غرفة إنعاش المشهد السياسي في الأردن
سامح المحاريق
Feb 02, 2018
حصلت على فرصة واحدة للحديث مع الملك عبد الله الثاني، بين مجموعة من الشباب قبل سنوات عدة، وتحدثت وقتها عن الأحزاب، وعبّرت عن الضيق بالأحزاب الصغيرة المشتتة بوصفها عائقاً أساسياً أمام وجود أحزاب حقيقية وفاعلة، تستطيع أن تضطلع بإنتاج حكومات نيابية.
وقتها كان رد الملك يؤيد ما ذهبت إليه، ولكنه تطرق إلى استغرابه أصلاً من تغيب البرامج عن الأحزاب، وتكلم عن انطباعه السلبي تجاه أدبيات أحد الأحزاب، الذي زعم دوراً كبيراً في وقتها، والفجوة بين عرض المشكلات في أدبيات الحزب مرفقة بكثير من الإنشاء، حول أحلامه وتطلعاته، بدون أن يكون مرفقاً ذلك ببرامج يمكن على أساسها تحقيق هذه الأهداف.
تذكرت اللقاء الذي جرى في أبريل 2011 بعد أسابيع قليلة من انطلاقة الربيع العربي، وأنا أشاهد لقاء الملك مع طلبة الجامعة الأردنية في عيد ميلاده السادس والخمسين، لأقف عند حقيقة السنوات التي أهدرها الأردن، بدون أن يتقدم في ملف الإصلاح السياسي، مع أنه يمكن الدفع بالعديد من الأسباب التي أثرت على مسيرة الإصلاح وعطلته، إلا أن الوقت لا يخدم الأردن في النهاية، والتاريخ بمزاجه الصعب وذائقته الانتقائية لا يهتم بهذه النوعية من التفاصيل، ولا يتوقف إلا أمام النتائج النهائية التي يختصرها في محطات واضحة وصريحة.
يختلف الأردن بصورة كبيرة عن بقية الأنظمة الملكية في المنطقة العربية، فالأردنيون بشكل عام يمتلكون وعياً سياسياً متقدماً، منذ بدأوا جزءاً أصيلاً من نضال سوريا الكبرى، تجاه التحقق ومن تفاصيل سقوط ذلك المشروع، كما كان الأردن الدولة العربية الأولى التي تشهد في الخمسينيات من القرن الماضي صعود حكومة منتخبة ذات ميول قومية اشتراكية صارخة، وتحول الأردن في الستينيات لأرض صراع سياسي تبشيري بين الناصريين والبعثيين، قبل أن تصعد التنظيمات الفلسطينية وتتحول إلى بؤر استقطاب سياسي، تركت الساحة بعدها للإخوان المسلمين ولفورة قومية أخرى مع صعود صدام حسين، وهذه التركيبة، بجانب الكثافة البيروقراطية للدولة الأردنية، تجعل الأردن أمام تراث هائل، لا يمكن مقارنته إلا بدول عربية قليلة أخرى مثل لبنان والسودان والمغرب.
ومن المستغرب مشاهدة ملك الأردن وهو يواجه حالة من الجفاف السياسي كالتي يعيشها الأردن اليوم، فهي ليست صحية على المدى البعيد، وإن كانت أسهمت إلى حد ما في مناعة الأردن من تفاعلات المنطقة الساخنة في السنوات الأخيرة، ولكن هذه السلبية لا يمكن أن تصنع حالة من التوازن بين القوى الفاعلة في المجتمع، وأقصى ما يمكن أن تصله هو حالة من الخمول تهدد حيوية الأردن وقدرته على المناورة على المستوى الإقليمي والعالمي.
يطالب الملك بضغط من أسفل، يتكامل مع الضغط الذي يمارسه من الأعلى، ويكشف جانباً كبيراً من نواياه بصورة مباشرة، تتوجه لا لشكل تركيبة المؤسسات السياسية، ولكن تتعرض إلى جوهر وجودها، في معادلة أصبحت ضرورية في الأردن، وهو أمام خيارات صعبة في المرحلة المقبلة، ليس الغرض منها هو الشأن السياسي الداخلي وحده، فالمواقف الأردنية التي أعلنت من الملك وتبنتها الدولة الأردنية، ترافقت مع تشجيع أو حتى تحريض للشارع الأردني، من أجل استعراض غضبه ورفضه لقرار الرئيس ترامب بنقل سفارة بلاده إلى القدس. أخطر ما في اللقاء هو أمور لم يتحدث بها الملك، وإن ظهرت في تعابير وجهه وزهده في الشرح والاستفاضة، عندما تحدث عن الضغوط الاقتصادية التي مورست على الأردن نتيجة مواقفه السياسية، فالأردن اليوم يعيش أزمة وجودية عميقة تتطلب موقفاً متماسكاً ومتجانساً على جميع المستويات، وربما يفسر ذلك، إلى حد بعيد، حالة الصبر غير الاعتيادية التي يعيشها الأردنيون، في مواجهة قرارات حكومية تؤثر على ظروفهم المعيشية، والتخوف هو ألا تدرك الحكومة حدود المناورة وأن تفشل في قراءة المشهد السياسي الذي يعطيها هامشاً للتحرك الاقتصادي.
التجريف السياسي بعد هبة أبريل 1989 تواصل، والقوى الحزبية التي أنهت مرحلة العمل تحت الأرض في ذلك الوقت، لتخرج إلى شروط جديدة في الممارسة السياسية، أصابتها صدمة الأضواء بفترة من الترنح، استغلته القوى التقليدية التي أحكمت سيطرتها في سنوات الثمانينيات لتؤسس لحياة سياسية بقيت تحت وصاية أمنية مشددة، نتيجة ظروف حرب الخليج وتوابعها، ومحاولة الهروب للأمام التي مارستها الدولة مع اتفاقية وادي عربة 1994 المرفوضة شعبياً، وإن كانت تمثل مخرجاً متخيلاً أمام استغلاق الأفق الخليجي أمام الأردنيين، ولا مبالاة المصريين والسوريين الذين استفادوا من مواقفهم في الحرب بانتعاشة اقتصادية ملموسة، ولكن الشروط الموضوعية التي كانت تجعل الأردن يبحث عن ذلك الهدوء، من خلال التحييد للعمل السياسي، انقضت عملياً خلال السنوات الأخيرة، وتبقى الأزمة قائمة نتيجة عدم قدرة القوى السياسية على إنتاج أجيال وسيطة وأخرى جديدة، ضمن ثقافة التجريف التي تأسست وتوسعت خلال العقدين الأخيرين، كما أن النخبة التي تشكلت في تلك المرحلة وكان يمثلها (أهل الثقة) دون (أهل الكفاءة) اتخذت مواقع دفاعية ضد أي تغيير في المعادلة القائمة، واستطاعت أن تبدل ثيابها الجهوية والطبقية والعشائرية مرات عديدة وكثيرة.
الأزمة الأخيرة وحدت الأردنيين بصورة غير مسبوقة، وكشفت عن تحولات جذرية في رؤيتهم للمشهد العام في الإقليم، وعلى المستوى المحلي، وربما يتطلب ذلك استثماراً في اللحظة الراهنة، من خلال تثوير المشهد بشخصيات جديدة مختلفة عما أنتجته المرحلة السابقة، ويبدو أن الإطار الزمني الذي تحدد لهذه المرحلة سيستغرق ثلاث سنوات أو أقل من ذلك، ويشكل ذلك تحدياً جديداً للأردنيين، الذين يترتب عليهم الخروج من منطقة الراحة التي يشغلونها، والتي ما عاد ممكناً تمويلها أو صيانتها في الفترة المقبلة، ولكن ذلك، سيضعهم أمام قوى كثيرة للشد العكسي، في مقدمتها معظم أطياف التركيبة السياسية القائمة، التي ستراهن على خبرتها الطويلة مع المعارضة الأردنية الشعاراتية، لتستدرجها إلى منطقتها المفضلة في الحديث عن اللاواقعية والمثالية، التي لا تتناسب مع أوضاع الأردن وإمكانياته، ولذلك، فالاصطفاف على أساس واسع بين اليمين المحبط واليسار المشتت، من شأنه أن يحرج النخبة القائمة التي يمثل معظم سدنتها وقادتها أشخاصاً تمكنوا من القفز ببراعة بين عربات اليمين واليسار، وفقاً لما تقتضيه مصالحهم.
ارتدادات الخطاب الملكي على النخبة السياسية، ستظهر خلال الأسابيع المقبلة، وربما يشهد الأردن تغييرات واسعة لم تحدث منذ عقد من الزمن على الأقل، كما أن تغيراً جذرياً يمكن أن يطرأ على رغبة الملك في تحقيق الاستقرار، في بيئة الإدارة العامة في الأردن تجاه استثمار استراتيجية الملك الحسين التقليدية، في توفير مرونة مستمرة وتنافسية مضمرة داخل النخبة لتفكيك تحالفاتها القائمة.
كاتب أردني