الزَّيت والزيتون في الوجدان الشعبي الفلسطيني
مجلة التراث والمجتمع -
من مقال :
بقلم ناديا البطمة
موسم "جداد الزيتون" من أهم وأكبر المواسم في أرجاء وطننا,
وقلَّ أن تجد منطقة من مناطقها لا ترى فيها أشجار الزيتون.
فهي شجرة معمّرة، ونامية ومتجدّدة، ومعطاءة وتسمّى
"الشجرة المباركة"
وتسمّى
"شجرة النور"
كما ورد ذكرها في الكتب السماويّة.
ويطلق الناس على الزيتون والرمّان والتين والعنب "ثمار الجنّة".
كما أنّ فوائد شجرة الزيتون في حياة الإنسان عديدة، فهو يستفيد من ثمرها وزيتها وجفتها وخشبها وأوراقها، في الغذاء والدواء والدفء والأدوات والمنتجات الحرفيّة والتراثيّة والصناعيّة، كالصابون النابلسي البلدي، والزيتون في نظر الفلسطيني قيمة لملكية الأرض وجمال وروعة بخضرته الدائمة التي تكسو الجبال والطبيعة.
يقول المثل
"الجناين جنون والملك زيتون"
فهو عماد حياة الإنسان الفلسطيني وتجارته الرابحة، وإذا ما تعرّض شجره لكارثة ما كالحريق فهو يتضرّر ويخسر سنوات عدة حتى يعوّض ماله مقارنة بالقمح أو الخضر الفصليّة التي تُزرع وتُحصد سنوياً. وقد حصل هذا عندما قامت إسرائيل برشّ المناطق التي تُطلق فيها المياه العادمة من مجاري مدينة القدس الغربية بحجّة منع الزراعة فيها فكانت النتيجة أَن احترقت القمم النامية والأوراق وأخذت عدّة سنوات حتى استعادت نموّها وقوّتها وأعطت الثمار وكان هذا عملاً مقصوداً لتخسير الناس حيث كان بالإمكان حرق الخضر أرضياً بدل رشّها بالطائرة.
"العونة"
العونة عادة مجتمعيّة أنتجتها الحاجة إلى التكاتف والتعاون لمواجهة ضغط العمل في أوقات المواسم الزراعيّة الكبيرة والأساسيّة كموسم الحصاد وموسم الزيتون. وكذلك في عمليّات بناء البيوت والأماكن العامّة "كالمضافة" أو "الساحة" وعند عقد البيوت لذا يقولون: "مثل ما بتراني يا جميل براك" بمعنى عاونّي أعاونك.
وقد تطوّرت هذه العادة الأصيلة حتى أصبحت نظاماً له أصوله وقوانينه، خاصة العونة المتعلّقة بموسم قطاف الزيتون (الجداد)، والذي يساهم فيه كلّ الفئات شيوخاً ونساءً وأطفالاً ورجالاً وشباباً، فيشكّل الموسم مهرجاناً عمليّاً، واجتماعيّاً، وجدانيّاً، وعاطفيّاً، واقتصاديّاً. ورغم الجهد والتعب فهو مفرح لأنّه يثير في النفوس الشعور بالانتماء والولاء لهذه الأرض الحبيبة وما عليها، نتيجة للعلاقة القويّة الحميمة بين الإنسان وبيئته والشركاء من الأحياء على حدّ سواء، فهي علاقة تعاون واحتكاك وتفاعل بنّاء محبّب. ويغنّون عند العمل: مِن عاونّا عاونّاه، مِن عاونّا عاونه الله.
يتّفق أهالي القرية الواحدة على تقسيم الأراضي إلى مناطق ويبدأون معاً في قطف أو جدّ هذه المنطقة معاً ولكافة أصحابها وينتقلون إلى منطقة أخرى وموقع آخر. وهذه الطريقة تحول دون السرقات من قبل اللصوص وبهذا النظام يلتزم الجميع، كما أنّ المنطقة التي يتمّ قطفها بشكل جماعي تصبح مشاعاً للصيّافة يلقّطونها بشكل مشروع، كما أنّه من الدارج أن يقوم من ليس لهم أشجار زيتون بالعونة ويكرمهم صاحب الشجر بما يسدّ حاجتهم من الزيت والزيتون وهذا عرفياً نوع من المقارضة. يقول المثل الفلسطيني في نظام المقارضة "كل شيء قرضة ودين حتى دموع العين" و"صرارة بتعين حجر" حيث يستغني الفلاّح عن استئجار عمّال لقطف زيتونه والمعاوِن يضمن سدّ حاجته بالمعروف.
ونجد اليوم أنّ اللقّاط واللقّاطة يجنون أكثر من صاحب الشجر الذي يتكلّف الكثير من المال على الحراثة والتعشيب والتشذيب..الخ. علاوة على مشاكل التصدير والتسويق والتحكّم بالأسعار.
ومن عادة الفلاّحين الغناء دون تصفيق أثناء العمل الشاق والطويل كالحصيدة وقطف الزيتون ودرسه وعصره وأثناء حراثة الأرض وبذرها وذلك للترويح عن النفس وإشغالها عن التفكير في الجهد والتعب وتعبيراً عن الفرح بالشجر والثمر واللقاء والعونة فهذه الأجواء الحميمة الدافئة يعتزّ بها المزارع فيغنّي متغزّلاً بأرضه رمز الجود والبقاء وبزيتونه رمز الصمود والتجذّر العميق.
ومن هذه الأهازيج والقصائد:
يا زيتـون الحـواري ....صبّح جـدّادك سـاري
يا زيتون اقلب ليمون ....اقلب مسخّن في الطابون
بـجـدّك بالجـدّادة ....وبـدرسك في البـدّادة
والمليصي زيته طيّب ....أمّا القـاطه بـغـلّـب
دَيْـتي يا دَيّـة اللّـقاطـة ....يا غارقة في الزيت والرقاقة
حـجـر مـاكينتنـا دار ....يا صبايـا هـاتـن جْـرار
وعندما يكون الموسم قليلاً ويسمى "شلتونة"
يعتب الفلاح على زيتونه بعد الخدمة الجيّدة له كقوله:
يا زيتون الحق عليك ... واطلع زيتك من عينيك
وهذه أغنية كانت تردّد في قريتي بتّير
في الخمسينيات والستينيات تقول:
والله لازرع زيتونة، والله لأزرع زيتونة ... واجعلها زينة بلادي
وتراب بلادنا نصونه، وتراب بلادنا نصونه ... لو سـال الدم وادي
ويردّد أطفال فلسطين في رياض الأطفال
في جميع أنحاء فلسطين هذه الأغنية بنغمة على دلعونا:
على دلعونا وعلى دلعونا ... زيتون بلادي أجمل ما يكونا
زيتون بلادي واللوز الأخضر ... والمريمية وما بنسى الزعتر
وأقراص العجة لمّا بتتحمّر ... ما أطيب طعمتها بزيت الزيتونا
خبز ملتوت وجبنة طرية ... وأكلة ادّفينا بالشتوية
وصحون السحلب والهيطليّة .. خلّتنا ننسى بردة كانونا
يا ربي تشتي ونلبس طاقية ... ونلبس كبود ونحمل شمسيّة
ونغني سوى يا فلسطينيّة ... دايم في بلادي خبز الطابونا
على دلعونا على دلعونا ... زيتون بلادي أجمل ما يكونا
وتغنِّي النِّساء أثناء الزفّة:
قُل لي وين أزفـك .... يا حلو يا مزيون
عَ الصخرة الشريفة .... وما بين الزيتون
وتقول أيضاً:
عدّينا المال في فاي الزيتونة.... ناسبنا ارجال وأخذنا المزيونة
وهذه ترويدة تشبّه العروس بجرار الزيت المقدرة ذخيرة البيت
يا جرار الزيـت يا فلانة ... يا جرار الزيت يا هي
تطلعي من البيت يا خسارة ... تطلعي من البيت يا هي
وهذه مهاهاة تتبعها زغرودة تقول:
يا هي والزيتون على أمّه
يا هي والزيت بنقّـط منّه
يا هي يا فلان يا وحيد أهله
يا هي يا رب كثّر منّه
ومن فنّ الطلعات المربّعة (القرادي)
هذه الأغنية الشعبيّة الرجّاليّة:
عاليادي عاليـادي .... بدي أغني لبـلادي
قعدة تحت الزيتوني .... بْتِسوى المحيط الهادي
زيتونتنـا الجويـة .... شو حلوة وشـلبـية
من الوادي تشرب مّيه .... بتشرب مّيه من الوادي
اللازمة: قعدة تحت الزيتوني .... بتسوى المحيط الهادي
الزيتونة لا تنسوها .... بالمجد زيّنوها
أجدادي زرعوها .... زرعوها أجدادي
اللازمة: قعدة تحت الزيتوني .... بتسوى المحيط الهادي
زيتوني ما أحسنها .... بالصيف وما أثمنها
الحصّادي تحت منها .... تحت منها الحصّادي
اللازمة: قعدة تحت الزيتوني .... بتسوى المحيط الهادي
النوم في فيّتها .... بسوى الدنيا وزهرتها
والمبادي بتربتها .... بتربتها المبادي
اللازمة: قعدة تحت الزيتوني ..... بتسوى المحيط الهادي
الزيتون في الدلعونة الفلسطينية:
الوجدان الجماعي أبدع كلمات هذه الأغاني وصاغ إيقاعاتها مجبولة بعرق الفلاّح، وتفوح بعبق الأرض والتراب، والتاريخ المضمّخ بدماء الشهداء يزكّيها بروائح التضحية والفداء، وتزخر بالدعوات والنداءات لزراعة الزيتون الرمز وتعمير أرضه، وتتضمّن معاني رمزيّة ووطنيّة وصوراً فنّية ومعنويّة حيّة لأشكال وهموم الحياة الفلسطينيّة، وصراعات وجوده مع أغاني الدلعونة المنبعثة من روح الشعب والتي تستحقّ الخلود في وعينا وذاكرتنا، وتحفيز الأجيال المنقطعة عن تراثها لتبدع على أثرها وتكمل المسيرة:
الزيتوني اشتاقت للّي زرعوها ... وزيتات الموني منها أخذوها
عودوا بجاه الله، عودوا شوفوها ...الأوراق اصفرّت، ذبلت الغصونا
- شعبـي للوطن قدّم هديـّة ... روحه العزيزة لأجل القضيَّة
- على دلعونـا، على دلعونـا ... يا بيْ مأجملها كروم الزيتونا
- انزلت عالأرض تشوف دياري ... إلقيت الأرض تغنّي أشعاري
يا محلى العيشي جوّ الديار ... نفلح ونقطف حبّ الزيتونـا
- يا طير طاير يللي في العالي ...ودّي سلامي للّـي في بالـي
علّي جناحك مع الشمالـي ...وجبلي بمنقارك غصن زيتونا
- في أرض بلادي والبسمة الس...ينزل عليها بتقُولي مرّحا
لأزرع السمسم واحصد القمحا ...وعمّر أرضي أرض الزيتونا
- حب الطرب لأطلع بفنونـي ...وبحب الوطن اوعوا تلوموني
لأزرع في الأرض شجرة زيتونِ ...وهذا شعارك يا فلسطينا
وتقودنا أغاني الدلعونا للتقدير الشعبي لظِلّ وفَيّ الزيتونة والقعدة تحتها، كملتقى العشاق وأهل السمر، ويتجلّى فيها معانٍ كالغزل ومنها هذه الأبيات:
- غربيّ المارس، شرقيّ المارس... دخلك لفّيني أكلني القارص
بكرا يا بنيّا بتيجي المدارس ... ونتلاقى سوا بفاي الزيتونا
- على دلعونا ليش دلعتيني ...اعرفتيني شايب ليش أخذتيني
سقا الله أيّام العنب والتيني ...وأنا وايّاكي بفيّ الزيتونا
- شفت الحلوة تحت الزيتوني ...من أوّل نظرة علقت عيوني
بالله يا أهلي اوعوا تلوموني ...بحبّ السمرة أنا المجنونا
- طاحت تتخطّم بالثوب الازرق ...واللي يعاديها في البحر يغرق
حلّت العصبة وبيّن المفرق ...الله يجمعنا بفي الزيتونا
- بظِل الزيتوني وفي ظلّ التينة... بطلب يا حلوي تيجي تلاقيني
حبّك يا سمرا هلّي ساليني ...وقضيت العمر منك محروما
- غيبي يا شمس، يا شمس غيبي...بلكي بتلاقى أنا وحبيبي
على الله الأسمر يطلع نصيبي ...وأدفعلوا مهرو كرم الزيتونا
- بفيّ الزيتونة ياما قيّلنا ...وشوف الحبايب طيّر زعلنا
من الساعة ستة وأنا بستنّى ...حضرة جنابكْ يَ امِّ العيونا
- ياما هوّدنا العصر ع العينِ ...وياما لاقاني غزلان اثنيني