... تابع
أسس السياسة الشرعية(5)مراعاة العرفد. سعد بن مطر العتيبيقاعدة : مراعاة العرف .والمراد به العرف الصحيح ، وهو : ما تعارفه أكثر الناس ( وهذا قيد يخرج العادات الخاصة ) من قول أو فعل اعتبره الشرع ؛ أو أرسله ، مما شأنه التَّغَيُّر والتَّبَدّل .
وهذا القيد يخرج العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها ، كالأمر بإزالة النجاسات ، وستر العورات ؛ لأنَّها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع بخصوصها ، فلا تبديل لها ، ولو اختلفت فيها آراء المكلفين ، كما لو تعارف الناس على كشف العورات ، كما يقول الشاطبي ، أو الاختلاء المحرم أو غيره .
ومجال إعمال العرف ما يلي :
1) الحالات التي أحال الشارع فيها على العمل بالعرف .
ومن أمثلته : إحالة الشارع إلى العرف في مقادير الإنفاق ، كما سيأتي في إثبات حجية العرف إن شاء الله تعالى .
2) تفسير النصوص التي وردت في الشريعة مطلقة ، مما لا ضابط له فيها ولا في اللغة .
ومن أمثلته : تحديد ما يكون حرزاً في السرقة ؛ وما يكون به إحياء الموات .
قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله : " كل اسم ليس له حدٌّ في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف " .
وقال السيوطي : " قال الفقهاء : كلّ ما ورد به الشرع مطلقاً ، ولا ضابط له فيه ، ولا في اللغة ، يرجع فيه إلى
العرف " .
3) الأعراف التي تكون أسباباً لأحكام شرعية تترتب عليها ، أو بعبارة أخرى : التي هي مناط لأحكام شرعيَّة ، مما لم تأمر به الشريعة على نحو معين ، ولم تنه عنه ، وتُلحظ فيه المصلحة تبعاً لذلك . وهذه لها صور ، منها :
- الأعراف التي تكشـف عن مرادات المكفين فيما يصدر منهم من أقوال وتصرفات ؛ ويدخل فيها صيغ العقود والفسوخ ، من بيوع و إجارات وإقرارات وأيمان ووصايا وشروط في عقود ، ومعاهدات ومواثيق دولية ، وغيرها .
- الأعراف التي تكشف عن العلل والحكم التي تترتّب عليها الأحكام الشرعية ، أو انتهائها . وسيأتي بيان لها إن شاء الله تعالى في مجالات السياسة الشرعية .
- الأعراف التي تكشف عن الصفات الشرعية ، أو صفات المحال التي تتعلق بها الأحكام ، كالكشف عن مالية المعقود عليه ، وما يعتبر عيباً في المبيع ، وما يتحقق به خيار الرؤية ؛ والكشف عما تتحقق به صفة الضرورة أو الحاجة ؛ والكشف عما أجمله الشارع من الجرائم الموجبة للتعزير كألفاظ الشتم من غيرها ، وما يقع به التعزير الرادع ، وغير ذلك .
هذا مجملٌ لمجالاتِ إعمالِ العرف شرعاً .
و ضابطه : " كل فعل رُتِّب عليه الحكم ، ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة ؛ كإحياء الموات ، والحرز في السرقة ، والأكل من بيت الصديق ، وما يعد قبضاً ، وإيداعاً ، وإعطاء ، وهدية ، وغصباً ، والمعروف في المعاشرة ، وانتفاع المستأجر بما جرت به العادة ، وأمثال هذه كثيرة لا تنحصر " .
شروط اعتبار العرف :
نص العلماء على شروط لا بد منها في اعتبار العرف طريقا صحيحا للاستدلال ، وهي :
1) أن لا يخالف نصاً أو قاعدة شرعية .
2) أن يكون موجوداً عند إنشاء التصرف .
3) أن يكون مطرداً ، أي : مستمراً في جميع حوادثه ؛ أو غالباً، أي : في أكثرها ؛ والمراد : اطِّراد أو غلبة العوائد المتجددة في كل زمان وفي كل مكان .
4) أن لا يُصَرِّح المتعاقدان بخلافه إن كان ثمّ عقد .
حجية الأخذ بالعرف واعتباره .
استُدِلَّ لحجية العرف بأدلة كثيرة ، يكفي منها في إثبات اعتباره : إحالة الآيات والأحاديث الأحكام المطلقة إليه لتحديدها به ، من مثل :
1) قول الله عز وجل : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة233] ؛ إذ أرجع الله سبحانه وتعالى تقدير نفقة المرضع إلى العرف غنىً وفقراً .
2) وقول النبي صل الله عليه وآله وسلم لهند بنت عتبة رضي الله عنها : (( خُذِي مَا يَكْفِيكِ َوَولَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ )) رواه الشيخان ؛ حيث أحال في نفقة الزوج والولد إلى العرف .
ثم هو معتبر في الجملة في جميع المذاهب ؛ وهو معنى قول العلماء : إنَّ العادة محكمة .
فالعرف قاعدة تطبيقيّة مهمّة ، يرجع إليها في تطبيق كثير من الأحكام العملية ؛ فهو في واقع الأمر ليس دليلاً ؛ بل الدليل مستنده الذي أحال إليه ؛ فالعلماء عند اعتبارهم الأعراف وملاحظتها عند تطبيق الأحكام ، يستندون إلى أصل شرعي ودليل معتبر ؛ يؤكد ذلك أهم شروط اعتبار العرف ، وهو : أن لا يخالف نصاً شرعياً .
ما يشترط فيمن يفتي باتباع العرف الحادث :
لا يسوغ الإفتاء على مقتضى العرف الحادث لكلّ أحد ؛ فقد نصَّ العلماء على شروط لابد من توفّرها ، في من يتصدَّى لذلك ، أهمها ما يلي :
1- أن يكون ممن له رأي ونظر صحيح ، ومعرفة بقواعد الشرع ، وأن يكون على علم بمدارك الفتاوى وشروطها واختلاف أحوالها ؛ وذلك حتى يُمَيِّز بين العرف الذي يجوز بناءُ الأحكام عليه وبين غيره ؛ فإنَّ المتقدمين شرطوا في المفتي : الاجتهاد ؛ وهذا مفقود في زماننا ، فلا أقلَّ من أن يُشترط فيه معرفة المسائل بشروطها وقيودها التي كثيراً ما يُسقطونها ولا يصرِّحون بها اعتماداً على فهم المتفقه كما يقول ابن عابدين .
وقد عزى القرافي غلط كثير من الفقهاء المفتين ، إلى فقدان هذا الشرط منهم ؛ حيث قال : " فهذه قاعدة لابدَّ من ملاحظتها [ يعني تغير الأحكام بتغير الأعراف ] ؛ وبالإحاطة بها يظهر لك غلط كثير من الفقهاء المفتين ؛ فإنَّهم يُجرون المسطورات في كتب أئمتهم على أهل الأمصار في سائر الأعصار ، و ذلك خلاف الإجماع ، وهم عصاة ، آثمون عند الله تعالى ، غير معذورين بالجهل ؛ لدخولهم في الفتوى وليسوا أهلاً لها ، ولا عالمين بمدارك الفتاوى وشروطها واختلاف أحوالها " .
2- أن يكون عارفاً بوقائع أهل الزمان ، مدركاً أحوال أهله . فلابد له من معرفة عرف زمانه ، وأحوال أهله ، والتخرّج في ذلك على أستاذ ماهر ؛ يقول ابن عابدين مبينا ذلك : " لو أنَّ الرجل حفظ جميع كتب أصحابنا لابد أن يتّلمذ للفتوى حتى يهتدى إليه ؛ لأنَّ كثيراً من المسائل يجاب عنه على عادات أهل الزمان فيما لا يخالف الشريعة . والتحقيق أنَّ المفتي لابد له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس " .
و هذه القاعدة من القواعد التي زادت أهميتها في هذا العصر ؛ حيث تَعَدُّدُ الأقاليم الإسلامية ، و تناثر الجاليات المسلمة في غيرها ؛ مما ينبغي معه تقييد الفتاوى بأعراف المستفتين زماناً ومكاناً وحالاً ؛ فقد تصل – مع انتشار وسائل الاتصال الحديثة - فتوى أهل بلد غير مقيدة به ، إلى غيره ممن لا تشملهم الفتوى ؛ فيُظنّ شمولها ؛ فيقع بذلك على من لا تشملهم الفتوى حرج ، أو توسع غير مشروع في حقهم ، كما قد يقع بذلك استغلال وتوظيف للفتاوى ، أو سُبَّة بها على أهل الإسلام ، من أهل الباطل المتربصين ، والله أعلم .
أسس السياسة الشرعية
(6)
تنزيل الأدلة على أحوالها المختلفة
د. سعد بن مطر العتيبي
ومن طرق الاستدلال السياسي : تنزيـل الأدلـة على أحوالهـا المختلفـة .
أولاً : المراد بهـذه الطريـق .
المراد بها : حمل الأدلة التي يظهر بينها اختلاف وتعارض في نظر المجتهد - مما ليس منسوخاً - على الأحوال التي وردت هذه الأدلة في بيان أحكامها ؛ بحيث يلزم المجتهدَ البحثُ في موارد هذه الأحكام تنظيراً وتطبيقاً ، وتنزيل هذا الاختلاف الذي ظهر له على اختلاف هذه الموارد (1) .
مثالـه : أحكام الأسرى ؛ فقد جاء ما يدلّ على قتلهم ، وجاء ما يدلّ على استرقاقهم ، وجاء ما يدلّ على المنَّ عليهم بلا شيءٍ ، وجاء ما يدلّ على إطلاقهم بفداء ؛ فهذه الأحكـام لا تعارض بينها – كما سيأتي بيانه في التطبيقات المعاصرة للسياسة الشرعية ، إن شاء الله تعالى - و إنَّما جاءت بياناً لأحكام أحوالٍ مختلفة .
ثانياً : حجية تنزيل الأدلة التي ظاهرها التعارض على أحوالها .
لم يطل العلماء في تقرير هذه الطريق بذكر الدلائل ، ولعلَّ ذلك ؛ لظهورها ، وتقرَّر الاستدلال بها لديهم ، لاستنادها على أصول متقرِّرة ؛ فمن الدلائل على حجيَّة هذه الطريق ما يلي :
1) ما هو مُتقَرِّرٌ من أنَّ الشريعة لا تُثْبِت حكمين مختلفين في مسألة واحدة ؛ بحيث يفيد أحدهما – مثلاً – الوجوب والآخر الحرمة ، في نفس الأمر ؛ وذلك بناءً على ما هو مسلَّمٌ من امتناع الاختلاف بين الأدلة الشرعية في واقع الأمر ، ورجوع الشريعة كلها إلى قول واحد ؛ ولأنَّ من لازم ذلك التناقض والعبث والجهل ، و الشارع الحكيم منَزَّهُ عن ذلك سبحانه وتعالى ، والدلائل على هذا أظهر من أن تذكر ، فلا حاجة للإطالة بذكرها ؛ وهذا لا ينافي وجود تعارض واختلاف ظاهري في فهم الناظر وظنِّه .
وفي هذا يقول الشاطبي : " الشريعة كلُّها ترجع إلى قول واحد في فروعها ، وإن كثر الخلاف ، كما أنَّها في أصولها كذلك ، ولا يصلح فيها غير ذلك " (2) .
2) إجماع العلماء على اعتبار هذه الطريق في الاستدلال .
قال الشوكاني : " ومن شروط الترجيح التي لابد من اعتبارها : أن لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه مقبول ؛ فإن أمكن ذلك تعيَّن المصير إليه ، ولم يجز المصير إلى الترجيح ، قال في المحصول : العمل بكلٍ منهما من وجه أولى من العمل بالراجح من كل وجه ، وترك الآخر . انتهى . وبه قال الفقهاء جميعاً " (3) .
وقال الشنقيطي : " … والمقرّر في علم الأصول وعلم الحديث أنَّه : إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعاً ، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى ؛ لأنَّهما صادقان ، وليسا بمتعارضين ، وإنَّما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن ؛ لأنَّ إعمال الدليلين معاً أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى " (4) .
3) من المعنى ، وهو ما عبَّر عنه العلامة أبو الوليد الباجي بقوله في الأخبار إذا اختلفت : " والحجّـة في ذلك أنَّ الخبرين إذا ثبتا جميعاً ليس أحدهما أولى من صاحبه ، ولا طريق إلى إسقاطهما ، ولا إلى إسقاط أحدهما ، وقد استويا وتقاوما وأمكن الاستعمال ؛ فلم يبق إلا التَّخَيُّر فيهما ، وإن كان كلُّ واحد منهما سدَّ مَسَدَّ الآخر ، وصار بمنزلة الكَفَّارة التي دخلها التخيُّر والله أعلم " (5).
ثم العملُ بها ظاهر في كتب أهل العلم المحققين من أهل الفقه والحديث ؛ بل ومن غيرهم ، لا يحتاج في إثباته أكثر من تَصَفُّحٍ سريع لأدلة المسائل التي تعدَّدَت فيها الروايات ؛ مما يؤكِّد حكاية الإجماع على هذه المسألة ؛ وهذا بعض كلام أهل العلم في تقريرها :
قال الإمام الشافعي : " وكلَّما احتمل حديثان أن يستعملا معاً استُعْمِلا معاً ، ولم يُعَطَّل واحدٌ منهما الآخر " ، ثم ذكر مثالاً لنوعٍ من الاختلاف الظاهري ، فقال : " ومنها ما يكون اختلافاً في الفعل من جهة أنَّ الأمرين مباحان " وذكر من أمثلته : تنوّع الحكم في الأسرى ، وقال : " فكان فيما وصفت من فعل رسول الله - صل الله عليه وسلم - ما يدل على أن للإمام إذا أسر رجلاً من المشركين أن يمنّ عليه بلا شيْءٍ ، أو أن يفادي بمال يأخذه ، أو أن يفادي بأن يُطلق منهم على أن يُطلقَ له بعضَ أسرى المسلمين ؛ لا أنَّ بعض هذا ناسخٌ لبعض ، ولا مخالف له " (6).
وقرَّر ذلك وبيَّن وجهه في : الرسالة ، حيث قال : " فأمَّا المختلفـة التي لا دلالة على أيّها ناسخ ولا أيّها منسوخ ؛ فكلّ أمره مُتَوَفِّقُُ صحيح ، لا اختلاف فيه … ويسنُّ في الشيءِ سنة ، وفيما يخالفه أخرى ؛ فلا يُخَلِّصُ بعضُ السامعين بين اختلاف الحالين اللتينِ سنَّ فيهما . ويَسنُّ سنَّة في نصٍّ معناه ، فيحفظه حافظٌ ، ويسنُّ في معنىً يخالفه في معنىً و يجامعه في معنىً : سنَّةً غيرَها لاختلاف الحالين ، فيحفظُ غيرُه تلك السنَّة ؛ فإذا أدَّى كلٌّ ما حفظ رآه بعض السامعين اختلافاً ، وليس منه شيءٌ مختلفٌ " ( 213-214) .
وقد نفى الإمام الطبري أن يكون الاختلاف في مثل ذلك مورداً من موارد النسخ ، وبيّن أنه من قبيل اختلاف الأحكام باختلاف المعاني ، الذي هو من الحكمة البالغة المفهومة عقلاً وفطرة ؛ حيث قال : " فإنَّما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ إذا اتفقت معاني المحكوم فيه ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة ؛ وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد فذلك هو الحكمة البالغة والمفهوم في العقل والفطرة ، وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل " ( جامع البيان : 2/473) .
وبيَّن الحافظ الحازمي- بعد ذِكْرِهِ أنَّ من شروط النسخ كون الخطاب الناسخ متراخياً - أنَّ الخطابين المختلفين المتراخيين ، إن كانا متصلين فلا يسمى نسخاً ، ، وإن كانا منفصلين : " نظرت : هل يمكن الجمع بينهما أم لا ؟ فإن أمكن الجمع جمِعَ ؛ إذ لا عبرة بالانفصال الزماني مع قطع النظر عن التنافي ؛ ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجهٍ يكون أعمّ للفائدة كان أولى ؛ صوناً لكلامه عن النقض ؛ ولأنَّ في ادِّعاءِ النسخ إخراج الحديث عن المعنى المفيد ، وهو على خلاف الأصل " (7).
وقال جمال الدين الإسنوي : " إذا تعـارض دليلان ، فالعمل بهما ولو من وجه أولى من إسقاط أحدهما بالكُلِّيـَّة ؛ لأنَّ الأصل في كلِّ واحدٍ منهما ، هو الإعمال" ( التمهيد في تخريج الفروع على الأصول :506) .
وقال ولي الله الدهلوي : " الأصل أن يعمل بكل حديث إلا أن يمتنع العمل بالجميع للتناقض ، وأنَّه ليس في الحقيقة اختلاف ، ولكن في نظرنا فقـط …" ، ثم ذكر طرائق للجمع ومنها : " أن يكون هناك علَّـة خفيـة توجب ، أو تحسِّن أحـد الفعلين في وقت ، والآخر في وقت ، أو توجب شيئـاً وقتاً وترخِّص وقتـاً ؛ فيجـب أن يُفحص عنها …" ( الحجة البالغة : 1/398) .
هذه بعض نصوص العلماء في تقرير هذه الطريق وهذه القاعدة في فهم نصوص الشارع ، وإليها يرجع الاختلاف بين الفقهاء في جملة من مسائل السياسة الشرعية عند التنظير والتطبيق ، من حيث ترتيب سلوكها وعدمه . (
مراعاة نوع التصرف النبوي
ومن أهم قواعد تنزيل الأدلة على أحوالها المختلفة ، قاعدة : مراعاة نوع التصرف النبوي .
تنزيل الأدلة على أحوالها المختلفة ، له قواعده المعتبرة ؛ من مثل النظر في أسباب نزول الآيات ، وأسباب ورود الأحاديث ، وما تتضمنه من الأدلة من قيود وأوصاف مؤثِّرة ؛ وهذه قواعد ووسائل ظاهرة ؛ لكن من القواعد - التي قد تخفى مع أهميتها في مباحث السياسة الشرعية - :
النظر في نوع التصرف النبوي ؛ لأنَّ النبي - صل الله عليه وآله وسلم - يتصرف بصفات عدَّة ؛ إذ هو الرسول ، وهو المفتي ، وهو الإمام ، وهو الحاكم ؛ ولكلِّ صفة منها خصائص استنباطية ؛ وعليه فلا بد من مراعاة معرفة نوع التصرف النبوي الذي يراد الاستنباط منه :
هل صدر من النبي صل الله عليه وآله وسلم بوصفه مُبَلِّغاً عن الله تعالى ، الذي هو مقتضى الرسالة ؟
أو صدرت منه صل الله عليه وآله وسلم بوصفه مفتياً ( يُنظر فوائد متعلقة بالمسألة في آخرها ) ، يخبر بالحكم الذي فهمه عن الله عز وجل ؟
أو صدرت منه صل الله عليه وآله وسلم بصفته إماماً أعظم ، يسوس الأمَّة ؛ " لأنَّ الإمام هو الذي فُوِّضت إليه السياسة العامّة في الخلائق ، وضبط معاقد المصالح ، ودرء المفاسد ، وقمع الجناة ، وقتل الطغاة ، وتوطين العباد في البلاد ، إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس" (9) ؛ فيقتدي به الخلفاء والأئمة في هذه التصرفات ؟
أو صدرت منه صل الله عليه وآله وسلم بصفته حاكماً ، يصدر أحكاماً قضائية ؟
هذه أسئلة ينبغي على الفقيه بعامة والفقيه السياسي بخاصة أن يراعيها عند نظره في الدليل الشرعي من تصرفات النبي صل الله عليه وسلم .
قال القرافي رحمه الله : " اعلم أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الإمام الأعظم ، والقاضي الأحكم ، والمفتي الأعلم ؛ فهو - صلى الله عليه وسلم - إمام الأئمة ، وقاضي القضاة ، وعالم العلماء ؛ فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته … غير أنَّ غالب تصرّفه - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ ؛ لأنَّ وصف الرسالة غالب عليه ، ثم تقع تصرفاته - صل الله عليه وسلم - :
منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعاً [ كإبلاغ الصلوات ، وإقامتها ، وإقامة مناسك الحج ] (10) ،
ومنها ما يُجمع النَّاس على أنَّه بالقضاء [ كإلزام أداء الديون ، وتسليم السلع ، وفسخ الأنكحة ] (11) ،
ومنها ما يُجمع النَّاس على أنَّه بالإمامة [ كإقطاع الأراضي ، وإقامة الحدود ، وإرسال الجيوش ] (12) ،
ومنها ما يختلف العلماء فيه [ كإحياء الموات ، والاختصاص بالسلب لمن قتل الحربي ] (13) ؛ لتردُّده بين رتبتين فصاعداً ، فمنهم من يُغلِّب عليه رتبة ، ومنهم من يُغَلِّب عليه أخرى .
ثم تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة ؛ فكان ما قاله - صل الله عليه وسلم - أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكماً عاماً على الثقلين إلى يوم القيامة …
وكل ما تصرف فيه - عليه السلام - بوصف الإمامة ، لا يجوز لأحد أن يُقدم عليـه إلا بإذن الإمام … وما تصرف فيـه - صل الله عليه وسلم - بوصف القضاء ، لا يجوز لأحد أن يُقدم عليه إلا بحكم حاكم … " (14) .
ومما يجب التنبّه له هنا ، أنَّ المسألة من أخطر مسائل الاستدلال ، وهذا أمر يدركه محققوا الفقهاء ولهم في التحقق منه ضوابط لا يتجاوزونها ، غير أنَّ بحث هذ المسألة في هذا العصر الذي كثر فيه المشغِّبون على شرع الله والمتهاونون في التثبت من سلامة طرقهم في الاستدلال - يقتضي التنبيه على أهم ضوابط هذه القاعدة عند العلماء ، وذلك بإيجازها في أمرين :
الأول : أنَّ جميع تصرفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بجميع صفاته ، مما لم يثبت اختصاصه به صلى الله عليه وسلم ، فهي تشريع لأمته ، سواء منها ما كان عاما ككل ما صدر عنه صل الله عليه وآله وسلم بصفته مبلغاً ومفتياً ، أو ما كان خاصاً ، كالصادر عنه بصفة الإمامة العظمى والولاية أو الحكم والقضاء . وهذا أمر متقرِّر عند علماء الأمَّة.
الثاني : أنّ الأصل في تصرفاته صل الله عليه وسلم ، هو الفتيا ، فلا يجوز قصر تصرف على وصف سواه ، إلا بدليل شرعي معتبر عند أهل العلم ، سواء كان دليلاً خاصاً أو إجماعاً ، كما في الأمثلة السابقة .
قال الشيخ العلامة المحقق سلطان العلماء عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله : في بيانه أمثلة قاعدة الشريعة في الحمل على الغالب والأغلب : " ومنها : أنَّ من ملك التصرف القولي بأسباب مختلفة ، ثم صدر منه تصرف صالح للاستناد إلى كلِّ واحد من تلك الأسباب ، فإنَّه يُحمل على أغلبها .
فمن هذا تصرف النبي صل الله عليه وسلم بالفتيا والحكم والإمامة العظمى ، فإنَّه إمام الأئمة ، فإذا صدر منه تصرُّف ، حُمِل على أغلب تصرفاته ، وهي الإفتاء ، ما لم يدل دليل على خلافه . " (15) .
فهذه قاعدة مهمَّة جدّاً ؛ و قد نبَّه إلى مراعاتها عددٌ من المحققين من العلماء ، و بيَّنو بعض قواعد ضبطها (16) ؛ وإن كانت لا تزال في حاجة إلى دراسة تأصيلية أعمق ، وأضبط ؛ تعتمد استقراء التصرفات النبوية من مصادرها ، ثم إعمال النظر التأصيلي فيها .
فــوائد ذات صلــة :
الفائدة الأولى :
فرق القرافي رحمه الله بين التبليغ ( الرسالة ) والفتيا ، بـ: أنَّ الأوّل : تبليغ ونقل من الله تعالى إلى الخلق ، والثاني : إخبار عن حكم الله عز وجل بما يجده في الأدلَّة ؛ فهو كالفرق بين الرسالة والفتيا . (17)
الفائدة الثانية :
ولعل من أوائل من نصُّوا على ذلك في تقسيماتهم بوضوح ، الحافظ العلامة أبو حاتم محمد بن حبّان التميمي ، في كتابه : المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع (المشهور بصحيح ابن حبَّان) ؛ حيث ذكرها في خطبة كتابه ، ونصّ عليه بعدُ آخرون .
تنظر: مضمَّنة في: الإحسان في تقريب صحيح ابن حبَّان ، للأمير علاء الدين الفارسي؛ الفصل الثاني : 1/103-107، القسم الخامس من أقسام السنن ، الأنواع (3،11،27،36،38،40،42،45) .
ولعلّ من أكثر العلماء السابقين اهتماماً بتأصيل ذلك وتحريره والتنبيه إلى أهميته في فهم التشريع ، العلامة القرافي ولعلّه أفاد ذلك من شيخه العز بن عبد السلام رحمهما الله تعالى
-----------------------------
(1) يبحث العلماء هذه الطريق تحت ما يعرف بـ( الجمع بين الأدلة ) ؛ و يذكرها آخرون في : مباحث الترجيح ، و مباحث النسخ ، وما يتعلق بذلك في علمي الأصول ، ومصطلح الحديث ، كما يتعرضون لها عند الجمع بين الأدلة في مسألة فقهية متفرعة عن هذه الطريق .
(2) ينظر : الموافقات ، للشاطبي : 5/59
(3) إرشاد الفحول : 2/ 381-382 . و ينظر : المحصول ، للرازي [ مع شرحه : نفائس الأصول في شرح المحصول ، للقرافي ] : 8/3846 .
(4) أضواء البيان : 3/242 ، (الحج : 27)
(5) الإشارة في أصول الفقه أبو الوليد سليمان بن خلـف الباجي (ت/450) :251 ، ط2-1418 ، ت/ عادل أحمد عبد الموجود و علي محمد عوض ، مكتبة نزار مصطفى الباز : مكة المكرَّمة . وهذا مقيَّـد بالنسبة للحاكم في إدارة الأمـور العامـة بالمصلحة ، كما هو معروف في قاعدة : " تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة ". ينظر : الأشباه والنظائر ، للسيوطي: 233 ؛ والمنثور في القواعد ، للزركشي : 1/309
(6) اختلاف الحديث ، ملحق بآخر كتاب " الأم " : 9/541 ، 551 ، ط1-1413 ، بتخريج وتعليق/ محمود مطرجي ، دار الكتب العلمية : بيروت .
(7) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ، للحازمي : 54 .
(
ينظر مزيداً من بحث هذه المسألة - إضافة إلى المصادر السابقة - عدداً من الكتب ، من مثل : المستصفى ، للغزالي : 2/476 وما بعدها ؛ ونفائس الأصول ، للقرافي : 8/3846 وما بعدها ؛ و شرح الكوكب المنير ، لابن النجَّار : 4/609 ؛ والذخيرة ، للقرافي : 1/135 ؛ وتيسير التحرير ، لأمير باد شاه : 3/137 ؛ وإعلام الموقعين ، لابن القيم : 2/338 ، 349، وذكر ضمن ذلك أمثلة للجمع بين الأدلة ؛ وقواعد التفسير جمعاً ودراسة ، د. خالد بن عثمان السبت : 2/698، ط1-1417، دار ابن عفان : الخبر ، السعودية ؛ وجميع ما كتب في اختلاف الحديث ، ومن أواخر ما كتب في ذلك كتاب : مختلف الحديث بين الفقهاء والمحدثين ، د.نافذ حسين حمّاد ، ط1-1414 ، الوفاء للطباعة والنشر : المنصورة . وفيه جمع حسن وبيان لقاعدة الجمع ، وبيان لشروطه ، وأنواعه من مثل : الجمع ببيان اختلاف مدلولي اللفظ والحال والمحل والأمر والنهي ، والعام والخاص بأقسامه والمطلق والمقيد
(9) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي : 105 .
(10) (11) (12) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي : 109 .
(13) ينظر : المصدر السابق : 109 ، 116 ؛ والفروق : 207-209 .
(14) الفروق : 1/206 .
(15)قواعد الأحكام في مصالح الأنام :2/244 .
(16) ينظر في بيان هذه القاعدة : المصدر السابق ؛ والإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي : السؤال الخامس والعشرون – ولا سيما – ص : 108 وما بعدها ؛ والفروق ، له : الفرق السادس والثلاثون : 1/205-209 ؛ وإدرار الشروق على أنواء الفروق ، لابن الشاط (ت/723) [ بهامش الفروق ] : 1/206-207 ؛ و زاد المعاد ، لابن القيم : 3/490-491 ؛ و حكم الجاهلية ، للشيخ/ أحمد بن محمد شاكر (ت/1377) : 129-130، ط1-1412، عناية/ محمود شاكر ، مكتبة السنة : القاهرة ؛ وتعليق الشيخ/ أحمد شاكر على : الرسالة ، للشافعي : 240-242 ، بتحقيقه .
(17) ينظر : الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ، للقرافي : 99-100 .
أسس السياسة الشرعية
(7)
قاعدة : الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار التحريم
د. سعد بن مطر العتيبي
قاعدة : الأصل في المنافع الإباحة ، وفي المضار التحريم .
هذه القاعدة تجمع أصلين :
الأول : الأصل في المنافع الإباحة .
والمراد به : أنّ المنافع (1) التي لم يرد بشأنها دليل من الشارع ؛ فالقـاعدة في حكمها : الإباحة ؛ حتّى يثبت خلافها الذي هو المنع.
قال إمام الحرمين الجويني : " فما لم يُعلَم فيه تحريم يجري على حكم الحِلِّ ؛ والسبب فيه أنَّه لا يثبت لله حكمٌ على المكلفين غير مستند إلى دليل ؛ فإذا انتفى دليل التحريم ثَمَّ ، استحال الحكم به " (2) .
وقال : " من الأصول التي آل إليها مجامع الكلام أنَّه إذا لم يُسْتَيْقَن حجرٌ أو حظرٌ من الشارع في شيءٍ ؛ فلا يثبت فيه تحريم في خلو الزمان " (3) .
وقال أبو العباس ابن تيمية : " وأمَّا العادات فهي ما اعتاده النَّاس في دنياهم مما يحتاجون إليه ؛ والأصل فيها عدم الحظر ؛ فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى … والعادات الأصل فيها العفو ؛ فلا يحظر منها إلا ما حرَّمه وإلا لدخلنا في قول الله تعالى : {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا} … " (4) .
حجية الاستدلال بهذا الأصل :
استُدِلَّ لهذا الأصل بأدلة كثيرة ، منها :
1- قول الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } [ المائدة :4] قالوا : إذ ليس المراد بالطيب الحلال ، وإلا لزم التكرار ؛ فوجب تفسيره بما يستطاب طبعاً ، وذلك يقتضي حلّ المنافع بأسرها (5) .
2- وقوله عز وجل : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [سورة البقرة : 29] ؛ حيث إنَّ الله عز وجل ذكر ذلك في معرض الامتنان ، ولا يمتن إلا بالجائز ، واللام تقتضي الاختصاص بما فيه منفعة (6).
3- وقوله سبحانه : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [الأنعام : 145] ؛ حيث جعل الله عز وجل الأصل الإباحة ، والتحريمَ مستثنى منه (7) .
وتأمل استدلال أبي العباس ابن تيمية رحمه الله بآية يونس في النقل عنه أعلاه ، فما ألطفه من استدلال !
4- قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ )) (
؛ حيث ربط صل الله عليه وسلم التحريم بالمسألة ، ومقتضاه أنَّه كان مباحاً قبل ذلك (9).
5- قوله صل الله عليه وسلم : (( مَا أَحَلَّ اللهُ في كِتَابِهِ فَهو حَلالٌ ، وَ مَا حَرَّمَ فهو حرَامٌ ، وَ ما سَكَتَ عنهُ فهو عَفْوٌ ، فَاقبَلُوا من اللهِ عافِيَتَه ، فَإنَّ اللهَ لم يكنْ لِيَنْسى شَيْئاً )) وتلى : } وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [مريم : 64] (10) ؛ إذ هو صريح في العفو عمَّا سُكِتَ عنه ، و المعفو عنه هو ما لا حرج في فعله ، وما لا حرج في فعله هو المباح ، وهو محمول على المنافع لا على غيرها ؛ لأنَّ المضار ورد بِشأنها ما يدلُّ على تحريمها مطلقاً ، كما سيأتي في الاستدلال للشطر الثاني من هذه الطريق (11) .
والثاني : الأصل في المضارّ التحريم .
وقد يعبر بـ( ـالمنع ) أو ( الحظر ) بدل ( التحريم ) .
والمراد به : أنَّ ما لم يرد بشأنه دليل من الشارع من المضار فالقاعدة في حكمه ، التحريم (12) ؛ حتى يثبت خلافه .
قال القرافي : " الأصل في المنافع : الإذن ، وفي المضار المنع ، بأدلة السمع " (13) .
وقال الإسنوي : " وأمَّا بعد الشرع ؛ فمقتضى الأدلة الشرعية أن الأصل في المنافع الإباحة … وفي المضار – أي مؤلمات القلوب – هو التحريم " (14) .
حجية الاستدلال بهذا الأصل :
استُدِلَّ لهذا الأصل بأدلة كثيرة ، منها :
1- جميـع الآيـات التي دلَّت على تحريـم الضـرر ومنعـه ؛ من مثل قـول الله تعالى : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } [البقرة :233] ، وقوله سبحانه : {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } [البقرة:231] ، وقوله تعالى : {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة :282] ، وقوله سبحانه : {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ } [النساء : 12] ، وقوله تعالى : {وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } [الطلاق :6] ، وقوله تعالى : } وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} [الأعراف : 56] ؛ فهي وإن كانت في قضايا جزئية إلا أنَّ استقراءها يدل على قصد الشارع تحريم كلَّ أنواع الضرر ، ويفيد ذلك أصلاً كلياً يُرجع إليه في كلِّ ما كان من هذا القبيل (15) .
2- قول النبي صل الله عليه وسلم : (( لا ضَرَرَ و لا ضِرَار )) (16) ؛ فإنَّه دالٌّ على نفي الضرر مطلقاً ؛ لأنَّه جاء نكرةً في سياق النفي ، والنَّكرة في سياق النفي تعم (17) ؛ قال الزرقاني : " فيه تحريم جميع أنواع الضرر إلا بدليل " (18) .
وإلى الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى عن سنة الخلفاء الراشدين ، وهي ختام محور أسس السياسة الشرعية وأهم طرق استنباطها التي ينبغي بيانها وتقريبها لمن رام تمييز السياسة الشرعية عن غيرها من السياسات .
----------------------------------
(1) وقد يعبر عنها بـ " العادات " ؛ لتكون في مقابل العبادات ، إذ الأصل فيها التوقيف .
(2) غياث الأمم في التياث الظلم ، للجويني : 490 ، وينظر : 502 .
(3) المصدر السابق : 509-510 .
(4) القواعد النورانية الفقهية : 176 ، ط1-1416 ، طبعة دار الفتح : الشارقة .
(5) إرشاد الفحول ، للشوكاني : 2/411 ؛ و رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 396
(6) الإمام في بيان أدلّة الأحكام ، لابن عبد السلام : 86 ، 173 ؛ والمصدرين السابقين .
(7) إرشاد الفحول ، للشوكاني : 2/411 .
(
رواه البخاري : ك/ الاعتصـام بالكتـاب والسنَّة ، ب/ ما يُكره من كثرة السُّؤال ، ومن تكلُّف ما لا يعنيه وقولـه تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [المائدة :101] ، ح(7289) ؛ ورواه مسلم : ك/ الفضائل ، ب/ توقيره صل الله عليه وسلم وترك إكثار السؤال عمَّا لا ضرورة إليه أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع ونحو ذلك ، ح(2358) واللفظ له .
(9) إرشاد الفحول ، للشوكاني : 2/411-412 ؛ ورفـع الحـرج في الشريعـة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 399.
(10) رواه البزار - كما في - كشف الأستار عن زوائد البزار ، لنور الدين الهيثمي : 1/78، ح(123) و 3/58 ، ح(2231) ، ط2-1404، ت/حبيب الرحمن الأعظمي ، مؤسسة الرسالة : بيروت – ؛ والحاكم : 2/375 ؛ والدار قطني في السنن [ مع التعليق المغني ] : 2/137، ط- فالكون ، حديث أكادمي : لاهور ؛ والبيهقي في السنن الكبرى : 10/12 ؛ وغيرهم .
(11) ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، د. يعقوب الباحسين : 398 ، وقد استَدَلَّ بما ورد عن النبي صل الله عليه وسلم من أنَّه قال : (( الْحَلالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَـتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّـا عَفَـا عَنْهُ )) وهـذا حديث فيه مقال ، ويغني عنه الحديث المذكور هنا بمعناه ؛ وينظر : العمل بالاحتياط في الفقه الإسلامي ، منيب بن محمود شاكر : 112 .
(12) ينظر : إرشاد الفحول ، للشوكاني : 2/409 ؛ و المصدر السابق : 393-394 .
(13) الذخيرة : 1/151 .
(14) التمهيد في تخريج الفروع على الأصول : 487 .
(15) ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، د. يعقوب الباحسين : 406 .
(16) رواه ابن ماجه : ك/ الأحكام ، ب/ من بنى في حقِّه ما يضرّ بجاره ، ح(2340) ؛ وغيره .
درجته : صححه الحاكم ، ولم يتعقبه الذهبي (المستدرك : 2/58) ؛ وقال ابن الصلاح : " هذا الحديث أسنده الدار قطني من وجوه ، و مجموعها يقوِّي الحديث ويُحَسِّنه ، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به " . ذكره عنه ابن رجب ، في : جامع العلوم والحكم : 2/211 ؛ وقال النووي : " له طرق يقوي بعضها بعضا " . الأربعين النووية [مع جامع العلوم والحكم ] : 2/207 ؛ وقال العلائي : " للحديث شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به " . ذكره عنه المناوي ، في : فيض القدير :6/432 ، دار الفكر : بيروت ؛ وأكد ابن رجب قول النووي السابق (جامع العلوم والحكم :2/210) ؛ ومن المعاصرين قال الشيخ أحمد شاكر : " وخلاصة القول أنا نرى أنَّ حديث أبي سعيد ، حديث صحيح ، والروايات الأخرى شواهد له ، تقوي القول بصحته ، والله أعلم " . تحقيقه لكتاب : الخراج ، ليحيى بن آدم (ت/203) : 95 [ آخر الحاشية (3) من ص : 93] ، ط2، تحقيق وشرح وفهرسة / أحمد محمد شاكر ، مكتبة دار التراث : القاهرة ؛ وصححه الألباني في أكثر من موضع من كتبه ( إرواء الغليل : 3/408) ح(896) .
(17) ينظر : التمهيد في تخريج الفروع على الأصول ، للإسنوي : 487 .
(18) شرح الزرقاني على موطأ مالك : 4/32 .
أسس السياسة الشرعية
(
اتباع سنة الخلفاء الراشدين
د. سعد بن مطر العتيبي
طريق الاستدلال باتِّبَاعُ سُنَّة الخُلَفَاءْ الراشدين
ومن أسس السياسة الشرعية اتِّباع سنة الخلفاء الراشدين فيها ، وهو طريق مهم من جهة اتباعهم في الجزئيات وفي طريقة النظر الفقهي المضبوط بحماية المقاصد الشرعية .
والمراد بالخلفاء الراشدين : الخلفاء الأُول الأربعة : أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم أجمعين .
فهم المعنيّون عند جماهير العلماء في قول النبي صل الله عليه وسلم : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي … )) " ؛ بل قد حكى الإجماع على ذلك ، ودلَّل عليه غير واحد من العلماء المحققين (1) .
والمراد بسنَّة الخلفاء الراشدين : ما أفتى به وسنَّه الخلفاءُ الراشدون أو أحدُهم ؛ للأمَّة ، وجمعوا الناس عليه ، ولم يخالف نصّاً ، وإن لم يتقدم من النبي صل الله عليه وسلم فيه شيءٌ . ذكره ابن القيم رحمه الله في معرض استدلاله للاحتجاج بأقوال الصحابة ، والخلفاء الأربعة هم صفوة الصفوة رضي الله عنهم أجمعين (2) ؛ وهذه المسألة أخص ؛ وهي من باب أولى .
فهذا يُتَّبع الخلفاء فيه متى تحقق مناطه ، وإن خالف فيه بعض الصحابة باجتهاد ؛ فقد أقرَّ الصحابة بعضهم بعضاً في مسائل تنازعوا فيها ولم يعنف بعضهم بعضاً بها ، قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله : " وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها ، على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم ؛ كمسائل في العبادات ، و المناكح ، والمواريث والعطاء ، والسياسة وغير ذلك ... وهم الأئمة الذين ثبت النص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم " (3) .
أمَّا مَا سنَّه الخلفاء الراشدون ، ولم ينقل أنَّ أحداً من الصحابة خالفهم فيه ؛ فهذا من مسائل الإجماع . قال أبو العباس ابن تيمية : " والذي لا ريب فيه أنَّه حجة : ما كان من سنَّة الخلفاء الراشدين الذي سنُّوه للمسلمين ، ولم ينقل أنَّ أحداً من الصحابة خالفهم فيه ؛ فهذا لا ريب أنَّه حجَّة ؛ بل إجماع . وقد دلَّ عليه قول النبي صل الله عليه وسلم : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي … )) " (4) .
ومما يحسن التنبيه إليه أنَّ عمل الخلفاء الراشدين يعدّ من مرجحات معاني المنقول عن النبي صل الله عليه وسلم عند اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم فيه (5) .
-ويدل على حجيَّة الأخذ بسنَّة الخلفاء الراشدين أدلَّة ، منها :
1) قول النبي صل الله عليه وسلم : (( فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ )) رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، وغيرهم . و صححه جمع من أهل العلم ، منهم الترمذي ، والبزار ، والحاكم (6) .
فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قرن سنة خلفائه الراشدين بسنته ، وأمر باتباعها كما أمر باتباع سنته ، وأنَّ سنتهم في طلب الاتباع كسنَّة النَّبي صل الله عليه وسلم ، " وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأنَّ يُعض عليها بالنواجذ ؛ وهذا يتناول ما أفتى به جميعهم ، أو أكثرهم ، أو بعضهم ؛ لأنَّه علّق ذلك بما سَنَّه الخلفاء الراشدون ، ومعلوم أنَّهم لم يسنُّوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد ؛ فعلم أنَّ ما سنَّهُ كل واحد منهم في وقته فهو من سنَّة الخلفاء الراشدين " قاله ابن القيم رحمه الله (7) ؛ ولو خالفه غيره من الصحابة كان المصير إلى قوله أولى ،كما قال الخطابي رحمه الله (
.
2) قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إِنِّي لا أَدْرِي مَا قَدْرُ بَقَائِي فِيكُمْ فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي وَأَشَارَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ )) رواه الترمذي وابن ماجه ، وحسنه الترمذي ، وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي وغيرهم . ففي هذا الحديث أمر النبي صل الله عليه وآله وسلم بالاقتداء بأبي بكر وعمر – رضي الله عنهما - زيادة تأكيد على ما في سابقه من الأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم .
3) أنَّ رأيهم أقوى من رأي غيرهم ؛ لأنهم شاهدوا طريق الرسول صل الله عليه وآله وسلم في بيان أحكام الحوادث ، وشاهدوا الأحوال التي نزلت فيها النصوص ، والمحال التي تتغير باعتبارها الأحكام ؛ فبهذه الأحوال يترجّح رأيهم على رأي من لم يشاهدوا شيئاً من ذلك (9) ؛ وهم أعرف بالمقاصد ؛ فهم القدوة في فهم الشريعة وما يجري على مقاصدها (10) .
هذه جملة مختصرة في بيان هذه الطريق ، التي هي من طرائق الاستدلال المهمَّة في مجال السياسة الشرعية ؛ وهي أخصّ من مسألة الأخذ بقول الصحابي التي كثر كلام الأصوليين فيها .
بخلاف هذه المسألة ، مع تخصيص بعضهم لشواهدها ، من مثل حمل بعض الأصوليين تولية عثمان بن عفان رضي الله عنه بشرط اتباع سيرة الخلفاء الراشدين بقوله : " المراد متابعته في السيرة والسياسة ".
وظاهر الأدلة أنَّ المراد أعم من ذلك كما سبق بيانه ، والله تعالى أعلم .
--------------------------
(1) ينظر : عارضة الأحوذي ، لأبي بكر ابن العربي : 10/146 ؛ وإجمال الإصابة في أقوال الصحابة ، للعلائي : 49 ؛ وشرح الطيبي :1/330 ؛ وجامع العلوم والحكم ، لابن رجب : 2/122 ؛ ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ، لملا علي القاري : 1/109 ؛ و سنة الخلفاء الراشدين – بحث في المفهوم والحجية ، لزيد بو شعراء :98 ، جامعة محمد الخامس بالمغرب .
(2) ينظر : إعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/176 ؛ وجامع العلوم والحكم ، لابن رجب : 2/ 123- 126 ؛ و سنة الخلفاء الراشدين – بحث في المفهوم والحجية ، لزيد بو شعراء :98 ، وما بعدها .. وينظر : تحرير مسألة حجية قول الصحابي في كتب الأصول ، ومن أجمع ما كتب في ذلك كتاب : الصحابي وموقف العلماء من الاحتجاج بقوله ، لشيخنا / د. عبد الرحمن بن عبد الله الدرويش .
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 19/122-123 .
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 20/573-574 .
(5) ينظر : سنة الخلفاء الراشدين – بحث في المفهوم والحجية ، لزيد بو شعراء :306 .
(6) قال الحاكم : " وقد استقصيت في تصحيح هذا الحديث بعض الاستقصاء على ما أدى إليه اجتهادي … وقد صحّ هذا الحديث والحمد لله " (المستدرك :1/96-98) ؛ وينظر : جامع العلوم والحكم ، لابن رجب : 2/109 ؛ و إرواء الغليل ، للألباني : 8/107 .
(7) إعلام الموقعين : 4/176 ؛ وينظر : الاعتصام ، للشاطبي :1/87-88 ؛ والموافقات ، له : 4/290-293،449 ؛ وإجمال الإصابة في أقوال الصحابـة ، للعلائي :49-50 ؛ وجامع العلوم والحكم ، لابـن رجب : 2/120-121 ؛ وكشف الأسرار ، للبخاري : 3/407 ، 414 .
(
معالم السنن : 7/12 ، بحاشية مختصر سنن أبي دواد ، للمنذري ؛ وينظر : شرح السنـة ، للبغوي :1/207 ؛ وتهذيب سنن أبي داود ، لابن قيم الجوزية : 7/12، بحاشية مختصر سنن أبي داود للمنذري .
(9) ينظر : أصول السرخسي : 2/108 .
(10) ينظر : روضة الناظر ، لابن قدامة : 1/405 ؛ والموافقات ، للشاطبي : 4/132-133، 293، 409 ؛ وينظر لمزيد الفائدة : عصر الخلافة الراشدة ، لأكرم ضياء العمري :82-85 .
..... يتبع