من حيث المسائل والأحكام
د. سعد بن مطر العتيبيالمقالة الثانية :مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة من حيث المسائل والأحكاممجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة من حيث مسائلها لا تخرج في إطارها العام عن الجوانب العملية التي تقبل التَّغَيّر لبنائها على مناط متغيِّر يتغيَّر الحكم الشرعي لمسألته تبعاً لتغيِّر المناط
وعليه، فلا يدخل في مجالات إعمال السياسة الشرعية ما يُعرف بالثوابت في ذاتها، التي منها ما يتعلق بالمكلفين من الأحكام العقدية، كالإيمان بالله ووحدانيته والإيمان بالرسل صلوات الله وسلامه عليهم وتصديقهم، والإيمان بالكتب والملائكة، والإيمان باليوم الآخر، وبالقدر خيره وشرِّه، وتحريم الشرك، وتحريم موالاة الكفَّار؛ فهذه وأمثالها ثوابت في الدِّين لا يمكن أن تتغير، وكذا " الأحكام الشرعية التي تتضمن قواعد هذا الدِّين وأسسه، والأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، والأحكام التي تحث على الأخلاق والفضائل، بل وجميع الأحكام الشرعية العملية التي لم تُبن على العرف أو المصلحة أو التي لم تُناط بعلة أو التي لم تصحبها ضرورة ؛ فإنَّها ثابتة ولا يصح جعلها محلّ نظر وتغيير " (2) .
و الجوانب العملية في الشرعيات ليست على إطلاقها ، بل هي من الأمور المتشعِّبة المتشابكة التي تتطلب استقراءً لمسائلها ليصدق ضبطها ضبطا دقيقا يقرِّب فقه السياسة الشرعية فيها لطالب العالم تقريباً يعينه في تطبيقها ؛ وإنما هذه خطوط عريضة في بيان مجالات السياسة الشرعية من حيث المسائل والأحكام ، مع شيءٍ من ضبط هذه المجالات ؛ فيُقال :
المسائل الفقهية من حيث دخولها تحت السياسة الشرعية بمدلولها الخاص ، وعدمه ، تنقسم إلى قسمين :القسم الأول : ما لا يختص به أولو الأمـر ، وليس داخلاً في تدبيرهم بالولاية .ومجال هذا القسم : الأحكام التي أنيطت وربطت بأسبابٍ متى وُجِدَت وُجِدَت هذه الأحكام ، دون تعلق بالولاية ، فهذا القسم ليس مختصّاً بأولي الأمر ؛ إذ إنَّه يتبع سببه الشرعي (3) ، فمتى وُجِدَ السبب وُجِدَ الحكم ، كإقام الصلاة ، وإيتاء ما يجب في الأموال من زكاة .
ويتجلَّى هذا الأصل في عامَّة المسائل التي توصف بالثوابت كالعبادات ، وأصول الأخلاق والآداب الشرعيَّة وما في معناها .
وهذا القسم ليس داخلا في السياسة الشرعية بمدلولها الخاص ، التي هي من تدبير أولي الأمر وتصرفاتهم المنوطة بالمصلحة الشرعية .
تنبيه:لا يدخل في هذا القسم ما يتعلق بإطلاق ولي الأمر الشرعي ( قاضيا شرعيا أو مفتياً خبيرا ) وصفاً عقدياً يترتب عليه أحكام عملية للموصوف به في ذاته أو في علاقته بغيره أو علاقة غيره به ، فقد يوجد فيها جوانب عملية تتطلب حكماً شرعياً سياسياً ، ومنها ما يعرف اليوم بأسس التعايش السلمي في المجتمعات وكذلك ما يناقضه ، ولعله يتضح بالمثال في حينه إن شاء الله تعالى ، وإنما أشرت إليه هنا لأهمية استحضاره .
القسم الثاني : ما كان موكولاً إلى تدبيـر أولي الأمـر .
ويتجلَّى هذا القسم في المسائل التي تتوفر فيها الأسباب والأوصاف التالية ، أو بعضها (4) :1) أن تكون هذه المسائل مما يحتاج إلى نظر وتحرير، وبَذْل جُهدٍ من عالم بصير، حَكمٍ عَدْلٍ، في تحقيق أسبابها، ومقدار مسبَّباتها؛ كالتعزيرات ؛ فإنَّها تفتقر إلى تحرير في مقدار الجناية وحال المجني عليه، حتى تقع المؤاخذةُ على وفق ذلك من غير حيف؛ وهكذا جميع ما وُكِلَ تقديره إلى اجتهاد الأئمة والحكَّام، ومن في حكمهم.
2) أن تكون مما يفضي تفويضه لجميع الناس إلى الفتن و الشحناء ، والقتل والقتال ، وفساد النفس والمال ؛ كإقامة الحدود ، فمع " أنَّها منضبطة في أنفسها ، لا تفتقر إلى تحرير مقاديرها ، غير أنَّها لو فُوِّضت لجميع الناس ، فبادر العامة لجلد الزناة ، وقطع العُداة بالسرقة وغيرها ، اشتدَّت الحَمِيَّات ، وثارت الأَنَفَات ، وغَضِبَ ذوو المُروءات ، فانتشرت الفِتَنُ ، وعَظُمت الإحَنُ ؛ فحسم الشرعُ هذه المادَّة وفَوَّض هذه الأُمورَ لولاةِ الأمور ، فأذعن الناس لهم ، وأجابوا طوعاً وكرهاً ، واندفعت تلك المفاسدُ العظيمة " (5) ، وجباية الجزية ، وأخذ الخراج من أرض العنوة وغيرها (6) .
3) أن تكون مما قَوِيَ الخلاف فيه مع تعارض حقوق الله تعالى وحقوق الخلق ؛ أو تقاربت فيه المدارك ، وكان النِّزاع فيه في أمر دنيوي ؛ كالأملاك و الرهون والعقود وغيرها ؛ فهذا مِمَّا يَفْتَقِرُ إلى حُكْمِ الحَاكِم - و إنشاء حكم من هذا القبيل ليس لكل من ولي ولاية ؛ قال العلامة القرافي : " لا خلاف بين العلماء أنَّ ذلك ليس لكلّ أحد ، بل إنَّما يكون ذلك لمن حصل له سبب خاص ، وهو ولاية خاصَّة ، ليس كل الولاية تفيد ذلك " ؛ ثم سرد رتب الولايات وبيَّن أحكامها ، وأنَّ من رتب الولايات التي يدخل فيها هذا النوع من الأحكام : الإمامة الكبرى ، وولاية القضاء - (7).
فإذا حكم فيها حُكماً مما يقبله ذلك المحلُّ تعين فيه ؛ فلم يُنقض ، ولزم الإذعان إليه (
؛ لمصلحة الحكم ؛ " لأنَّ الأحكام لو نُقِضت بالاجتهاد لَمَا استقرَّ حكم ؛ لأنَّ القضاة لو نقضوا الحكم بالاجتهاد لأدَّى ذلك إلى أن ينقض كلُّ حاكم حكمَ من قبله ، ويفضي ذلك إلى تضرُّر المحكوم لـه ، والمحكوم عليه ؛ لأنَّه يُنْزَعُ الحق من أحدهما ، ويُعطى الآخر ، ثم يُنزع من الآخر و يُعطاه غريمه ، ويتسلسل ذلك إلى ما لا نهاية لـه ، ولا يخفى ما فيه من الفساد " (9) ؛ سواء كان ذلك بتغير اجتهاده أو بحكم حاكم آخر ؛ كما يلزم من ذلك اضطراب الأحكام و عدم وثوق الناس بحكم الحاكم ؛ فتفوت المصلحة التي نُصب الحاكم لأجلها ، ولا تُفصل الخصومات (10) .
4) أن تكون مما يُشرع نقضه من تصرفات الولاة والحكَّام ، وهي المسائل التي صدرت عن حكم قضائيٍ مخالفٍ لما يوجِبُ نقضَه ، من نصٍّ أو إجماعٍ أو قياسٍ (11)؛ أو التي لم تصدر عن حكم قضائيٍ ، ويسوغ لغيرهم من الولاة والحكام النظر فيها ونقضها أو تغييرها ؛ للمصلحة الشرعية ، لا لمجرد التشهي والغرض.
ومن أمثلة ذلك (12) :- تولية النوَّاب في الأحكام ، و تأمير الأمراء على الجيوش والسرايا وغير ذلك من الولايات .
- و الصرف من بيت المال وتقدير مقاديره في كل عطاء ، في الأرزاق للقضاة والعلماء وأئمة الصلاة ، وفي أجور موظفي الدولة عموماً .
- وتقدير الخراج على الأرضين ، و ما يؤخذ من التجار الأجانب غير المسلمين .
- واتخاذ الأحمية (13)، من الأراضي المشتركة بين عامة المسلمين .
- وعقد الصلح بين المسلمين والكفار .
فهذا كلُّه ؛ لمنْ تصرَّف به ولغيرِ مَنْ تَصَرف به أو قرَّره أو عقْده من الولاة أن يعيد النظر في السبب المقتضي لذلك هل يقتضيه فيبقيه ، أو لا فغيره أو ينقضه ويبطله .
وهذا كله مقيد بقاعدة : (تصرف الولاة على الرعية منوط بالمصلحة ) ؛ " فإنَّ كـل من ولي ولاية الخلافة فما دونها إلى الوصية ، لا يحلّ له أن يتصرف ، إلا بجلـب مصلحة أو درء مفسدة " (14).
فهذه الأسباب تكاد تكون ضوابط ، لما هو موكولٌ إلى تدبير الحكام و ولاة الأمور ؛ بل ذكر القرافي أنَّ ما اشتمل على أحد الأسباب الثلاثة الأولى ، أو اثنين منها ، صار مفتقراً للحاكم إجماعاً ؛ فإذا لم يوجد شيءٌ منها تَبِعَ حُكْمُ المسألة سَبَبَهُ الشرعي كالقسم الأول ، حَكَمَ به حاكم أو لا (15) .
والمسائل الفقهية المندرجة تحت هذا القسم – الذي وُكِل تنفيذه إلى أولي الأمر - أنواع ، يأتي بيانها في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .
والمسائل الفقهية المندرجة تحت هذا القسم - أعني الذي وكل تنفيذه إلى أولي الأمر ، ولا يفتات عليهم فيه غيرهم -
أنواع :
النـوع الأول :
مسائل شرعت أحكامها ثابتة لازمة ، لا تتغير عن حالة واحدة ؛ فلا تختلف أحكامها باختلاف الأزمنة ولا الأمكنة ، ولا اجتهاد الأئمة .
وهذا النوع ليس داخلا في السياسة الشرعية بمدلولها الخاص ( المتغير ) ؛ إذْ ليس أمام أولي الأمر في هذا النوع سوى الحكم به كما ورد ، واجتهاد أولي الأمر فيه يقتصر على صحة التطبيق ، الذي هو النظر والاجتهاد في معرفة وجود العلة في آحاد الصور و الوقائع ، المعروف بـ( تحقيـق المناط ) (16) .
ويتجلَّى هذا النوع فيما ليس معلَّلاً من الأحكام من العادات والمقدَّرَات ( وما يدخله تدبير أُولي الأمر منها ، فعلى سبيل التبع والتضمُّن ) (17) ؛ ومنه مقادير الزكاة ، وتعيُّن الحدود المقدرة على الجرائم كما هي ، ونحو ذلك ، ويدخل فيه كثير من الأحكام التي يتعين القضاء بها عند ثبوت أسبابها .
النـوع الثاني : أحكام جزئية ، شرعت أو استنبطت لمسائل يتغير مناط الحكم فيها بحسب اقتضاء المصلحة ، زمانا ومكانا وحالا ؛ سواء كان هذا المناط عُرفاً أو علَّة مُتَغيِّرَة ، أو نحو ذلك ؛ وتتجلَّى مسائل هذا النوع في الأحكام المعلَّلة أو التي تقبل التعليل (18) .
ومسائل هذا النوع مندرجة تحت السياسة الشرعية ؛ وهي على أضـرب :
الضـرب الأول :
مسائل ثبتت أحكامُها بنصٍّ أو إجماع أو قياس أو استدلال معتبر ؛ لكن من شأنها ألا تبقى على حال ؛ ومن ثم يتغير الحكمُ فيها ، تبعا لتغير مناطه من حال إلى حال ، لا تغيراً في أصل الحكم ؛ بحيث يرى المجتهد أن الحكم تغيَّر في تلك المسائل تبعاً لذلك ؛ فيحكم بحكم يستلزمه هذا التغيُّر ؛ فالحكم الثاني هنا يُسمَّى سياسة شرعية (19) .
وهذا الضرب له صور ، تتعدد بتعدد أسباب تغير الحكم المعتبرة.
ومنها :
- تغيَر العرف الذي جاء التشريع موافقاً له:
ومنه :
إخراج زكاة الفطر في كل بلد من قوت أهلُها ؛ و لا يلزم إخراجها من قوت أهل المدينة النبوية تقيّداً بما ورد ، من تكليف النبي صل الله عليه وآله وسلم أهلَ المدينة بإخراجها من : التمر والشعير والأقط والزبيب (20) ؛ " لأنَّ هذا كان قوت أهل المدينة ، ولو كان هذا ليس قوتهم بل كانوا يقتاتون غيره ، لم يُكَلِّفهم أن يُخرجوا مما لا يقتاتونه ؛ كما لم يأمر الله عز وجل بذلك في الكفَّارات …" (21) .
وقد تقدم ذكر الكلام في حرمة الفتوى على من لم يعرف حال المستفتي وعرف مجتمعه .
- زوال المصلحة التي جاء الحكم معلَّلاً بها .
ومنه :
إذن النبي صل الله عليه وآله وسلم للناس في ادَّخَارِ لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، بعد نهيهم عن ذلك وأمرهم بالتصدق بما بقي ؛ فإنَّه لما كان العام الذي يليه ، ( قالوا : يا رسولَ الله نفْعَلُ كما فعَلْنا العَامَ الْمَاضِي ؟ ) ، قَالَ : (( كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا )) (22) ، وفي رواية : (( إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا )) (23) ؛ حيث بين أنَّ الحكم الأول قد تغيَّر من المنع إلى الإذن ؛ بزوال علَّة النهي (24) .
- تغير الحال التي قُيِّد الحكم بها .
ومنه :
الإذن بقتال الكفَّار في العهد المدني ، دون العهد المكي على اختلاف أحواله ، وهكذا الأحكام التي جاء تشريعها على مراحل اقتضاها اختلافُ الأحوال ، لا وجودُ ناسخ ومنسوخ بينها ، فهي من هذا القبيل .
وهو أخطر مجالات السياسة الشرعية فيما ورد فيه أكثر من حكمٍ بدليل نصي جزئي.
فنحن نرى العلماء الربانيين الذين يشهد لهم من يعرفهم من الأمة بالصدق والإخلاص والديانة وسعة الأفق الفقهي والتجربة في ميدان العمل الدعوي، المطلعين على أحوال الأمة - نجدهم يفتون بمشروعية الجهاد بالسنان في مكان وزمان ويمنعونه في آخر موجهين الخيار المناسب من خيارات جهاد القلم والبيان ، ونحن أيضاً نرى العلماء الربانيين يحكمون على قاتلِ كافر بأن له أحكام الشهيد ، وعلى قاتل كافر آخر بأنه عمله يُعدّ من الأعمال التي تجرِّمها الشريعة الإسلامية ويفتون الأمة بدعم المجاهدين والمرابطين في مكان ويحرمون دعم آخرين ويجرِّمون التعاون معهم بأي وسيلة !
وإذا قرأنا كليات الأحكام الإسلامية في هذه المسألة قراءة متكاملة كما هي في أذهان الفقهاء الكبار من السابقين واللاحقين ، فإنا سنجد تسبيبا كافيا في فهم ما قد يظنه بعض الناس تناقضا منهم .
وذلك أنَّ أحكام الإسلام التطبيقية تتصف بخصائص عظيمة منها: الواقعية الشرعية.
ولعلّ من المناسب إيراد تطبيق تقعيدي وصفي، يمكن تنزيله على كثير من قضايا الواقع التي تندرج تحته في كل بلد من البلاد الإسلامية وغيرها، وذلك في قضية يعد الخطأ في فهمها من أخطر قضايا العصر على أهل الإسلام (25)، وعرض ذلك بلغة عصرية تُقرٍِّب المراد، ولا سيما أنّ بعض مسائل هذا الضرب صارت مثار جدلٍ بين فئات جافية التي تلوي أعناق النصوص جهلاً أو تهرباً، أو لا تقيم لها وزنا وتتستر خلف دعوى تجديد الخطاب الديني في تحريفها أو سوء فهم أصحابها على أحسن حال؛ وأخرى غالية تجاوزت المشروع بتطبيق النصوص على غير مواردها فأخذت بعضها وأولت الآخر أو ادعت نسخه، وكلا الفئتين -بغض النظر عن النوايا- قد عانت منها الأمة بعدا عن منهاج ربها، فجلبت الأولى إلى نفسها وإلى الأمة شقاء البعد عن الله، وعانت الأخيرة من الشقاء الفقهي وجلبته إلى الأمة، وقد قال الله عز وجل لنبيه محمد صل الله عليه وسلم: (طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى).
وهذا هو موضوع الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى تحت عنوان:تطبيق السياسة الشرعية على أصل علاقة الدولة الإسلامية بغيرها.