في رحاب آية
(الانتصار بالهجرة إلى الخزرج والأوس يفتح الطريق لتحرير الأقصى والقدس)
﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].
جاءت ذكرى الهجرة هذا العام واليهود ماضون بصورةٍ جنونيةٍ في تهويد القدس، والسعي الحثيث لهدم المسجد الأَقصى مسرى نبينا عليه الصلاة والسلام، وعتبةِ المعراج إلى السموات العلا، وسدرة المنتهى، وقد تحركت النخوة في شعوب الأمة، وبالتزامن مع مسيرة ضخمةٍ، واعتصامٍ حاشدٍ في غزة، كانت المسيرة المليونية الزاحفة من عمان تجاه الحدود في أقرب نقطة من بيت المقدس، وقد انضمَّ إلى هذا التحرك مليونية أخرى تنطلق من الجامع الأزهر بالقاهرة، قد نَظَّمتها الحملة الشعبية لمقاومة تهويد القدس، بعد أن أقنعت شيخ الأزهر بإعلان وثيقة القدس، وقد كان من المفترض أن يُحَرِّضَ الجماهير من خلال خطبة الجمعة فضيلةُ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، ولكنَّ قَدَرَ الله غالب، رغم نزوله من الدوحة إلى القاهرة خصيصاً لهذه المهمة.
لذلك رأيتُ أن أُعَلِّقَ على المكائد اليهودية من خلال دروس الهجرة النبوية وعلاقاتها بالمسجد الأقصى، ذلك أن الإسراء إليه قد حصل في الفترة التي سبقت الهجرة بعامٍ أو أكثر، وكانت الدعوة قد وصلت إلى طريق مسدود؛ بما واجهت من الصدود، غير أن الإسراء إلى بيت المقدس القابع تحت الاحتلال الروماني لأكثر من ستة قرون كان يعني أن يكون تحريره وتطهيره للركع السجود أمانة في أعناقنا، ولا عذر بالاستضعاف والعجز ألَّا نستطيع حيلة، أو نهتدي سبيلاً إليه، والمهم هو وضع الخطة، والبحث عن النصير، وقاعدة الانطلاق.
وقد كان اللقاء بوفد يثرب في موسم الحج هو البداية، ثم كانت بيعة العقبة الكبرى على الحماية والنصرة ممهدة للهجرة، ولم تكن فراراً من مكة، ولُجُوءاً إلى المدينة بحثاً عن الأمن والراحة، إنما كانت انتقالاً من الدعوة إلى الدولة، ومن الضعف إلى القوة.
ولم يكن ميسوراً أن يتوجه تلقاء المسجد الأقصى وظهرهُ مكشوفٌ لعدوه اللدود في مكة، حتى إذا أمِنَ شَرَّهم بصلح الحديبية شرع في فتح الطريق إلى الشام، وكان لا بد من إزاحة العقبة الكؤود من الطريق؛ إنها خيبر؛ شَرُّ الدواب عند الله، فلم يَمْضِ شهران من الحديبية حتى كان الزحف إلى خيبر بحصونها الثمانية، وقد تراخى كسر شوكتها جميعاً شهرين آخرين، وبسقوطها أضحى الطريق سالكاً إلى الشام، وكان النبي - صل الله عليه وسلم - قد أرسل الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بُصرى يدعوه فيها للإسلام، كما بعث سبعةً آخرين إلى كبار الملوك والزعماء يحملون كتب الدعوة إلى الإسلام، فكان أنِ اغتيل ذلك السفير على يد أحد عملاء الروم من خونة العرب، ولو لم نأخذ بثأره فربما شجَّع ذلك الآخرين على النيل منا، لذلك فقد تحرك ثلاثة آلاف إلى مؤتة لتأديب الغادرين، فخرج إليهم مائتا ألف من الروم وعملائهم العرب، ودارت معركة حامية الوطيس، قُتِلَ فيها القادة الثلاثة، ثم أنقذ الله جلَّ جلاله الموقف بخالد بن الوليد رضي الله عنه، وهو سيف الله المسلول.
ثم خرج النبي - صل الله عليه وسلم - بنفسه على رأس جيش قِوامُهُ ثلاثون ألفاً؛ للتصدي للرومان الزاحفين إلى تبوك، فهزمهم الله بالرعب مسيرة شهر، رغم أنها كانت غزوةَ العسرة، واضطر نصارى العرب إلى عقد الذمة، فَأَعْطَوْا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
إن أنظار النبي - صل الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس لم تنقطع عن التطلع لكسر شوكة الرومان، وإنقاذ الأقصى من براثنهم، لذلك فقد عقد اللواء لأسامة بن زيد بن حارثة؛ ليثأر منهم لدم أبيه أحدِ القادة الثلاثة الذين لَقُوا الله شهداء من قبل في مؤتة، غير أن المنية عاجلته، فأمضى بَعْثَهُ أبو بكر رضي الله عنه، ونال أسامة ثأره من الروم، ووصل إلى الداروم؛ أيْ إلى مشارف دير البلح في لواء غزة، وهو المسمى عند الصهاينة (كِفَار داروم).
ثم عقد الخليفة الأول لواء الجيش الزاحف إلى الشام، وعاجلته المنية، فواصل عمر رضي الله عنه الزحف إلى اليرموك، فلما غُلِبَت الروم صار الطريق ميسوراً إلى بيت المقدس، وقد تسلم مفاتيحها عمر رضي الله عنه شخصياً، وكتب الوثيقة العمرية للنصارى، واشترطوا عليه ألا يترك يهودياً يعيش آمناً في المدينة المقدسة، وهي وصية في أعناقنا؛ لنخرجهم منها أذلة وهم صاغرون.
إن آية التوبة تتوجه بالعتاب للذين تثاقلوا إلى الأرض يوم قيل لهم: انفروا في سبيل الله للزحف على الروم؛ بأنكم إن لا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً، ويستبدل قوماً غيركم، ولا تضروه شيئاً، أيْ لن تضروا دينه شيئاً، فإن الذي نصر نبيَّه ليلة الهجرة لن يعجزه أن ينصره اليوم، ومعه ثلاثون ألف مقاتل.
وقد دَلَّتِ الآية على أن الهجرة نصرٌ من الله، فقد خرج عليه الصلاة والسلام من بين فرقة الموت المختارة خصيصاً لمهمة الاغتيال بأربعين سيفاً من أربعين قبيلة، وقال: شاهتِ الوجوه، بل عَفَرَ التراب في وجوههم، ثم نصره والمشركون على شفير الغار؛ إذ لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرهما، ثم كان النصر الثالث بإنزال السكينة عليه، ليقول لأبي بكر وهو مطمئن إلى معية الله: ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]، وقد يراد بذلك إنزال السكينة على أبي بكر رضي الله عنه، فهو الذي كان مشفقاً من أن يُقْبَضَ على رسول الله - صل الله عليه وسلم -، بينما كان عليه الصلاة والسلام مرتاح البال، ساكن القلب، ما دامت معية الله معهم.
وقد تحقق الانتصار على قريش والقبائل الأربعين بالسكينة أولاً، وبجنود لم تروها ثانياً، فوصل الرسول وصاحبه إلى المدينة، وجعل الله بذلك كلمة الذين كفروا السفلى، حين ضاعت جهودهم سُدى، بينما ظلت كلمة الله هي العليا، كما هي دائماً، والله عزيز لا يُغْلَبُ، حكيم فيما يُدَبِّرُ ويُقَدِّر.
ومما يشهد بأن الهجرة كانت انتصاراً بالفعل قوله تعالى في سورة الحشر: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ .. ﴾ [الحشر: 8].
إن الفترة بين فتح بيت المقدس، وتطهير المسجد الأقصى، لم تزد على خمسة عشر عاماً، وهذا زمن قصير جداً في أعمار الشعوب ولكنها صِبغة الله، ومن أحسن من الله صِبغةً، فقد أخرجنا بالإيمان والقرآن خلقاً آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين؟!!.
إن السرَّ في ذلك أننا قوم أحرص على الشهادة والآخرة بأشدَّ من حرص عدونا على الدنيا أو الحياة أيِّ حياة، لذلك فإننا ننتصر بالثبات والمصابرة والسكينة، بينما ينهزم عدونا بالرعب ، والخوف، ولأنتم أشدُّ رهبة في صدورهم من الله، كما أنه سبحانه قد كتب في الزبور من بعد الذكر أن هذه الأرض يرثها عباده الصالحون، وإننا لنرجو أن نكون عباداً له أُولي بأس شديد، نقاتل قوماً قد أفسدوا في أرضنا المباركة، وعَلَوْا علواً كبيراً، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، ويسعون في الأرض فساداً، والله لا يحب المفسدين.
إن أحفاد الصحابة الذين هم على آثارهم مهتدون، وبهم مقتدون، هم الذين يقودون اليوم زحف المقاومة والجهاد في سبيل الله، فلا عجب إذنْ أن يختصروا الزمن، فيهزموا الصهاينة في الانتفاضة الأولى التي انطلقتْ بالحجر في أقلَّ من سبع سنين، حتى استعانوا بأزلام أوسلو قريباً من سبع سنين، حتى إذا انطلقت انتفاضة الأقصى من جديد إذا بهم يُخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فيما دون خمس سنين، وقد حاولوا في الرصاص المصبوب أن يفرضوا علينا شروط الانكسار فما اسطاعوا أن يظهروا علينا، وما استطاع شركاؤهم في العدوان لجدار صمودنا نَقْباً، وكانوا قد سقطوا في هزيمتين أخريين مماثلتين في جنوب لبنان، فانكشف الضعف والهوان، وقد ازداد رعب الصهاينة بعد الربيع العربي؛ فإن شباب الإسلام هم العمود الفقري لها، وقد بان فعلهم السلمي في بعضها، وفعلهم العسكري في الساحة الأخرى، وإن اكتمال النصر وشيكٌ إن شاء الله.
لقد استبشرت كثيراً بإبعاد العشرات من الأسرى المحررين إلى غزة، فقد تجددت تجربة الهجرة والنصرة، ولا أعتقد أن يصمد الصهاينة في أرضنا خمسة عشر عاماً أخرى.
ولينصرن الله من ينصره