معاهدة يافا بين السلطان الكامل وفريدريك الثاني
خالد عبد القادر احمد
نقلا عن موقع منتديات سفر التاريخ:
السلطان الكامل .. والتفريط ببيت المقدس
الكامل وبيت المقدس
جهزت أوروبا الحملة الصليبية الخامسة وتوجهت العساكر إلى مصر، قاصدة دمياط، فوصلوها في يوم الثلاثاء 4 ربيع الأول سنة 615هـ /1218م، وأحكموا الحصار عليها، وما زاد في حدة الحصار وفاة الملك العادل، الذي استولى على الحكم في مصر من بعده ابنه الملك الكامل الذي ثار عليه بعض القادة، وهو عماد الدين أحمد بن المشطوب، وكان ذلك باتفاق مع الفائز أخي الملك الكامل، فوقع الكامل في حيرة وجعله في موقع يخشى فيه على نفسه، فترك موقعه وانسحب من ميدان المعركة، ما أثر على صمود جيشه الذي ترك مواقعه، ولما علم الفرنجة بالأمر شددوا الحصار وطمعوا في دمياط، ولكن قدوم نجدة من الشام بقيادة الملك المعظم عيسى أخي الملك الكامل قلب الموازين لصالح المسلمين، خاصةً بعد أن تمكن المعظّم من القضاء على المشطوب من خلال حيلة دبرها له، إلا أن الأمور ما لبثت أن مالت إلى جانب الصليبيين ، خاصة بعد قدوم نجدة من أوروبا بقيادة بيلاجيوس، فعانى المسلمون جراء ذلك معاناة شديدة، حيث عدمت الأقوات وغلت الأسعار، وبقي الحصار قائماً حتى سقطت المدينة في يد الصليبيين في (27 من شعبان 616هـ = 5 تشرين الثاني 1219م)، فعرض عليهم الكامل ـ بعد أن يئس من قدرة دمياط على الصمود ـ استعداده لتسليم بيت المقدس إليهم مقابل الجلاء عن مصر.
لكن هذا العرض السخي المفرط في التنازل لم يلق إجماعًا في قبوله من قبل الصليبيين، فرفضوه؛ إذ كانوا يمنّون أنفسهم بالاستيلاء على مصر، وظلوا في دمياط ثمانية عشر شهرًا كاملة دون تحرك جادٍ منهم، حتى تمكن المصريون من الانتصار عليهم وطردوهم من دمياط، وفشلت الصفقة، ونجا بيت المقدس من المقايضة والوقوع في يد الصليبيين.
انقسام البيت الأيوبي
كان لتضامن أبناء السلطان العادل الثلاثة: الكامل محمد، والمعظم عيسى، والأشرف موسى، أثره الواضح في تحقيق النصر في دمياط، وإفشال الحملة الصليبية الخامسة بقيادة "يوحنا دي برينا"، وكان المأمول أن يظل هذا التحالف قوياً، لكن ذلك لم يحدث، فانفرط العقد، وانكفأ كل واحد منهم حول ذاته، يعظّم من شأن مصالحه ومكاسبه، دون نظر إلى مصلحة أمته؛ فشب صراع بين الكامل وأخيه السلطان المعظم عيسى صاحب دمشق.
واستعان كل منهما بقوى خارجية لمؤازرته في مواجهة الآخر، فاستنجد الملك المعظم بسلطان الدولة الخوارزمية، في حين استعان السلطان الكامل بالإمبراطور فريدريك الثاني صاحب صقلية وإمبراطور الدولة الرومانية في غرب أوروبا.
وكان الثمن الذي أعلنه السلطان الكامل للإمبراطور فريدريك هو تسليمه بيت المقدس وجميع فتوح صلاح الدين في الساحل الشامي، وذلك مقابل مساعدته في حربه ضد أخيه المعظم.
فرصة فريدريك الثاني
أرسل السلطان الكامل مبعوثه الأمير "فخر الدين يوسف" بهذا العرض إلى الإمبراطور فريدريك الثاني، فأحسن فريدريك استقباله في صقلية، ورد على السلطان بسفارة مماثلة، وقد دعم هذا العرض السخي ما كان يعتمل في نفس الإمبراطور من القيام بحملة صليبية إلى الشام، وقطعَ تردده في النهوض بهذه المهمة التي كان يستحثه البابا جريجوري التاسع على النهوض بها؛ فغادر صقلية في (رجب 625هـ = حزيران 1228م) قاصدًا بلاد الشام، ممنياً نفسه ببيت المقدس، وبمجدٍ يحققه، يظل التاريخ الأوروبي يلهج بذكره.
وكانت تلك الحملة التي عُرفت في تاريخ الحروب الصليبية بالحملة الصليبية السادسة من أعجب الحملات؛ فلم يتجاوز أفرادها ستمائة فارس فقط، وأسطول هزيل، وكأن الإمبراطور فريدريك جاء إلى الشام ليفاوض لا ليحارب، أو أتى إلى الشرق في نزهة جميلة.
وعندما وصل إلى "عكا"، وجد الأمور على غير ما يتمنى، فالسبب الذي من أجله استدعاه السلطان الكامل قد زال وانتهى، فالملك المعظم عيسى الذي كان يعمل على التوسع على حساب إخوته وأهل بيته قد توفي، فلم تعد هناك حاجة تدعو السلطان الكامل إلى الوفاء بوعده للإمبراطور فريدريك، بعد أن اقتسم الأخوان الكامل محمد والأشرف موسى ممتلكات أخيهما المعظم عيسى، وعادت الأمور في البيت الأيوبي إلى الهدوء والاستقرار.
سلاح المفاوضة والاستعطاف
ساء موقف الإمبراطور فريدريك الثاني من تغير الأوضاع، ولم يبق له سوى سلاح المفاوضة والاستعطاف، لتحقيق الهدف الذي جاء لأجله، فأرسل سفارة إلى السلطان الكامل تحمل له هدايا نفيسة، وتطلب منه الوفاء بما تعهّد به للإمبراطور، وتسليم بيت المقدس له، فرفض السلطان الكامل هذا الطلب بعدما تبدلت الأحوال التي ألجأته إلى القيام بهذا العرض، غير أن رفض السلطان زاد من إصرار الإمبراطور على تكرار الطلب، والمبالغة في استمالة السلطان واستعطافه، وبلغ به الأمر إلى أنه كتب للسلطان الكامل في أثناء المفاوضات: "أنا مملوكك وعتيقك وليس لي عما تأمره خروج، وأنت تعلم أني أكبر ملوك البحر، وقد علم البابا والملوك باهتمامي وطلوعي، فإن رجعت خائبًا انكسرت حرمتي بينهم!… فإن رأى السلطان أن ينعم عليّ بقبضة البلد والزيارة، فيكون صدقة منه، ويرتفع رأسي بين ملوك البحر".
تسليم بيت المقدس والردود عليه
أفلحت السياسة المخادعة التي اتبعها الإمبراطور فريدريك في استمالة قلب السلطان الكامل، ووافق على تسليم بيت المقدس ، وحقق ما عجز عن تحقيقه ريتشارد بجيوشه الضخمة وإمكانياته الكبيرة.
واتفق الفريقان على عقد اتفاقية يافا في (22 من ربيع الأول 626هـ = 18 من فبراير 1229م) تقرر الصلح بمقتضاها بين الطرفين لمدة عشر سنوات، على أن يأخذ الصليبيون بيت المقدس وبيت لحم والناصرة وصيدا.
ونصت المعاهدة على أن تبقى مدينة القدس على ما هي عليه، فلا يُجدّد سورها، وأن يظل الحرم بما يضمه من المسجد الأقصى وقبة الصخرة بأيدي المسلمين، وتُقام فيه الشعائر، ولا يدخله الفرنج إلا للزيارة فقط.
وبعد عقد الصلح اتجه فريدريك إلى بيت المقدس، فدخل المدينة المقدسة في (19 من ربيع الآخر 626هـ = 17 من آذار 1229م)، وفي اليوم التالي دخل كنيسة القيامة، ليُتوّج ملكًا على بيت المقدس.
استقبل المسلمون نبأ تسليم المدينة المقدسة بالأسى والحزن، وعم السخط أرجاء العالم الإسلامي، وأقيمت المآتم في المدن الكبرى.
ويصور المقريزي ما حل بالمسلمين من ألم بقوله: "فاشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل، وحضر الأئمة والمؤذنون من القدس إلى مخيم الكامل، وأذّنوا على بابه في غير وقت الأذان.. واشتد الإنكار على الملك الكامل، وكثرت الشفاعات عليه في سائر الأقطار".
ولما أحس السلطان الكامل أنه تورط مع ملك الفرنج، أخذ يهوّن من أمر تسليم بيت المقدس، ويعلن أنه لم يعط الفرنج إلا الكنائس والبيوت الخربة، على حين بقي المسجد الأقصى على حاله.. غير أن هذه المبررات لم تنطلِ على أحد من الناس.
وظل بيت المقدس أسيرًا في أيدي الصليبيين نحو خمسة عشر عاماً، حتى نجح الخوارزميون في تحريره في 3 من صفر 642هـ = 11 أيلول 1244م)...