في وداع رمضان
ما كاد رمضان يأتي حتى مضى في صورة تجلّي لنا معنى حديث أبي هريرة مرفوعاً: "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة" أي كورق النخل الجاف حين تلتهمه النيران. قال ابن حجر في "الفتح": "المراد نزع البركة من كل شيء حتى من الزمان وذلك من علامات قرب الساعة".
هي أيام معدودات.. راحت كمر السحاب.. بالأمس القريب فتحنا أعيننا لنستقبلها بشغف ولهفة، وما إن أغمضناها هنيهة وفتحناها مرة أخرى؛ حتى غاب عن نواظرنا طيف هذا الشهر الكريم.
مضى رمضان بكل ما فيه من اللحظات الإيمانية الرائقة، حيث الامتناع عن المباحات من أجل الله تعالى، ثم الفرحة بالإفطار عند سماع دوي الأذان، والتصدق على الفقراء والمساكين، وصلة الأرحام، وغيرها من الأعمال التي تجعلنا من الله أقرب.
مضى رمضان بكل ما فيه من أنات التائبين، وعَبَرات المستغفرين، وآهات النادمين، وإقبال العصاة على ربٍّ يفرح بتوبة عبده.
رمضان مدرسة، ينتسب إليها الصائمون، ينجح الصادقون والجادون منهم، ويرسب المراؤون والعابثون، ويُردُّ الجميع إلى معاد.. "أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وإنكم إلينا لا تُرجعون".
والنجاح في رمضان له علامات تدل على تحققه، وأهم هذه العلامات؛ الاستمرار على الطاعات، فالصيام عبادة لا تختص برمضان وحده، وكذلك الصلاة والقيام والصدقة وغيرها من العبادات، والمسلم الحق يجعل حياته كلها طاعة.. "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين".
لقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يبذلون أقصى ما يطيقون في القيام بالعمل على وجه التمام والكمال، ثم إذا هم أتمّوه على صورته الحقيقة به؛ كان همّهم الأكبر وتساؤلهم الذي يملك عليهم تفكيرهم، ويسيطر على جوارحهم وأحاسيسهم: هل قُبل منا هذا العمل أم لا؟ فهم يدركون أنه ليس كل من قام بالعمل قُبل منه، فربَّ قائم لم يظفر من قيامه إلا بالسهر، وربّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ولذلك كانوا يمكثون ستة أشهر يدعون الله أن يبلغهم رمضان، وستة أخرى أن يتقبله منهم.
روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله! "الذين يؤتون ما آتَوْ وقلوبُهم وجلة" هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: "لا يا بنت الصديق! ولكنه الذي يصلّي ويصوم ويتصدّق وهو يخافُ الله عز وجل"، وفي رواية: "وهم يخافون ألا يتقبلَ منهم". قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: "الذين يؤتون ما آتَوْ وقلوبُهم وجلة": "أي: يعطون العطاء وهم خائفون ألا يُتقبَّل منهم، لخوفهم أن يكونوا قد قصّروا في القيام بشروط الإعطاء، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط".
إن من أهم علامات قبول العمل الصالح في رمضان وفي غيره؛ أن يداوم العبدُ على طاعته لله عز وجل، وأن يزداد إقبالاً عليه سبحانه، فلعَمري كيف يفرّط بالطاعة من ذاق حلاوتها، وسكنَ قلبُه إليها، وامتلأ فؤاده هناءة بها؟!
أخي.. وأنت تودّع رمضان؛ هل ستودّع معه قراءة القرآن التي خشعَ لها قلبُك، وزادتك إيماناً ويقيناً بالله؟
هل ستودّع قيام الليل وحلاوة التسليمة الأخيرة بعد ليلة حافلة بالتهجد الطويل المتعب للجسد، الممتع للفؤاد؟
هل ستودّع صدقاتك الحانية العطوفة، والأطفال الفقراء الذين حين وصلتَهم باللباس والطعام؛ رسموا في عينيك ابتسامة عريضة ما زالت ماثلةً فيهما حتى اللحظة؟
هل ستودّع صلة الأرحام وما فيها من معاني السمو والسناء؛ ما جعل الله سبحانه يقول لها: أترضينَ أن أصلَ من وصلكِ، وأقطع من قطعك؟ فقالت: بلى يا رب! فقال لها: فذلك لكِ؟
هل ستودّع مسامحتك لإخوانك، والعفو عمن ظلمك منهم، والصفح عن المسيء إليك غيبةً ونميمةً وبهتاناً، والصلة لهم بعد أن قطعوك وجفوك وقابلوا إحسانك بالغدر والفجور؟
هل ستودّع كلّ عمل صالح كان رمضان سبباً في ممارستك إياه؟ أم ستبقى رجلاً ثابتاً على عهد الولاء والطاعة لله تعالى ورسوله صل الله عليه وسلم؟
لا تُجبْ على هذه السؤالات بالكلمات.. واجعل ثباتك على صالح العمل بعد رمضان هو النائب عن الكلام.