عــــداد الحكومــــة.. !
الاثنين 7 آب / أغسطس 2017.
واجهت الحكومة الأردنية الحالية ثلاث قضايا عاصفة، لكنها أبرزت روحاً عالية، وأنفة وكبرياء لدى كل أردني وأردنية، ووحّدة صفهم حيال هذه المحن.
وهذه القضايا هي موجة الاحتجاجات التي تلت إصدار حكم ضد جندي أدين بقتل ثلاثة جنود أمريكيين داخل حدود قاعدة عسكرية. وثانيهما مقتل مواطنين اردنيين بدمٍ بارد من قبل حارس في السفارة الإسرائيلية خارج السفارة. والحدث الثالث هو السماح للقاتل وأعضاء السفارة بمن فيهم السفيرة بالمغادرة . ومما جعل من الحدثين الأخيرين مصدر ألم وجرح عميق هو ردة فعل رئيس الوزراء الإسرائيلي وبعض أفراد حكومته تجاه القاتل الإسرائيلي والذي قوبل بأسلوب خالٍ من الكياسة وبشكل مستفز لمشاعر الأردنيين.
وقد قيل في كثير من التعليقات، وعلى صفحات الجرائد ووسائل الاتصال الأخرى أن الحكومة قد قصرت في أداء دورها، وواجبها، وانهالت عليها غضبات أعضاء في مجلس النواب، وبعض مؤسسات المجتمع المدني، وغيرها من التجمعات كالنقابات، والروابط الأسرية، وعشائر في أنحاء المملكة. .
وقد أتيحت لي يوماً فرصة للتحاور مع المغفور له بإذن الله الراحل العظيم الملك الحسين بن طلال، وهو يرقد في فراش العلاج في عيادة «روتشيستر» بالولايات المتحدة عن الوقت الذي كان يختاره لتغيير الحكومة متسائلاً عن العوامل التي يأخذها بعين الاعتبار عندما يتخذ قراراً كهذا. فنظر إلي بعينيه العميقتين سابراً أغواري، وقال مبتسماً «أريد أن أسمع رأيك أنت؟ لا بد وأنك فكرت فيه». فقلت يا سيدنا ارى أنك تعطي كل حكومة مائة نقطة عند تشكيلها. وتنظر كل فترة وأخرى إلى أفعالها وقراراتها وتنفيذها. فإذا أنجزت عملاً إيجابياً منحتها نقاطاً إضافية، وإن لم تحسن التصرف خصمت نقاطاً من رصيدها، ومتى ما صفّر العداد، فإنها ترحل وتستبدل بغيرها. فضحك رحمه الله وقال: أنا لم أفكر بالأمر بهذه الطريقة، ولكن تشبيهك ليس بعيداً عن الواقع.
تمر ظروف قاسية على الدولة تضطر فيها إلى أخذ قرارات صعبة في مرحلة حرجة. وبدون ذنب من الحكومة، يهبط رصيدها الشعبي، فيضطر صاحب الأمر وقائد الأمة إلى تغيير تلك الحكومة، حتى تأتي حكومة أخرى تتحمل ذلك العبء، أو أعباء جديدة.
وتمر بالبلد ظروف سلسة، يشرب الناس فيها ويسقون، ويجدون من الثمرات ما يرغبون، فتستمر الحكومات فترة طويلة . وقد حصل هذا مع عدد من رؤساء هيئة النظار في بدايات الإمارة، ومع عدد من الحكومات مثل حكومة حسن أبو الهدى، وإبراهيم هاشم، وتوفيق أبو الهدى، وزيد الرفاعي، ومضر بدران، وعلي أبو الراغب، وحكومة عبدالله النسور التي بقيت رغم ما مرت به من ظروف صعبة وقاسية.
ومنذ أن استلم الملك عبدالله الثاني مقاليد الحكم رأينا كثيراً من الحكومات تستقيل بعد سنة تقريباً من تسلمها العمل وهي غالبية الحكومات باستثناء حكومتي علي أبو الراغب وعبدالله النسور، والسبب أن الملك عبدالله الثاني يريد أن تستقر الحكومات انسجاماً مع أفكاره التي أوردها في أكثر من خطاب لمجلس الأمة، وفي حديثه بالديوان الملكي العامر مع مجموعات مختلفة من المواطنين، أو تلك التي صاغها في الأوراق النقاشية الستة.
وقد قرر جلالته أن الحكومات بموجب الدستور تستقيل بواحد من أمرين. إما بإرادة ملكية سامية تقبل الاستقالة بعد الإيعاز لها بذلك أو بإدراكها بأنها يجب أن تفعل ذلك، أو عن طريق فقدان الثقة بها من قبل مجلس النواب. وقد استقالت حكومتان تجنباً لطرح الثقة فيهما.
ولذلك، فإن مصير حكومة الدكتور هاني الملقي لا يقرره إلا ثلاثة وهي أن يقوم رئيس الحكومة بعد دراسة الأوضاع بتقديم استقالته ويصر عليها فيقبلها جلالة الملك. أو أن يوعز له بالاستقالة إذا رؤي أن عدّادها قد صفّر. أو انها لم تحصل على الأصوات المطلوبة عند طرح الثقة فيها في دورة برلمانية عادية.
أمام هذه الاعتبارات، فقد قدم جلالة الملك للدكتور الملقي هديتين لتعزيز ثقة الحكومة بنفسها أمام الهجمة الغاضبة عليها، الاولى اصطحابه إلى بيت العزاء بالشهيدين اللذين قتلا من قبل حارس السفارة الإسرائيلي. والثانية عندما زار جلالته دار الرئاسة وترك الانطباع انه مرتاح لأداء الحكومة.
في تقديري، والله أعلم، أن الحكومة ليست راحلة بعد انتخابات اللامركزية والبلدية، وليست راحلة قبل عيد الأضحى، وليست راحلة قبل عودة مجلس الأمة للانعقاد في دورة عادية ثانية، إلا إذا اصر مجلس النواب على طرح الثقة فيها وتبين أنها لن تحصل على الأصوات المطلوبة. وإذا نجت الحكومة في تفويت الفرصة على التصويت بالثقة فيها، فإنها قد تبقى سنة بعد ذلك أو أكثر.
نسي الناس حجم الاحتجاجات التي قاموا بها ضد حكومة الدكتور عبدالله النسور، وها هو عدد كبير من أولئك المحتجين يعود ليثني على أداء الحكومة السابقة ورئيسها. ستبقى حكومة الدكتور الملقي، ولكن كل هذا مرهون بعدم حدوث مفاجأة في المنطقة تقلب الموازين، وتخلق واقعاً جديداً، ينطبق عليه ما قاله القاص الايطالي الشهير « جوسيبي دي لامبيدوسا» ، في رائعته :الفهد» ، والتي استهلها بمقدمة رائعة تقول « حتى لا تتغير أشياء، فعلى أشياء أن تتغير».
وحفظ الله الأردن شعباً وأرضاً وملكاً..