يوم ذي قار، من أعظم أيام العرب قبل الإسلام وأول يوم انتصف فيه العرب من العجم، فمتى كان ذي قار؟ وما أسباب يوم ذي قار وأهم تفاصيله؟
أين يقع ماء ذي قار؟ ذو قار ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة بينها وبين واسط، وبالقرب منه مواضع منها: حنو ذي قار وقراقر وجبابات ذي العجرم وجذوان وبطحاء ذي قار، ويقع حنو ذي قار على ليلة من ذي قار [1]. سبب وقوع ذي قار يرجع الأخباريون سبب وقوع ذي قار إلى مطالبة "كسرى ابرويز" هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود الشيباني تسليم الودائع التي أودعها النعمان بن المنذر لديه إليه. فلما أبى هانئ تسليم ما اؤتمن عليه لغير أهله، غضب كسرى، فبعث إلى الهامرز التستري، وهو مرزبانه الكبير، وإلى جلابزين، كما كتب إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين، وكان كسرى استعمله على سفوان بأن يرافقوا إياس بن قبيصة الطائي حاكم الحيرة بعد النعمان، فإذا اجتمعوا فإياس على الناس. معركة ذي قار وجاءت الفرس معها الجنود والفيلة عليها الأساورة، فالتحموا بأرض ذي قار، فلما كان اليوم الأول، استظهر الفرس على العرب، ثم جزعت الفرس في اليوم الثاني من العطش، فصارت إلى الجبابات، فتبعتهم بكر وباقي العربان، فعطش الأعاجم، ومالوا إلى بطحاء ذي قار وبها اشتدت الحرب، وانهزمت الفرس، وكسرت كسرة هائلة، وقتل أكثرهم وفيهم الهامرز وجلابزين، وانتصر العرب على الفرس انتصارًا عظيمًا، وانتصفت فيه العرب من العجم. ويوم ذي قار لم يكن إذن يومًا واحدًا، أي معركة واحدة وقعت في ذي قار وانتهى أمرها بانتصار العرب على الفرس، بل هو جملة معارك وقعت قبلها ثم ختمت بـ "ذي قار"، حيث كانت المعركة الفاصلة فنسبت المعارك من ثم إلى هذا المكان. ومن هذه الأيام: يوم قراقر، ويوم الحنو. حنو ذي قار، ويوم حنو قراقر، ويوم الجبابات، ويوم ذي العجرم، ويوم الغذوان، ويوم البطحاء: بطحاء ذي قار، وكلهن حول ذي قار [2].
متى وقع يوم ذي قار؟ أما متى وقع يوم ذي قار، فالمؤرخون مختلفون في ذلك، منهم من جعله في يوم ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم من جعله عند منصرف الرسول صلى الله عليه وسلم من وقعة بدر الكبرى، ومنهم من جعله قبل الهجرة. وقد ذهب "روتشتاين" إلى أنه كان حوالي سنة "604م"، وذهب نولدكه إلى أنه بين "604" و"610م". وأكثر أهل الأخبار أنه وقع بعد المبعث ورووا في ذلك حديثًا قالوا إن الرسول صل الله عليه وسلم لما بلغه من هزيمة ربيعة جيش كسرى، قال: "هذا أول يوم انتصف العرب من العجم، وبي نصروا" [3]. أحداث يوم ذي قار والذي يستنتج من روايات أهل الأخبار عن معركة ذي قار أن هانئ بن مسعود الشيباني لم يكن قائد بني شيبان ولا غيرها من العرب يوم ذي قار، بل تذهب بعض الروايات إلى أنه لم يدرك هذا اليوم؛ لأنه هلك قبله، وإنما هو: هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود. وترى روايات أخرى أن هانئ بن مسعود، كان يخشى عاقبة هذه الحرب وأنه لم يكن يريد مقابلة الفرس، وكل ما كان يريده هو الاحتفاظ برهينة النعمان. وأن الفرس عندما دنوا من العرب بمن معهم: انسل قيس بن مسعود ليلًا فأتى هانئًا، فقال له: أعط قومك سلاح النعمان فيقووا، فإن هلكوا كان تبعًا لأنفسهم، وكنت قد أخذت بالحزم، وإن ظفروا ردوه عليك. ففعل. فقسم الدروع والسلاح في ذوي القوى والجلد من قومه. فلما دنا الجمع من بكر، قال لهم هانئ: "يا معشر بكر، إنه لا طاقة لكم بجنود كسرى ومن معهم من العرب، فاركبوا الفلاة". فتسارع الناس إلى ذلك، فوثب حنظلة بن ثعلبة بن سيار فقال له: إنما أردت نجاتنا، فلم تزد على أن ألقيتنا في الهلكة، فرد الناس وقطع وضن الهوادج، لئلا تستطيع بكر أن تسوق نساءهم إن هربوا -فسمي مقطع الوضن- وهي حزم الرحال. ويقال: مقطع البطن، والبطن حزم الأقتاب، وضرب حنظلة على نفسه قبة ببطحاء ذي قار، وآلى ألا يفر حتى تفر القبة. فمضى من مضى من الناس، ورجع أكثرهم. واستقوا ماء لنصف شهر، فأتتهم العجم، فقاتلتهم بالحنو، فجزعت العجم من العطش، فهربت ولم تقم لمحاصرتهم، فهربت إلى الجبابات، فتبعتهم بكر وعجل، فقاتلوهم بالجبابات يومًا. ثم عطش الأعاجم، فمالوا إلى بطحاء ذي قار، فأرسلت إياد إلى بكر سرًّا -وكانوا أعوانًا على بكر مع إياس بن قبيصة: أي الأمرين أعجب إليكم. أن نظير تحت ليلتنا فنذهب، أو نقيم ونفر حين تلاقون القوم؟ قالوا: بل تقيمون فإذا التقى القوم انهزمتم. فلما التقى القوم في مكان من ذي قار يسمى "الجب" اجتلدوا والتحموا، فانهزمت "إياد" كما وعدتهم، وانهزم الفرس [4].
قادة العرب في ذي قار ويذكر الطبري في رواية من رواياته عن "ذي قار" أن الناس توامروا فسولوا أمرهم حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي، وكانوا يتيمنون به، فقال لهم: لا أرى إلا القتال، فتبعوا أمره، وهو الذي تولى إدارة القتال، فكان له شأن كبير فيه، وقد قاد قومه من "بني عجل" في ذلك القتال، فله النصيب الأكبر منه. وقد احتل "حنظلة" مسيرة "هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود" رئيس بكر في القتال الذي جرى في ذي قار في موضع الجب. وكان "هانئ بن قبيصة" رئيس بكر يشغل القلب في أثناء الهجوم على الفرس يوم الجب في ذي قار، وكان على ميمنته "يزيد بن مسهر الشيباني"، و"حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي" على ميسرته يحميه من كل هجوم جانبي يقع عليه من الميسرة، كما ذكرت. وكان "يزيد بن حمار السكوني" وهو حليف لبني شيبان، قد كمن مع قومه من بني شيبان في مكان من ذي قار هو الجب، فلما جاء إياس بن قبيصة مع الفرس إلى هذا المكان، خرج مع كمينه، فباغت إياسًا ومن معه، وولت إياد منهزمة، فساعد بذلك كثيرًا في هزيمة الفرس. فهؤلاء المذكورون إذن هم الذين قادوا نصر العرب على الفرس، وقد ذهب بعض الأخباريين إلى أن الحرب الرئيسية دارت على بني شيبان، ورئيس الحرب هو "هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود". أما "حنظلة" فكان صاحب الرأي. ولكن الذي يظهر من دراسة مختلف الروايات أن شأن حنظلة في القتال كان أهم وأعظم من شأن هانئ فيه، حتى لقد ذكرت بعض الروايات أنه هو الذي ولي أمر القتال بعد هانئ، وأن القوم صيروا الأمر إليه بعد هانئ في معركة "جب ذي قار" وأنه هو الذي قتل "جلابزين"، وأن كتيبته "كتيبة عجل" قامت بأمر عظيم في هذه المعركة التي انتهت بهزيمة الفرس. وكان حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي من سادات قومه، وهو صاحب قبة، ضربت له يوم ذي قار ويوم فلج، ولا تضرب قبة إلا لملك أو سيد. وكانت له بنت يقال لها "مارية"، كانت معه في هذه المعركة، وهي أم عشرة نفر أحدهم جابر بن أبجر. وأورد الطبري شعرًا في يوم ذي قار نسبه إلى "يزيد بن المكسر بن حنظلة بن ثعلبة بن سيار"، وإذا كان يزيد هذا هو حفيد حنظلة كما يظهر من سياق النسب، يكون حنظلة إذ ذاك كبيرًا في السن. وقد نسب الطبري إلى حنظلة شعرًا ذكر أنه قاله في يوم ذي قار. وذكر أن "النعمان بن زرعة التغلبي" هو الذي أشار على كسرى بمهاجمة "هانئ بن مسعود الشيباني" في ذي قار، وكان يحب هلاك بكر بن وائل، وأن إيادًا وهي في الحرب اتفقت سرًّا مع بكر على الهرب، فهربت حين كان إياس بن قبيصة والفرس يقاتلون بكرًا، فاضطرب صف العجم، وولوا الأدبار، فقتل منهم من قتل، وأسر عدد كبير. وأسر "النعمان بن زرعة التغلبي". وكان هانئ بن قبيصة، من أشراف قومه، وكان نصرانيًّا، وأدرك الإسلام فلم يسلم، ومات بالكوفة. أما "قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين"، فكان سيد قومه في أيامه، وذلك قبل الإسلام. وكان كسرى استعمله على "طف سفوان" [5].
أشعار في يوم ذي قار والروايات عن معركة ذي قار، هي على شاكلة الروايات عن أيام العرب وعن حروب القبائل وغزو بعضها بعضًا، من حيث تأثرها بالعواطف القبلية وأخذها بالتحيز والتحزب. فنرى فيها تحيزًا لبني شيبان يظهر في شعر "الأعشى" لهم، إذ يمدحهم خاصة، مما أدى إلى غضب غيرهم مثل "اللهازم"، ونرى فيها إعطاء فخر لفلان وحبسه عن فلان. ولذلك يجب على الباحث عن أيام العرب وعن حروب القبائل وغزواتها أن يفطن لذلك. وشعر الأعشى، أعشى بكر، في ذي قار، ومدحه قومه "بني بكر"، شعر مهم للوقوف على حوادث تلك المعركة وكيف جرت. ولبكير: أصم بني الحارث، شعر أيضًا يمدح فيه بني شيبان ويمجد عملهم وفعلهم في هذا اليوم. وقد هجا "أعشى بكر" في قصيدة له عن يوم ذي قار وعن مقام عشيرته ومكانته فيه تميمًا وقيس عيلان، ثم تعرض لقبائل معد، فقال: لو أن كل معد كان شاركنا *** في يوم ذي قار ما أخطاهم الشرف ونجد شعرًا للعديل بن الفرخ العجلي، يفتخر فيه بقومه ويتباهى بانتصارهم على الفرس في هذا اليوم، فيقول: ما أوقد الناس من نار لمكرمــة *** إلا اصطلينا وكنا موقــدي النــار وما يعدون من يـوم سمعـت به *** للناس أفضـل من يوم بذي قــار جئنا بأسلابهم والخيل عابســة *** يوم استبلنا لكســرى كل أسـوار [6]
[1] البلاذري: البلدان 7/ 8. [2] الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/ 152، 193، ص603، ط المعارف. البلدان 7/ 8 وما بعدها شعراء النصرانية ص137. مجمع الأمثال 2/ 352. ابن رشيق: العمدة، 2/ 169. حمزة ص91. أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر، 1/ 101، دار الكتاب اللبناني. المسعودي: مروج الذهب 1/ 236، وكتب كسرى إلى قيس بن خالد، وكان عاملاً له على الطف، العمدة 2/ 218 وقتل الهامرز بن خلا بزر عامل كسرى، العمدة 2/ 218. [3] البلدان، 7/ 9 وما بعدها. التنبيه والإشراف، ص241. اليعقوبي 1/ 184 وما بعدها، ط النجف. المحبر ص310. الطبري 2/ 193. التنبيه ص 241.الكامل 1/ 285 وما بعدها. Rothstein, S. 123. [4] الطبري 2/ 206، 208 وما بعدها. معجم 3/ 1024، الكامل 1/ 285 وما بعدها. العقد الفريد 3/ 383 وما بعدها، 5/ 211. نهاية الآرب 15/ 431 وما بعدها. صبح الأعشى، 1/ 392 دار الكتب. [5] الطبري 2/ 207 - 210، وما بعدها، 1/ 612. ابن خلدون 2/ 626 دار الكتب اللبنانية. الكامل، لابن الأثير 1/ 173 وما بعدها، 1/ 285 وما بعدها. الاشتقاق ص208. لأغاني 2/ 127، ابن خلدون، القسم الأول، المجلد الثاني ص556، منشورات دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر بيروت 1956م. العمدة 2/ 218. البكري 3/ 1042. [6] الطبري 2/ 211. الكامل 1/ 285 وما بعدها. نهاية الأرب 15/ 431 وما بعدها. الشعر والشعراء 1/ 375.