في صحبة القرآن برمضان
يهلّ علينا رمضان فنأوي إلى كتاب ربنا؛ لننهل من هذا المعين الذي لا ينضب، وهذه المعاني التي لا تنتهي، ولم لا وقد اشتاقت إليه النفوس، وتلهفت عليه القلوب، وبكت عنده العيون، نريد أن نسارع في القراءة حتى نتحصل على الثواب العظيم، والأجر الكبير، فلقد هجرنا القرآن كثيراً؛ فمنا من لم يحافظ على قراءة ورد له كل يوم، وهذا لا يستمع إلى القرآن، وآخر لا يتدبره، ومنا من لا يعمل به، ومنا من لا يعرف منه إلا اسمه ومن كتابته إلا رسمه.
ويدخل علينا رمضان والجميع يريد أن يبدأ صفحة جديدة هذا العام معه؛ فمنا من يريد أن يختمه مرة، ومنا من يريد أن يختمه في رمضان عشر مرات، نبدأ في قراءة الربع الأول فالحزب الأول ثم الجزء الأول، ثم بعد ذلك يهاجمنا الكسل والخبل، كلٌّ حسب طاقاته وصلاحية النية عنده؛ فهناك من تنتهي صلاحية نيته عند نصف رمضان، وهناك أيضاً من تنتهي صلاحية نيته في اليوم الأول من رمضان.
إذا كان الماء هو حياة المادة، فإن القرآن هو حياة الإسلام، كما يقول شيخنا الشعراوي، فمن صلح حاله مع القرآن فقد صلح حاله مع الإسلام، ومن ساء حاله مع القرآن فأي حال بعد ذلك في الإسلام؟!
هل تحب ربك؟ فلماذا لم تسمع إليه؟ نعم تسمع إليه! أما علمت أن من أراد أن يكلم الله فليدخل إلى الصلاة ومن أراد أن يكلمه الله فليقرأ القرآن.
ما ردُّ فعلك إذا نادى عليك رئيسك أو هاتفك الوزير أو كائناً من يكون؟ كيف يكون حالك حين تستجيب له؟ فإن الله -عز وجل- ينادي عليك ويقول: يا بني آدم... (ألست منهم؟)، ويقول: يا أيها الناس... (ألست منهم؟)، ويقول: يا أيها الذين آمنوا... فبم تجيب؟ قال عبد الله بن عروة بن الزبير: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر: كيف كان أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم إذا سمعوا القرآن؟ قالت: "تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم كما نعتهم الله".
استمع معي إلى رسول الله صل الله عليه وسلم وهو يقول في الحديث الذي رواه البخاري: "مثَل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجّة، ريحها طيب وطعمها طيب. ومثَل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو. ومثَل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها طيب وطعهما مُر. ومثَل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مر".
فأجبني أخي وبصوت عالٍ: هل تحب أن تكون مثل الأترجة -نبات كالمانجو أو التفاح- ريحك طيب وطعمك حلو؛ أي أخلاقك حسنة، وسمعتك أيضاً طيبة بين الناس، ومن يتعامل معك لا يشعر إلا بخير، ثم أجب: ماذا تظن من نبات طعمه حلو وريحه طيب؟ هل يوجد من يكرهه؟!
إن القرآن وحده قادر على إبراز الجانب الوجداني في الشخصية المسلمة وتقويمها وتصويبها، وهي الشخصية التي قد أصابها خلل كبير بما بعدت به عن القرآن، وإن صلّت وصامت، لكنك تراها معتمة الروح، ومتقلبة المزاج، وضيقة الأفق، ولكن أما آن الأوان لكي تعود إلى ما أراده لها ربها؟
إن واجبنا في رمضان أن نملأ صدورنا، وأسماعنا وأفواهنا وأن نجلي قلوبنا بالقرآن، فما علمت من دواء لكل داء للقلب أكثر نفعاً من القرآن الذي كان يضمه عكرمة بن أبي جهل إلى صدره ويقول: كتاب ربي كتاب ربي.. وما سمعه الوليد بن المغيرة الكافر حتى قال: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه. وقال عثمان بن عفان وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: "لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن".
واجبنا في رمضان مع القرآن القراءة، والاستماع، والحفظ، والتدبر، والعلم، والعمل، فاجعل لنفسك وِرداً ثابتاً، وتخيَّر له أفضل الأوقات، واحذر أن تخرج بعد القراءة وأنت كما دخلت فيها، فلا بد أن يُحدث فيك القرآن تغييراً، فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لا تهذوا القرآن هذّ الشعر ولا تنثروه نثر الدقل" (أي التمر الرديء، وفي رواية الرمل- قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن همُّ أحدكم آخر السورة).
ثم اجعل لنفسك آية أو آيتين مما قرأت تتدبر فيهما حالك مع الله عز وجل، ثم آيتين مثلهما تعلّم معناهما ومقصدهما واعمل بهما، ولا يُعقل من رمضان شهر القرآن وأنت بما دخلت فيه من القرآن، فلا أقل من أن تخرج منه وقد زاد محفوظك من القرآن 60 آية على الأقل، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "كنا نحفظ العشر آيات فلا ننتقل إلى ما بعدها حتى نعمل بهن"، وحاول أن تصلي خلف إمام عذب الصوت، يطيل الصلاة فتعيش فيها مع آيات الله ذهاباً وإياباً، وتحلِّق معها في ملكوت الله، وترتفع إلى أعلى بها، فلا تهبط منها إلا وأنت راكع لله متشحاً بالذل، ومتسماً بالانكسار بين يديه سبحانه فتعلو مرة أخرى.