لا بدّ من عقلاء يوضّحون الصورة الحقيقية للإسلام
طرح الرئيس الأسبق لمجلس الرئاسة في البوسنة والهرسك الدكتور حارث سيلاجيتش حلولاً موضوعيّةً لتعامل بلاد ما بعد الحرب مع الأجيال الجديدة، بفتح آفاقهم وتقديم منتج تعليمي ثقافي ومعرفي يلبّي توقهم لحياة جديدة، متخذاً من بلاده أنموذجاً في أهميّة الحفاظ على وحدة أراضيها نحو مستقبلٍ مشرقٍ، مهتمّاً بالبنية الثقافيّة في مواجهة الأزمات، على اعتبار أنّ الثقافة كما رأى هي مرآةٌ حقيقيّةٌ للاقتصاد.
ورأى سيلاجيتش، الذي حلّ ضيفاً على الأردن بدعوة من المنتدى العالمي للوسطيّة، في محاضرة ألقاها في مركز الرأي للدراسات وقدّمه فيها رئيس مجلس الإدارة الزميل رمضان الرواشدة، أنّ اشتغالاً مبرمجاً يتمّ لتسويق الخوف من الإسلام، ونشر ثقافة كرهه والنفور منه، مع أنّه دينٌ، كما أكّد، لا يحمل في مضامينه غير الدعوة إلى الحوار والتآلف والتعارف والالتقاء الإنسانيّ لإعمار الكون، محذّراً، في المحاضرة التي حملت عنوان»المسلمون والعالم: إلى أين؟!»، من الآلة الإعلاميّة التي تشتغل على هدف أنّ «المسلمون قادمون»، داعياً إلى أن يأخذ العالم العربيّ والإسلاميّ دوره في تفنيد هذا الخطاب الجائر، بالفهم الصحيح للسياق القرآني، نافياً أن يكون الإسلام قوّةً رجعيّةً في العالم.
المحاضرة، التي جاءت في إطار مشاركة سيلاجيتش بمؤتمر «المسلمون والعالم: من المأزق إلى المخرج»، ألقى فيها السفير الأسبق في البوسنة ياسين الرواشدة الضوء على السيرة الغنيّة للضيف الشاعر والسياسيّ والمثقف والأكاديمي، كما لقيت نقاشاتٍ ثريّة تتعلّق بمواضيع العلاقة بين الشرق والغرب، والصراع المذهبيّ داخل البيت الإسلاميّ، وصدام الثقافات والخيار الإنسانيّ لمواجهة ظاهرة الإسلام فوبيا التي أشعلتها أحداثٌ بعينها في العالم، وما رآه سيلاجيتش من أنّ «القوميات» إنّما ترتدّ بالمجتمعات خطوةً إلى الوراء.
التغيّر التاريخي
رأى سيلاجيتش أنّ العالم قد تغيّر بالفعل، لافتاً إلى محطّات ساقت معها مثل هذا التغيير المتسارع، أو ما أسماه بلحظات التغيير التاريخيّة، منها سقوط حائط برلين نهاية ثمانينات القرن الماضي، متحدثاً عن تأثّر البوسنة والهرسك بهذا التغيير، وفقاً لما طرأ على المعسكرين الشرقي والغربي في هذا السياق، الذي تبدّلت معه جملة من السياسات الداخليّة والخارجيّة والأمنيّة، مشيراً إلى حلف الناتو وفترة ما بعد الاتحاد السوفييتي، ولموع نجم الليبرالية مقابل الشيوعيّة التي قال إنّها «نزلت من مسرح التاريخ». وفي هذا الإطار، تحدث سيلاجيتش عن كون البوسنة والهرسك في ما مضى دولةً اشتراكيّةً من ضمن الجمهوريات اليوغسلافيّة في ظلّ الحزب الشيوعي السائد خمساً وأربعين عاماً، لتبدأ الجمهوريات تعلن رغبتها بالخروج من «الاتحاد»، خصوصاً بعد أن تحوّل «الشيوعيّون» إلى «برجوازيين»، وبعد أن رحل عن الدنيا القائد الشيوعي رئيس يوغسلافيا «جوزيف بروزتيتو» الذي كان يجمع يوغسلافيا بقوة شخصيّته، فبدأت بوفاته «القوميات» أكثر بروزاً على السطح، وأسهمت في تفكيك يوغسلافيا ومهّدت إلى الاحتراب الداخلي.
وفي موضوع تطوّر الأحداث في بلاده، توقّف المحاضر عند فترة «جوزيف تيتو» الزعيم الثوري اليوغسلافي السابق ورئيس الحزب الشيوعي اليوغسلافي نهاية ثلاثينات القرن الماضي، مبيّناً أن الحزب بات ضعيفاً بعد موته وممزقاً، ودخلت الجمهوريات في مرحلة الانفصال وإعلان الاستقلال، بعد أن كان الرجل محافظاً على وحدتها ضمن يوغسلافيا، ولذلك، فقد عانت البوسنة والهرسك من طموح الصرب بالتوسّع والاستيلاء على الأراضي، ما بين ظهور رأيين في هذا السياق، منها ما يرى أنّ الحرب هي دينيّة والآخر يراها مدنيّةً لا غير. واعترف سيلاجيتش بأنّ تسويقاً لم يكن ليخفى لهذا التوسّع تمّ عن طريق الدين، معرباً عن أسفه لما أسماه «التطهير العرقي» وما ترك من تداعيات سببُها خطّة هدفت إلى تمزيق البوسنة والهرسك، فكان أن قضى ما يقارب 120 ألف مدنيٍّ في دمار شامل مؤسف نُفّذ على مستوى دولتين.
نشوء القوميّات
وفي حديثه عن القوميّات، رأى أنّ هذا المفهوم، ومع أنّ له حسناتٍ، إلا أنّ له صفاتٍ تتفوق على صفاته الإيجابيّة؛ موضّحاً أنّ «القوميّة» تحدد الآفاق الرحبة لمفهوم الأمّة، وتخلق نوعاً من الـ»نحن» والـ»هم»، متمثّلاً بقول المؤرخ الإنجليزي اللورد أكتون الذي كان يرى أنّ مفهوم القوميّة يرتدّ بالإنسانيّة خطوةً إلى الوراء، ولا يولّد غير المزيد من المشاكل. ودلّل في هذا السياق بما خلقته القوميّات، وما نشأ من ثقافاتٍ دينيّة 90% منها يخدم المصالح السياسيّة في المنطقة.
وتابع سيلاجيتش أننا، ونحن نتحدث عن «الكنيسة» على سبيل المثال، فإننا يفترض بنا نظرياً أن نتحدث عن مفهومها الدينيّ في خطابنا الحديث، لكنّ هذا الفهم كثيراً ما كان يمتدّ نحو ظلالها السياسيّ ومجموعة المصالح التي تغلّف هذا المفهوم؛ إذ لا نقف فقط عند الخلافات الدينية الصرفة، بل إلى ما هو أوسع من ذلك، بدليل ما كان للكنيسة الأمّ- في أحد تصنيفاتها- من تأثير في مباركة أو تتويج الحكام الأوروبيين، وفي هذا الخضمّ تحدث عن أوضاع البوسنة قديماً وحديثاً وما كانت عانته من حروب متواصلة، بسببٍ من مخالفتها السائد أو من «تمرّدها» كما قال في الموضوع السياسيّ والدينيّ على السواء، وساق سيلاجيتش مرحلة مجيء العثمانيين ووصول نسبة الإسلام في البوسنة إلى 51% من سكانها في ظلّ وجودٍ واضحٍ للكاثوليك والأرثوذكس.
اتفاقيّة دايتون
وفي هذا الإطار تحدث سيلاجيتش عن اتفاقيّة «دايتون» المنعقدة عام 1995 تحت رعاية المجتمع الدولي، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، معرباً عن أسفه لعيوب الاتفاقيّة التي لم تمنع البوسنويّين من السعي للحفاظ على وحدة الأراضي بقبول هذه الاتفاقيّة، على اعتبار أنّ البوسنة، كما قال، دولة قديمة وأنّ شعب البوسنة والهرسك بحسب الدراسات العلميّة يُعدّ أقدم شعبٍ في أوروبا كافة، ورصد سيلاجيتش من سلبيات الاتفاقيّة أنّها حافظت على ما أخذه الصرب ببناء كيان داخل إطار البوسنة والهرسك اسمه «الجمهورية الصربية»، معرباً عن أسفه للهدف القائم في هذا الخضمّ على التطهير العرقي وجرائم الإبادة الكاملة باعتراف المحكمة الدولية كما قال.
وفي مقاربته بين الوضع في سوريا ومثيله في البوسنة والهرسك، رأى أنّ تشابهاً واضحاً بينهما، موضّحاً أنّه اجتمع مؤخراً مع رؤوساء الفصائل السورية في اسطنبول بغية نقل تجربة البوسنة والهرسك إلى سوريا، مؤّكداً أنّ للسوريين برنامجهم الخاص وآمالهم الخاصّة كذلك، شارحاً أنّ هدف البوسنيين الأساسي قبل توقيع اتفاقيّة دايتون إنّما كان الحفاظ على وحدة أراضي البوسنة والهرسك، ولذلك، رأى سيلاجيتش أنّ هذا الأمر ينطبق إلى حدٍّ ما على الموضوع السوري، خصوصاً في ظلّ ما يُشاع من أنّ بعض أطراف القوى الكبيرة تتدارس تقسيماً لسوريا من أجل السلام. وفي هذا الشأن تحدّث عن العبء الذي تتحمله الدول في فترة ما بعد الحرب؛ خصوصاً وقد رأى أنّ الحرب لا تنتهي باتفاقيات سلام؛ معترفاً بتداعياتها كما في حالتي سوريا والعراق، إذ تستمر هذه الحرب بوسائل أخرى تستهدف تفكيك الآليات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والتعليم، متخذاً من بلاده أنموذجاً في السعي الجادّ نحو بناء دولة توصف بأنّها حققت اقتصادها القوي بالتعليم والوعي والتقدّم.
ما بعد الحرب
وتحدّث سيلاجيتش عن خطورة ترك «جيل ما بعد الحرب» من غير عنايةٍ، مشدّداً على أهميّة توفير بُنيته الصالحة للتعليم الحقيقيّ؛ خصوصاً وأنّ هذا الجيل مهدّدٌ بأن يحيد عن ثوابته إذا لم نشتغل عليه باعتباره أمام «باب الخروج»، ناقلاً تجربة جيل ما بعد الحرب في البوسنة، مؤكّداً أن هذا الجيل إذا لم نتداركه في سوريا والعراق على سبيل المثال فإنّه سيعاني كثيراً مما يعيشه أمام تطور هائل جديد لا يجد أمامه قاعدةً علميّةً ترشده أو رؤيا ينطلق منها نحو آفاقه الضرورية. وقال إنّ البوسنة عانت من انخفاض مستوى التعليم مع الانتشار المفاجئ لكلّ هذه الجامعات والكليات التي ملأت المكان. وفي مجال التعليم، دعا إلى الاتعاظ بما يحدث من انتشار ظاهرة شراء الشهادات التي غدت عمليّةً تجاريّةً واسعة وهو ما يتناقض مع رسالة التعليم، بوصف التعليم أولويّةً مهمّةً جداً لا يستغني عنه أيّ بلدٍ، خصوصاً البلدان التي تخرج من حروب كارثيّة في المنطقة وتنشد مستقبلاً جديداً للأجيال.
وفي محور «الأزمة العالميّة» انطلق المحاضر من أنّنا لسنا وحدنا من يعيش هذه الأزمة، مبيّاً أنّ العالم كلّه يعيشها، بدليل أنّ دولاً غنيّةً ومتقدّمةً كأوروبا وأميركا تعاني منها ولكن بشكلٍ قد يختلف قليلاً، وفي هذا الموضوع لفت سيلاجيتش إلى ما أسماه «أزمة إعلام»، محذّراً من تكنولوجيا جديدة تنتشر بسرعة هائلة وتستلزم معها سرعةً تسايرها جنباً إلى جنب، وهو تسارعٌ قال إنّه يفوق الطاقة البشريّة التي تعجز عن احتماله، ليشكّل أحد أهمّ الأسباب المهمّة لنشوء الأزمة؛ مبيّناً أنّ الطبيعة الإنسانيّة لا تحتمل القفزات النوعيّة السريعة، مدللاً بأنّ «تكنولوجيّات» وظواهر جديدة يوميّاً تجابهنا وليس لدينا الوقت الكافي لنستوعبها أو لنسايرها على الأقل.
وساق سيلاجيتش ما حملته مداخلته في «قمة التقدّم الاجتماعي» المنعقدة بكوبنهاجن عام 1994، بحضور الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتيران والزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو، مبيّناً أنّه نبّه إلى خطر التسرّع وعدم التريّث، وفائدة أن نتدرّج موضوعيّاً في التقدّم، متخوّفاً من أن تنتقل مشكلة البوسنة في هذا الموضوع إلى بلدان كثيرة، على اعتبار أنّ التاريخ الإنسانيّ بطبعه تدريجيّ، وأنّ مشكلة عدم المواكبة غدت مشكلةً شائعة في العالم ككل.
صدام الحضارات
وحذّر من نقطة مهمّة قال إنّها تشكّل خطراً كبيراً على الإنسانيّة؛ وتتمثّل في هذا الالتقاء المفاجئ بين حضارات عاشت منعزلةً جغرافيّاً وحضارات عاشت ظروفاً مغايرةً، لافتاً إلى حضارات «منعزلة» ربّما تخلق زوايا «حادّة» حولها، خصوصاً حين يتمّ الالتقاء بعد فترة طويلة، خالصاً إلى أنّ ما نراه اليوم إنّما هو «صدام حضارات» بالمعنى الدقيق.
وفي الموضوع ذاته، دعا سيلاجيتش إلى إعمال الحكمة والعقل في هذه الأزمات التي تجتاحنا صبح مساء، منادياً بأن نستفيد من وجود من أسماهم بـ»العقلاء» الذين لن يعدمهم أيّ مجتمعٍ ودولة، وباستطاعتهم أن يوقفوا الكوارث قبل حدوثها، لنجابه بهم دعاة الحرب وغُلاتها؛ متمثلاً في هذا المجال بأزمة الصواريخ الكوبيّة التي كادت تؤدّي في دقائق إلى كارثة نووية بين الاتحاد السوفييتي وأميركا، لولا عقلانيّة الرئيسين كيندي وخروتشوف.
وعودةً على موضوع العناية بالنشء وتحصينه بالعلم والثقافة، دعا المحاضر إلى ألا نتغطّى بالقشور ونبسّط الأمور كثيراً أمام أبنائنا، بل لا بدّ من رؤيةٍ واعية تستجيب لنوازعهم بذكاء فتظلل اطّلاعهم على ما يلتقطونه من أخبار وموادّ إعلاميّة من الشبكة العنكبوتيّة «الإنترنت»، محّذراً مما أسماه بـ»الجرائم الفنيّة» التي قد لا تعطينا فرصة التفكير أمام سرعة هذا العصر وهذا السيل الطامي في أحداث نقوم نحن بتبسيط التفكير حيالها، أو بـ»تبسيط اللغة» الذي هو «تبسيط للنفس» في نهاية المطاف، على اعتبار أنّ ثلثي مواد الإنترنت من المعلومات والأخبار يدخل في باب الاختصار، ما يحيلنا إلى «جريمة فنيّة»، في خضمّ ما نقول إنّه شفافيّة، في حين أنّه ليس إلا «ضبابيّة» تنتشر على الإنترنت، مع الادعاء بأنّ شفافيّةً على هذه الشبكة التي تزدحم عليها الأخبار فتترك حالةً من الحيرة في الوقت الذي نتحدث فيه عن مرحلة «ما بعد الحقيقة».
وعودةً على موضوع «صدام الحضارات» الذي استنسخ منه سيلاجيتش موضوع «صدام الثقافات»، والخوف من فقدان الهويّة أو انصهارها في ظلّ ما نسبته 1% يحكمون العالم، مبيّناً أنّ الخوف على فقدان الهويّات أو ذوبانها إنما أصبح سلاحاً شعبويّاً يستخدمه السياسيّون. وقال إنّ الخوف من ضياع الهويّة هو صورة للخوف من المستقبل الذي يصبح فيه التنبؤ أمراً صعباً بل مستحيلاً، نظراً لتغير الظروف ودخول متغيرات سريعة على النماذج، ما يدعو إلى «حركة عالميّة» تقف بالضدّ من خطر الحركات اليمينيّة المتطرفة.
الحركات اليمينيّة
وفي موضوع الحركات اليمينيّة، قال سيلاجيتش إنّ «تسويقاً للخوف» بسببٍ من هذه الحركات يصوّر الإسلام على أنّه ندبةٌ في المنطقة، ويحذّر بدعاوى خطيرة مفادها أنّ «المسلمون قادمون» وهو ما يلاقي قبولاً في هذه اللحظة التاريخيّة الحرجة، لدرجة أنّ معادلةً رياضيّةً أصبحت أشبه بحقيقة مفادها أنّ الإسلام يساوي الإرهاب، وهو ما رآه خطيراً جداً وينافي الحقيقة الطيّبة التي هي موجودةٌ في هذا الدين!
«هل الإسلام قوّة رجعيّة؟!» سأل سيلاجيتش، متعجباً من آراء تقول بذلك وتنادي بأنّ هذا الدين هو أكبر قوّة رجعيّة في العالم، ما يعني أن نُخرج ثلثي سكان الكرة الأرضيّة خارج التاريخ أو ننحيهم عن المشاركة فيه، داعياً إلى خيار الإنسانيّة الذي هو أشبه بسفينة كبيرة لا تجاريها مساحة الزورق الصغير، مقارناً بين الفهم الأوسع العقلاني والآخر المنغلق اللاإنساني، باعتبار أنّ خيار الإنسانيّة إنما هو خيارٌ قِيْمِيٌّ أخلاقي.
القيم الإسلاميّة
وفي معرض حديثه عن مستقبل العالم الإسلامي، قال سيلاجيتش إنّ لدينا من القيم في عالمنا الإسلاميّ ما يمكِّننا من القيام والنهضة مرّة أخرى، داحضاً النظرة الظالمة للإسلام، بدليل ما أسهم به الإسلام والمسلمون والحضارة الإسلاميّة، وما جاء في القرآن الكريم الذي خاطب البشر بآدميّتهم وإنسانيّتهم، فقال «يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..»، وذلك كما أكّد بيانٌ واضحٌ للبشريّة بإسهام الحضارة الإسلاميّة في المضمار الإنساني، فضلاً عن كون القرآن يشتمل على حلول واقعيّة أثبت الزمان صدقها، فالمسألة هي مسألة قِيَم تدعونا إلى أن نفكّر جميعاً بمستقبل الأجيال الجديدة التي تعيش حروباً قد لا تنتهي في الشرق الأوسط، بسبب وجود نقاط حارّة كثيرة في العالم يتنازعها اختلاف المصالح هنا أو هناك.
وفي الموضوع الديني المسيّس أو الموظّف حذّر المحاضر من خطر اللعب على الوتر الديني الذي يزداد بمعاونة الآلة الإعلاميّة الماحقة، منادياً بنظام تشاركي في كلّ شؤون الحياة لنتمكن جميعاً من العيش على سطح الأرض، منبّهاً إلى أنّنا حين نخاطب الظالم لا نخاطبه مرتبطاً بدينه فنردّ ظلمه إلى اعتناقه هذا الدين أو ذاك، بل نخاطبه مجرّداً عن دينه، لأنّ إلصاق الظلم والجريمة والقتل والدمار باسم الدين إنّما هو عملٌ خطير يؤجج مشاعر الناس ويزيد من التهاب المنطقة بالعصبيات والتنازعات.
الفاعوري: آفاق جديدة
قال أمين عام منتدى الوسطيّة المهندس مروان الفاعوري إنّ العالم كلّه يضبط أنفاسه على وقع الانتخابات الأميركيّة وتداعيات انتخاب الرئيس ترامب وما يطرحه من رؤى وإجراءات لا تحظى بأيّ قبولٍ داخل أميركا وخارجها، وتأثير ذلك على العلاقات ما بين الغرب والشرق. ورأى أنّ نوعاً من القلق يشوب هذه العلاقات لدى المتابعين والمهتمين، متسائلاً عمّا يمكن أن يحمله الأفق انطلاقاً من أنّ سيلاجيتش ممن يؤخذ برأيهم في الاستشراف والتحليل السياسيّ، وعمّا يمكن أن تحمله آفاق عالمنا العربي أيضاً، خصوصاً بعد موجة الإرهاب وطوفان الصراع الدّامي الذي تشهده المنطقة، في ما يُسمّى بـ»الربيع العربي»، وما نشهده من موجة معاكسة لهذا الربيع في الأنظمة العربية، متسائلاً عن الحلول وكيفيّة الخروج من هذه المرحلة بإيجاد صيغة توافقيّة جديدة. ومن جانب متّصل، سأل الفاعوري عن رؤية سيلاجيتش حول مستقبل المعرفة وتوطينها وإنتاجها في العالم العربيّ قياساً إلى النموذجين الأوروبيّ والأميركي.
الشّناق: نظرية الخوف
وتساءل أمين عام الحزب الوطني الدستوري الدكتور أحمد الشناق عن حال العالم العربي في ظلّ الدماء المذهبيّة والطائفيّة، وهل يمكن أن نطبّق عليه «نظريّة الخوف» العالميّة التي صيغت لمنطقتنا في بُعدين، الأول تطبيق الحروب المقدّسة في الامبراطوريّة الرومانيّة بحيث يجري مسارها على المنطقة العربيّة، والثاني ما أسماه الإعجاب العالمي، وتحديداً في القوى ذات التأثير على مستقبل المنطقة، كما في تجربة الأندلس ودويلات الطوائف؟!
مراد: علماء الفكر
أكّد الباحث والمفكر الإسلامي الدكتور حمدي مراد ما قاله سيلاجيتش من أنّ الأزمات العالميّة لها حلول في الإسلام، متسائلاً عن كيفيّة أن نشارك في حلّ هذه الأزمات، ونحن في وضعنا الحاليّ الذي نعاني فيه من تمزيقٍ شاملٍ للمنطقة العربيّة الإسلاميّة، كما سأل: هل يمكن للبُعد الرسمي العربيّ الإسلاميّ أن يفعل شيئاً أم أنّه أسيرٌ للقرار الغربيّ الشموليّ على المنطقة؟!.. وهل يمكن للشعوب أن تتحرّك بآليّة ما لتشارك في هذا الاتجاه الإصلاحي السلمي؟!
وطرح مراد سؤالاً يتعلّق برؤية سيلاجيتش في دور علماء الفكر والبحث الإسلاميّ، وما إذا كان يمكن أن يشاركوا وفق آليّة جماعيّة تناقش وتضع الحلول لعالمنا وللآخرين.
المومني: التقدم السريع
ورأى أستاذ فض النزاعات في الجامعة الأردنيّة الدكتور حسن المومني أنّ «السرعة» موجودة أصلاً في التاريخ البشريّ نتيجةً للتطوّر المعرفي، داعياً إلى وجوب أن نفهمها في إطارها الزمني، إذ لا تشكّل «السرعة» عائقاً أو مشكلةً، لأنّ مستوىً من المعرفة كما رأى قادرٌ على أن يستوعبها ليتكيّف معها في نهاية المطاف.
وساق المومني في هذا الإطار فترة «القرون الوسطى»، والسيطرة الأوروبيّة إضافةً للسرعة، لتجيء أممٌ أخرى من خارج النطاق الأوروبيّ فتدخل في السياق المعرفي، بل وتتجاوز السرعة. وقال إنّنا ونحن نتحدث عن الأزمات نجد أنّ هناك محركاتٍ للتوجّه التكنولوجي، وإلا فكيف استطاعت هذه الدول غير الأوروبيّة مثل الصين والهند أن تتكيّف مع هذه السرعة، في حين أننا فشلنا نحن في العالم الإسلاميّ في هذا الموضوع، لأنّ العالم الإسلاميّ فشل في إنتاج معرفته الخاصّة في دولةٍ مدنيّةٍ قادرةٍ على التكيّف والاستجابة للصراع.
الحاج: الإسلام فوبيا
أبدى النائب الأسبق الدكتور محمد الحاج استغرابه من حالة «الإسلام فوبيا»، بالرغم من أنّ أوروبا والغرب قد انفتحوا على المسلمين والعرب أواخر القرن العشرين، لكنْ، ما إن انتهى ذلك القرن وبدأ القرن الواحد والعشرون حتى انقلبت الأمور رأساً على عقب باتجاه «فوبيا» ضخمة، وسأل الحاج حول وجود قوى خفيّة تحرّك مثل هذا الموضوع، وبالمقابل هل يمكن أن تعود الأمور كما كانت فيتقبّل الغرب ذلك؟!.. وما هو دورنا كمثقفين في العالم الإسلامي في هذا الموضوع؟!
بني مصطفى: صراع المعسكرين
سأل العقيد المتقاعد سامي بني مصطفى أنّه وفي ظلّ النزعة القوميّة الصربيّة في إقامة دولة صربيا الكبرى، والتي تلامس أجزاءً من النمسا، عن إمكانيّة أن نقول إنّ ما حدث في يوغسلافيا السابقة إنّما هو صراعٌ بين المعسكرين الغربيّ والشرقيّ على الأرض اليوغسلافيّة، الخاسر الأكبر فيه المسلمون؟! كما تطرّق بني مصطفى، الذي كان شارك في قوات حفظ السلام هناك، إلى موضوع قتال المسلمين على جبهتين هما الصرب والكروات، وانقسامهم بعد ذلك بين الجبهتين، متسائلاً عن تأثير ذلك على المسلمين البوسنيين الآن، كما قدّم بني مصطفى إحصائيّةً حول دولة صرب البوسنة ودولة البوسنة والهرسك استفاد منها في سؤالٍ حول نسبة الـ51% التي يشكّلها المسلمون في البوسنة والهرسك من عدد السكان لماذا يكون مقابلها أنّ حصّتهم في الرئاسة فقط هي 17%؟!
العزوني: تنظيم داعش
وتساءل الإعلامي أسعد العزوني: إلى أين يتّجه مصير داعش في ظلّ المعطيات الحاليّة، بين تقدّمها واحتلالها الأرض في ما مضى، وانحسار هذا التقدّم لديها اليوم؟!
حجازي: الرؤية الاقتصادية
تحدّث الإعلامي مروان حجازي عن الفترة التي ترشّح فيها سيلاجيتش للرئاسة وطرح فيها برنامجه الاقتصاديّ لـ»يخرج البلاد من أزمتها»، فتصدّت له الأحزاب البوسنيّة، ولم تمكّنه من النجاح، كما رأى حجازي، الذي تساءل عما إذا كانت رؤيته الاقتصاديّة في أساسها إسلاميّة أم لا.
نوري: الاتحاد الأوروبي
سأل جابر نوري حول وجود إيّة إشارة لانضمام البوسنة والهرسك إلى الاتحاد الأوروبيّ ، بما أنّها تُعدّ إحدى دول أوروبا ؟!، متسائلاً عما إذا كان عدم وجود منفذ للبوسنة والهرسك على البحر مقصوداً أم لا.
الطيّب: رسالة عمان
وفي سياق حديثه عن «الشيوعيّة» و»الرأسماليّة» تحدّث الفريق الركن المتقاعد العين غازي الطيّب عن تبني الرأسماليّة مبدأ الحريّة المطلقة، التي ما زالت مسيطرة باسم هذا المبدأ، لافتاً بالمقابل إلى أنّ فكرة المساواة الكاملة التي تبنّتها الشيوعيّة كانت قد أثقلت الجميع، لدرجة أنّ الدولة التي ترعى «الناس» انهارت، في حين بقيت الرأسماليّة.
وتطرق الطيّب إلى مراحل الدولة الإسلاميّة، متحدثاً عن دول الخلافة في فترة الأمويين والعباسيين والعثمانيين، وهي دول قال إنّ سيطرتها كانت بسبب حملها لفكرة العدالة وشعارها، فلمّا تخلّت عن هذه الفكرة انتهت، ومن ذلك تساءل الطيّب: هل يمكن للمسلمين اليوم، خصوصاً وأنّ قرآننا له خاصيّة أنّه يستوعب الجديد، أن يحملوا فكراً جديداً يبثّوه في أوروبا كفكر الوسطيّة الذي يتبنّاه منتدى الوسطيّة، وما أكّدته «رسالة عمان» التي قام عليها فقهاء وعلماء أجلاء من هذه الوسطيّة والتسامح والفكر المتجدد، لننفي أية صورة نمطيّة أو «فوبيا» من الإسلام، فنطرد بذلك عوامل القتل والكراهيّة والحدود اللاإنسانيّة التي نعيش، كما أعرب الطيّب عن أمله بأن يتمّ تصحيح كلّ المفاهيم الخاطئة والمغلوطة وأن يقوى الأمل بمفكري الإسلام وعلمائهم، عادّاً الجهود التي يقوم بها سيلاجيتش خطوةً مهمّةً ومبادرةً ضرورية في هذا المجال.
الآلة الإعلاميّة لها أبعاد خطيرة في تقصّدها اللعب على الوتر الديني
»القوميــــــات« ظاهرة ترتدّ بالمجتمعات خطوةً إلى الوراء
بين الثقافة والسياسة
أكّد السفير الأسبق ياسين الرواشدة أنّ الدكتور حارث سيلاجيتش شاعرٌ ومثقّف خسرته الثقافة وربحته السياسة، مرجّحاً أنّ ظروف الحرب في البوسنة هي التي شغلته عن أن يكون كاتباً كبيراً أو ربما حائزاً على جائزة نوبل في الآداب.
وانطلق من أنّ سيلاجيتش كان شديد الإخلاص لبلاده، فدفعته الظروف السياسيّة الحاصلة إلى أن يخدم وطنه من الباب السياسيّ، فكان خلال الحرب وزيراً للخارجيّة ثمّ رئيساً للوزراء، وهو لذلك يمتلك مزايا طيّبة أهّلته لذلك، خصوصاً وهو يتحدث اللغات العربيّة والانجليزيّة والإسبانيّة، فضلاً عن تقديمه القضيّة البوسنيّة بالشكل الحضاري للإعلام، ليكون الدبلوماسيّ المعروف والشخصيّة السياسيّة المهمّة والكاتب المؤلّف والشاعر.
وقال إنّ سيلاجيتش يُعدّ المرجعيّة السياسيّة العليا في البوسنة، بوصفه شخصيّةً وطنيّةً كبيرةً أسهمت في إنقاذ البوسنة من الحرب والمشاكل، مثلما كان له الدور الأكبر في صياغة اتفاقيّة «دايتون» للسلام التي خرجت بها البوسنة بسلامٍ كاملة الحدود والاستقلال.
وذكر الرواشدة أنّ علاقةً طيّبةً تربط سيلاجيتش بالأردن، كانت ابتدأت في عهد المغفور له الحسين بن طلال، ومن خلال قوات حفظ السلام الأردنيّة التي كانت ضمن قوات الأمم المتحدة المرابطة على حدود البوسنة. وفي هذا السياق أكّد الرواشدة الدور الكبير الذي قام به الحسين في دعم البوسنة على صعد كثيرة، ذاكراً أنّ سيلاجيتش قام عام 2006 كرئيس لمجلس الرئاسة بزيارة الأردن للتوقيع على خمس اتفاقياتٍ للتعاون بين البلدين، لتتأسس على ذلك علاقات متينة بين الأردن والبوسنة والهرسك، خصوصاً وأنّ سيلاجيتش كان ضيفاً في العام الماضي على منتدى الفكر العربيّ، كما أنّ هذه هي الزيارة الرابعة له للأردن، حيث يشارك ضيفاً على مؤتمر يقيمه المنتدى العالمي للوسطيّة بعمَّان.
وأشار الرواشدة إلى سيرة سيلاجيتش الذي ولد بعد الحرب العالميّة الثانية، وهو من أسرة مثقفة وعالمة بشؤون الدنيا والدين، إذ كان والده الراحل «كامل سيلاجيتش» أماماً معروفاً بمدينة سيراييفو ومن مؤسسي الكليّة الإسلاميّة هناك. كما كانت والدته أستاذةً ومربيةً فاضلةً، مما أسهم في تكوين شخصيّة سيلاجيتش التي تأثرت بهذه البيئة المثقفة واسعة الاطلاع في الثقافة والعلم والاجتهاد، ليحصل عقب دراسته الثانويّة على منحة من مملكة ليبيا في عهد الملك إدريس لدراسة اللغة العربيّة والآداب الشرقيّة.
كما لفت الرواشدة إلى أنّ سيلاجيتش، وبسببٍ من معارضته للنظام الشيوعي اليوغسلافي ورفضه الانضمام للحزب الشيوعي اليوغسلافي، وتمسّكه بأفكاره التقدّميّة والإنسانيّة الرافضة للشموليّة، عاني الكثير، ليعود إثر الانفراج النسبي في النظام اليوغسلافي فيعمل أستاذاً في جامعة بريشتينا بيوغسلافيا، فيقوم بالتحضير لنيل درجة الدكتوراة في الولايات المتحدة الأميركيّة في موضوع التاريخ السياسي، ليكون رئيساً للعلاقات الخارجيّة في المجلس الإعلامي الأعلى في البوسنة، مستفيداً من حالة الانفراج التي شهدتها البلاد، خصوصاً بعد تغيير الدستور اليوغسلافي والسماح للأحزاب السياسيّة بالعمل، وهي الحالة التي مكّنته من العمل مع المثقفين الكبار على تأسيس حزب العمل الديمقراطي في البوسنة وهو الحزب الذي فاز وبشكلٍ كاسح في أول انتخابات ديمقراطيّة، ليكون في ما بعد أوّل وزير خارجيّة في الدولة البوسنيّة الديمقراطيّة.
ردود
رأى سيلاجيتش أنّه ما من حرب طويلة إلا وطرأت عليها انقسامات بين أطرافها لأسباب كثيرة. كما أوضح أنّه لا يتوخّى من هذه المحاضرة أن يتحدّث عن الأحزاب، فهو حديث يطول، لافتاً إلى أنّه وبعد مضيّ كلّ هذه السنين ما يزال مقتنعاً بموقفه وصحّة رأيه، حتى لو لم تقتنع به الأحزاب. وقال سيلاجيتش إنّ المشكلة الاقتصاديّة تتضح اليوم، وخصوصاً في مجال الطاقة الكهربائيّة في ظلّ وجود الأنهار والغابات، لافتاً إلى أهميّة مشروعه الذي تبنّاه ونادى به في استثمار الموارد الطبيعيّة في البوسنة، وهو المشروع الذي قال إنّه لم ينجح إما بسبب سوء الفهم أو بسبب عدم التعمّق في قراءة الموضوع أو ربما يكون تعطيله بسبب الحسد السياسيّ الموجود في كلّ مكان.
عصر التعليم
واعترف سيلاجيتش بأنّنا اليوم نعاني من أزمة اقتصاديّة مع أننا بلادٌ غنيّة، مشدداً على أهميّة عنصر»التعليم» في خلق كوادر قادرة على استيعاب هذه المشكلات جميعاً، وتبني خيارات البلد في استخدام كوادره واستثمارها الاستثمار الصحيح والأمثل بعيداً عن الأنانيّة السياسيّة الموجودة في كلّ مكانٍ في العالم، متعجّباً: كيف يمكن من غير تعليمٍ أن ننهض بالبلاد، في ظلّ أنّ المستقبل لا تخدمه الأجندات الشخصيّة والمصالح الفئويّة، وهو ما يستلزم أن يحتمل الجميع النقد البنّاء المكاشف والصريح، عادّاً عدم تقبّل النقد من أهمّ المشلات التي يواجهها العالم الإسلامي. وحول مسألة انضمام البوسنة للاتحاد الأوروبيّ، أكّد «أننا مرشحون لذلك»، على اعتبار ذلك هدفاً رئيساً، منوّهاً إلى أنّ طريق الوصول لهذا الهدف تُعدّ أصعب من الوصول ذاته؛ موضّحاً أنّ هذا معناه أن نصل أولاً إلى «نموٍّ ديمقراطيٍّ» اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ وفي كلّ المجالات، لنتمكّن من تحقيق هدف الوصول.
وقال إنّ الموقع الجغرافيّ يُعدّ من الأزمات التي تسهم في تقدّم بعض البلدان عن غيرها، مقارناً بين مصر واليابان، حيث كانت الأولى عام 1900 أكثر تقدّماً من اليابان بكلّ المقاييس، لكنّها لم تستمرّ في ذلك لأنّها كانت «في قلب الموضوع جغرافيّاً»، في حين كانت اليابان على هامش العالم الحديث، فكان ذلك سبباً من أسباب نجاحها وتراجع مصر، إضافةً إلى عددٍ من الأسباب في هذا المجال.
الصدمة المعرفيّة
وحول موضوع «السرعة والمعرفة» انطلق سيلاجيتش من وجود ما يسمّى بـ»الصدمة المعرفيّة» أو «اختصار المعرفة»، لكنّه وجد أنّ السلبيات في ذلك تتفوّق على الإيجابيّات، شارحاً أنّ جزءاً معيّناً من العالم قد يتمكّن من الاستفادة، بينما يظلّ كثيرٌ من الأجزاء خارج التاريخ لأنّهم لا يعيشون السرعة ذاتها التي يعيشها العالم، ولذلك، فلا بدّ لنا من ضبط أمورنا لكي نلحق بالآخرين، مؤكّداً أنّ هذا التقدّم بهذه السرعة لا تقوى البشريّة على احتماله. ورأى أنّ أزماتٍ محتملة يمكن أن تنشأ جرّاء هذه السرعة الشديدة، مشيراً إلى أنّ أوروبا المتقدّمة يمكن أن يصيبها خطرٌ من رجوعها خطوةً للوراء باتجاه القوميّة والدّم والأرض، وهو ما يعني كما رأى الدمار واحتمال نشوب حرٍ عالميّةٍ ثالثة.
غياب المشاركة
ولفت سيلاجيتش إلى أننا إنّما نعيش التداعيات فقط ولا نشارك بها، موضّحاً أنّه ومع انتشار كلّ هذه المعرفة إلا أنّها ما تزال في أيدي قليلة، حيث تأتينا نتائج «الموبايل» كما يأتينا خبر معرفي متكامل، ولأننا نعيش التداعيات دون أن نشارك بها رأى أنّ ذلك ربما يجعلنا إلى حدٍّ ما خارج التاريخ.
ومع ذلك، فقد تفاءل بأنّ احتمالاً لأن تنتهي هذه الموجة سريعاً، متوقعاً أن يحصل ذلك في بلدان مثل أميركا، متحدثاً عما أسماه «بداية النهاية»، مشيراً إلى أنّ كثيراً من الأوروبيين ممن كانوا سيصوّتون لمرشّحة الرئاسة في فرنسا تراجعوا الآن، لأنّهم خائفون كما رأى من الصدمة التي أكلت كثيراً من إيجابيّات المجتمع الأميركي بعد فوز ترامب. ورأى سيلاجيتش أنّ ذلك يشكّل خطراً على المجتمع الفرنسيّ وبالتالي على أوروبا والاتحاد الأوروبي، موضّحاً أنّ الأرضيّة التاريخيّة في أوروبا شهدت حروباً طويلة منها حرب المئة سنة وحزب الزهور وغيرها، مستنتجاً أنّ ما حصل في أميركا قد يكون نهاية هذه الموجة، وأنّ كلّ ما يسير بسرعة إنّما ينتهي بسرعة.
وأعرب سيلاجيتش أعن أسفه لأن لا يرى حلولاً سريعة لما يحصل في منطقة الشرق الأوسط أو العالم الإسلاميّ، لكنّ الجيد هو أنّ تاريخنا سريعٌ وأنّ المشاكل يمكن أن تُحلّ في فترةٍ أقصر، وفي هذا السياق أكّد أنّه مهما كانت أزمة العالم الإسلاميّ والعربيّ إلا أنّ هناك مقوّمات وأرضيّة متينة تمكّنه من النهوض، خصوصاً في ظلّ وجود من يدعون إلى المحبّة والجمال ويقفون بالضد ممن يروّجون الكراهيّة أو يسوّقون الصورة المظلمة لكلّ شيءٍ في هذه الحياة لأهداف السيطرة عليه.
تأثير الثقافة
ومع تأكيده مشكلة السرعة في العالم، إلا أنّه ردّ نجاح الصين إلى بنيتها الثقافيّة، مشيراً إلى قول عالم الاجتماع الأميركي فوكوياما الذي تُساوي فيه الثقافة الاقتصاد، ومن ذلك رأى أنّ الاقتصاد هو مرآة الثقافة، موضّحاً أنّ الثقافة الصينيّة تؤثر في الاقتصاد الصينيّ، حيث يعمل الصينيّون أربعاً وعشرين ساعةً، لتكون حياتهم كلّها عملاً، انطلاقاً من فلسفة الولاء للدوائر الاجتماعيّة التي أثّرت كذلك في بلدان فيتنام وكوريا الجنوبيّة واليابان. وساق سيلاجيتش في هذا السياق أمثلةً وشواهد تدعم رأيه في أنّ الثقافة الدينيّة أيضاً تؤثّر وبشدّة على اقتصاد هذه الدولة أو تلك، مقارناً بين دول أوروبيّة بعينها في موضوع التقدّم المجتمعيّ الذي ربطه بالمذهب الديني والتصرّف كطائفة أو باعتماد المرجعيّة بالمقابل.
وقال سيلاجيتش إنّ الجيل الجديد في البوسنة يمتلك ميزاته في أن يفكّر بنفسه، لافتاً إلى الأرضيّة الاشتراكيّة بالمقابل التي تشكّل عائقاً أمام التقدّم الذي قد لا ينسجم مع الشباب.
وحول موضوع «داعش» والحركات التي تُسمّى بالإسلاميّة، قال إنّه لا يمتلك إجابةً، كونه لا يفهم هذه الظاهرة التي نشأت وسط أناس لديهم قيم مختلفة تماماً عما تقوم به داعش.
وفي موضوع القضيّة الفلسطينيّة، أعرب سيلاجيتش عن أمله بأنّ هذه القضيّة ستُحل، مشدداً على أنّ القيم المجتمعيّة والوطنيّة هي التي تساعد على النهوض والصمود، متمثلاً بالحالة في البوسنة واعتمادهم قيمهم في مواجهة الاعتداء المسلّح بالرغم من كلّ التوقعات، وهي قيم قال إنّها تساعد أيضاً على المدى الطويل، وهي موجودة في المجتمعات العربيّة وستساعدها على النهوض من محنتها وتجاوز الأزمات.
وفي حديثه عن حالة القلق أمام الوضع الجديد في أميركا، قال إنّ التفكير من المنظور الاقتصاديّ فقط قد لا يكون مجدياً في كثير من الأحيان، موضّحاً أنّ السياسة ليست «بزنس» في نهاية المطاف.
السياق القرآني
وعودة على فهمنا كمسلمين لقرآننا ونهجنا الحضاريّ، أكّد أنّ المهمّ هو في فهم السياق القرآني واستنباط أحكامه والتيسير في فهم الواقع الجديد بإيجاد حلول مواكبة، على اعتبار أنّ القرآن كتابٌ صالحٌ لكلّ زمانٍ ومكان، ويلبّي جميع المستجدّات والأزمات.
وختم سيلاجيتش بتأكيده أهميّة «التعليم» والمواكبة والقراءة الواقعيّة الذكيّة، ومع أنّ الحلول ليست سهلةً أو سريعةً كما رأى، إلا أنّه أعرب عن أسفه لأن يكون في العالم العربيّ بحسب الإحصائيّات 70 مليون أمّيٍّ، وهو رقمٌ كبيرٌ لا بدّ أن ينتهي إن نحن صحّ منا العزم على النهوض بخلق جيلٍ متقدّمٍ واعٍ يفهم ديننا الحقّ ورسالته السّمحة لكي نلفظ من بيننا من يسيء إلى المليار ونصف المليار مسلم، وذلك لا يكون إلا بالجهد والاسثمار الحقيقيّ الذي أساسه الإنسان.