60 سنة من حكم العسكر.. مقولة جاهلة ومتجاهلة
ينطلق البعض في تقييمه للأوضاع التي جرت بعد ثورة يناير إلى القول بأن من يسميهم "العسكر" يحكمون مصر منذ ستين سنة، وهي مقولة تجهل التاريخ، وتتجاهل حقائق الأمور، ولا تعبر عن موقف أو موقع فكري ناضج، وتكاد تكون كلاماً سياسياً يراد به خلط ما لا يختلط، وتعبر عن خصومة تاريخية مع الفترة الناصرية، ولا تصدر عن تقييم موضوعي وجاد لمسيرة من تاريخ مصر المعاصر تبدأ من ثورة 23 يوليو سنة 1952 التي يصفونها بـأنها انقلاب عسكري، وتنتهي مع بداية تسلم المشير عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم في مصر الذي ينظرون إليه باعتباره امتداداً لحكم عسكري طال لستين سنة على زعمهم.
أول تلك القوى صاحبة الخصومة التاريخية مع عبد الناصر ونظامه هي جماعة الاخوان، ومعهم بعض الماركسيين، (في حين أنصف كثير منهم تجربة عبد الناصر)، وبعض من القوى الشبابية التي شاركت بفاعلية مشهودة في اشعال فتيل ثورة يناير سنة 2011، (بينما هناك قوى شبابية أخرى كثيرة تقدر التجربة وتحترم انجازاتها)، ويردد البعض هذه المقولة عن جهل كالببغاوات من دون فهم ولا اطلاع على وقائع التاريخ الحقيقية، ويروجون لوقائع مفتراة وأخرى مفبركة.
يتورط البعض في ترديد تلك المقولة إلى حد الدفاع عن الملكية قبل ثورة يوليو، ويقدمون مصر تحت حكم الأسرة العلوية كجنة جاء الضباط الأحرار ليحولوها إلى جحيم مقيم تحت حكم العسكر، لا يفرقون في ذلك بين عهد وآخر، ويدمجون عصر عبد الناصر بعصر السادات ومن جاءوا بعده على طريقه وتحت أعلام جمهوريته التي هي النقيض الحصري لجمهورية عبد الناصر.
يتورط البعض في ترديد تلك المقولة إلى حد الدفاع عن الملكية قبل ثورة يوليو، ويقدمون مصر تحت حكم الأسرة العلوية كجنة جاء الضباط الأحرار ليحولوها إلى جحيم.
والحق ـ فيما نرى ـ أن التقسيم الموضوعي لتاريخنا الحديث يتضمن صراعاً مستديماً بين قوى الثورة والتغيير، وبين القوى المضادة للثورة والمساندة لبقاء الحال على ما هو عليه، بدءاً من إنتفاضة أحمد عرابي ضد الخديوي توفيق، ومن بعده هبة المصريين الجبارة في سنة 1919 بقيادة سعد زعلول، ضد التسلط الانجليزي على القرار والثروات المصرية، ثم حركة الجيش في يوليو سنة 1952، كلها حلقات متواصلة من الثورة المصرية تتبنى آمال الشعب وطموحاته ومطالبه، كل واحدة منها في وقتها، ولكنها تشكل معاً سلسلة واحدة متصاعدة من أجل تحقيق الاستقلال الوطني وحكم الشعب نفسه بنفسه، والعدل الاجتماعي، والكرامة الانسانية، وهي جوهر الأهداف نفسها التي خرجت من أجلها الملايين في 25 يناير سنة 2011، التي تعد واحدة من أروع وأنبل حلقات الثورة المصرية.
على الجانب الآخر كانت هناك الثورة المضادة، وعلى مدار تاريخنا الحديث كله، ظل الصراع قائماُ بين الطرفين، وما يجري اليوم على أرض مصر هو أحد تجليات هذا الصراع، حيث استطاعت القوى المضادة للثورة أن تستعيد زمام المبادرة التي اقتنصت منها في يناير، وهي ما تزال تقاتل معركتها الأخيرة ضد التغيير، وهي امتداد، ليس لثورة 23 يوليو، بل هي على الحقيقة امتداد للانقلاب على تلك الثورة الذي قاده أنور السادات في مايو سنة 1971، ذلك الانقلاب الذي كان ارتداداً على النظام الناصري، وليس امتدادا له بحال من الأحوال.
تنتسب تجربة جمال عبد الناصر إلى تاريخ طويل من نضالات الشعب المصري من أجل حياة كريمة في وطن مستقل، بينما يشكل نظام أنور السادات، المستمر حتى اليوم، أحد حلقات الثورة المضادة، بل هو ثورة على الثورة المصرية.
قاد عبد الناصر إحدى مراحل الثورة المصرية، وحقق خلالها الكثير من الانجازات، وكان له فيها العديد من الاخفاقات، وأسس للجمهورية الأولى، ثم جاء من بعده السادات ليؤسس للجمهورية الثانية التي انتفضت ضدها الميادين في يناير، تلك الجمهورية التي تكرست في أعقاب أكتوبر سنة 1973، على انفتاحين، اولهما سياسي وثانيهما اقتصادي، كان الانفتاح على الغرب هو مقدمة الانفتاح الاقتصادي الذي أباح الاستثمار لرأس المال، الخاص والأجنبي الذي كان محظوراً من قبل، وفي مجالات كانت مقصورة على القطاع العام المصري، وبدأت مرحلة تطويق القطاع العام من داخله، وتوافدت على مصر فئات من السماسرة والوكلاء والعملاء للاحتكارات المصرفية الأجنبية والعربية وظهرت طبقة من الطفيليين، في الوقت الذي تسارعت خطوات تبعية نظام السادات إلى الغرب وأمريكا، وبدا عام 1974 وكأنه اعلان عن تاسيس الجمهورية الجديدة، بعد التغيير النوعي في بنية النظام وتوجهاته وسياساته وانحيازاته، سواء في الداخل أم في الخارج.
صحيح أن جمال عبد الناصر وأنور السادات، كلاهما محسوبان على حركة الجيش في يوليو سنة 1952، لكنهما على الحقيقة مختلفان حد التاقض، ليس على المستوى الشخصي والانساني والقيمي فقط، ولكنهما مختلفان كذلك في السياسات والانحيازات وطرائق الحكم، ولم يكن السادات امتداداً لعبد الناصر، ولم تكن فترة حكمه امتداداً لما قبلها، بل كانت قطعاً لما اتصل من حلقات الثورة المصرية، واجهاضاً لواحدة من أهم حلقاتها، تلك التي انطلقت في يوليو سنة 1952.
ضرب السادات القوى الاجتماعية التي انحاز لها نظام عبد الناصر في مقتل، وأستبدلها بقوى اجتماعية أخرة تابعة، أدخلت مصر في عصر من الفساد والاستبداد وتسببت في افقار الغالبية العظمى من الشعب، وأودعت مصر رهينة في حظيرة التبعية للهيمنة الامريكية التي ما تزال سارية المفعول حتى يومنا هذا، وتم القضاء على أسس التنمية المستقلة، على أيدي التحالف الاجتماعي الجديد الذي رعت أمريكا خطوات تشكله ودعمت استمراره في السلطة حتى يومنا هذا.
وصحيح أيضاً أن السادات استخدم آليات سلطة عبد الناصر الاستثنائية ليقود مصر إلى الطريق العكسي للتوجه الذي سار عليه جمال عبد الناصر، وكان قد ارتدى في البداية لبوساً ديمقراطية، ورفع شعارات سيادة القانون، وسمح بتشكيل بعض الاحزاب المستأنسة، ولكنه احتفظ بأدوات النظام السابق ليستكمل بها دوره في هدم ذلك النظام والانقلاب على كل سياساته وانحيازاته وإنجازاته.
الاتحاد الاشتراكي (التنظيم السياسي الواحد في دولة عبد الناصر)، والذي قاد به عبد الناصر عملية التحول إلى الاشتراكية، قاده أنور السادات للتحول العكسي على طريق السوق المفتوح والارتباط بالغرب والصلح مع إسرائيل.
استغل السادات ومن ورائه القوى المضادة للثورة فجوات واسعة في النظام الناصري أحدثتها سياسة الاعتماد على الشعبية الطاغية للزعيم وعدم اشراك الشعب اشراكاً حقيقياً ومؤسسياً في تقرير وقيادة مسيرة الثورة، كما استغل كل سلبيات تلك المسيرة لكي ينقض على انجازاتها ويغير بوصلة سياستها المعتمدة طوال عهد سلفه.
ونحن لا ننكر أن القوى الاجتماعية التي اعتمد عليها أنور السادات في الانقضاض على الثورة وتصفيتها، كانت موجودة في عهد عبد الناصر، ولقد حاولت مراراً الانقلاب عليه، ولم تتوقف محاولاتها منذ حادث المنشية بالاسكندرية سنة 1954، وحاول بعدها تنظيم سيد قطب في صيف سنة 1965، وكانت هناك محاولات من داخل الجيش نفسه للانقلاب على عبد الناصر، آخرها كانت المحاولة التي قادها عبد الحكيم عامر بعد أن تأكد ـ بعد هزيمة يونيو سنة 1967 ـ من اتجاه نية عبد الناصر إلى إبعاده من السلطة ، وخارج دائرة النفوذ.
- اقتباس :
- غلطة عبد الناصر أنه اكتفى بالتصفية الأمنية للقوى المضادة للثورة، على حساب التصفية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية لهذه القوى.
غلطة عبد الناصر أنه اكتفى بالتصفية الأمنية للقوى المضادة للثورة، على حساب التصفية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية لهذه القوى، ما ترك لها المجال حين جاءت ساعتها لكي تنقلب على الثورة وتبني نظامها البديل الذي وضع أسسه وسياساته وانحيازاته أنور السادات.
ولاشك أن وفاة عبد الناصر المفاجئة، (مات وعمره لم يتعد الثانية والخمسين)، وقبلها قراره بتعيين السادات نائباً له شكلا معاً لحظة مارثون الانقلاب على نظامه.
لقد وسع عبد الناصر مجال مشاركة القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في الثورة ضمن عملية الإنتاج وخطة التنمية التي كانت من نتيجتها بناء ألف مصنع وتكوين نواة قطاع عام قوي وقادر على الوفاء بمتطلبات وحاجيات الشعب الأساسية، بينما ضاق المجال أمام المشاركة السياسية الفاعلة في الحفاظ على منجزات الثورة، وكانت تلك هي الثغرة التي نفذت منها القوى المضادة للثورة فضربت ضربتها واستطاعت تحويل المسيرة وتعديل المسار، واعتمد خلفه على تلك القوى في تغيير بنية النظام وإعادة بناءه وتمكن من إقامة الجمهورية الثانية التي استمرت من بعده وحتى اليوم.
الحديث يطول حول تلك المقولة الظالمة، وقد نعود إليه فيما بعد، وأختم هنا فأقول إنه من قبيل التبسيط المخل بالتاريخ أن نقول 60 سنة من حكم العسكر، ومن الظلم القول بأننا ما زلنا في دولة يوليو، والظلم الأفدح أن ننظر إلى تاريخنا بكل هذا التجني على نقاط مضيئة فيه، حتى ولو شابها الكثير من الاخفاقات.