كاتب يفتح النار..متى وكيف خطط فريق الرئاسة الفلسطينية لتوجيه "الضربة القاضية" لغزة ؟؟
وحرب مستعرة لم تتوقف ليوم واحد، وهي حرب أمنية إسرائيلية وفلسطينية وعربية ودولية على مختلف المستويات والأجهزة بهدف تنفيذ ما يسمى بسياسة "تجفيف منابع تمويل الإرهاب" التي ضيقت شيئا فشيئا على المؤسسات الخيرية والأهلية وقيدت بل وقلصت التمويل الدولي في قطاع غزة.
ومضت حراب القتال الأمني والمالي لتصل عمقها في مراقبة كل دولار يدخل الى قطاع غزة عبر وسائل التحويل المالي الخاص أو حتى عبر النظام المصرفي الرسمي.
ومارست إسرائيل حربا من نوع اخر على قطاع غزة بهدف وقف ما كانت تطلق عليه "تبيض الأموال" فقيدت كل الحركات التجارية الخارجية بإتجاه غزة واشترطت ان تدفع أموال البضائع الواردة الى غزة بشكل رسمي من غزة وعبر البنوك الرسمية وتقديم ما يثبت ذلك في الموانئ الإسرائيلية.
بل إن البنوك الفلسطينية مارست تطبيق ما عرف بـ"الابليكيشن الأمني للتحويل المالي" وخاصة اذا تعلق الامر بدفع الأموال للشركات من الضفة الغربية وإليها.
كل ما سبق من حروب وإجراءات وقيود كان يسعى بشكل أساسي إلى ضرب المقدرات المالية لحماس وحكومتها بغزة، بهدف المس بما أطلق عليه بـ"السيطرة الأمنية والنمو الاقتصادي لحماس" الذي من شأنه أن يعزز موقفها الجماهيري والأمني والعسكري في غزة، ويجعل استعادة السيطرة الأمنية والسياسية للسلطة الفلسطينية على غزة مرة اخرى أمرا مستحيلا.
الا انه وبعد حرب العام 2014 تبين للعالم وإسرائيل والسلطة الفلسطينية انهم لن يحصلوا على لحظة الضعف المنتظرة لحماس من أجل الإنقضاض عليها واستعادة السيطرة الامنية والسياسية للسلطة الفلسطينية على قطاع غزة، بل على العكس من ذلك كانت حماس تتطور وتنمو على مختلف المستويات الأمنية والسياسية والعسكرية والاقتصادية.
وشكل إعلان حكومة حماس بغزة بعد الحرب عن زيادة نسبة صرف رواتب موظفيها، مؤشراً كافياً على فشل كل ما طبق عليها سابقا.
ومن هنا بدء ما يعرف بـ"المطبخ الأمني الاقتصادي" بالتحضير الى البدائل ذات الطابع الاقتصادي العميق، القائمة على تدمير مقومات الصمود الحقيقية للمواطن الفلسطيني في غزة ، بوصفه أداة التغيير الوحيدة التي لم تستخدم ويتوجب الضغط من اجل تفعيلها.
فأعدت الخطة التي يمكن أن يطلق عليها اسم "الضربة القاضية" بوصفها فرصة النجاح الأخيرة امام غزة بكل مكوناتها وليس حماس كتنظيم يحكمها، والتي بدأت بمراحل متعددة نرصدها معكم:
البحث والتحليل
لإيجاد مكامن ونقاط القوة والتمكين لحماس على المستوى الاقتصادي والذي كان ركيزة اساسية في قوتها على مختلف المستويات في غزة ، كان لابد من الاجابة على سؤال مهم :" كيف تنمو حماس اقتصاديا في غزة وقد طبقت ضدها كل الإجراءات ذات العلاقة بمنع تهريب الأموال او نقلها او تبييضها في غزة؟".
والاجابة كانت بالتحليل والأرقام والوقائع هي أن حماس تنمو من خلال دائرة الاقتصاد المحلي والتجارة الداخلية لغزة ، عبر وزارة مالية مهنية قوية أبدعت في استحداث منافذ إيرادات مالية للخزينة العامة، من خلال سلسلة طويلة من الضرائب والرسوم والجمارك، فلم يبقى شيء دون دفع.
وهي بذلك كانت تجبي ما يزيد عن 20% من الأموال النقدية التي تصل لقطاع غزة عبر ثلاث منافذ رسمية وهي " رواتب السلطة الفلسطينية والتي كانت تصل مبلغ 60 مليون دولار شهريا ، ورواتب وكالة الغوث والتي تصل الى 15 مليون دولار شهريا والمشاريع والمنح الدولية ذات العلاقة بالإعمار وغيره والتي تتراوح بين 20 الى 30 مليون دولار ".
ومن هذا التحليل انطلق "المطبخ الأمني الاقتصادي" لدى دوائر صنع القرار في فريق الرئاسة وبالتعاون والإشراف الكامل من المنظمات الدولية والأجهزة الرسمية في الدول الكبرى بتطبيق خطط تجفيف السيولة النقدية في غزة على أمل الحد من ايرادات مالية غزة وبما يحقق المس المباشر بالوقوف عند مسؤولياتها في صرف رواتب منتظمة وتقديم الحد الادنى من الخدمات لمواطني غزة ويضعها في موقف المدان الفاشل في إدارة وحكم غزة.
وبدأ التطبيق الهادئ الغير معلن مطلع العام 2015 أي بعد إنتهاء حرب 2014 مباشرة واتخذ مساريين متوازيين.
تجسد المسار الأول في تلقي سلطة النقد الفلسطينية قرارا سياسيا يسمح للبنوك بفتح باب التسهيلات الائتمانية والقروض أمام موظفي السلطة الفلسطينية، بعد تعطش المواطن في غزة لذلك وتدهور الواقع المعيشي، وتوقف شبه تام خلال سنوات الإنقسام بحجة عدم الاستقرار والمخاطر الكبيرة في السوق المصرفي الغزاوي.
ووصلت التسهيلات من قبل البنوك بالقطاع الى حد إقراض الموظف الحكومي من 50 الى 60 ضعف الراتب كقرض شخصي، بالإضافة الى تسهيلات بطاقات المشتريات الاستهلاكية والمدين دوار وغيرها.
واعتبر ذلك حالة مصرفية غير منطقية اذا ما علمنا أن قيمة التسهيلات الائتمانية في قطاع غزة بلغت حد 993.5 مليون دولار، من إجمالي حجم ودائع العملاء في البنوك العاملة داخل قطاع والذي وصل 1122.7 مليون دولار ، أي بنسبة تسهيلات ائتمانية تقد بـ88.5% من إجمالي أموال الودائع.
بينما بلغت نسبة تشغيل الودائع 63% من أصل حجم ودائع يقدر بـ 10404 مليون دولار في بنوك الضفة الغربية، بواقع تسهيلات ائتمانية وصل 6535 مليون دولار .
وهناك معلومات تؤكد ان نسبة الائتمان في بعض البنوك بغزة تخطت اكثر من 110% من الودائع في البنك.
والحقيقة هنا تطرح سؤالا ملحاً، كيف تحولت غزة من مكان غير مستقر عالي المخاطرة، إلى مكان أمن خالي من المخاطرة، ليتم التصرف بأموال المودعين والشركات والبنوك؟؟!!
الاجابة يجب أن تكون واضحة، وهي السعي من قبل المخططين الى تحقيق معادلة "الحرمان" أي حرمان الأسواق المحلية بغزة من السيولة النقدية بما يحقق المس بدائرة ايرادات مالية غزة.
و اذا ما نظرنا الى نسبة الخصم التي تنفذها البنوك على ما يقرب من 70% من إجمالي موظفي السلطة الفلسطينية المقترضين، والتي تقدر بـ 50% من إجمالي الأموال الوارد من قبل السلطة الفلسطينية على بند رواتب الموظفين في السلك الحكومي.
تتضح حقيقة انه يتم حبس ما يقرب من 50% من إجمالي هذه الاموال، داخل البنوك دون دخولها إلى الأسواق المحلية بغزة، ويحقق ذلك نجاحا أوليا في تطبيق سياسة "الحرمان" أي حرمان السوق التجاري من الأموال التي تدور بداخله.
وبذلك حقق المطبخ الأمني الاقتصادي للسيد الرئيس هدف خفض وتيرة القوة الشرائية في أسواق غزة بنسبة تصل حد 30%، والتي انعكست سلبا على حركة الواردات عبر المعابر على المستوى التجاري وانخفضت الحركة بشكل طفيف، و تأثرت إيرادات وزارة المالية بغزة سلبا، في بادرة سُجلت كأول نجاح لهذه الخطة.
إلا أن مالية حماس تمكنت من تخطي هذا التراجع بتحديث قوائم الرسوم والتعليات والضرائب وعززت الإيرادات من خلال رفع سقف المبالغ الضريبية والرسوم المفروضة على التجار، بل وحققت تطورا نوعيا في ايراداتها المالية بما اهلها لتستعد لرفع نسبة الصرف لرواتب موظفيها.
وشكل كل ذلك ضربة جديدة لنجاحات طفيفة حققها "المطبخ الامني الاقتصادي" الخاص في رام الله، على صعيد المس بمقدرات حماس المالية، وشكل ايضا عاملا مستفزا له بما دفعه للتفكير العنيف والقاسي والتسريع بتطبيق إجراءات رتبت وخطط لها بعمق وبلا رحمة او شفقة وارتكزت على ضرب الانسان الفلسطيني في غزة ومكونات المجتمع الفلسطيني دون النظر الى المكون السياسي.
فعمدت وزارة المالية الى تطبيق الحسم من رواتب الموظفين بغزة بما يزيد عن 30% من أصل راتب الموظف، وهنا علينا ان نسأل لماذا حددت نسبة 30% من إجمالي الراتب كنسبة حسم؟؟!!
والإجابة واضحة امام الجميع من خلال المثال التالي لموظف مقترض من البنك
موظف يتلقى راتب مقداره 3000 شيكل مقترض من البنك ويسدد ما قيمته 1500 شيكل ويتبقى له من الراتب الاصلي فقط 1500 شيكل، فجاءت نسبة الخصم 30% من اصل الراتب لتشكل 900 شيكل محسومة وفقا لعقوبة السلطة الفلسطينية، وبالتالي يتلقى الموظف راتبا شهريا يقدر بـ 600 شيكل فقط لا غير).
أي أن تحديد النسبة كان يهدف الى المس بقيمة الاموال التي كان يتحصل عليها الموظف بشكل فعلي بعد اقتطاع نسبة خصم اقساط القروض من قبل البنوك، وهي ذاتها ما كان يوجهها الموظف الى الاسواق المحلية بغزة لتلبية احتياجاته اليومية، وهي ايضا الاموال التي كانت تشكل المحرك الرئيسي للتجارة الداخلية واعمال التجار ورجال الاعمال، والتي كانت ترتكز عليهم مالية حماس في جباية الرسوم والضرائب.
وهنا يجب ان نكون علىٍ يقين أن من حدد قيمة النسبة للحسم، حددها وفقا لاطلاع كامل ودقيق ومهني على واقع موظفي غزة في القطاع المصرفي ونسب الاقتراض وقيمة الأقساط، واسقط النسبة كمتوسط مقبول انسانيا ودوليا، ويحافظ على الحد الأدنى من متطلبات الحياة اليومية للموظف، وبما لا يصل الى حد الانهيار الكامل.
وبالفعل فان هذه الخطوات حققت نتائج خطيرة وسريعة على صعيد المس بإيرادات مالية حماس بحيث انهارت الحركة التجارية في غزة بما دفع مختلف القطاعات التجارية الى التوقف شبه التام عن عقد الصفقات التجارية وتوريد البضائع لغزة بعد حالة الركود القاتلة التي عانت منها الاسواق وحالة الخوف والخشية من المستقبل، وعلى اثر ذلك كله تراجعت ايرادات المالية بغزة بشكل مباشر بما يزيد عن 20%.
ووجدت مالية غزة نفسها امام حالة من التراجع المالي تتسع يوما بعد يوم في ظل الاستمرار في سياسة الخصومات والضغط على القطاعات الاقتصادية من قبل السلطة الفلسطينية والاحتلال الاسرائيلي، والتي انهكت وافلس رجالاتها ، بل ووصل بعضهم الى السجون لعدم مقدرتهم على الايفاء بالتزاماتهم المالية.
ووجد المخططون في هذه النتائج المشجعة بالنسبة لهم دافعا للاستمرار في الخطة والتي تشمل ايضا تفعيل دور المواطن في غزة للضغط جماهيريا عبر النزول الى الشوارع والثورة ضد حكومة غزة والاستنجاد بالسلطة الفلسطينية، من خلال المس بمتطلبات المواطن الحياتية المنزلية.
وهنا جاء قرار وقف التحويلات الطبية للخارج ووقف توريد الادوية للمستشفيات العاملة بغزة، ووقف ارسال مستلزمات العملية التعليمية من كتب وغيرها لوزارة التربية والتعليم بغزة، وقرار تقليص الكهرباء مع انعدام فرص تشغيل محطة التوليد في حينه، وصولا الى جدول ساعة كهرباء واحدة يوميا.
الامر الذي كان ينذر بانفجار شعبي لا تحمد عقباه في غزة، والذي تم تجنبه من خلال التدخل المصري "المدفوع"، منعا للتدهور الكامل في غزة من خلال ادخال وقود لتشغيل المحطة.
لكن ما جرى من وقف الانفجار لا يعني الانفراج، بقدر ما يعني خفض حدة الانفجار ليتحول الى الحرق او القتل او التدمير البطيء، الذي بدأ يتسلل الى مكونات وازقة المجتمع الفلسطيني بغزة مهددا هذا المجتمع بالتفكك والاندثار والدخول في نفق مظلم لا سبيل للخروج منه.
ولا زالت الخطط تُعد وتطبق لتوجيه "الضربة القاضية" لغزة على المستوى المالي والاقتصادي، على الرغم من بدء عملية المصالحة برعاية مصرية.
ويتجلى ذلك بصورة يجب ان يتنبه اليها الساسة والمتخصصون، وهي تحصيل اموال الضرائب والجمارك من تجار وشركات غزة على المعابر التجارية من قبل وزارة المالية بحكومة التوافق، دون ان تصرف أي من هذه الاموال داخل غزة، وبالتالي نحن نقف امام تعميق لازمة ركود الاسواق بغزة عبر الامعان بسياسة حرمانها من السيولة النقدية.
ومن المتوقع ان تنهار اسواق وتجارة غزة وشركاتها ومؤسساتها ومنظومتها الاقتصادية، خلال الشهرين القادمين، اذا استمر ذلك النهج في الجباية دون الانفاق في غزة، واذا ما صدقت التوقعات التي تؤكد بتمنع السلطة الفلسطينية عن صرف رواتب موظفي غزة السابقين.
وبذلك يجب ان نصفق طويلا لفريق الرئاسة الفلسطينية لنجاحه الباهر في توجيه "الضربة القاضية" لغزة ، بينما لا زالت اسرائيل تتحكم بتنقلاتهم حتى اذا ما ارادوا الذهاب الى غرف النوم، ومنهم ايضا من يتحدث معنا عن بسط السيادة والتمكين في غزة؟؟!!
*رئيس تحرير صحيفة اقتصادي