تأملات صائم
قوة الصبر
لا بد من الصبر ليجتاز العابدون البلاء – سيد قطب
في أحد مساقات كلية الفنون الجميلة تعطي الأستاذة مهمة لطلابها، هذه المهمة قد تبدو بسيطة وهي أن يذهب الطلبة إلى أحد المتاحف ويمضي ثلاث ساعات يتأمل لوحة فنية، ويسجل انطباعات وأسئلة وملاحظات عن هذا العمل.
تعترف الأستاذة أن هذه المهمة صُممت لتعلم الطلاب الانتباه للتفاصيل الصغيرة الدقيقة، فالأعمال الفنية خزان كبير من المعلومات التي لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال الملاحظة الطويلة الصبورة.
نحن كهذه اللوحات، مخزن كبير من التجارب، نجمع كل التناقضات، ولعل أحد دروس الصيام أن ننفض الغبار عن قلوبنا وأن نراجع أنفسنا مراجعة المتأمل، سنتعرف على أنفسنا أكثر، سنلاحظ عيوبنا وستكون فرصة عظيمة في هذا الشهر لنبدأ بإصلاح أنفسنا.
ومن خلال التأمل الطويل سنرتبط أكثر بالله عز وجل، سنرى عظمته ورحمته.
قرأت قبل أيام قصة يرويها ابن العربي، الفيلسوف الإسلامي، يقول فيها كنت أشعر بإحباط وضجر وفراغ روحي فذهبت إلى أحد شيوخي أشكو له الحال فقال لي عليك بالله، ثم ذهبت إلى شيخ آخر وأنا على حالي تلك فقال لي عليك بنفسك. فرجعت إلى شيخي الأول محتارا بين الإجابتين، فقال لي هو دلّك على الطريق وأنا دللتك على الرفيق.
سنة التغيير
كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام – الرحمن 26 و 27
في تعاليم زن، هنالك ثلاث سمات للوجود، الأولى أن كل شيء يتغير ولا يبقى شيء على حاله، أو كما يقال من المحال دوام الحال، والثانية أنه ما دام كل شيء متغير فالنفس البشرية وأحوالها هي الأخرى متغيرة، وهذا التغير سيؤدي إلى السمة الثالثة للوجود وهي المعاناة، فالبشر لا يريدون أن يتغيروا، وجلّ معاناتهم هو من ترقب التغيير لا من التغيير بحد ذاته.
وبما أن الحكمة ضالة المؤمن، وقد أنزل العزيز الحكيم علينا استفهاما استنكاريا: أولم يتفكروا في أنفسهم؟ فقد تفكرت في ممارسة يقوم بها أتباع زن، الذين يروى عنهم التأمل في مكان تلقى فيه الجيف، وملاحظة التغيرات التي تطرأ على الجثث بمرور الوقت! فقد عاينوا بعد يوم أو يومين انتفاخ الجثث، وتلوّنها، وشاهدوا التهام الغربان والصقور للأجساد، ونهش الكلاب وابن آوى لها، وألوان الديدان ترتع فيها، ألفوا منظر هياكل مصبوغة بالدم لا زالت الأربطة محافظة على تماسكها، وأيضا عظام مبعثرة لا يربطها شيء، بعضها بيضاء وبعضها عفنة عليها غبرة، كلها آيِل إلى التراب.
واجه المتأملون أشد ما يخيفهم وهو الموت، وأيقنوا أن أجسادهم ضعيفة هشة كتلك الجيف، وأن هذا هو مصيرها المحتوم، فتخلصوا من كل تعلق بالأشياء، وتخلصوا من كل المخاوف. إن تأمل الجثث جعلهم يفهمون سمات الوجود الثلاث، وانتهت عندهم معاناة الترقب بمعرفة أن الحقيقة الثابتة هي التغيير، وأن الثبات والدوام وهْم.
ماذا لو تشرب الإنسان هذه الحقيقة، كيف سيتصرف وما الذي سيغضبه؟ هل سيأكل حقوق العباد، هل سيعيث في الأرض فسادا؟ لا أعتقد.
يبدو أنني بلغت درجات عليا من التأمل. أو ربما كان هذا مبلغ حاجتي لفنجان قهوة.
كل عام وانتم بخير.