قراءة في كتاب ثقافة الهبل وتقديس الجهل وتقبّل الرأي الآخر.. (عبد الله دعيس)
قراءة في كتاب (ثقافة الهبل وتقديس الجهل) للكاتب المقدسي الشيخ جميل السلحوت.الصادر عن مكتبة كل شيء عام 2017.
لا شكّ أن من يعيش في المجتمع الفلسطيني أو أيّ من المجتمعات العربيّة، لا بدّ له أن يلاحظ الانحدار الثقافي والأخلاقيّ التي تعيشه هذه المجتمعات، خاصّة إذا ما عايش المجتمعات الغربيّة وقارن بها. فهنا، يكاد النظام والترتيب واحترام الآخرين ينعدم. وهنا، لا قيمة للإنسان ولا لكرامته. وهنا، لا احترام للرأي الآخر. والجهل داء مستشرٍ في جسد الأمّة، حتّى بين المتعلّمين وحملة الشّهادات. وأصبحت النّظافة شيئا مستهجنا، يسير الشخص بين أكوام النّفايات التي يلقيها الصغير والكبير دون ذرّة من خجل أو حياء، حتى باتت القذارة جزءا من ثقافة المجتمع. وانعدام النّظافة يتعدّى نظافة الجسد إلى نظافة القلب، حيث الحقد والبغضاء والمكائد التي لا تنتهي، والعصبيّة القبليّة التي عادت لتطلّ برأسها بقوّة، وكثير من المثالب الأخرى التي تضيق بها الصفحات. أمّا النخب السياسيّة والمثقفة، فلا تتفوّق على الأمّيّين وأشباههم ولا تختلف عنهم في شيء، حيث يبحر الجميع على سفينة الجهل ذاتها، ويخوضون نفس المستنقع الآسن.
وإن كان الحديث في هذا الموضوع يدمي القلب ويثير المواجع، إلا أنّه لا بدّ منه من أجل النهوض بالأمّة، والخروج بها من هذا الجبّ المظلم، دون انتقاص من قيمها ومن تاريخها المشرق المضيء وثقافتها العريقة. والكاتب جميل السّلحوت يطرح كثيرا من القضايا، التي تؤرّق المجتمع العربيّ بشكل عامّ والفلسطينيّ بشكل خاص، بجرأة تبدو من عنوان كتابه (ثقافة الهبل وتقديس الجهل) فلا يوفّر جهدا في تشخيص علل هذا المجتمع وفضح مثالبه، مطلقا على كلّ ما يشينه هبلا وجهلا. فيضع يده على بعض مكامن الدّاء، ويفقأ بعض الدّمامل التي أثقلت جسد الأمّة وأعيته. ويستخدم أسلوبا تهكّميا لاذعا وصادما، وكأنّه يحمل سيفا يحطّم به أصنام الجهل والتّخلف، تدفعه حرقته على حال أمّته ورغبته في رفع شأنها، فيثير العديد من القضايا التي تسترعي الانتباه، وتجعل القارئ يمعن التّفكير في تعديل سلوكه، وحمل راية الإصلاح والتغيير.
لكن الكاتب، وهو جزء من هذا المجتمع الذي وصمه بالهبل وتقديس الجهل، لا يستطيع أن يخلّص كتابه من الأدران التي قام من أجل تنظيفها، وينساق من حيث يدري أو لا يدري في درب غيره من (العربان)، كما يصفهم، الذين ينظرون إلى الأمور من خلال نظارة مظلمة بأغشية من التعصّب الحزبيّ، وعدم تقبّل آراء الآخرين، ورميهم بأقذع الصفات وتجهيلهم وتخوينهم، وترديد الشائعات وتضخيمها دون تمحيص ولا رويّة؛ فيصبح كتابه الذي أراد منه أن يكون حربا على الجهل والهبل، إضافة جديدة إلى ثقافة الهبل التي قام من أجل محوها. فهو يتحدث عن تقبّل الآخرين واحترام آرائهم، لكنّ كتابه يعجّ بالاستهزاء بالآخرين، وعدم تقبّل آرائهم، وتلقّف ما يقال عنهم في وسائل إعلام أدرجها هو ضمن ثقافة الهبل، فيرى ما يريد أن يراه ويغضّ النّظر عن غيره.
يرى الكاتب أنّ الأمّة العربيّة عقمت عن انتاج المفكّرين والمبدعين بعد ابن خلدون، ويذكر ادوارد سعيد كالمفكّر العربيّ الوحيد في العصر الحديث، وهو بهذا لا ينصف هذه الأمّة التي على الرّغم من ضعفها وهوانها، إلا أنها كانت وما زالت تنتج المفكّرين والعلماء والمجدّدين في كافّة المجالات، تزدان بهم جامعات العالم ومراكز أبحاثها، ويغيّب آخرون في سجون حكام الأمّة المتسلّطين. أليس سيّد قطب مفكّرا، وإن اختلف معه المؤلف في الفكر ووجهات النّظر، أوليس البنّا مجدّدا؟
ويستخفّ الكاتب بخطباء المساجد ويصوّرهم بصورة نمطيّة مضحكة، ويصفهم أنّهم من أصحاب المعدّلات المتدنّية، ويتناسى الكاتب أنّ الخطباء والعلماء يقبعون في سجون الحكّام العلمانيّين، الذين ابتدعوا دينا جديدا أوّل أركانه إقصاء الآخر، وثانيها الكذب والافتراء، وثالثها الارتماء في أحضان الغرب وخدمة مصالحه، فسخّروا أبواقا ونصّبوا خطباء على شاكلتهم.
ويجانب الكاتب (الذي أحمل له كلّ التقدير والاحترام) الصّواب عندما يصف كلّ من يحمل فكرا إسلاميّا بالمتأسلمين الجدد، ويشنّع عليهم ويصفهم بأنّهم طامعون في الوصول إلى الحكم، ويعزو إليهم التّخلف والجهل والهوان. وهذا ينافي الواقع لكلّ صاحب بصيرة ينظر إلى الأمور بعين المتجرّد دون انحياز ولا تعميم. فالحركات الإسلاميّة التي وصلت إلى الحكم وصلته عن طريق صناديق الاقتراع، واقتلعت منه بانقلابات عسكريّة بشعة، كما حدث في الجزائر وفي مصر. ثمّ يردّد الكاتب مقولة أنّ الإسلاميين يدخلون الانتخابات لمرّة واحدة ثمّ لن يتخلوا عن الحكم، فهلّا أعطانا الكاتب مثالا واحدا على ذلك؟ بل دعاة العلمانيّة العرب، هم من يصلون إلى الحكم على الدبّابات، ويلتصقون بكراسيهم، ويورّثونها أبناءهم بعد أن يرتكبوا أفظع المجازر ويهدروا مقدّرات الأمّة. وضرب الكاتب الجزائر مثلا، مردّدا روايات الإعلام المضلل الذي كرّس الجهل واستعبد عقول الشعوب، ولو نظر نظرة موضوعيّة لوجد أنّ العسكر هم من انقلبوا على خيار الشّعب واستباحوا الدّماء وقذفوا الرّعب في القلوب، وقاموا بحملة قتل شرسة، وغيّبوا الإسلاميّين في سجونهم، وأطلقوا المجريمن ليعيثوا في الأرض فسادا؛ ليضمنوا استمرار حكمهم واستئثارهم بمقدرات البلاد.
ولا يذكر الكاتب الانقلاب الدّمويّ في مصر، ولا يذكر المجازر التي قام بها، ولا علاج الإيدز بالكفتة، وكأنّ هذا ليس من ثقافة الهبل، ويسمّى الأمور بغير مسمّياتها، فيذكر في موضعين أنّ حماس قامت بانقلاب وشطرت الوطن، وكأنّ الوطن كان موحّدا ولا يفصله الاحتلال، وكأنّ حماس لم تصل إلى الحكم بالانتخاب، وتناسى أن حماس حركة مقاومة شاركت في تحرير غزّة وطهّرتها من الفساد.
أليس من التّحيّز أن ينتقد الكاتب كلّ مَن قاوم الاتّحاد السوفيتيّ الذي كان أكبر قوة استعماريّة إمبرياليّة في القرن العشرين، احتلّت دولا على امتداد قارّتي آسيا وأوروبا، ودمّرت شعوبا بأكملها وشرّدتها وقتلت الملايين منها، بينما يفرد خصومه بصفة الإمبريالية ويصف كل من وقف في وجه تلك القوّة الغاشمة بالتواطؤ معها؟ ويجرّم الكاتب الرّبيع العربيّ، وكأنّ السّعي نحو الحرّيّة جريمة. إن نجاح قوى الشّرّ مؤقتا في وأد الحريات لا يجعل الثّورة ضدّ الظلم جريمة ولا خطيئة.
ويتحامل الكاتب على تركيا. أليست تركيا نموذجا في التّقدّم والازدهار والتّخلّص من الجهل والأمّيّة وإن اختلف المؤلف أو غيره مع سياساتها؟ ويصف وصول أردغان إلى الحكم بلفظ (جيء به) مع أنّه فاز بانتخابات حرّة، بينما لا يتعرّض للحكام الذين انقلبوا على الشّرعيّة أمثال السيسي في مغالطة واستهبال للقارئ وعقله. ويصف عبد النّاصر بزعيم الأمّة وهو الذي جاء إلى الحكم بانقلاب عسكري، وأدخل العالم العربيّ بهزيمة تتلوها هزيمة ما زلنا نتجرع مرارتها حتى الآن؟ وأتّفق مع الكاتب أنّ العرب لم يتحرّروا من موروثهم الجاهليّ؛ فما زال من يسمّون أنفسهم بالعلمانيين يعبدون الأصنام ويتقرّبون إليها، فهم يقدّسون الحكام ويتمسّحون بمآثرهم حتى بعد هلاكهم.
ويحاول الكاتب أن يصوّر مجتمعا منقسما طائفيّا بين مسلم ومسيحيّ، يقوم المسلمون فيه بتفجير كنائس المسيحيّين وقتلهم. بينما الواقع يقول أن المجتمع الفلسطيني والمجتمعات العربيّة الأخرى تعيش بوئام مع الإخوة المسيحيين، ومن يقوم بتفجير الكنائس هو عينه الذي يفجّر المساجد، وهم أجهزة المخابرات التّابعة للأنظمة العلمانيّة المتواطئة كما ثبت في التّحقيقات التي حدث بعد الثّورة في مصر.
وساءني أن يتحدّث الكاتب عن كيان الصهاينة بلفظ (إسرائيل) وكأنّا دولة لا تقوم على أرض فلسطين المغتصبة، أليس من الهبل والاستهبال والجهل أن يتخلى المرء عن حقّه في أرضه ووطنه؟ فهل تخلى الصّينيون عن هونغ كونغ أو عن تايوان بعد عقود من انفصالهما؟ وهل أقرّت إسبانيا بسيادة بريطانيا على جبل طارق؟ وإن كان الاحتلال أمرا واقعا، وإن كان العالم يعترف بهذا الكيان دولة، فلا يجوز لصاحب الحقّ أن يتخلّى عن حقه.
من هم المتأسلمون الجدد؟ مصطلح وضع الكاتب تحت عباءته كلّ من يخالفه فكريّا من اتّجاهات شتّى مختلفة، فلصق بهم كلّ ما في الأمّة من أوجاع، وكلّ المصائب التي أتى بها الحكام العلمانيّون على مدى عقود من استبدادهم، ويتهمهم بالتحريض، ولا يألو الكاتب جهدا في لصق كل ما يعكّر الصّفو أو ما يصفه بالجهل بالإسلاميين دون دليل، مع أنّ الإسلاميّين، وخاصّة الإخوان المسلمين، هم قلب هذه الأمّة النابض، وهم أكثر النّاس إخلاصا في الدّفاع عن الأوطان وأكثرهم علما وبحثا وثقافة، تشهد على ذلك وقائعهم في الجهاد وكتبهم في المكتبات.
هناك كثير من التّكرار في الكتاب، حيث يذكر الكاتب بعض الأحداث والإحصائيات في مواضع متعدّدة من الكتاب دون مبرّر.
ويستشهد الكاتب بالأمثال الشّعبيّة الإيجابيّة والسّلبيّة والآيات القرآنية والأحاديث الشّريفة وهذا مما يحسب له.
وجدت نفسي أتّفق مع الكاتب في كثير من القضايا التي طرحها، ولكنّي أختلف مع طريقته في عرض الموضوع وأسلوبه التّهكمي المتعصّب. وحبّذا لو أعاد الكاتب النّظر في كتابه لتعمّ فائدته ويؤتي أكله، وإن كان لا بدّ من النّقد للخصوم السّياسيّين فليكن بأسلوب من الحوار والإقناع، لا التّخوين والتّسفيه.