القهوة ..طريقها العبق بالهال بين اليمن .. وأمريكا.. ! من أين أتت ؟
هل يمكن تخيل حياتنا اليومية دون أن نشرب القهوة ؟!.
لا .. لكن قديما قبل مئات السنين كيف كان الأمر مع مشروب القهوة ؟!.
وكيف وصلت الى أمريكا مثلاً ؟!ففي كتاب الصحافي الأمريكي جوناثان كورييل «هذه الأميركا» ترجمة حليم نسيب نصر نقرأ ما يلي :
القهوة يعود أصلها إلى شبه الجزيرة العربية في القرن الخامس عشر , حيث كانت قد وجدت طريقها من هناك إلى أوروبا بعد مئتي سنة _ ولكن ليس قبل أن تتخذ لها مساراً غريباً , مساراً قد ابتدأ مع المسلمين الصوفيين في اليمن , لتتجه شمالاً عبر الصحراء إلى مكة المكرمة حيث وُلد المقهى الأول في العالم , ثم لتعبر عبر البحر الأحمر , إلى القاهرة قبل أن تعبر البحر الأبيض المتوسط إلى القسطنطينية . في الوقت الذي أصبح فيه شرب القهوة موضة راقية في باريس , ولندن , وبوسطن , في أواخر العقد الأول من القرن السابع عشر فإنه من المشهور أن البابا قد بارك هذا المشروب , سامحاً للمسيحيين بشربه , ومتجاهلاً احتجاجات القساوسة الذين قالوا بأن هذا الشراب المليء بالكافيين إنما هو مُنتج أنتجته الشياطين.
رائحة القهوة
الكابتن جون سميث فقد صادف ،ولحسن حظ الأميركيين , رائحة القهوة بينما كان في الأسر عند بني عثمان . ففي البداية كان الصوفيون المسلمون الزهاد, في شبه الجزيرة العربية , أثناء القرون الوسطى , جزءاً ثانياً من السكان , وكانت لهم مذاهب متعددة تدعى « الطرائق « , وكانت كل فرقة تجتمع حول فرد يعتبر شيخاً للطريقة . فالطريقة الشاذلية التي أسسها من شمالي أفريقيا في القرن الثالث عشر , يدعى أبو الحسن الشاذلي , كانت تتصف بأنها طريقة من « أكثر الطرق اعتدالاً في أسلوبها ونشاطها , حيث كانت تدافع عن الفقير. وقد كتب الشاذلي مرة إلى أحد مريديه يقول : « إذا كان عماد الملوك أسلحة , ورجال دفاع , فإن عماد الفقير هو الاستغناء والاكتفاء بالله , والصبر على ما يمتحنه به من قضاء ومقادير . وفي مصر , واليمن , ومناطق أخرى من الأصقاع التي ازدهرت فيها الطريقة الشاذلية , فإنهم شددوا على اعتماد « حياة منتجة اقتصادياً , وطبيعية اجتماعياً « .
اما المشاركة في حلقات الذكر ، وهي اجتماعات احتفالية تعبُدية تتضمن إنشاد أناشيد عن الله لمُدد طويلة من الوقت . وحلقات الذكر كثيراً ما كانت تأخذ مجراها في الأماسي , الأمر الذي يقتضي من الصوفيين البقاء على اليقظة سحابة ساعات الليل . وذلك ما حدا بصوفيي الطريقة الشاذلية في اليمن , حوالى سنة 1400 , بأن يبدأوا بإرتشاف القهوة _ وذلك من أجل البقاء على حيويتهم ونشاطهم أثناء إحيائهم لطقوسهم الدينية .
أيام الطرائق
المؤلف جوناثان تابع ، : تنبت القهوة (البن) في مناطق محيطة بالبحر الأحمر - خاصة في أثيوبيا - ولكن في اليمن : فإن حَب البن في ذلك الوقت من أيام « الطرائق « كان له دور آخر أكثر بروزاً وأهمية .
إذ إن اعتماد الشاذلية , واعتماد مشايخ سواها من الطرائق , على القهوة , قد أغرى اليمنيين الآخرين على ارتشاف ذلك الشراب المنعش . « فانتشار القهوة من دائرة استعمال الصوفيين لها , إلى دائرة الاستهلاك الدنيوي كان أمراً طبيعياً « , هذا ما كتبه آلان وينبرغ , وبوني ك . بيلر في كتابهما الذي هو بعنوان : « عاَلم الكافيين : العلم والثقافة العائدين للعقار الأكثر انتشاراً « .
« مع أن أعضاء الجماعات الصوفية عُرفوا بأنهم متعبدين منتشين , فإن معظمهم كان من سواد الناس , وكانت حلقات الذكر تستغرق معظم الليل , ويشترك فيها المنتمون إلى مهن شتى ... فإذا جاء الصباح عادوا إلى بيوتهم وأعمالهم جالبين معهم ذكرى التأثيرات المنشطة للكافيين , ومشركين سواهم في المعلومات عن شُرب القهوة مع إخوانهم في الحلقة . وبالتالي , وعلى نموذج خلوات الذكر الصوفي المغلقة فقد وُلِدت المقاهي .
ومع ذلك , لم يكن حدوث هذا الأمر في اليمن , بل في مكة التي لها تميز مزدوج لهذه الناحية . إذ أنها المكان الذي شهد ولادة المقهى الأول في العالم حوالى العام 1500 , كما أنها المكان الأول في العالم , الذي حُرمت فيه المقاهي عام 1511 . فبينما اعتمد الصوفيون القهوة كمنشط طبيعي , فإن بعض القادة المسلمين قالوا إن الإقبال عليها مناف للإسلام _ وإن القهوة تؤثر في الوعي البشري , وإن المقاهي تًبعد الناس عن المساجد , وتقترب بهم من مجالات اجتماعية تحض على الرذيلة وعلى التفكير الخائر .
الأمور قد بلغت حدها
خير بيه حاكم مكة في العام 1511 ، قرر أن الأمور قد بلغت حدها عندما وجد أن زبائن المقهى في مكة كانوا يسخرون منه ، وكما هو مقدر للأمر أن يحدث , فإن السلطان المملوكي في مصر , الذي كان يشرف على الأماكن الإسلامية المقدسة , كان من الذين يشربون القهوة , لذلك فإنه أمر بإلغاء أمر المنع . ومع ذلك , فإن منع القهوة القصير المدة , في مكة , قد آذن بنقاش حول القهوة سيبقى يطل برأسه لمدة قرن كامل بعد ذلك في عاصمة إسلامية , بما في ذلك , القاهرة , حيث كانت القهوة قد انتشرت أولاً مع حضور الطلبة اليمنيين للدراسة في جامعة الأزهر , التاريخية , في تلك المدينة . وقد صارت مصر شديدة الولع بذلك الشراب إلى درجة أن عقود الزواج باتت تتضمن بنداً يشترط حق المرأة في طلب الطلاق من زوجها إذا كان في جملة تقصيراته الامتناع عن إمدادها بالقدر الكافي من القهوة .
وبعد فتح الإمبراطورية العثمانية لمصر في العام 1517 , وتمكنها من مد سلطانها فوق شبه الجزيرة العربية , فقد صارت القهوة من المقومات الأساسية للمجتمع التركي , وسلعة من السلع الأغلى قيمة . ومع حلول العام 1570 , وبعد خمس عشرة سنة من وصول أول مقهى إلى القسطنطينية , فإن العاصمة التركية باتت تأوي أكثر من ستمئة مقهى .
وقد سمى بنو عثمان هذا الشراب ب « كافه « , وذلك اشتقاقاٌ من الكلمة العربية : « قهوة « وأطلقوا على المقهى اسم « كافه خان «
وقد استوردت تركيا معظم قهوتها من مدينة موتشه اليمنية , وقد صار اسم هذه المدينة مرتبطاً باسم حبوب البن الآتية من المنطقة المجاورة لها . ومع نهاية القرن السادس عشر , كانت اليمن تنتج معظم قهوة العالم الإسلامي , وباتت تركيا عاصمة القهوة الأولى في العالم دون مُنازع _ فهي المكان الذي يُقبل فيه كل امرىء على احتساء القهوة , وكانت المقاهي تبقى مليئة في الليل والنهار , هذا ما كان قد كتبه أحد المراقبين لمشهد الحياة في القسطنطينية , « فأفراد الطبقة الأشدُ فقراً كانوا في الواقع يستجدون النقود في الشوارع لسبب واحد هو شراء القهوة «.
إن الولايات المتحدةالاميركية، مدينة للإمبراطورية العثمانية في القرن السادس عشر , بتذوق القهوة لأول مرة , مع أن تلك العلاقة لها الكثير من الشؤون والشجون التي تشبه مغامرات ألف ليلة وليلة . وقبل أن يوافق إلى إيجاد المستعمرة الأميركية في جايمس تاون , في فرجينيا في العام 1607 , فإن جون سميث الإنكليزي كان مغامراً , وعميلاً سياسياً , ومرتزقاً يقاتل ضد العثمانيين في هنغاريا .
وفي إحدى مراحل مغامراته ضد العثمانيين , وقع فوجه العسكري تحت تطويق الجنود العثمانيين الذين قطعوا رؤوس معظم جنود الكتيبة , وجرحوا الباقين . وبشكل من الأشكال , فإن السلابين الموجودين في المكان وجدوا سميث الجريح وسط كومة من الجثث ، فقاموا ببيعه كعبد رقيق إلى باشا تركي من نبلاء الإمبراطورية العثمانية . وقد قام الأخير بإرسال الرجل الإنكليزي إلى الآستانة . ومثلما شاءت الظروف , فإن عشيقة الباشا , المدعوة» قرطاظة ترابا بيغزاندا» وقعت في غرام الرجل ،ولأنها خافت من إعادة بيعه إلى حياة عبودية أخرى , وإرساله إلى مكان بعيد عنها بصورة نهائية , فإنها قامت بترتيب إرساله إلى أخيها الذي يعيش عبر البحر الأسود في جزيرة كرينيا، التي هي تحت السيطرة العثمانية .
وقد أملت «ترابا بيغزاندا» أن يتعلم سميث اللغة التركية هناك , وأن يعود إلى الآستانة .
ولكن , وبخلاف رغبات أخته , فإن الأخ المشار إليه قام بحلق رأس سميث, وبتصفيده , وبجعله « عبداً كالعبيد « , مرغماً إياه على عمل شتى الأعمال الوضيعة .
وخلال فترة اسره لاحظ سميت عادات الطعام والشراب السائد عند مستعبديه الجُدد , التي تضمنت أكل أحشاء الخيل , والإقبال على ارتشاف شراب يسمى « كوفا « . وقد تمكن سميت من الهرب من كرينيا بعد استعماله لمذراة لتحطيم رأس شقيق» قرطاظة « , ومن العودة إلى إنكليزا , حيث نُشر كتاب مذكراته في سنة 1603 بعنوان : « رحلات ومغامرات « . وقد كتب عن الأتراك : « إن أفضل مشاريبهم هي ال كوفا المصنوعة من حبوب يسمونها « كوافا « .
مستر سميث
لا عجب أن يُحضر سميت معه إلى أميركا شراباً كهذا , من شأنه أن يمده بأسباب الدعم والقوة في المستعمرة الإنكليزية الجديدة . ( كما أنه أحضر معه أيضاً ذكريات إعجاب ب : قرطاظة ترابا بيغزاندا _ وعندما أبحر في وقت لا حق إلى شمالي ماساتشوستس , فإنه سمى شبه جزيرة هناك باسمها , وهي صارت تدعى : « كايب آن « . وفي المستعمرات الأميركية , صارت القهوة سلعة غالية الثمن , ومع حلول العقد الثالث من القرن السابع عشر صارت القهوة تباع في الفنادق والحانات في نيو إنغلند . وقد أصدرت بوسطن رخصة المقهى الأول عام 1670 . وفي نيويورك افتتح المقهى الأول عام 1690 .
ومع نهاية القرن كانت القهوة قد بدأت بالحلول محل البيرة كشراب يجري اختياره مع الفطور . وبعد ذلك بقرن واحد كانت أميركا قد صارت أمة يُقبل جميع أبنائها على شرب القهوة .
أما الآن , فإن هذا الشراب يُعتبر جزءاً أيقونياً من ثقافة أميركا . فنصف جميع الأميركيين البالغين سن الثامنة عشرة أو أكثر , يشربون القهوة كل يوم , مستهلكين بأجمعهم حوالى أربعمئة مليون فنجان من القهوة كل أربع وعشرين ساعة , جاعلين بذلك الولايات المتحدة الدولة الرائدة في استهلاك شراب القهوة .