ماذا جرى ويجري في القدس؟ استعراض وتحليل
وائل الهرش
القدس ليست كمدينة او عاصمة عادية فينظر لها من جهة انها مكان مقدس فهي مهد الديانات والحاضرات فيتم الرمز لمدينة القدس بوصفها الرمز او نوع لكنيسة المسيح وهي التي يوجد فيها كنيسة القيامة وضريح السيدة العذراء وغيرها من المعالم الدينية المقدسة, ويصدر التعلق الروحي للمسلمين بالقدس عن دمجه العميق للمثلث المؤلف من مكة المكرمة والمدينة المنورة وبيت المقدس داخل جغرافية الاسلام الروحية المنجذبة بقوة نحو البيت العتيق ولعل الاسراء والمعراج أول تجسيد لوحدة تلك المنظومة الجغرافية, وتتجسد وحدة الأطراف الجغرافية الروحية أيضا في اشتراكهما بصفة القدم في الزمان الى درجة أن قدسيتها تستبق زمان بنائها على أيدي البشر, ومن جهة اخرى ينظر الى القدس كونها رمزا للسيادة الفلسطينية كونها عاصمة دولتنا الابدية حيث يؤدي تشويه هذا المفهوم الى تشويه لكيانية الدولة الفلسطينية ليمتد الى فروعها الذي يكون احدها الموضوع الديني .
انطلاقا مما سبق ولأسباب موضوعية اخرى متعلقة بهذا المكان فإن أي مساس به كانت ولا زالت تشكل دافعاً رئيسياً ومحركاً لإشعال انتفاضة او احداث اضطرابات تهز كيان الاحتلال او على اقل تقدير على صعيد مجتمعه الذي يوصف بالحساس اتجاه أي حدث يطرأ ويغير الحالة القائمة من نوعية المناوشات مع الصهاينة, فيستحضر الى الذهن الانتفاضة الثانية في عام 2000 والتي اشعل فتيلها اثر اقتحام رئيس وزراء الكيان الصهيوني الاسبق ارائيل شارون للمسجد الاقصى برفقة حراسه واعلانه ان هذه المنطقة دائما ستكون منطقة "اسرائيلية" وفق ما قاله, حيث حاولت حشود المصليين التصدي له فكانت الشرارة لبدء الاعمال الفدائية ضد كيان الاحتلال فارتقى 7 شهداء واصيب 250 جريح اضافة الى اصابات عديدة في جانب الاحتلال اثر ذلك التصدي.
ويستمر الكيان الصهيوني بشكل دائم في محاولة تهويد القدس وبناء المستوطنات في العاصمة وكنا قد ذكرنا في ابحاث سابقة ان الاحتلال اتبع موجة تصاعدية في محاولات التهويد عبر اربع مراحل آخرها مستمر حتى الآن بغية تغيير البنية السكانية في هذه المدينة وحتى محاولة في تثبيت صحة كذبهم بأحقيتهم التاريخية في هذه المدينة, اضافة الى محاولاته الخبيثة بتقسيم المسجد الاقصى الزماني والمكاني, وشهدنا في الايام الماضية تصعيد جديد في الممارسات الصهيونية بحق اهل المدينة لا بل بحق جميع المتجهين نحو أولى القبلتين وذلك بوضع البوابات الالكترونية والحديث عن الكاميرات الحديثة بحجة واهية الا وهي الكشف عن المعادن ومنع تسريبها وذلك لاعتبارات امنية, وفي الواقع ظهر جليا امامنا وامام الجميع النية الخبيثة لهذه البوابات لتكون انطلاق للتقسيم المكاني والزماني للحرم القدسي واثر ذلك شهدت القدس وبعض المحافظات الفلسطينية حراكا جماهيريا رافضا لإغلاق الاحتلال الإسرائيلي للمسجد الأقصى, ووضع بوابات الكترونية على أبواب المسجد ساعين بذلك لإفشال مخططات الاحتلال في تقييد حرية العبادة في المدينة المقدسة، عبر نصب تلك البوابات, اضافة الى افشال محاولة الاحتلال لفرض امر واقع جديد ينفذ من خلاله مخططاته في ابعاد القدس عن أي مفاوضات مقبلة رغم عقم هذه المفاوضات ولكن تكريس ان القدس بشكل شبه كامل تحت سيادة الصهاينة في ذهن المجتمع الدولي انما يعتبر انتصار كبير لهم , ناهيك عن فرض التحكم المباشر وبصورة مذلة بالداخلين للمسجد الاقصى وحتى تنفيرهم منه وعلى الجانب الاخر تسهيل اقتحام المستوطنين لباحات الحرم القدسي اكثر فأكثر.
ولا يخفى ايضا ان وضع هذه البوابات تعتبر رمي حجر في مياه راكدة أي المساس بالمقدسات الاسلامية والتي لطالما تغنت بها الدول فإذا نجحت الفكرة فإنما هذه المياه ستبقى راكدة رغم ذلك الحجر ويدخل الاحتلال في علاقات اعمق وفي شروط افضل مع الدول التي تعهدت بالحفاظ على الشكل والمضمون الاسلامي لهذه المنطقة المقدسة.
لكن غضب الفلسطينيون الذي عبر عنه بالمرابطة وعمليات الفداء ضد الخطة الخبيثة وحدوث ما هو غير متوقع وهو توحيد الكلمة الفلسطينية على الميدان خلف هذا الثابت الذي لا يمكن ان يمس بالنسبة لأي مناضل ومواطن فلسطيني حيث اعلنت الفصائل من يسارها الى يمينها النفير العام لجميع اعضائها وكوادرها والنزول الى الشارع والمواجهة مع الاحتلال ,هذه الامور دفعت الصهاينة بالتفكير بشكل جدي بإزالة تلك البوابات ، فإن وجودها يمكن ان ينهي الانقسام الفلسطيني الذي كانت بوادره "أي انهاء الانقسام" ترسم في الميدان ليتحد فيه الشقيق مع الشقيق هذا الامر الذي يضر بكيان الاحتلال سواء داخلياً او خارجياً أي على الصعيد الدولي, اضافة الى ذلك كان موقف الدول صاخباً اتجاه تلك البوابات وبالتالي لا يمكن لكيان الاحتلال ان يفقد علاقته مع تلك الدول او يخفض العلاقة معهم فيحقق خسارة له خارجياً في محاولته لتقبل وجوده على الخارطة في عقول العرب على الرغم من ازدهار التطبيع بين الاخير وكيان الاحتلال للأسف, وايضا اثر هذا الفعل صرحت موغريني وهي الممثلة العليا لسياسة الشؤون الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي أن مواقف الاتحاد الأوروبي لم تتغير فيما يتعلق بالحالة القانونية للقدس الشرقية باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الأرض الفلسطينية المحتلة.
فمما سبق واضافة الى معطيات اخرى امر الاحتلال بعد اجتماع مجلس وزرائه مساء يوم الاثنين بإزالة تلك البوابات, هذا القرار كان له صخب كبير في المجتمع الصهيوني اذ اعتبر نشطاء ان هذا اذلالاً لهم ولدولتهم اضافة الى البلبلة التي لحقت بنتنياهو حيث سلطت الصحافة الصهيونية على ضعفه في اتخاذه القرارات في اللحظات الحاسمة وفي اوقات التوتر وايضا تفرده بالقرار ، فيذكر ان وزير البناء في حكومة الاحتلال قال انه كان معترضا على وضع هذه البوابات لما ستحدثه من بلبلة.
فأثر الخوف من اندفاع الفلسطينيون الى المسجد الاقصى وخصوصا بعد دخول اكثر من مئة الف عقب ازالة تلك البوابات ليصلون العصر, أمر كيان الاحتلال بمنع الدخول للحرم القدسي لمن هم دون سن ال50 ولكن ايضاً تم التراجع عن هذا القرار فأعلنت الأوقاف الاسلامية في مدينة القدس عن فتح جميع أبواب المسجد الأقصى المغلقة مساء الجمعة.
ان هذا النصر وحتى ان كان صغيراً لان الوضع الذي كان ما قبل البوابات لم يكن جيداً ولكن يوحي لنا هذا النصر انه اذما اراد الشعب الفلسطيني تحقيق الانتصار تلو الانتصار فعليه التوحد خلف مطالبه المحقة وانهاء هذا الانقسام المخزي, ولدينا دليلين لنجاح هذه الوصفة في الزمن الماضي القريب فانتصر الاسرى اثر توحد الجميع خلف مطالبهم المحقة والآن انتصرت القدس عند توحد الجميع, لم تعد الحالة الفلسطينية قابلة لتحمل المزيد من الانقسام فإن كل يوم يمضي بوجود الانقسام يؤخر أي حل ممكن لقضيتنا, فطالما نستطيع التوحد خلف تلك الثوابت "الاسرى والقدس" التي هي في صلب الصراع مع الاحتلال فإننا نستطيع التوحد خلف السبل التي تؤدي الى حل هذه القضايا المستعصية والتي بحلها نستطيع الوصول تدريجياً الى مبتغانا الجوهري وهو العودة والتحرير وقيام الدولة الفلسطينية الديمقراطية كاملة السيادة وعاصمتها القدس .