«وصفولي الصبر» عرض مسرحي جديد أطلقته المخرجة لينا أبيض في صالة نهى راضي
«وصفولي الصبر» مدخل إنساني جديد في مسرح لينا أبيض: حرب النساء مع السرطان والمجتمع وجحود الأزواج
زهرة مرعي
بيروت – «القدس العربي» : «وصفولي الصبر» عرض مسرحي اتخذ من عيادة طبيب أمراض الدم والأورام منصته. خلاله يشعر المتلقي بأنفاس الممثلات والممثل الوحيد وكأنه ملاصق له. فقد قررت المخرجة لينا أبيض إلغاء المسافات بين الجمهور ومجسّدي عرضها الجديد غير المسبوق عربياً. هن نساء بحن بتجاربهن مع داء السرطان. تجارب من لحم ودم ووجع سمعتها عبير همدر فكتبت نصاً يختصر عذاباتهن. عذابات النساء مضاعفة، فإلى المرض وعلاجاته المضنية، تعاني النساء من تنكر أزواجهن لهن، وهو أشد ألماً من مواجهة المرض وجهل المجتمع.
من طقوس «وصفولي الصبر» أنه عرض ينطلق من لحظة ولوج المسرح. مشاعر ضاغطة تتراكم بالتدريج قبل أي كلام. شعر طويل متساقط تكوم مباشرة أمام الجمهور، صالون عيادة يُعلن عن نفسه بالتجسيد الحي. خلايا سرطانية تتشابك وتلاصق مكتب السكرتيرة الفارغ من شاغلته، ويتكرر التشابك عينه في حيز آخر ودائماً بالألوان للتفريق بين نوع وآخر.
المقاعد تتسع لعدد كبير من المنتظرات، شغلتها علية الخالدي «منى»، وسيف أحمد «أبو فراس». في غفلة عين صارتت لينا أبيض في مقعد السكرتيرة وانهمكت مباشرة بالتهام التفاح المتواجد أمامها بتركيز واهتمام وتصميم.
ولا شك أنها تركت ألف سؤال وسؤال، فالنساء تحملن ذاكرة سلبية مع التفاح تعود لبدء الخليقة. ليس التفاح وحدة من المستجدات المثيرة في توقيع لينا أبيض الجديد، إليه أضيف مسرح يحمل دلالات متعددة.
لجأت مصممة الديكور هنا فاخوري إلى النايلون، فشكل مساحة فاصلة بين منصة هي مسرح الحدث، وأخرى محيطة دار فيها حدث آخر. إنها مي أغدن سميث الأستاذة في الحركة والتعبير الجسدي، تتلوّى من جسد منهك، سقطت، ووقفـت بإصـرار، فخـيارها الصـمود.
في عرض «وصفولي الصبر» المرأة هي الحكاية. المرأة بما هي إنسان، وبما هي كائن هش أو قوي في مواجهة المصاعب. والأهم أنها مع إكتشاف السرطان هي الإنسان الجميل المستهدفة مكامن جماله وجاذبيته بما لا يرحم. فيديو لدقائق اختصر بحراً متلاطماً من الأسى والحزن.
إنها الممثلة العراقية نماء الورد تتحضر للمواجهة مع العلاج بعد استئصال الثدي. من خلال فيديو تتفحص شكلها، تلامس شعرها وكأنها تلقاه للمرة الأخيرة، ومن ثم تبدأ قصه ورميه أرضاً. إلى جانب حضورها المؤثر في العمل ككل جسدت نماء الورد مشقّات العراقيين مع الأورام في ظل الحصار وحكم صدام، وانتشاره المخيف بعد الاحتلال الأمريكي. نماء الورد ليست حالة طارئة على مسرحية تعرض في بيروت. فمن يعرف حياة المدينة وضواحيها جيداً يعرف أن العراقيين المرضى بالسرطان يشغلون مستشفيات الحمرا الكثيرة وغيرها. نماء الورد الممثلة شكلت استضافة راقية إنسانياً وفنياً في مسرح لينا أبيض.
وبلهجتها العراقية القوية باحت بما للمرأة من صلات ايروتيكية بالثدي. وباحت بذاك القهر الذي تعيشه النساء مع السرطان اللئيم في اختياره للمواقع. قالت «الهام» نماء الورد لسائلتها عن مكان وجود المرض لديها: «وصل حتى خشمي». «ليش ما عملتي ماموغرافي»؟ الماموغرافي دلع غير ممتوفر للعراقيات، تجيب «الهام».
الانتظار الضاغط جداً هو سيرة العرض الأولى إنما «وصفولي الصبر». ابو فراس وجد الحل عبر الراديو يتسقط أخبار الحرب في سوريا ويسمع أم كلثوم في أغنية «دارت الأيام». علية الخالدي وجدته بالقراءة المتخصصة. إنها رواية لكاتبة عاشت صراعاً مع السرطان، تروي بحس أدبي رائع علاقة المرأة مع النهد. تتأمل «منى» النص، وتختار جملاً وتعلقها على جدار الانتظار في العيادة. هي امرأة متحالفة مع الأمل بالشفاء، تتعامل مع مرضها بسلام داخلي يصح أن يصبح درساً.
عندما تدخل «سلام» بتوترها طلباً للمعاينة تظهر الحالة المناقضة لـ «منى». «منى» و «سلام» هما طرفا نقيض، ماء ونار. قبول ورفض للمرض وحتى اسمه صار «التهاب صغير بصدري». هي معاناة امرأة تجاهد لتحتفظ بما تبقى لها من زوجها. تضامنه معها تجلى بقسوة مطلقة، «بدو البس بيروكة شقرا لكون مثل الشراميط اللي بيخوني معن».
وإن شكل «أبو فراس» صورة للألم العربي المستوطن مرضاً وأرضاً وسياسة، فتجليات هذا الألم تعلن عن نفسها حين تنفجر السكرتيرة بالمريضة لتخبر سيرتها مع التفاح الذي أضاعت طعمه بعد العلاج الكيميائي. تأكله علها تكتشفه من جديد، ولم تصل بعد إلى ما تنشده.
«وصفولي الصبر» عرض مسرحي جديد أطلقته المخرجة لينا أبيض في صالة نهى راضي «فنانة تشكيلية عراقية» في مسرح المدينة. عرض يجسد تجارب نساء عربيات مع مرض السرطان، كتبته عبير حمدار بالتعاون مع طلاب من الجامعة اللبنانية الأمريكية. عرض مسرحي متكامل نصاً وتجسيداً. تمكنت معه لينا أبيض من ابتكار وسائل جديدة في ملامسة مشاعر المتلقين. والأهم أنها أتاحت إطلاق مشاعر دفينة لدى النساء حيال مرض يصيب مكامن جمال أثيرة لديهن هي الشعر والنهد. عرض تماوج بين الواقع والخيال والابتكار المسرحي.
مشاهد تسللت إلى المتلقين وأشركتهم في حوار حول عدو شرس، يزداد شراسة حين تُترك النساء والزوجات تحديداً لقدرهن بالمواجهة. فكثر من تنكروا لزوجاتهم بعد المرض، وثمة نساء تنكرن لأزواجهن لكنهن قليلات. بدأت العروض في 21 الجاري وتستمر حتى 31 منه، ومعها تضيف لينا أبيض جديداً إلى مسيرتها المتواصلة في ضرب الحديد حامياً منذ أكثر من سنتين. منذ «نوم الغزلان» إلى «قفص»، ومن «ألاقي زيك فين يا علي» إلى «ما فينا ندفع! ما لح ندفع»، وصولاً إلى «وصفولي الصبر». مع لينا أبيض ننتظر دائماً موضوعاً إنسانية درامياً بمعالجة فنية راقية.