك المساء، كان ثمة سؤال يرتسم على وجوه الأبناء جميعا:
- كيف ضاعت البلاد؟
سألنا الوالد، سرح بنظره بعيدا، وبدأت الحكاية، رواها بكلمات متقطعة، بعضها متماسك، والآخر تنقصه التفصيلات، لكن مربط فرس الحكاية أن الأهالي لم يغادروا منازلهم إلا بعد أن كانوا قاب قوسين أو أدنى من الـ .. ذبح!