تركيا... من "سنوات الضياع" إلى "قيامة أرطغرل"
أعود متأخرا إلى البيت، فيفوتني الاجتماع مع أولادي حول مائدة بطلهم “أرطغرل غازي”، وما إن أفتح الباب حتى يتسابقون إليّ ويشرعون بإخباري عن الأحداث التي فاتتي في حلقة تلك الليلة من مسلسل “قيامة أرطغرل”؛ تسرد الصغيرة ما تتذكر من تفاصيل ويجد أخوها فرصة في مقاطعتها عندما تفوّت حدثا هاما.
أنا هنا لا أتحدث عن “ميلودراما” تعتمد التشويق والإثارة، وإن كان مسلسل “قيامة أرطغرل” يحتوي هذا العنصر بامتياز، لكنّي أتحدث عن مسلسل تمكّن أبطاله باقتدار من التسلل إلى يقظتنا ومنامنا، بل نحن من نستدعيهم كلما أردنا تنصيب قدوة صالحة أو ضرب مثلٍ برجل أو امرأة سوء. والأمر يتعدى شخصيات المسلسل إلى أحداثه التي تعكس كما المرآة واقع المسلمين اليوم مما يجعلنا دون تردد نسقط أحداثه على خيباتنا، وننتظر بأمل ولهفة انبعاث أرطغرل جديد لتخليص أمة الإسلام من التبعية والخيانة، وقيادتها إلى الاعتصام بكتاب ربها وسنة نبيها –صل الله عليه وسلم-.
أشواقنا تلك… تمكّن المسلسل بسهولة من إزاحة الغبار عنها لأنه نبض صادق لما يشعر به أولادنا من ذلّ أمتنا ووهنها وفشلها، وتيقُّنهم من خيانة رؤوس فشلت مناهج التربية الوطنية الجوفاء والتاريخ المزوّر في إثبات عكسها، تماما كما فشلت كل مؤسسات الدولة الوطنية الزائفة في صناعة بطل يليق بخير أمة أخرجها الله لإنقاذ العالمين. لقد حلّ أرطغرل مكان البطل المفقود في داخلنا.
هذا السلوك التعويضي يفسّر تفوق مسلسل “قيامة أرطغرل”، وهو تفوق ذو بعدين: أفقي وعمودي؛ أما الأفقي فهو تربّعه على المركز الأول للمشاهدات على مستوى تركيا، مما جعل قناة TRT التي تعرضه تزهو بأن المتجوّل في إسطنبول يلفت انتباهه هدوء شوارعها وقت عرضه في الساعة الثامنة مساء كل أربعاء، مما يستدعي للذاكرة هدوء شوارعها عند عرض نهائيات كأس العالم في كرة القدم. وأما انتشاره الأفقي في العالم العربي فبرغم عدم عرضه على الشبكات الترفيهية المشهورة -لأسباب نعرفها جميعا-، فإن الله قيّض لنشر هذا العمل العظيم شابا قطريا هو عبد الله أحمد الهاشمي مالك قناة النور القطرية، وهي قناة إنترنت وتطبيق هاتف؛ لقد تمكن هذا الشاب مع فريق صغير من ترجمة المسلسل إلى العربية، فكان سببا في انتشاره للإعلام الجديد المتمثل في موقع “يوتيوب”، وبلغت عدد مشاهدات حلقاته أكثر من مائتي مليون مشاهدة. كما قامت قناة “فور شباب” الفضائية ذات التوجّه الإسلامي بعرض المسلسل وتبعتها “اليرموك”، وحديثا قامت الفضائية القطرية الرسمية بدبلجته وعرضه.
ومن نجاح المسلسل في الانتشار الأفقي الذي بلغ ستين دولة بحسب الصحف التركية إلى النجاح العمودي الذي جعل شخصياته وأحداثه موضوع نقاش بنّاء في صالونات أدبية كويتية “ديوانيات”، وموضوعا لكُتّاب مقالات من النخبة مثل محمد العوضي وعلي العمري ووائل نصر الدين ومحمد الجماعي، وبودخيل أحمد، ومحمد فرّاج وغيرهم.
مؤشر آخر يمكننا من خلاله قياس النجاح العمودي للمسلسل نجده في الشبكة العنكبوتية؛ فإن كتابة اسم المسلسل في محركات البحث على “النت” تقود الباحث إلى ما يعكس مدى تأثيره على الشباب العربي، إذ سيجد آلاف التغريدات والتعليقات والمشاركات لمقاطع المسلسل، بالإضافة إلى نشر معجبيه لصور أرطغرل ومحاربيه واقتباسهم عبارات بالتركية والعربية من المسلسل في صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
ومن وسائل التواصل الاجتماعي إلى اهتمام جهات رسمية في دول الخليج العربي بالمسلسل وأبطاله؛ فقد عزفت “الأوركسترا” البحرينية شارته (المقدمة الموسيقية) لدى استقبال الرئيس التركي أردوغان في المنامة. وكان لافتا احتفاء أمير الكويت شخصيا بمؤدي دور أرطغرل الذي كان بصحبة أردوغان في زيارته الأخيرة للكويت.
وتعدى الأمر ذلك الاهتمام إلى نوع من امتزاج أبطال المسلسل في مخيلة الشباب العربي بالواقع؛ فقد نصب شاب كويتي لوحة إعلانية ضخمة في مدينة الجهراء بالعاصمة يعزي فيها باستشهاد “بامسى” أحد أبطال المسلسل! وقد أشعلت نهاية دور “بامسى” حسابات تويتر عبر “هاشتاغ” :
#عزاء_بامسى . مغرد خليجي آخر انطلقت قريحته الشعرية، فألّف قصيدة نبطية في استشهاد بطل آخر هو “دوغان” قال في مطلعها:
يا خوتي وجعني دوغان ،،،،، نجــم ادرق بعد سطـوعــه
وما أمرّ فراق الإخـوان ،،،،، شوف بامسي يبكي بدموعه
مشجعون لنادٍ رياضي سعودي نشروا علما ضخما لقبيلة “الكايى” جنبا إلى جنب مع العلم السعودي. وبلغ تأثير المسلسل على الشباب العربي إلى حد جعلهم يستخدمون بعض المفردات التركية في حياتهم اليومية مثل كلمة “قارداش” التي تعني “أخ”. وينسحب التأثير العمودي ليترك آثارا في سلوكيات عابرة لكنها عميقة ومنها ما فعله نجم لاعب الهلال السعودي عمر خربين، عندما صافح زميله وحيّى جمهوره على طريقة قبائل “الأوغوز”. وهو ما بتُّ أفعله أنا شخصيا عندما أحيّي أحدهم من بعيد أو أحيي امرأة لا يحلّ لي مصافحتها.
عودة لصغاري فأنا مسرور بأثر هذا المسلسل عليهم وما ينمّيه فيهم من انتماء لدينهم، وشعور بالفخار بهذه الأمة وأن قدرها هو توحيد ربها والتأسّي بنبيها والجهاد لنشر الحق والعدل في العالمين. ولا شك أنها مبادئ وضيئة لأنها مستقاة من وحي السماء؛ ولذلك فإنها تقف على الطرف النقيض من الصورة النمطية للدراما التركية التي تلطخت بوحلها منطقتنا العربية وأطلقت سُعار الانحلال بقصص العشق المحرم وحمل السفاح والخيانة الزوجية والنوادي الليلية.
فالحمد لله الذي أبدلنا “سنوات الضياع” بـ “قيامة أرطغرل”.
المصدر:تركيا بوست